الملخّص:
دَرَسَ الأقدمون من النقّاد
والبلاغيين العرب قضية التکرار في
اللغة العربية وهي تُعتبر من الجذور
الأساسية لظاهرة الموتيف والتي تعني
في الأدب الفکرة الرئيسة أو الموضوع
الذي يتکرر، ونلاحظ هذه الظاهرة
موجودة عند شاعرنا أديب کمال الدين؛
الشاعر العراقي المهجري المعاصر الذي
يقطن أستراليا حالياً ومازل يترجم
عواطفه وأحاسيسه بلغته الشعرية وقد
عُرف بالحروفي لأنّه رکّز علی الحرف
وأوغل في ترکيزه؛ في هذا البحث دُرسَ
موتيف الموت والحرية في شعر
أديب کمال الدين من جهتي تکرار اللفظة
أو تکرار مفهوم اللفظة، حيث يُعبّر
الشاعر عن الاضطهاد بالموت والموت
بالاضطهاد وهکذا يُعبّر عن الحرية
بالحياة ويعکس المفهوم أيضاً ويتمُّ
ذلک بدقة وحُسن اختيار، فنلاحظ کمال
الدين يوسّع من فکرته ويتجه إلی
التناص وخاصّة التناص القرآني تارة
ثمّ إلی توظيف التراث وخاصّة توظيف
الشخصيات الدينية تارة أخری وکلّ ذلک
لترسيخ فکرة الموتيف التي بنی عليها
تجربته الشعرية، منهج البحث
توصيفي-تحليلي مبيّناً فيه علل اتجاه
الشاعر نحو هذا الموتيف أو ذاک
وسنلاحظ أنّه اتخذ الموتيف ملاذاً
آمناً يلجأُ إليه. ومن ضمن النتائج
يمکن الإشارة إلی تفاؤله بالحياة أي:
بذکر موتيف الحياة في أشعاره ومع وجود
الموت الحيقيقي والاضطهاد المخيم علی
العراق لکن شاعرنا يرنو إلی نور
الحياة والأمل وهکذا استخدامه للتراث
الإنساني والتناص القرآني بُغية
الحصول علی تجارب راقية في الحياة.
المفردات الدليلية:
الشعر العراقي المعاصر؛ أديب کمال
الدين؛ الموتيف؛ الموت؛ الحياة.
المقدمة :
الموتيف يرتبط بقضية التکرار و هو
مبحث في البلاغة العربية و قد تطرّق
إليه القدماء. الموتيف في هذا البحث
أعني به تکرار الفکرة في الحرف الواحد
أو الکلمة أو العبارة أو الفکرة
المتکررة و لکن المهم في الموتيف
تکرار الفکرة الواحدة المکررة، في هذا
البحث الذي يحمل عنوان «موتيف "الموت
والحياة" في شعر أديب کمال الدين»
أدرسُ الموتيف لغة و اصطلاحاً و صلة
الموتيف باللغة العربية و من ثَمّ
تطبيق الموتيف علی شعر کمال الدين،
والهدف من هذا البحث استخراج آراء
الشاعر في إطار هذا التضاد بين الموت
والحياة،
تلك الظاهرة التي ظهرت بوضوح في شعره،
والتي ترتبط – إلى حدّ ما – ارتباطاً
وثيقاً بنفسية الشاعر وبناء حياته، إذ
يقوم الموتيف على جملة من الاختيارات
الأسلوبية لمادة دون أخرى ولصياغة
لغوية دون أخرى، مما يكشف في النهاية
عن سر ميل الشاعر لهذا النمط الأسلوبي
دون غيره. كما يهدف البحث إلى محاولة
التعرف على طبيعة هذه الظاهرة وكيفية
بنائها وصياغتها وتركيبها وإلى أيّ
مدى استطاع الشاعر أن يوفق في بنائها
ليجعل منها أداة فاعلة داخل النص
الشعري وأن يوظفها توظيفاً دقيقاً
لتصبح أداة جمالية تحرك فضاء النص
الشعري وتنقله من السكون إلى الحركة
والموسيقية. كما يحاول البحث التعرف
على محاور الموتيف وأنماطه عند أديب
کمال الدين التي تمثلت في موتيف
الكلمة وموتيف العبارة وموتيف الجملة،
ودور هذه المحاور في بناء الجملة على
اختلاف أشكالها عند الشاعر، وإلى أيّ
مدى كانت هذه المحاور قادرة على تكوين
سياقات شعرية جديدة ذات دلالات قوية
ومثيرة لدى المتلقي التي تعمل على جذب
انتباهه وشده ليعيش داخل الحدث الشعري
الذي يصوره الشاعر،
المنهج في هذه الدراسة لا يقف عند
عملية رصد المفاهيم الثانوية وإحصائها
في النص، وإنما يتجاوز ذلك إلى عملية
النقد والتحليل والتوضيح للمعاني التي
ينطوي عليها العمل الإبداعي،
والعلاقات اللغوية التي تكشف عن
خصوصية الرؤية من ناحية، وعن القدرة
الفنية التي يتمتع بها المبدع من
ناحية أخرى.
في اللغة العربية ما عثرتُ علی معادل
لهذا المصطلح لکن في الفارسية تُرجم
موتيف ب«بن مایه»، «درون مایه»، «نقش
مایه»(بلاوي وآخرون،2012م:78)في
هذا البحث درست ثلاثة من دواوين
الشاعر و هي؛ أربعون قصيدة عن الحرف،
وأقول الحرف و أعني أصابعي، و الحرف و
الغراب.
أسئلة البحث:
1-
کيف
وظّف أديب کمال الدين موتيف الموت
والحياة في شعره؟
2-
کيف استخدم أديب کمال الدين التراث
والتناص في أشعاره؟
فرضيات البحث:
1-
في واقع الأمر کرر أديب کمال الدين
لفظة الموت ليُبيّن الظلم الذي
يُعايشه هو نفسه في أرض الرافدين و
هذا الموت أعني به الاضطهاد سبّب له
هجران العراق إلی بلاد الکنغر
بأستراليا، و هو يکرر الحرية و يريد
بها الحياة و رغد العيش و سلامته و
بهذا الموتيف يدعو إلی استنهاض الهمم
و مکافحة الظلم و الاضطهاد. وقام
بتکرار فکرة الموت والحياة في أشعاره.
2-
استخدم
أديب کمال الدين التراث والتناص بشقي
التناص الظاهري و الداخلي ووظّف
الکثير من الشخصيات الدينية و الرسل
لاستخدام تجاربهم المختلفة
في مکافحة
الموت أي: الاضطهاد ودعم موتيف
الحرية أي: الحياة.
خلفية البحث:
إنّ أوّل دراسات معمّقة و خصبة حول
الموتيف في الأعمال الأدبية لقد ظهرت
في الأوساط الثقافية الغربية. و في
إيران دَرَسَ محمد تقوي والهام دهقان
الموتيف الموسوم بـ "موتيف چيست و
چگونه شکل می گيرد" وهذه المقالة تمّ
نشرها بـمجلة "نقد ادبی" في جامعة
"تربيت مدرس" هي الفريدة من نوعها في
هذا المجال.و مقالة «تقنيات إثراء
الدلالة في شعر أديب کمال الدين»
للدکتورة روشنفکر والدکتور بلاوي في
مجلة العلوم الإنسانية الدولية بجامعة
تربيت مدرس في عام 2013م. ومقالة ليث
فاضل الوائلي:«شعرية الحرف في شعر
أديب كمال الدين»، جريدة العالم
البغدادية 21 تموز - يوليو 2014م.
ومقالة سمير عبد الرحيم أغا:«الشخصية
الرمزيّة في شعر أديب كمال
الدين:دراسة في (الحرف والغراب)»-
موقع الحوار المتمدن 14 نيسان- أبريل
2014ومقالة أسامة غالي:«الرمز والفراغ
عند الشاعر
أديب كمال الدين: خصائص اللغة
الشعرية وعلاقاتها بالمعنى
ومستوياته»جريدة القدس العربي 4
أيلول - سبتمبر 2014ومقالة:
مها يوسف عاجل: «أنسنة الحرف والنقطة
وانزياحهما في شعر أديب كمال الدين»
مواقع الفكر وبابل والنور - 24 آب -
أغسطس 2014 هذه المقالات درست الجانب
الدلالي في شعر أديب و خاصة مقالة
الدکتورة روشنفکر و الدکتور رسول
بلاوي، ثمّ هناک دراسات حول شعرية
الحروف و الرمزية و الإنزياحية لکن
هذه الدراسات لم تشر إلی نظرية
الموتيف في شعر کمال الدين و هذه
الدراسة في موتيف الموت و الحياة
تُعتبر دراسة جديدة.
الموتيف
لغة و اصطلاحاً:
لم ترد هذه المفردة في المعاجم
العربية، أصل الكلمة بهذه الهيئة
والإستعمال المتداول فرنسوية وقد دخلت
في اللغات العالمية الأخری.
الموتيف لغةً تعني الحركة، الإثارة،
الإلحاح والدافع. تستخدم كلمة
"الموتيف" في فنون وعلوم مختلفة،
منها: الرسم والنحت والهندسة
المعمارية والموسيقی والحياكة
والخياطة والتصوير والأدب. والموتيف
في الأدب يعني الفكرة الرئيسة أو
الموضوع الذي يتكرّر في العمل الأدبي،
أو المفردة المتكررة، أو الحافز و
الباعث (طه، 2004م: 208)
تُعرّف كلمة «موتيف» بشكل عام بأنها
الجزء المتكرر والمستمر الحامل لمعنى
أو قيمة ثقافية، والذي يدخل في
تكوين الشكل أو المحتوى لمختلف
أنواع الإنتاج الثقافي
(الشامي،2007م: 29). في اللغة
والآداب الفارسية فقد تُرجِم هذا
المصطلح بـ (بن مايه )، أو (درون مايه
)، أو (نقش مايه)، وهذه الترجمة لا
تدلّ علي هذا الجانب لأنّ الأساس في
الموتيف هو التکرار، تکرار الفکرة أو
المفردة أو المصطلح في أدب الکاتب أو
الشاعر، لأنّ الموتيف قد يکون کلمة
فعلاً أو إسماً أو أداة، و قد يکون
فکرة أو جملة أو تعبير يتکرر في مرحلة
ما، عند شاعر أو کاتب محدد،(بلاوي و
آخرون،2012م:78) ومن أمثلة ذلک في
الشعر الجاهلي فکرة "الهامة" وهي روح
القتيل طالبةً للثأر، وفکرة الوقوف
علی الأطلال، والنسيب، والخمر، ووصف
المها أو الناقة، أو "الأنا" عند
المتنبي، و"حدثني عيسی بن هشام" في
مقامات الهمذاني، و"أدرکت شهرزاد
الصباح فسکتت عن الکلام المباح" في
ألف ليلة وليلة، والتأريخ الشعري في
عصر الانحطاط، و"الحارة" عند نجيب
محفوظ، و"الخمرة" عند إبن الفارض،
و"الأرض" عند شعراء المقاومة و شعراء
فلسطين و خاصة محمود درويش و صورة
"الحجر" في شعر الانتفاضة
الفلسطينية.(طه،2004م:207)
الموتيف و جذوره العربية:
تتشكل ظاهرة الموتيف في الشعر العربي
بأشكال مختلفة متنوعة فهي تبدأ من
الحرف وتمتد إلى الكلمة وإلى العبارة
وإلى بيت الشعر وكل شكل من هذه
الأشكال يعمل على إبراز جانب تأثيري
خاص للموتيف، وتجدر الإشارة إلى أن
الجانب الإيقاعي في الشعر قائم على
الموتيف، فبحور الشعر العربي تتكون من
مقاطع متساوية والسر في ذلك يعود إلى
أن التفعيلات العروضية متكررة في
الأبيات فمثلاً في بحر الرجز: مستفعلن
مستفعلن، مستفعلن. هذا بالإضافة إلى
أن التفعيلة نفسها تقوم على الموتيف
مقاطع متساوية.
إن
هذا الموتيف المتماثل أو المتساوي
يخلق جواً موسيقياً متناسقاً،
فالإيقاع ما هو إلا أصوات مكررة وهذه
الأصوات المكررة تثير في النفس
انفعالاً ما
و نفس التفعيلة المتکررة في
الشعر الحر تؤثّر علی نفسية
المتلقّي"وللشعر نواح عدة للجمال
أسرعها إلى نفوسنا ما فيه من جرس
الألفاظ وانسجام توالي المقاطع وتردد
بعضها بقدر معين وكل هذا ما نسميه
بموسيقى الشعر(أنيس،2008م: 8). وقد
أشار إلى هذا الناقد ريتشاردز بقوله
"فالإيقاع يعتمد كما يعتمد على الوزن
الذي هو صورته الخاصة على التکرار
والتوقع، فآثار الإيقاع والوزن تنبع
من توقعنا سواء كان ما نتوقع حدوثه
يحدث أو لا يحدث(ريتشارز،1995م:188).
وتشير نازك الملائكة إلى هذه الظاهرة
في الشعر العربي وبينت أن التکرار في
ذاته ليس جمالاً يضاف إلى القصيدة
وإنما هو كسائر الأساليب في كونه
يحتاج إلى أن يجيء في مكانه من
القصيدة وأن تلمسه يد الشاعر تلك
اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في
الكلمات، لأنه يمتلك طبيعة خادعة فهو
على سهولته وقدرته في إحداث موسيقي
يستطيع أن يضلل الشاعر ويوقعه في مزلق
تعبيري، فهو يحتوي على إمكانيات
تعبيرية تغني المعنى إذا استطاع
الشاعر أن يسيطر عليه ويستخدمه في
موضعه وإلا فإنه يتحول إلى مجرد
تکرارات لفظية
مبتذلة(الملائکة،1996م:263). كما
أشارت إلى أنواع التکرار وحصرتها في
تکرار الكلمة والعبارة والمقطع والحرف
وترى أن أبسط أنواع التکرار؛ تکرار
كلمة واحدة في أول كل بيت من مجموعة
أبيات متتالية في قصيدة، وهو لون شائع
في شعرنا المعاصر، يلجأ إليه صغار
الشعراء ولا يعطيه الأصالة والجمال
إلا شاعر موهوب حاذق يدرك المعول لا
على التکرار نفسه وإنما ما بعد الكلمة
المكررة(نفس المصدر،268) و الموتيف هو
تکرار الفکرة التي تحمها هذه اللفظة
المفردة الکررة أو العبارة المکررة.
الموتيف عند أديب کمال الدين صورة
لافتة للنظر، تشكلت في ديوانه ضمن
محاور متنوعة وقعت في الكلمة، وقد
ظهرت في شعره بشكل واضح وشكل منها
إيقاعات موسيقية متنوعة تجعل القاريء
والمستمع يعيش الحدث الشعري المكرر
وتنقله إلى أجواء الشاعر النفسية، إذ
كان يضفي على بعض مشاعره الخاصة فهي
بمثابة لوحات إسقاطية يتخذها وسيلة
للتخفيف من حدة الصراع الذي كان يعيشه
أو حدة الإرهاصات التي واجهها في
حياته سواء ما تعلق بمحيطه العراقي أو
محيطه الخارجي أو قد تكون ناتجة عن
تأثير الثقافات العربية التي اطلع
عليها كجبران أو الغربية كتأثيره
بالبيئة الغربية، إضافة إلى إحساس
کمال الدين المرهف الذي جعله يعيش
غربة روحية وفكرية، فحاول التخلص منها
برحلته الخيالية إلى الفردوس المفقود
الذي ينشد فيه الكمال والسعادة. فأصيب
بخيبة أمل من هذا الواقع، مما جعله
يلح ويؤكد على التغيير والتبديل
للارتحال إلى عالم آخر، فوجد في
الموتيف غايته وطموحه.
ثار على الحياة لتفاؤله بما بعد
الحياة وثار على إنسان عصره لإحساسه
بوجود كوني آخر يتمثل فيه الإنسان
المثال أو النموذج، لذلك حاول أن يخلق
من خلال الموتيف واقعاً سياسياً
واجتماعياً جديداً، فوظّف هذه الصور
الموتيفية لرفض النمط التقليدي على
مستوى الإنسان وعلى مستوى المجتمع،
وهذا التجديد لايختلف عن محاولات
الشاعر التجديدية التي ظهرت في شعره،
فكان يكتب من فيض الروح ويستنطقها،
لذلك كان شعره قريب الفهم والإدراك ،
لأن لغة الروح لغة كل زمان ومكان،
وهذه اللغة تمثلت في عباراته البسيطة،
لكنها كالسيف القاطع تهوي في خط
مستقيم غلب عليها أنها عبارات موسيقية
راقصة(ربابعة،1988م: 5) إنّ الموتيف
يعتمد في طبيعته على الإعادة لقوالب
لغوية متنوعة ومختلفة في إيقاعها
وطاقاتها الإيحائية التي تعتمد على
اللغة الشعرية ذات الدلالات والطاقات
المميزة عن لغة النثر وقد أدرك "بالي"
– أهمية هذا الجانب في اللغة عندما
فهم الأسلوبية على أنها بحث – أو علم
الوسائل اللغوية من زاوية نظر وظيفتها
الانفعالية والتأثيرية(نفس المصدر،
5). واللغة الشعرية تعتمد على الإثارة
والانفعال فاللغة الشعرية هي لغة
انفعالية، تتوجه إلى القلب وتعتمد
بشكل رئيسي على اللغة الموسيقية التي
يمكنها هي الأخرى أن تثير انفعالات
وإحساسات لا تحصى. وقد ظهرت هذه
الموسيقية عند کمال الدين علی أساس
تأثيرها في نفسية المتلقّي.
لا يخفى أنّ تكرار فكرة/ صورة/ رمزٍ
ما حتی يصبح موتيفاً، يعني أهمية تلك
الفكرة/ الصورة/ الرمز عند الشاعر،
حيث تضجّ في رأسه حتى تملأ عليه نفسه،
بمعنى
أن للموتيف دلالة نفسية، تشير إلى
انهماك الشاعر في بُعد معين أو
إستغراقه في فكرة ما، ثم «تبدأ له من
تراث إنساني و روحي، و كأنك تحس بها
قد أغلقت دونه كل طريق، فحيثما إتجه
يمثلها هناك، فإذا هو أغلق نفسه دون
الأشياء، إصطدم بها كذلك في أعماق
نفسه» ( اسماعيل، 1972م: 166). ثم
يروح يقولبها و يمدّها بشرايين جديدة،
تعطيها القوة و الحيوية و الألق، و
تحقق لها حضورها و فاعليتها. الموتيف
لا يقوم فقط على مجرد تكرار اللفظة في
السياق الشعري، وإنما يقوم علی ما
تتركه هذه اللفظة من أثر انفعالي في
نفس المتلقي، وبذلك فإنه يعكس جانباً
من الموقف النفسي والانفعالي، ومثل
هذا الجانب لا يمكن فهمه إلا من خلال
دراسة الموتيف داخل النص الشعري الذي
ورد فيه، فكل موتيف يحمل في ثناياه
دلالات نفسية وانفعالية مختلفة تفرضها
طبيعة السياق الشعري، ولولا ذلک لكان
تكراراً لجملة من الأشياء التي لا
تؤدي إلى معنى أو وظيفة في البناء
الشعري، فالموتيف إحدى الأدوات
الجمالية التي تساعد الشاعر على تشكيل
موقفه وتصويره في إثراء الدلالات و
البناء الشعري.
دراسة موتيف الموت
الشعر حينما تتكوّن التجربة يكون
ثنائي الإخراج، أي انه يمارس النقد
داخل مساحاته الجمالية مما يكسب
الشاعر رؤية المتمرّس عبر مواقفه من
الحياة وعملية الخلق، ليكون بعد ذلك
صاحب منطقة شعرية خاصة به ينطلق منها
محاكياً الآخرين من خلال تغذية
أذواقهم بإيقاع الجمال وتحفيزهم على
ترويج الأفكار. وحتّى لا أقع في
اضطراب الفكرة عليَّ اجلاء جوانبها
بأنّ التجربة لا تعني الالتزام
والأدلجة بعيداً عن الفنية وامتلاك
المعاني وامتلاك لغة البوح وممارسة
الحرية أي بمعنى الانفتاح برؤية
خصوصية، أسوقُ هذه المقدمة بافتراض
الدخول إلى عوالم الشاعر أديب كمال
الدين كونه صاحب تجربة في مساحة
الإبداع وصاحب منطقة شعرية خاصة، وإنه
صاحب إشكالية متوترة فهو ينغمس في
الحرف ويتصوّف في معاني الكلمات
ويشظّي ارهاصاته في الجمل.
الشاعر صاحب رؤية وعمق لا يمكن
التصريح بهما بدليل أن قصائده طوال
عمره الشعري لم تعترف بسرّها ومعناها
وظلت أسيرة التأملات المتوالدة
والمعاني المتفجرة معلنةً عن ثورة
مستمرة في مسيرته. إنه يختصر أشياء
الحياة بالنكوص إلى التراب الذي يمتاز
بالقلّة، غير أنه هو الموصل بين
البداية والنهاية بدائرة مغلقة،
والدليل الآخر تنقّل الشاعر من شجرة
الطفولة إلى شجرة الحبّ والحياة ثم
شجرة الموت. هذا الصراع خلق حالة توتر
وشدّ جعله ينزع إلى اختصار المسافات
وهي مجللة بأنوار البثّ المباشر لكلّ
معاني الحركة والسكون وعلاقاتهما
بالحرف والنقطة، فمطية الشاعر اللغة
المغايرة بحرفية واضحة وحروفية تستنهض
معانيها النقاط.
في قراءتي لشعر الشاعر الحروفي “أديب
كمال الدين” حاولت أن أقرأ شيئاً
مختلفاً عن المهيمنة الرئيسة في
الديوان، وهي الحروفية وما يتمحور
حولها من جماليات في مستوى الكتابة
وما تلبسه من لبوسات في مستوياتها
الدينية والرمزية والصوفية وغيرها،
وذلك لرغبتي في القراءة المختلفة،
ولقناعتي أن منجز الشاعر“أديب كمال
الدين” سيظلم لو قمنا بتأطيره ضمن
الحروفية فقط، خصوصاً أن لديه
استثمارات أخرى غير الحروفية، وهي لا
تقل قيمة عنها بل تضارعها من حيث
الأهمية. ففي ذکر الموت و تکراره يغوص
الشاعر في أعمق معانيه و يناديه و
يخاطبه و لا يفارن الشاعر هذه اللفظة
وکأن يعيش معها أو يتعايش معها، يقول:
«أيّها الحرف/سيحاربك
القرصانُ الأحمر،/القرصانُ الذي قوّض
العرشَ وسلّمه للرعاع،/لأنّ في قلبكَ
موجة لأقمار الطفولة./وسيحاربك
القرصانُ الأزرق،/القرصانُ الذي أدخلَ
كلَّ شيء في دوّامةِ الموت/بعد أن قتل
إخوته/وباعَ أبناءه في سوق
العبيد،/لأنّ في قلبكَ موجة من شموس./وسيحاربك
القرصانُ الأصفر:/قرصانُ
المجانين والمخنّثين وآكلي جثث
الموتى.» (کمال الدين،2009م:19)
يتکرر موتيف الموت ويعني به الاضطهاد
و الظلم الذي أُبتلي به الناس في
أيّام صدام حسين ومن ثمّ نلاحظه
يتلاعب بالألوان الأزرق/الأصفر هؤلاء
القرصان هم الظالمون في أرض العراق
ويدخل الناس في دوامة الموت؛ الموت
الذي يستمر بتغيير الطغاة و بتغيير
ألوانهم، فيدور دولاب الموت في دوامة
مستمرة يُشير إلی أبعد من ذلک يشير
إلی آکلي جثث الموتی ويعني بهم أصحاب
الطغاة و الذين يشجّعون الظالمين علی
ظلمهم کل هذا يدور في فلک موتيف الموت
في مقطوعته هذه.
«
في الطريقِ إلى الموت:/الموتِ
القديمِ المقدّس،/فاجأني موتٌ
جديد/موتٌ لذيذٌ بطعمِ السمّ/موتٌ لم
أحجز له موعداً أو مقعداً/...
ولسببٍ غير واضحٍ أو
مفهوم،/أكتبُ عن الموت./ربّما
لأنّ الموت هو نديمي الوحيد/أو صاحبي
الذي يحسنُ الرقصَ قربي/حين أنهارُ
وسط الطريق.../"مرحى"
قلتُ للموت!/هل
قلتُ للموتِ: "مرحى"؟/أم إنّه الموت
قالَ لي في برود:/"أهلاً
وسهلاً"؟.» (نفس المصدر:22-23)
في مقطوعته التي أسماها التناص مع
الموت أخذ الشاعر أبعاداً متناهية
وأغواراً بعيدة المدی في موتيف الموت؛
ففي طريقه إلی الموت وکأنه صديقه
وصاحبه ونديمه يُفاجؤه موت آخر،
الشاعر يعکس للمتلقي مفهوماً جديداً
من الموت و أنّه لا يريد بالموت
النهاية فکأنّه يحکي عن بداية حياة
أخری بل يجعل الموت ميلاد آخر في
عالَم آخر لا ندرکه نحن، وفي موتيفه
وبنظرة صوفية يتحدّث مع الموت و کأنّه
أليفه و صديقه وقد أشار إلی هذا«
ربّما لأنّ الموت هو نديمي الوحيد/أو
صاحبي الذي يحسنُ الرقصَ قربي» وقد
ذکر من لوازم الصوفية و هو الرقص مما
يعطي لموتيفه بُعداً آخر للحديث عن
الاضطهاد الذي وقع عليه و علی شعبه،
ثمّ يختار نوعاً من البدائية في القول
بينه و بين الموت هل إنّه قال للموت
مرحی أم الموت قال له أهلا و سهلا، و
يعني بالموت هنا نفس الظالم و الطاغي
علی الشعب فحينما تلقي التحية علی
ظالم، في جواب تلک التحية يقبض ذلک
الموت روحک بال "أهلاً و سهلاً" تکرار
موتيف الموت و تکرار هذه الفکرة تنمّ
عن باعث خفي في قلب الشاعر و ذلک
الباعث هو المسبب في تکرار هذه
اللفظة.
«
مَن سيصدّق أنّ الحرفَ الذي
حملَ المعجزة/سينهارُ أمام الموت/على
هذهِ الشاكلة؟/ومَن سيصدّق أنّ النقطة
النقطة التي واجهت الأعاصيرَ
والنارَ والزلزلة/ستبكي في حضرةِ
الموت/مثل أعمى أضاعَ الطريقَ إلى
البيت؟» (نفس المصدر:24)
ثمّ عکف الشاعر علی نفسه تحت مسمّی
الحرف، فالحرف هنا هو أديب کمال الدين
و حياته و قد انهار أمام الموت،
الموتيف الذي يتکرر هنا هو بطش الموت
الذي يقهر الناس کبيراً و صغيراً؛ و
في عبارتين استفهاميتين جعل التيه
أساس ضعف البشر أمام الاضطهاد الواقع
علی أبناء البشر، فالإنسان الذي واجه
کل شيء سيبکي في حضرة الموت ويبيّن
لنا هول الموت و عظمته.
«لك
المجد يا إلهي/خلقتَ الموتَ ليكنسنا
في هدوءٍ مريب/مثلما تكنسُ
الريح/أوراقَ الشجرِ المتناثرة على
الأرض.
لك المجد أيّها الموت./لك
المجد أيّتها الخاتمة./قالَ
لي الحرف:/لا
تأبه كثيراً/فالكلُّ سيموت،/حتّى
الموت نفسه سيموت!/قالَ
لي الحرفُ ذلك/وأفردَ جناحيه/ليحلّق
كالنسرِ وسط السماء.» (نفس
المصدر:24-25)
يری الشاعر و بانزعاج تام أنّ الدواء
النهائي هو الموت، فموتيف الموت هنا
يقصد به النهاية من بطش الظّلام و أنّ
الناس اذا کانوا يعيشون بتفرقة مثل
الاوراق المنتشرة فسيأتي الموت و
يجرفهم کلهم، عبّر بذلک بالکنس و هو
عادة يُستعمل للوساخ و القاذورة التي
تُکنس، ثُمّ يُمجّد الموت بهذا السبب
و هو کنس الذين لا خير فيهم، ثمّ يأتي
بموتيف آخر للموت و هو ما يتناص
بالآية الکريمة(كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ
إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)
(سورة العنکبوت:57) و هذا ما عبّر عنه
ب«حتی الموت نفسه سيموت» هذا التعايش
مع موتيف الموت لا ينمّ عن تشاؤم بل
هو نوع من الحکي إذا صحّ التعبير و
مماشاة مع الحدث الخارجي لبيان
الأفکار لدی الشاعر.
«
ثمّة بحر/أحمله بيدي
اليمنى/وثمّة موت/أحمله بيدي
اليسرى/وحين أتعب/أضع البحرَ في يدي
اليسرى/والموتَ في يدي اليمنى./وحين
أنام/ينامُ البحرُ بجانبي على السريرِ
مطمئناً/لكنّ الموت يتظاهرُ
بالنوم/ويبقى يعدُّ عليَّ أنفاسي،
يبقى ينظرُ إليَّ بارتيابٍ
وشكّ/مضطجعاً بجانبي، كذلك، على
السرير!»(کمال الدين:26)
البحر بيده اليمنی و الموت الذي يحمله
بيده اليسری؛ لماذا الموت بيده
اليسری؟ کل هذه الأمور رموز يتناولها
الکاتب ثمّ يُعطي الاطمنان للبحر و
عدم الاطمئنان للموت الذي يتظاهر
بالنوم و بالسکينة و بالراحة، الشاعر
في موتيفه هذا يشير إلی تناص قرآني مع
الآية الکريمة(أَيْنَمَا تَكُونُواْ
يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ
كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ
وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ
هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ
هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء
الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
حَدِيثًا)(سورة النساء:78)فعبارة«
ويبقى يعدُّ عليَّ أنفاسي....»
تُذکّرنا بالمفهوم القرآني.
«
وأصدقائي الأوغاد والمنفيين
والسذّج/وقصائدي التي كتبتها كي لا
أبكي/مثل يتيمٍ ببابِ الملجأ/أو مثل
مجنون يرميه الصبيةُ بالحجارة/كي
يضحكوا ويبددوا الوقت/أو مثل شحّاذٍ
سرق السكارى رغيفه/كي تكتمل
نشوتهم/ويكتمل موتُ الشحّاذ./توقّفَ
الحرفُ عن كلِّ ذلك.»(کمال الدين:28)
الحرف و يعني به نفسه أراد الحرکة
والحياة لکن موتيف الموت حال دون ذلک
ثم انتقل مفهوم الحرف إلی شحّاذ ذي
حظّ بائس حيث أخذ السکاری رغيفه و مات
الشحاذ؛ کل هذه الأمور تترکز في موتيف
الموت الذي يُعبّر عنه بالنهاية و فيه
يتوقّف الحرف عن الحرکة و الحياة.
دراسة موتيف الحياة
تطرّقتُ في هذه الدراسة الی موتيف
الحياة في شعر الشاعر العراقي أديب
کمال الدين، فالإمام الحسين أبي
الأحرار کنموذجٍ للشخصيات التراثية
التي ترد کثيراً في منجزه الشعري. و
هو موضوع بکر و في غاية الأهمية
لبُعديه الديني و السياسي. فقد استدعی
الشاعر هذه الشخصية الدينية للتعبير
عن أفکاره السياسية؛ و استثمر کمال
الدين هذه الأبعاد ليطلق صرخة احتجاج
في وجه الأنظمة العربية المعاصرة التي
تعيش حياة ترف و بذخ و ليطلق صرخة من
جديد، علی الظلم و الاضطهاد الذي
يشهده العراق تلک الصرخة التي زرعها
النظام البائد؛ نظام صدام حسين الذي
سبب بابعاد الشاعر إلی مهجره فی
أستراليا.
لا ننسی أنّ القصيدة الجيدة هي تلك
التي تجعلنا نقرأ روح صاحبها من
السطور الأولى ونرى العالم الذي
استحضره في ذهنه أثناء الكتابة، حتى
ولو كانت – أي القصيدة – خارج السياق
المألوف من حيث الشكل والعنوان، وهذا
ما تفعله قصيدة الشاعر أديب كمال
الدين، إنّ الأعمال الشعرية الجيدة
تذكرّنا بأن لدى بعض الشعراء مشاريع
حالمة لا تخصّ الشعر وحده بل العالم ،
ومن هؤلاء الشاعر أديب كمال الدين هذا
الذي يبدو – عبر قصائده – أبعد ما
يكون عن صورة هذا الزمن العربي
المتقلب، فهو بقدر ما يثق بقدرة الشعر
على تجاوز المأساة الراهنة التي
يعانيها الإنسان في كلّ مكان على وجه
الأرض، يثق بالإنسان هذا الذي لا يزال
يمسك بزمام الحياة على رغم المعوقات
المتكررة والمتاهات التي لا يصنعها
الآخرون وحدهم في طريقه بل يشارك هو
نفسه في صناعتها ويعمل من حيث يدري أو
لا يدري على التمكين لها أو على الأقل
الاستجابة لردود أفعالها.
عاش أديب کمال الدين مع الشخصيات
الدينية و کرر فکرة هؤلاء الأحرار،
فموتيف "الحسين" –عليه السلام- هو رمز
للحرية و الکرامة و العزة و استلهم
الشاعر من واقعة الطف الأليمة:
«ورأسک ينهب التأريخ
نهباً/بدمه الطيب الزکي/ليکتب سرّاً
لا يدانيه سرّ/ليصبح اسم الشهيد له
وحده/سرّاً لا يدانيه سرّ/سرّ الحاء
والسين والياء والنون»(نفس
المصدر،2011م:39)
فجّر الشاعر عواطفه النبيلة تجاه أبي
الأحرار الحسين الشهيد-عليه
السلام-فقد عرف التأريخ معنی الحرية
من فداء الحسين(ع) ولهذا عبّر الشاعر
بهذه المعرفة بکلمة النهب وتعطي معنی
العنوة و الانحصار للناهب فالحسين(ع)
هو الذي أعطی معنی جديداً للحرية،
فإنّه هو الحرّ الأصيل، ثمّ جرف کمال
الدين نفسه بمتاهات الصوفية و أظهر
لنا من تعابيرها في شعره و أعني بذلک
کلمة "السرّ" فالسرّ عند شاعرنا هو
معنی الشهادة و رضوان الله، موتيف
الحرية والحياة تظهر في إسم الحسين و
إسم الشهيد الذي حرره الحسين(ع) لنفسه
و هذه المقطوعة الشعرية تتحدث عن فکرة
الحرية والحياة الأبدية وهذه
الاستمرارية هي التي نلاحظها في
مقطوعاته الشعرية.
«وحده الحاء/قال: اترکوه فهو شمسي/هو
مَن سيذکرني کلّ ما هلَّ إسمي/وسيکتب
عن رأسي وقد تناهبه الغبار وحُمِلَ
فوق الرماح/من بلدٍ إلی بلد/ومن عطش
إلی عطش/ومن واقعة إلی واقعة/بل إنّ
رأسي سيکون قصته
و دمي لوعته/وأنيني نبض قلبه»(نفس
المصدر:67-68)
کلّ هذه المصائب يُعددها کمال الدين و
يُعطي ذخّاً من الحياة و الحيوية و لا
تلاحظ اليأس و التشاؤم بل موتيف
الحرية و الحياة بدأ بحاء الحسين(ع)
وهذا الحرف هو الذي يتحدّث للبشرية و
يعطيها الأمل و الحياة والحرية مع
أنّه ذُبح و رُفع الرأس علی قناة من
بلد إلی بلد لکن الفکرة الرئيسة أو
الموتيف المسيطر علی جوّ القصيدة
يتحدّث عن الحرية و الحياة
و دليل ذلک قول کمال
الدين«قال: اترکوه فأنا منه و هو مني»
هذا القول يتناص مع حديث النبي(ص):
حسين مني وأنا من حسين أحبّ الله من
أحبّ حسيناً؛ هذه قولة مشهورة من
أقوال النبي الأکرم، فالمهم موتيف هذه
المقطوعة الشعرية و الذي نلاحظ فيه
حاء الحسين تتحدّث، لکن حديثها ينمّ
من عاطفة جيّاشة ملؤها الحياة.
«ربّما سأخرج من البئر يوم
يُبعثون
أو ربّما يقال للأرض ابلعي
ماءکِ
فأخرجُ من مرکب نوح
أو من نار إبراهيم
وقد أکلني الرعب
ولفظني الموج
واطفأت المأساة عيوني»(نفس
المصدر،2011م:22)
في مقطوعته هذه جمع کمال الدين عدّة
أفکار تتحدّث عن فکرة الحرية و الحياة
ويحبوها الأمل ويحيط بها النظر إلی
المستقبل و سين المستقبل في شعره تؤيد
ما ذهبتُ إليه، الشاعر تناصّ مع کثير
من الأحداث والشخصيات القرآنية، ففي
مسار حديثه عن نبي الله يوسف-عليه
السلام-وهو في البئر وينتظر الفرج و
بلسان يوسف يتحدّث، فالفکرة هنا
النجاة/الحرية/الحياة، يتکوّن هذا
الموتيف بتناص الشاعر مع قصة يوسف ثمّ
و بدقةٍ تامّة يُدمج القصة بقصة نبي
الله يونس ويتناص بتلک القصة بتناص
داخلي و مفهوم (يوم يبعثون) يشير إلی
التناص بالآية(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(سورة
الصافات/144) الشاعر تقمّص شخصية يوسف
ثمّ استخدم تناص الآية التي تتحدّث عن
يونس (ع) ثمّ يستطرد حديثه إلی نواح
أخر و يستحضر طوفان نوح (ع) بعد أن
تمّ العذاب الإلهي و انکشف الغطاء
ف(ابلعي ماءکِ) تتناص مع الآية (
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ
وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ
الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ
وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ
وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) (سورة هود/44) استحضر
أيضاً نبي الله ابراهيم و تخلّص من
تلک النار الکبری؛ هنا نلاحظ موتيف
الحرية يظهر في شعر کمال الدين الخلاص
من البئر ومن البحر والحوت والطوفان
والنار الکبری کل هذه الأمور تدور حول
معنی الحرية و الحياة و النجاة و
لربّما الشاعر في خروجه من أرض
الرافدين إلی أستراليا استحضر تلک
القصص القرآنية و الأشخاص الذين
نجّاهم الله تبارک و تعالی.
«وصديق
طيب ينکر علی الله/أن يقول للشيء کن
فيکون/سينهض في آخر الليل/وهو ينکر
أنّ الله/هو الذي خلق الکاف و
النون»(نفس المصدر،2013م:25)
موتيف الحرية يظهر لنا في التفاؤل
الذي يتبعه کمال الدين في شعره هذا،
فصديقه طيّب مع أنّه ينکر قدرة الله،
وذلک بسبب جهله لا عناده ثمّ يُعرّج
الشاعر نحو التناص القرآني (بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا
قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ
لَهُ كُن فَيَكُونُ) (سورة
البقرة/117) وهذا المفهوم القرآني
تکرر في آيات عدّة في القرآن الکريم.
موتيف "کن فيکون" يتحدّث عن فکرة
الحرية و الحياة وإذا کان للإنسان
ملجأ يقول للشيء کن فيکون في هذه
الحالة لا يتشاءم و لا يدخله ريب.
واستمر كمال الدين في المثاقفة
يمنح من خزينه المعرفي وتناصاته مع
تكويناته الاجتماعية والاحتفاظ بإشراط
الشعرية الملتزمة تجاه الشعر
بالمغايرة والحداثة، واتجه نحو النص
القرآني وهذا قصدي من التجربة الشعرية
التي لا تعني الالتزام من ناحية ولا
تعني الانحياز إلى الفنية حتّى الوصول
إلى مبدأ الفن للفن من ناحية أخرى.
إنما الاستيعاب والقصدية في التوجيه،
فله عين شعرية شاخصة تنشطر بين التقاط
أشياء الوعي أحياناً وخليط اللاوعي
أحياناً أخرى. يغدو الحدث القرآني
حدثاً مركباً يضم الحدث الأصلي والحدث
النصي أي الذي كتبه في نصه وهو غير
منظور، ويغدو نصه مرآة محدّبة تضم
وتجمع كلا الحدثين وكلا البطلين، أقصد
بطل القرآن والشاعر وكأنهما مرآة
لبعضهما البعض.
ما يؤكد الكلام أعلاه ما نقرأه في
المقاطع الباقية من النص ذاته حيث إنّ
الحدث القرآني بقي متصلاً ولم يحدث
فيه أي قطع، وهذا الاتصال يظهر بينا
في ثنايا النص، فبعد أن انتهى الطوفان
استمرت الأحداث بالنمو من خلال أحداث
أساطير أخرى أو أحداث دينية مقدسة،
فالناس الصالحون الذين أنقذهم “نوح ”
لم يتوانوا عن اضرام النار لرسول وهاد
آخر هو إبراهيم، ومرة أخرى يُلقى
الشاعر وسط (الحدث) النار. وقد تقمّص
أديب کمال الدين هذه الشخصيات
التأريخية الدينية.
النتائج:
-
أراد الشاعر أن يُبيّن الظلم و
الضطهاد الذي يقع علی الشعب الأعزل
فلجأ إلی موتيف الموت، و هو يکرر
الحرية و يريد بها الحياة و رغد العيش
و سلامته و بهذا الموتيف يدعو إلی
استنهاض الهمم و مکافحة الظلم و
الاضطهاد؛
-
هاجس الموت يتجلّى كثيراً لدى الشعراء
ذلك لأنّ الشعر هو صراع على حدود
المستقبل وهو بالتالي وقوف على حافة
الحياة أو الموت أيضا وإنّ مجسات
الشاعر حساسة جداً لقضية الموت لأنه
موضوعها الأثير حيث الأسئلة والتوجّس
والخوف والمجهول والوجود والعدم وكلّ
هذه الحيثيات هي أرضية خصبة لشجرة
الشعر وهاجس الموت عند الشاعر. وأعتقد
أنّ الشاعر أديب كمال الدين وضع لمسته
التي تميّزه في هذه المواجهة النصية
الصعبة التناول. ففي جعبة هذا الشاعر
من خبرة شعرية وحرفة فنية وخصوصية
حروفية ورمزية ما يؤهله لعبور هذا
المطب النصي النفسي الشائك.
-
للحرية في جوهر قصيدة أديب كمال الدين
هامش واسع من التفاؤل يكاد القارئ
العادي لا يشعر به. فهو، أي الشاعر،
لا يسرف مثل الآخرين في سرد مواجع
الواقع ومخاوفه وإن اقترب من ذلك
الواقع الذي يصعب الفرار من
انعكاساته، فإنّ روح الأمل تظل نابضة
حيّة ويظل الحلم حاضراً بما يكفي، ليس
بالتمسك بالحياة وحسب، وانما للوعي
بأهمية تجاور ردود فعل المرحلة الصعبة
ودائماً تكون الكلمة الضوء والدليل،
وهذا ما تطرّقنا إليه تحت عنوان موتيف
الحياة.
-
يستثمر الشاعر في شعره بعض عناصر
النصوص الدينية المقدسة والمعروفة في
بنائها، ولكون هذه النصوص حافلة بكثير
من الجرائم ضد الأنبياء والقديسين
وغيرهم، وجدنا الشاعر يحاول إعادة
وتوظيف هذه العناصر و يواکب أحداث
عصره و يستفيد من أحداث هذه الشخصيات.
المراجع:
-
القرآن الکريم
-
أ. ريتشاردز(1960م) مباديء النقد
الأدبي، ترجمة د. مصطفى بدوي، مراجعة
د. لويس عوض، مصر، القاهرة، وزارة
الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة
العامة للطباعة والنشر.
-
اسماعيل،
عزالدين (1972م): الشعر العربي
المعاصر/قضاياه و ظواهره الفنية و
المعنوية، ط2، بيروت، دار الثقافة.
-
أنيس،إبراهيم(1978م)،موسيقى
الشعر،مصر،القاهرة،ط5، مكتبة الانجلو
المصرية.
-
بلاوي وآخرون(2012م) موتيف الإغتراب
في شعر يحيی السماوي،مجلة العلوم
الإنسانية الدولية،ايران، طهران،
العدد19.ص78
-
تقوي، محمد،الهام دهقان،(1388ش)،
«موتيف چيست و چگونه شکل مي
گيرد»،ایران، طهران،مجلة نقد
ادبی،جامعة تربيت مدرس،العدد
الثامن.ص8و9
-
ربابعة،موسی(1988م)الموتيف في الشعر
الجاهلي،الأردن، مجلة مؤته للبحوث
والدراسات، جامعة مؤته (الأردن)،
المجلد الخامس، العدد الأول.ص5
-
الشامي،حسن (2007م) «مفاهيم أساسية في
دراسة الموروث الشعبي الشفهي»،
المملکة العربية السعودية، الرياض،
مجلة الخطاب الثقافي-دراسات، جامعة
الملک سعود،العدد الثاني.ص29
-
طه، المتوکل(2004م) حدائق
إبراهيم،لبنان،بيروت،المؤسسة العربية
للدراسات و النشر.
-
کمال الدين،أديب(2009م) أربعون قصيدة
عن الحرف، الأردن، عمّان، دار أزمنة
للنشر والتوزيع.
-
_________(2011م) أقول الحرف وأعني
أصابعي، لبنان، بيروت، دارالعربية
للعلوم ناشرون.
-
_________(2013م) الحرف و الغراب،
لبنان، بيروت،دارالعربية للعلوم
ناشرون.
-
الملائکة،نازک(1989م) قضايا الشعر
المعاصر، ط9، لبنان، بيروت، منشورات
دارالعلم للملايين.
-
http://www.adeebk.com)
[i]
-
أديب کمال الدين:
أديب كمال الدين
Adeeb Kamal Ad-Deen
شاعر معاصر من العراق ولد عام
1953 في محافظة بابل, تخرج من
كلية الإدارة والاقتصاد -
جامعة بغداد 1976 وحصل على
بكالوريوس في الاقتصاد، كما
حصل على بكالوريوس في الأدب
إنجليزي 1999 من كلية اللغات
- جامعة بغداد، وعلى دبلوم
الترجمة الفورية من المعهد
التقني لولاية جنوب أستراليا
2005.وعمل في العديد من الصحف
والمجلات العراقية
والعربية.يعتبر من أهم شعراء
جيل السبعينيات في العراق.
وقد اشتهر بتركيزه على جمالية
الحروف فكان الحرف بالنسبة
للشاعر كينونة متعددة الرموز
والمستويات منها: المستوى
الدلالي، الترميزي، التشكيلي،
التراثي، الأسطوري، الروحي،
الخارقي، السحري، الطلسمي،
القناعي، الإيقاعي، الطفولي.
كُتب عنه عدد كبير من
الدراسات والمقالات النقدية
في مختلف الصحف والمجلات
العربية لنقاد من العراق
وتونس ومصر وسوريا وفلسطين
ولبنان والجزائر والمغرب
وإيران وأستراليا.(http://www.adeebk.com)
%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%
نُشرت
في
مجلة
اللغة العربية وآدابها، جامعة
طهران : السنة 10 العدد 4
شتاء 1436 هجرية، 2015
ميلادية ص 587 - 601
|