بسم الله الرحمن الرحيم
مملكة الحرف
أربعون ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعريّة
منشورات دار الصادق الثقافية، العراق 2025
مملكة الحرف
أربعون ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعريّة
إعداد وتقديم: أ. د. علي هاشم الزيرجاوي
المحتوى
المقدمة
الفصل الأول: التجربة الحروفية
* أ. د. حاتم
الصكَر- جماليات الحرف العربي في القصيدة؛ تجربة أديب كمال
الدين نموذجاً.
* أ. د. عبد الوهاب شعلان-
فـي القصيـدة وضيافة "الغـاوين"؛ محاولة اقتراب من شعـر أديب
كمال الدين.
* أ. د. علي هاشم الزيرجاوي- المكان الضيّق في ضوء التأويل
الظاهراتي؛ أديب كمال الدين اختياراً.
*
أ. د. سعاد بسناسي-
الحروفيّة العرفانيّة في شعر أديب كمال الدين.
* أ. د. مصطفى لطيف عارف-
التفرّد والخصوصيّة في شعر الشاعر الكبير أديب كمال الدين.
* د. ضياء
نجم الأسدي- قراءة في المشروع الشعري
لأديب
كمال الدين.
* د. حيدر عبد عون الرفاعي-
شعرية الحرف اجتراح هوية
؛
قراءة في حروفية أديب كمال الدين.
* د. أسامة غالي-
الرمز والفراغ عند الشاعر أديب كمال الدين؛ خصائص اللغة
الشعرية وعلاقتها بالمعنى ومستوياته.
* باقر صاحب- قراءة في مختاراته الشعرية؛ أديب كمال الدين ؛
ملك الحروف.
الفصل الثاني؛ دراسات ومقالات عن المجلدات الشعرية الكاملة
* أ. د. عبد القادر فيدوح-
حكمة الروح في حروفية أديب كمال الدين.
* ريسان الخزعلي- قراءة في المجلد السابع من أعماله الشعرية
الكاملة؛
أديب كمال الدين: تأصيل الحروفية.
* عدنان
حسين أحمد- قراءة في المجلد السادس من أعماله الشعرية الكاملة؛
أديب كمال الدين: الراكب في قطار التيه بحثاً عن
شخصياته الحُروفية.
* حسن حافظ السعيدي-
قراءة في المجلد الخامس من أعماله الشعرية الكاملة؛ فهم
الذات في قصائد الشاعر الحروفيّ أديب كمال الدين.
* حسن حافظ السعيدي-
الشاعر الحروفي أديب كمال الدين في مجلّد أعماله الرابع؛
الاقتراب البهيّ من أسرار الصوفيّة.
* علوان السلمان-
إضاءة
في المجلّد الثالث من أعماله الشعرية الكاملة؛ أديب كمال الدين
واستئثار التجربة الحروفيّة.
الفصل الثالث؛
دراسات ومقالات عن المجاميع الشعرية
* عدنان
حسين أحمد-
أديب كمال الدين؛ الشاعرُ المُتعبِّد في صومعة الحرف ومحراب
النقطة.
* يوسف عبود جويعد- أديب كمال الدين في مجموعته (حرف من ماء)؛
شاعر يوظّف الحاء والباء بشعريّة نادرة.
* أ. د. سمير الخليل- حركة الشبح- الحرف/ حركة الظل- النقطة في
(حرف من ماء) لأديب كمال الدين.
* أ. د. سمير الخليل- الحقيقة الشعرية واستباق التأويل في
ديوان (في مرآة الحرف) لأديب كمال الدين.
* د. سامان جليل إبراهيم-
البوح الأنويّ بين الاعتراف والانكسار؛ قراءة في مجموعة (في
مرآة الحرف) للشاعر أديب كمال الدين.
* أ. د. بشرى موسى صالح- مملكة الحرف؛ قراءة حروفيّة في شعر
أديب كمال الدين.
* د. محمد سمير عبد السلام-
الصيرورة الجمالية للحرف؛
قراءة لديوان (رقصة الحرف الأخيرة) لأديب كمال الدين.
* د. محمد سمير عبد السلام-
نشوء الصوت الشعري في الصور وتشكيلات الحرف؛ قراءة في (إشارات
الألف) لأديب كمال الدين
* د. محمد المسعودي-
حدود الأسى وأفق الفرح الإنساني في (إشارات الألف) لأديب كمال
الدين.
* د. محمد فاضل المشلب-
شعريّة النصّ في مجموعة
)الحرف
والغراب)
لأديب كمال الدين؛
مُقاربة نقديّة.
* د. علي متعب جاسم- تصوّرات عن مجموعة (الحرف والغراب) لأديب
كمال الدين؛ حينما يذبل عود الياسمين.
* د. حسن ناظم- أديب كمال الدين و(مواقف الألف).
* أ. د. فاضل عبود
التميمي- الحضور القرآني والصوفي في (مواقف الألِف) للشاعر
أديب كمال الدين.
* هادي الحسيني-
الوقوف بخشوع أمام الحرف؛ قراءة في مجموعة (مواقف الألِف)
للشاعر أديب كمال الدين.
* عبد الحفيظ بن جلولي-
في (أقول الحرف وأعني أصابعي) لأديب كمال الدين؛ وردة الشعر
تهرب بعيدا في الرقص
* أ. د. عبد المطلب محمود-
قراءة في مجموعة أديب كمال الدين (أقول الحرف وأعني أصابعي)؛
الحرف يوقظ إشراقات الذاكرة.
* د. نجمة إدريس-
إضاءة في مجموعة
(أقول الحرف وأعني أصابعي)؛ النخلة والكتابة فوق الماء.
* أسامة الشحماني-
قراءة في (أربعون قصيدة عن الحرف)؛
أديب كمال الدين شعرية الحلول في أيقونة الحرف.
* زهير الجبوري-
جدلية الفلسفي والصوفي في (أربعون
قصيدة عن الحرف)
لأديب كمال الدين.
* زهير الجبوري-
مجموعة (شجرة الحروف) للشاعر أديب
كمال الدين؛ إنتاج الحروفية: إنتاج المعنى.
* ذياب شاهين-
قراءة في ديوان (شجرة الحروف) للشاعر أديب كمال الدين؛
اللاحروفية عند الحروفي.
* د. سعد التميمي-
قراءة في مجموعة (النقطة)؛
شعرية النقطة والحرف في شعر أديب كمال الدين.
الفصل الرابع؛ قراءات في قصائد
* أ. د. أحمد جار الله ياسين-
قراءة نقديّة لوصايا أديب كمال الدين الشعريّة في ( تسع وصايا
لكتابة القصيدة).
* أ. د. أحمد جار الله ياسين-
الوجه الثامن للذات الشاعرة؛ استنطاق نقدي لقصيدة أديب كمال
الدين (مائدة الغرباء).
* أ. د. صالح هويدي-
(شجرة الثعابين) للشاعر أديب كمال الدين؛ هجنة النص: قراءة في
قصة الخلق الرمزية.
* أ. د. غزلان هاشمي-
الانتهاك النصّي وبناء الزمن الشعري الجديد في نصّ
(الغراب والحمامة) للشاعر أديب كمال الدين
* أ. د. غزلان هاشمي-
في حضرة المعنى: من الانتهاك إلى التأثيث؛
قراءة في قصيدة (أنا وأبي والمعنى) لأديب كمال الدين.
* د.
حسن محمد سعيد-
بِنْية التّكرار في قصيدة (ديوانِ المقابلات) للشاعر أديب كمال
الدين.
* د. محمد جواد علي-
الأغنية الشعرية بوصفها هوية إنسانية؛
قراءة في قصيدة (أغنية إلى الإنسان) للشاعر أديب كمال الدين.
الفصل الخامس؛ مقالات عن المجاميع الإنكليزية
* د. آن
ماري سمث-
قراءة في مجموعة
الشاعر
أديب كمال الدين؛
"حياتي، حياتي!"
My life, my life!
* د. آن
ماري سمث-
ممتع، غريب، مدهش!
قراءة في مجموعة أديب كمال الدين (ثمّة خطأ)
Something Wrong
* شاكر حسن راضي-
أديب كمال الدين؛ من بلاد الرافدين إلى أستراليا؛ الشاعر هو
الشاعر.
* د.هثر تايلر جونسن- إحساس بالسحريّ؛ إضاءة في مجموعة (ثمّة
خطأ) )
Something Wrong
للشاعر أديب كمال الدين.
الفصل السادس؛ آراء متفرقة
- الشاعر في سطور
- معد ومقدم الكتاب في سطور
المقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله،
وبعد، فإنّ
المدونة الشعرية العراقية بشكل خاص والعربية بشكل عام تزخر
بشعراء شقوا طريقهم بأسلوب جديد ونمط مغاير، أفرزته الساحة
النقدية طوال مدة إبداعهم، فكان لبعضهم مكان الصدارة والتفرد
بخصوصية أًريد لها الحضور بشكل مختلف عمّا سلكه الآخرون،
ولاسيما بعد أن تعددت الرؤى، واختلفت المشارب بين الغربية
والعربية، فضلا عن زيادة عدد الشعراء وغزارة إنتاجهم، مما شكل
ثقلًا إبداعيًا، وهمًا معرفيًا للوصول إلى هذه الفرادة وذلك
التميز، فحاول كل منهم أن يجد حضوره ومكانته الشعرية في البحث
عن الجديد المختلف سواء أكان على مستوى الجيل أم الأجيال
الأخرى.
وحقيقة
الأمر أنني وجدت الشاعر أديب كمال الدين العراقي المغترب قد
أختط لنفسه فرادة الحرف والكلمة، فطوعهما ليناسبا ذلك التوجه
والتميز، فصوّف الحرف، واختار اللفظ، من أجل أنْ يخلقَ
نمطاً كتابياً يحمل المتلقي على إدراك هذا التحول الإبداعي،
فينتقل من الذات إلى الموضوع، بعبارة أدق من المسرح الداخلي
للذات المبدعة إلى المسرح الخارجي/ فضاء القراءة والتأويل،
ليجعل القارئ منتجًا ومشاركًا في العمل الشعري، فأكسب النص
طابع العمومية بدلًا عن الخصوصية، مع احتفاظ النص بخصوصيته
أيضا.
ويمكن أن نتلمس
ذلك بالعدد الكبير من النقاد والأدباء والكتاب الذين وقفوا عند
قصائده ليتلمسوا الجوانب الحروفية والتأويلية والجمالية حتى
أصبحت في حيرة من أمري وأنا أجمع هذا العدد الكبير وعلى
مستويات متنوعة ومختلفة، فجاءت مواطن الجمال من مبدعين لهم
مكانتهم في عالم النقد والتأليف، فاخترت منهم
أربعين ناقدا من مختلف الدول والأقطار والمشارب والأهواء
ليشاركوا في هذا الكتاب محتفين بتجربته وإبداعه كل حسب قدرته
النقدية والإبداعية والفكرية، وليكون مصدرًا معرفيًا يمكن
العودة إليه والإفادة منه.
والحقيقة
الأخرى التي أود أنْ أبوحَ بها أنني لم أستطع من نشر كل ما
كُتب عن الشاعر فهو كثير ولله الحمد، فاخترت ما اعتقدته أكثر
قربا من التجربة الحروفية الإبداعية الجمالية،
بل إنني لم أنشر كل ما كتبه النقاد الأربعون؛ لأن بعضهم
كتب ست مقالات أو خمسا أو أربعا فاخترت منها ما يستطيع الكتاب
استيعابه فقط على وفق الرؤية التي ذكرتها مع مراعاة حضور
التنوع للأعمال
الشعرية، على أن أستدرك ذلك في كتاب آخر إن توفرت الإمكانات
والظروف المناسبة،
فأنشر ما لم أنشره من نقد كتبه نقاد آخرون مبدعون لم
تتح لهم الفرصة للأسف لنشر إبداعهم هنا حتى لا ندخل القارئ في
سأم القراءة كلما زادت عدد الصفحات.
إنّ اختياري
لأديب كمال الدين كما قلت لفرادته وتميزه بين أبناء جيله
والأجيال التي زامنته، فكان خير سفير للمدونة الشعرية العربية
والعراقية في تحقيق حداثة النص وديناميكيته؛ لأنه يحقق
سلطة الغياب وقدرته التواصلية وفاعليته القصدية، فتظهر سلطة
القارئ، وسلطة الشاعر، وبذلك يتوافر لدينا سلطتان: أولهما
القارئ بتعدد قراءاته واختلاف درجاته التي لا تتوقف عند حدود
التلقي المباشر وإنما تسهم في إنتاج وجهة النظر التي يحملها
الشاعر أو يقترب منها إلى حد ما، والثانية قصدية الشاعر التي
يسعى الجميع بالوصول إليها وإن لم يصلوا.
وكل ذلك يعود
إلى قدرة الباث وحرفية تعامله مع الحرف واللفظ
ومكونات العالم الوجودي التي تعد مرجعياته الثقافية والفكرية
والإبداعية، وهي مصدر قلقه وتوتره التي تساعده على البوح
الشعري، يرى بهمّ وجوده، فشعره هو تأكيد للوجود الذي يعاني من
غربته واغترابه، فالشاعر في منفاه لا يجد إلا الشعر نديماً له،
وكأنه تنازعه قوتان: الأولى التعلق الوجودي الراهن
الذي ينعدم الأمان والاستقرار والطمأنينة فيه، أي انفصال عن
الوجود بسبب غربته، والثانية: التعلق بالشعر الذي يراه معادلاً
حقيقياً لغربته؛ لأنهما بمنزلة واحدة فهو المعبر عن حالته،
فيلجأ الشاعر للتغلب على هذه العزلة النفسية عن طريق الشعر
فيكون صورة معبرة عن شخصيته وعاطفته وغصّاته ووجوده.
لقد جاءت تقسيمات الكتاب وفصوله في ضوء منهجية الإبداع الشعري،
فكَرسَّ الفصل الأول
للحديث عن التجربة الشعرية الحروفية لأديب كمال الدين التي
أظهرت قدرة النصوص الشعرية على البوح بفكر جديد استنطقه النقاد
على الاختلاف مراتبهم العلمية، وتمثل الفصل الثاني للدراسات
والمقالات عن المجلدات الشعرية، فقد كان ترتيتبها على حسب
ظهورها الأخير، فبدأت بالسابع ثم السادس ثم الخامس... ، وهذا
الأمر ينطبق على الفصل الثالث الذي وقف عند المجاميع الشعرية،
إذ بدأت بآخرها صدورا مجاميع منفردة، أي "حرف من ماء" ثم "في
مرآة الحرف" وهكذا،
ويقينًا أن ذلك التقسيم يراعي حداثة الدراسات والمقالات
ووجودها في الساحة النقدية، مثلما يمثل استمرار الشاعر في
إنتاجه الشعري وإبداعه المتجدد، أما الفصل الرابع فقد تناول
القصائد الشعرية وما مثلته من محطات معرفية ونقدية وجمالية.
ومادام
الكتاب يبحث عن تفرد الشاعر وتميزه واتساع نطاقه المعرفي إلى
العالمية، كان لابد من الوقوف على ما ترجمه الشاعر من شعره إلى
الإنكليزية، إذ أصدر الشاعر ثلاث مجاميع بالإنكليزية صدرت في
أستراليا حيث يقيم، وهي "أبوّة" و"ثمّة خطأ" و"حياتي، حياتي!".
وقد استُقبِلتْ قصائدها
استقبالا حسنا، فاخْتِيرت قصيدة (أرق) واحدة من أفضل القصائد
الأسترالية ونُشرت في أنطولوجيا خاصة صدرت عام 2007 أعدّها
الشاعر الأسترالي الكبير (بيتر روز)، وكذلك تم اختيار قصيدة
(ثمّة خطأ) واحدة من أفضل القصائد الأسترالية ونُشرت في
أنطولوجيا خاصة صدرت عام 2012 أعدّها الشاعر الأسترالي الشهير
(جون ترانتر)، ولذا اخترت بعضا مما
كتبه النقد الأسترالي من مقالات عن تجربة شاعرنا في
الفصل الخامس.
أما
الفصل السادس فقد وُضِع لإثبات ما ذهبت إليه وأنا أقتطف جزءا
من كمّ كبير جدا قيل في شعر الشاعر وفرادته وجماليته، إذ حاولت
إظهار جمالية خطابه وتقاناته في آن، وما حققه للشعر العربي
والعراقي في آن آخر .
وأخيراً فهذه محاولة جديدة جادة أريد لها الخروج عن
عباءة الذاتية، والاعتراف بفضل الشعراء والمدونة النقدية في
تشكّل الخطاب وصيرورته، فحرصت على بيان قيمة الشاعر والكاتب،
فكلاهما قارئ مجتهد همه الأول إظهار النص وبيان قيمته ومحاولة
الارتقاء به.
وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.
الأستاذ
الدكتور علي هاشم الزيرجاوي
الفصل الأول: التجربة الحروفية
جماليات الحرف العربي
في القصيدة
تجربة أديب كمال الدين نموذجاً
أ.
د. حاتم الصكَر
ناقد وأكاديمي عراقي مقيم في أمريكا
لعل اكثر الإنزياحات والتحولات التي أدت إليها الحروفية
العربية هو توسيع مدى العناية بالخط والحرف، والإنتقال بهما من
التعامل التقليدي والحقل المهني الضيق للخط كحرفة إلى التعامل
الجمالي الأوسع، والإلتفات للطاقة الجمالية والرمزية في الحرف
العربي خارج نطاق الوظيفة الخطّية أوالمعنوية. وقد جاء ذلك
التوسيع للتعامل ليشمل الفنون التشكلية رسماً وزخرفة ونحتا،
فشهدت اللوحة الحروفية العربية تحولات
تركيبية: تستثمر كينونة الحرف العربي وجمالياته لتقوية عناصر
النصوص جمالياً. وهذا ما عكف عليه
التشكيليون الحروفيون بآستضافتهم للحرف العربي، لا
كمعنى أو وظيفة جملية، بل كعنصر بصري يؤازر الدلالة الكلية
للصورة البصرية
انطلاقاً من الإعتقاد (بأن الدراسات اللسانية اقتصرت على البعد
الألسني للخط باعتباره وسيلة تدوينية، دون أن تدرس جانبه
المعرفي، وهو ما يؤكده الفنان شاكر حسن آل سعيد
من إن الحرف العربي له شخصيته، وهو ليس مجرد وسيلة
لغوية
وبذلك يكون الخط العربي متجاوزاً وظيفته اللغوية)(1) وكأنه
بهذا التلخيص يعيد بلغة معاصرة ماكان قد أكده ابن عربي بقوله
(إن الحروف تعمل بأرواحها لا بصورها)(2)
وكان ذلك التوسع الوظيفي والجمالي يرافق انفتاح الفنون وزوال
الحدود بين الأجناس والأنواع الفنية والأدبية في العصر الحديث،
رغم أن هناك تجارب سابقة لكنها قليلة للمزج بين الخط والحرف في
منتجات فنية موازية خارج إطار الخط التقليدي.
إن انفتاح الخط والحرف على التجارب التشكيلية أنقذ فن الخط من
الإندثار، بعد أن خف الإهتمام به أو كاد بسبب الإعتماد على
الطباعة الآلية التي يتيحها الكومبيوتر، وقلة استخدام الخط
بالطريقة المعتادة التي تُظهر زينة الحرف وهيبته.(3)
القصيدة الحروفية
ومن التوسيعات التي تمدد فيها الحرف العربي من فن الخط والحرفة
المعروفة، دخوله في القصائد بكيفيات متعددة. وهذا التوسيع
دلالي أو مفهومي، فالتجربة الحروفية في القصائد
تتوخى تأكيد المضامين المتعالية فلسفياً، والمتمحورة حول
التصوف والتقشف اللفظي والأدائي، ما يمنح الحرف بأبعاده
الدلالية قوة المعنى وبلورته. وهذا ما تكفل به الشعراء العرب
مستمدين ذلك من مؤثرين بارزين، هما:
- التراث الخطّي العربي وفلسفته المتمثلة في تأويل
الحروف وربطها بالحالات الإشراقية والوجد الجواني للروح. وهو
ما تمثله أدبيات المتصوفة العرب ومؤلفاتهم وتصنيفاتهم في الحرف
ومعانيه وتأويلاته .
فلقد عرفت العربية مجموعة طيبة من محاولات تأويل الحرف وتقليب
إمكاناته الرمزية، وذلك بتأثير التصوف الأسلامي والفلسفة.
وأمثلة ذلك ما ضمته كتب مثل الفتوحات المكية لإبن عربي،
وكشاف اصطلاحات العلوم والفنون للتهانوي، وبعض شطحات الحلاج
وكلماته في
الطواسين وأشعاره، و كتاب التعريفات للسيد الجرجاني وغيرها...
- والحداثة وتيارات التجديد التي تحث على تبدل المراجع،
والبحث عن طرق جديدة للتعبير الشعري والأسلوبية النصية. وهكذا
يلتفت الشعراء إلى الكنز الحروفي الذي تحمس له مجددون عالميون،
تنبهوا للقيمة الرمزية للحروف، وإمكانات استثمارها جمالياً في
النصوص الشعرية. وقد شهد الشعر الفرنسي على سبيل المثال مثل
تلك المحاولات في اللعب بالحروف، واستنطاقها لإبراز طاقتها
الرمزية في ترتيب جديد، أو تأويل صورتها البصرية الخارجية،
وإعطائها مرادفات لونية تثيرها في النفس عند تأملها بخيال
شعري.(4)
وللتعامل الجمالي مع الحروف تجارب عربية متناثرة ومتباعدة،
لكننا سنتوقف عند تجربة شاعر من جيل السبعينيات الشعري هو أديب
كمال الدين (العراق 1953-) الذي أوقف تجربته الشعرية على
الجمالية الحروفية في وعي وإدراك مسبقَيْن للقيمة الرمزية
للحرف كعنصر وجودي وحياتي(5)، فكانت دواوينه خلال مسيرته
الشعرية مكرَّسة لتقليب دلالات الحرف والإحتفاء الجمالي به،
مواءَمةً مع الحالة الإشراقية الجوّانية التي يعيشها على
المستوى الشخصي، فكانت الحروف بمثابة (اكتشاف لجوهره الشخصي)
إذا ما استعرنا خطاطة الملتقى الحالي والمقدمة بعنوان (جوهر).
ولعل حالة أديب كمال الدين حالة نموذجية للإصرار على استخدام
الحرف، واسثتمار طاقاته الروحية العميقة على مستوى الدلالة،
وطاقته الجمالية على مستوى التشكيل والبنية. فقد
أصدر أديب كمال الدين
ثلاثين ديوانا ً تستمد قصائدها من جماليات الحرف
ودلالاته الروحية والرمزية.
وقد تحول إلى الإستخدام الحروفي المطلق والحصري في شعره بعد
ديوانين مبكرين. ومنذ ديوانه الثالث (جيم) الصادر عام 1989 حتى
ديوانه الأخير
لم يغادر أديب كمال الدين منطقة الحروفية الكتابية. وكانت
عناوين دواوينه تشي بذلك ،نذكر منها للتمثيل فحسب:
- (نون) 1993)
النقطة) 1999 (حاء)
2002 (شجرة الحروف)
2007
(مواقف الألف)
2012
(في مرآة الحرف) 2016 (حرف من ماء) 2017.
مدخل :شجرة الحروف
ولكن لماذا هذا التشبث بالحرف وسيلة وحيدة للتوصيل الشعري؟
يجيب كمال الدين في حوار صحفي (تأمّلتُ
في الحرف العربي خلال رحلة شعرية امتدت أكثر من أربعة عقود ولم
تزل متواصلة، وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي
اتخذتْ الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً وكاشفةً للأداة،
ولغةً خاصةً ذات رموز ودلالات وإشارات تبزغ بنفسها وتبزغ
باللغة ذاتها، عبر هذا كلّه أخلصتُ للحرف عبر عقود من السنين
حتي أصبح قَدَري الذي لازمني وسيلازمني للنهاية)(6)
وهكذا كان تميز
الشاعر العراقي أديب كمال الدين بين زملائه من شعراء جيله
السبعيني هو عكوفه على تجربة التزيين الحروفي لقصائده
كمقترح لأسلوبية خاصة به، وأوغل في التجربة الحروفية تعضده
موروثات الكتابة الإشراقية الصوفية وتجارب الشعراء والكتاب
الصوفيين في تأمل الحرف، لا في مهمته اللغوية كجزء من كلمة
تؤدي وظيفة معنوية أو دلالية، بل بما توحي من مشاعر وآثارِ
تلقٍ تمس الأحاسيس، وتتمثل الأثر فتخلق الإيحاءات في النفس
وتعلي الإدراك الجمالي للعالم الذي يزعم
الموسيقيون وعلماء الرياضيات أنه
مكوَّن
من
عدد ونغم، يتوافقان ويخلقان هذا التوازن الإيقاعي في حركة
الكون. وتحاول الحروف أن تحدَّه بحدودها؛ فتغدو ذات أشكال
وهيئات خاصة هي التي يناجيها ويستلهمها المتقشفون والزهاد
والمفكرون في النفس البشرية.
وربما أخذ بعض النقاد على أديب كمال الدين انغماسه في التجربة
الحروفية وانحصاره داخل إطارها المتكرر، وكأنه استراح لها
نهائيا. ولكنه يجد نفسه متوافقاً وصادقاً مع تجربته، وبقناعة
تؤكدها تفوهاته في حواراته ومقالاته، ولديه ما يبرر اتخذه
الحروف وسيلة للتعامل مع الأحداث والموضوعات والمضامين، وقد
كتب ديوانه (شجرة الحروف) ليجمع الحروف المعشوقة كلها في شجرة
واحدة، والديوان مجموعة قصائد لا تقف عند الهوية الحروفية التي
أراد الشاعر تكريسها لنفسه كعلامة فارقة لشخصيته الشعرية، بل
تتعداها إلى موضوعات شعرية أخرى كالتأمل في ما آل إليه الوطن
،وما ملأ أرضه من دم وما يتعرض له من مآسٍ.
ولكن ما شجرة الحروف هذه التي يتفيأ ظلها الشاعر؟
ليسَ هناك مِن شجرةٍ بهذا الاسم
أو بهذا المعنى.
ولذا أنبتُّ هيكلي العظميّ في الصحراء
وألبستهُ قبّعةَ الحلم
وحذاءَ طفولتي الأحمر
وعلّقتُ عليه
طيوراً ملوّنةً اتخذتْ شكلَ النون
ثُمَّ وضعتُ عليه
بيضةً صفراء كبيرة
اسمها النقطة!
(7)
واضح أن الشاعر يقيس العالم بوجوده الحروفي ويسترجع طفولته
بهذا المعيار أيضاً، فتتحد البراءة الأولى للطفولة وكأنها
براءة الحرف قبل أن تسلبها الاستخدامات النفعية في وجوده
اليومي، ضمن عملية
تشكل الكلمات وتأدية المعاني كما يريدها الإنسان في
سياق رغباته ومصالحه.
ولكن في هذه التجربة الحدسية ليس ثمة يقين مؤكد، فيغدو الرجوع
إلى شجرة الحروف ذات الوجود الافتراضي– الحلمي جزءاً من مقاومة
شرور العالم وقسوته. فالنص الحروفي (نص القلق النفسي المتأزم
بالمفهوم الوجودي للعبارة، طالما أن الشاعر يبحث في فضاء
المعرفة وفي فضاء الحلم عن مرفأ آمنٍ لنقطة النفس القلقة التي
قد تفيض على نقطة النون وهمزة الألف في بعض المكاشفات
الصوفية)(8)
ورغم أنه تخيل الحروف شجرة نفترض أن بعض ثمارها أقرب من سواه،
نراه لا يميز بين الحروف في التراتب التفضيلي عند
الإستخدام الشعري، فيقول في حوار أخير معه (ليس
هناك من حرف قريب وآخر بعيد. الحروف كلّها تحاول أن تجيب على
سؤال الحياة والموت، والحيرة واليقين، والجمال والقبح، في
احتراقها المتواصل عبر ومضة القلب وصرخة الروح)(9)
يدافع كمال الدين عن تشبثه بالحرف وسيلة مطلقة للتعبير، ويبرر
ذلك بطريقة العارفين من المتصوفة والمتأملين في
كنه الحرف وسره، فيستعير لغة العرفانيين الذين يرون
الفناء في المحبة دليل الإخلاص للحقيقة. وذلك الفناء عندهم هو
أعلى مراتب الوجد. وهو يحيل العارف جاهلاً،
لأنه يبدأ دورة علمه من جديد:
(فالحرف كما أرى شبكة لصيد البهجة والألم العظيم. الحرف، قبل
كل شيء، سرّ عظيم لا يعرفه حق المعرفة إلا القلة. وكلما
ازدادوا معرفة به ازدادوا معرفة بالعالم، وكلما ازدادوا معرفة
بالعالم ازدادوا جهلاً بأنفسهم وبالشعر وبالحرف)(10)
لقد صدر سبعة عشر
كتاباً
نقدياً مخصصاً
للتجربة الحروفية للشاعر، كتبها نقاد وباحثون أكاديميون. وتم
تسليط الضوء على ما تضمنته تلك التجربة من أبعاد رمزية
وجمالية......(11)
ولكننا توقفنا لغرض الدراسة وحصر الدلالات على النصوص التي
تعكس الوعي الحروفي لدى الشاعر، وطريقةَ تَمثُّلهِ للجماليات
الحروفية من خلال
ثلاثة من دواوينه هي (أقول الحرف وأعني أصابعي) و(مواقف
الألف) و(نون). مع استشهادات متناثرة من دواوين أخرى.
وذلك يستلزم تأمل عدة محاور للبحث في تجربته الشعرية الحروفية:
1- المراجع المؤثرة في تجربته:
ووجدناها تتلخص في
الإحالات القرآنية من السور والآيات، وفي كتابات تتناول
جماليات الحرف ورمزيته
لمحيي الدين بن عربي لاسيما الفتوحات المكية وترجمان
الأشواق، وأبي حيان التوحيدي بوجه خاص في الإشارات الإلهية،
وثمة جماليات مستخدمة بتناص غير مرئي مباشرة مع الأدبيات
الشعرية والنثرية الصوفية لشعراء وكتّاب؛ كالحلاج في قصائد
منسوبة له، والنفّري في المواقف والمخاطبات.
وعلى سبيل التطبيق نعاين ديوانه (مواقف الألف)(12) الذي يبين
لنا بجلاء ومباشرة إستفادة الشاعر من النفّري في (المواقف
والمخاطبات) الذي يقوم على اللازمة المعروفة (أوقفني ...وقال).
يضم الديوان أربعة وخمسين موقفاً، كل
قصيدة تعنون بموقف مع إضافة شيء إليها؛ مثل موقف الألف،
وموقف الإسم، وموقف الخطأ...إضافة إلى عتبة افتتاحية ذات دلالة
عنوانها (مفتتح) يصرح فيها بما اتخذ من أسلوبية أدائية، حيث
اقتبس من النفري عمود الديوان أو هيكله الأساسي:
اقتَبسَتُ مِن النِّفَّريّ جُملةَ البَدْء
ومِن دمي جُملةَ المُنتهى.
وما بين الجُملتين
بعينين دامعتين
وقلبٍ يشبهُ شجرةَ الأمل
كتبتُ كتاباً في مدحِ ملكِ الملوك،
ذاك الذي يقولُ للشيء كُنْ فيكون.(13)
إذاً لم يكن مرجع الشاعر هو (المواقف والمخاطبات) فحسب، فما
دام يريد كتابَه مديحا لملك الملوك=الله الذي يقول كن فيكون،
فهو داخل في تناص مرجعي صريح وضمني مع الآيات القرآنية، لاسيما
تلك التي ترد فيها مفردات ومعان تلقفها الصوفيون في كتاباتهم
الإشراقية كالنور مثلاً. وهذا ما تؤكده عتبةٌ افتتاحية وموجّهُ
قراءة ٍشديد الأثر، حيث استعان بآيات من سورتي النور ويوسف.
وهذا موجود في ديوان (نون) حيث تتصدر النصوص آية (ن
والقَلَمِ وَمَا يَسْطرُون)(14)
وفي العنونة يصارح الشاعر قراءه بأنه غيَّر تسمية الكتاب-
والكتاب مفردة
مقصودة الدلالة حيث لم يقل (ديواناً)
ليقرب من البوح والنثر المتوهج وجدانيا،
لاسيما والأشعار كلها مكتوبة كقصائد نثر وفي الحقيقة يريد
الشاعر أن يهيئ القارئ لتلقي موجهات نورانية تضعه في سياق
النص.
فيزعم أنه أراد تسميته لوعة عابر سبيل، فعدّله إلى نقطة شوق
وحرف أنين، ثم اصطاد
(ما يشبه سمكة ذهبية بسنارة السنين فسمّاه: مواقف الألف/ في
اقتفاء أثر التائبين والتائهين والعاشقين) (15)
ويمكن لنا ملاحظة تكرار الألف قرابة عشر مرات في الجملة
الشعرية الأخيرة.
ويصرح الشاعر بأن القرآن كان أكثر المراجع تأثيراً في استلهامه
الحرف.
فيقول:
(إن حروفيتي في أصلها قرآنية. فالحرف حمل معجزة القرآن المجيد
ولا بدّ لحامل المعجزة من سرّ له، كما أن الله سبحانه وتعالى
أقسم بالحرف في بداية العديد من السور الكريمة)(16)
وهذا واضح يمكن التمثيل له بالقصيدة التي ختم بها (مواقف
الألف)، وعنوانها
(موقف الجنة) حيث ضمّنَ آياتٍ قرآنية ًمن سورة الأعراف، وسورة
ياسين:
أوقفتي في موقفِ الجنّة
وقالَ هذي هي الجنّة
ادخلْها فأنتَ من المكرمين.
...فأنت ما دخلتها ياعبدي
بألفكِ بل بقافي،
ادخلْها وقلْ:
الحمدُ للهِ الذي هَدانا لهذا
وما كُنّا لنهتدي لولا أنْ هَدانا الله.
وقل: سلامٌ قولاً مِن ربٍّ رحيم.
(17)
إن المرجعية القرآنية هنا مباشرة وصريحة، وفي مستوى الإستخدام
الحروفي أضفى حرف الألف مكانة بشرية للشاعر ربما تكون مشتقة من
حرف اسمه الأول: أديب، فيما كانت قاف الله هي التي أدخلته
الجنة بقاف قوته وقدرته.
ويمكن تسمية مراجع أخرى تدور في فلك المرجعيْن السابقيْن وهي
كتابات الصوفية ومفردات العشق، والتضحية من أجل المحبوب. وما
يفعله أديب كمال الدين هو سلخ تلك المفردات والحالا ت السياقية
لها؛ ليضعها في غزل وأوصاف تقترب من الإستخدام الدنيوي، لاسيما
فيي أعماله الأخيرة
رغم أنها جاءت في الأعمال الأولى. ففي ديوانه (أقول
الحرف وأعني أصابعي) يجسّد من الحروف شخوصاً تحاور بعضها:
قالَ الحرفُ الحكيمُ للنقطةِ الشاعرة:
تعالي إليّ!
فأجابت النقطة:
بل أنتَ تعال إليّ!
قالَ الحرفُ:
إن جئتكِ عشقتك
وأصبحتُ ساحراً،
وأنا لا أحبُّ السِّحر.
فأجابت النقطة:
إن جئتكَ ذبتُ فيك
وأصبحتُ نبيّةً،
والنُبُوّة لا تصلحُ للنساء! (18)
إنه يتماهى مع التجربة الحروفية في بعدها الصوفي، وما ضمته
أدبيات الصوفية من أشعار في العشق الإلهي، فيقرر في ديوانه
(نون) انْ لابد للشاعر من أن يعشق:
ينبغي للشاعرِ أن يعشق
حتّى يتعرّف إلى الشمسِ وهي تشرقُ ليلاً
وإلى الهلالِ وهو يصبحُ نوناً من غيرِ نقطة
وإلى النقطةِ وهي تصبحُ سِحْراً
يضيءُ فحمةَ الليل. (19)
يحاول الشاعر هنا أن يموّه تجربته العشقية أو هفوَ روحه
للعشق وصبواته بالقول: إن ذلك العشق ضروري للشاعر.
وفي سياق الأسباب يورد ما يبعده عن دائرة الحب الجسدي أو
البشري،
فيجعل الهدف هو الكشف ورؤية الحقيقة ممثلة بالشمس المشرقة
ليلا! والنقطة اتي تضيء بسحرها دجنة الليل!
إذا كان الشعراء الوصافون قد شبهوا الهلال بنون لجينٍ=السري
الرفاء، أو زورق فضة أو منجل فضة=عبدالله ابن المعتز، فإن كمال
الدين لا يراه في جماله المتعالي إلا حروفياً فيجسده نوناً
تعوزها النقطة.(20)
2- رمزية الحرف ودلالاته الشعرية
توخينا بجانب المؤثرات والمراجع
قراءة القصائد بهدي الجمالية الحروفية للخط العربي،
وكينونة الحرف ودلالاته الرمزية. وما يتيحه التناص الشعري
وتحويل الحروف إلى عناصر نصية مكتوبة ومتخيلة ومصورة في
القصيدة. بالإضافة إلى الموقف الفكري للشاعر أو الإستراتيجية
النصية في استخدامه للحرف العربي. ومقارنة النصوص بعدَّةٍ
تأويليةٍ مرجعها الحرف وامتداداته الممكنة في النسيج النصي
الشعري.
وسبيلنا لإنجاز هذه القراءة هو تفحص العناصر التالية:
- الإستخدام الشعري على مستوى التناص البنائي مع الحرف.
وأعني به استثمار الشاعر لهيئة الحرف وأبعاده المعنوية.
- الإستخدام الدلالي. وهو الكشف عن العمق الروحي
لاستلهام الحروف، وتأكيد مطابقتها للحالة الوجودية أو الكينونة
الخاصة بالشاعر.
- تأويلات الحروف والإنزياحات الصياغية التي جرت لها في
المدونة الشعرية لأديب كمال الدين.
- التحوير والتوسيع الدلالي والرمزي للحرف عبر ترحيله
من مكانه أو مكانته في الفكر الحروفي والخطي، إلى مديات شعرية
جديدة ومبتكرة.
وقد اخترت في
هذه المرحلة من الدراسة ديوانيه (مواقف الألف) و(نون) لقناعتي
بأن لهذين الحرفين في العالم الرمزي للحروف العربية مكانة
كبيرة، تحف بوجودهما منذ القدم. وهما كذلك مؤشران لعلاقة
الشاعر بالله وتجسيد الشوق الصوفي له. فالألف هو أول حرف من
اسم الشاعر، كما أن النون هي الحرف الأخير. والألف هو المبتدأ
أو بداية التكوين بينما تكون النون مستقراً للكينونة الخليقية.
وهي منتزعة من (كن فيكون) التي وجدنا الشاعر يرددها منسوبة
لقاف القوة الإلهية.
هكذا يكون لهذين الحرفين موقع حيوي في الفكر الحروفي وفي
القصيدة الحروفية كما في اللوحة. وقد أشار دارسو تجربة كمال
الدين إلى استخدامه لدلالات الحروف شعرياً، فأقرّوا كون الحرف
قد أصبح (عند
الشاعر الصورة الناطقة لما يجول في أعماقه من أسرار وخفايا،
فحملت تلك الحروف دلالاتٍ ومعاني تختلف من لفظة إلى أخرى)( 21)
ولكننا بالمقابل سننتزع الخط الحرفي من وظيفته التقليدية ليؤدي
مهمة جديدة في النص، تكتشفها القراءة التي يقول عنها الدكتور
مصطفى الكيلاني في كتابه عن تجربة كمال الدين
(تقتضي
القراءة أن لا نتعامل مع هذا الخط تعامل الكتابة وما في
الكتابة من توظيف نفعي، ولكن الخطوط في تشكلها تلهج
بكوامن ذاتية وهواجس فكرية هي أصداء واقع معيش ،مهزوزة
صوره وأركانه.)(22)
لقد غدا الحرف معلّماً أو مريداً:
حينَ يجلسُ الحرفُ قبالتك
لا تتكلمْ قبل أن يبدأ الكلام......
وحينَ يشتعلُ الحرف
من الموتِ والحُبّ
(وكثيراً ما يشتعلُ الحرف
من الموتِ والحُبّ)
ضعْ إصبعَكَ على شفتيكَ علامةَ السكوت
وابدأْ كتابةَ القصيدةِ فوقَ الماء!
(23)
هذا الصنيع الفني يمكن تسميته (أنسنة الحروف) التي
رأيناها في نصوص أخرى تتحاور وتقيم علاقات
مع بعضها، أو يحاورها الشاعر ويستنطقها كالبشر:
تحتَ شجرةِ الكلمة
جلسَ الحرفُ والنقطة
وقبّلا بعضهما بعضاً.
حينَ تعلّم الحرفُ سرَّ القُبْلة
صارَ عاشقاً
ثُمَّ شاعراً
ثُمَّ مجنوناً (24)
وهو في ذلك يجسّد النظر الصوفي للحروف بكونها عندهم كما يقول
التهانوي (خزائن الله الكامنة في غيب الغيوب...)(25)
يلاحظ الدارسون أن
أديب كمال الدين (ألحّ في أكثر نتاجاته الشعرية على الحروفية
الرمزية (الألف والنقطة) ثم وظَّف غيرهما ليجسد حالة التوهج
والعشق)(26).
لكنني أرى أن اهتمامه الأول -كما بينت سالفاً- كان بحرفيْ
الألف والنون، أما النقطة فهي ذات رابط بصري قوي بالنون التي
لا قيمة لها بدون نقطتها. لذا شبهها كمال الدين في نص استشهدنا
به سابقاً بالهلال الذي يصبح نوناً بلا نقطة.
إن النون ذات قيمة مركزية في الشعر الحروفي. وقد شخّص ذلك
الدكتور عبدالقادر فيدوح حين درس حروفيات كمال الدين معللاً
ذلك: (لأن
هذا الحرف في نسق مكاشفة المتصوفة يعد حرفا نورانيا، وسر
ديمومة التواصل نحو الشفق الأعلى)(27)
ولكن النقطة من ناحية أخرى ذات مكانة مهمة في الفكر الصوفي
بحسب نظرية الفيض الإلهي فهم يرون العالم خطاً مكوناً من
مجموعة نقاط، وإذا أنت وقفت عند أية نقطة فأنت في الخط نفسه.
يرى الدكتور مصطفى الكيلاني (إنّ
النقطة، بالمنظور الحروفيّ العربيّ القائم على الدلالة
العِرفانيّة التشكيليّة الرمزيّة الإيحائيّة، هو الحضور، رغم
ضآلته وصفته العارضة داخل دفْق الحركة في انسيال الوجود أو
انسيابه. لذلك نزعت الكتابة في قصائد "النقطة" لأديب كمال
الدين إلى انتهاج سبيل "المحاولة" تليها محاولة بل محاولات
لاستحالة حصْر النقطة في نظام تدليليّ واحد، إذْ يتحكّم سِياق
الاستخدام في كُلّ من الظهور العلاميّ والأداء الدلاليّ).(
28)
ويرى باحث آخر أن
حرف "النون" في شعر
أديب (يرمز إلی الکون، ونقطتها ترمز إلی الشاعر، وأحياناً يرمز
هذا الحرف إلی سفينة نوح، ونقطتها إلی النبي نوح، وأحياناً
ترتبط بالنبي يونس وقصة الحوت المعروفة)
( 29)
لكنني مقتنع بعد دراسة نصية لشعر كمال الدين أن النقطة - وإن
تكن ذات حضور مميز وستراتيجي في شعره -
تابعة لوجودها مع الحروف الأخرى والنون خاصة. صحيح أنها
تعيّن هوية الحرف وتعطيه وجوداً جديداً بعد التنقيط، لكننا
نراها تابعاً، والوجود النوني (كن) هو الأسبق في الدلالة على
العالم.
في موقف النون من (مواقف الألف) ، يقول:
أوقَفَني في موقفِ النُّون
وقال: اعلمْ أنَّ النُّونَ هي السَّفينة
والنُّقطة نقطة ذي النُّون يا عبدي.
واعلمْ أنَّ النُّونَ هي المرأة
والنُّقطة هي المَسرّة.
واعلمْ أنَّ النُّونَ هي الدُّنيا
والنُّقطة هي الشَّمس.
ثُمَّ قال: إنّ مَن عرفَ النُّونَ فقد أبصر.
(30)
يدرك أديب كمال الدين مستويات التعبير المتاحة في الحرف من
الناحية البنائية
فيقول: (وجدتُ أنّ للحرف العربي ما يمكن تسميته
ب(المستويات). فهناك المستوى التشكيلي، القناعي، الدلالي،
الترميزي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري،
الطلسمي الإيقاعي، الطفولي)(31).
وذلك أمر يحدده السياق. ويعطينا قناعة بأن الشاعر يحرر الحرف
مرتين: مرة من وجوده الوظيفي الدال على المعنى، ومرة داخل هذا
الإستخدام المتحرر من الوظيفة فيطلقه ليدل على عدة معانٍ بناء
على السياق المستخدم فيه.
إن الحرية التي يمنحها التناص بكونه استضافة نص أو حياته في نص
آخر جديد زمنياً ستجعل الشاعر يشكل من الحروف هيئات مختلفة.
فالتناص هنا (لعبة يمارسها الشعر مع الحرف بالحرف). كما تشخص
الدكتورة حياة الخياري في كتابها عن نون كمال الدين.(32)
وتستقصي نون القصيدة المستمدة تشكيلياً من نون السرد القرآني:
فلك نوح وذي النون في بطن الحوت ونون القسم القرآني. لكننا
نلاحظ عدم تقيد أديب كمال الدين بالصدى الصوتي والتماهي أو
التداعي الحروفي المعتاد، أي الاسترسال في ذكر نونات محسوسة.
فهو يتكلم عن حرف ويورد مسميات لا وجود لذلك الحرف فيها ما
يعني في القراءة التأويلية محاولة التحرر من الترتيب أو
التنضيد الشكلي للحرف والإنطلاق في أفق روحاني يوجد أو يشكل
للحرف هيئة حسية ورمزية جديدة.
في (موقف الألف) يفتتح الشاعر النص بهذين البيتين:
أوقفني في الألف
وقال: الألفُ حبيبي(33)
وكلمة حبيبي لا ألف فيها. وكان بإمكان الشاعر أن يرسخ الوجود
العياني للالف بكلنة مثل أناي، وهي ذات مدلول صوفي. وكذلك في
قصيدة أخرى يصف الألف بأنه الموكَّل بفضاء الله:
أيها الألف
سيشتمُ همزتكَ شاعرُ الملوكِ الظَلَمة
(34)
وإذا كانت حركة الألف والنون (تتردد في
مدونة الشاعر أديب كمال الدين بين شد وجذب) (35)
فإن النقطة تكون الوليد الملازم لامتزاجهما الجسدي.
وسيظل ذلك التلازم يرافق الشاعر حتى الفناء حيث يقول:
الزمنُ توقّف.
فخرجتُ لأعيد للزمنِ روحَه المسروقة
فوقعتُ في الممرِ فانكسرَ ألِفي وسالَ دمُ نوني.(36)
إنه لم يجد لتقريب انكساره للقارئ سوى هذين الحرفين اللذين
يرافقانه في نهايته المتخيلة ، فصار انكسار الألف ومسيل دم
النون علامة على انطفائه وانكساره. فهل من تماه أشد وأقوى من
هذا؟
خاتمة
أقمنا دراستنا لحروفيات الشاعر أديب كمال الدين على
افتراض أن التوسع الجمالي والفني للخط والحرف لامس
دائرة الشعر أيضاً. فكانت القصيدة الحروفية تتصادى واللوحة
الحروفية في استمداد الطاقة الرمزية والدلالية للحرف
وجمالياته، واستثمار التناص مع نصوص الآيات القرآنية وكلام
المتصوفة وأشعارهم، وما يمكن أن يؤديه داخل النص الشعري من
مهام غير تقليدية. وقد ساعد إيقاف الشاعر جلّ قصائده في
دواوينه على
الحروفية في تلمس تعامله الجمالي والدلالي مع الحرف؛ فوجدنا
أنه، وإن خصَّ الألف والنون والنقطة كتابع لامتزاجهما في هيئة
الوجود، باهتمام كبير، لم يهمل الحروف الأخرى. كما أنه لم
ينطلق من الجانب الصوتي للحرف بل من دلالته ورمزيته وما يوحي
له من تداعيات روحية متأثراً بمراجع
سميناها، وتدركها
القراءة لأنها قائمة على الإشراق الروحي والبوح
الجواني، وملامسة هواجس الروح وأسئلتها و قلقها.
الهوامش والإحالات
1) نزار شقرون: شاكر حسن آل سعيد- الحقيقة في الفن، دائرة
الثقافة والإعلام- إدارة الفنون - الشارقة، 2008
ص 41.
ويضيف شقرون (إن
اقتفاء أثر الخط العربي وربطه بالهاجس الفني المعاصر كان وليد
استقراء عميق وتأويلي لأصول هذا الخط الفنية والحضارية) نفسه،
ص206
2) ابن عربي:
الفتوحات المكية، دار صادر، ضبطه ووضع فهارسه: أحمد شمس
الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1،
1999
مج2،
ص448
وتضيف د. إيناس حسني
مؤكدة ذلك بالقول: (الحرف العربي ليس مجرد وسيلة لنقل النص،
فهو جميل في ذاته دون أن يكون جزءاً من كلمة، ومعاصر
وحداثي..وتتمتع بالمرونة..)، ينظر كتابها الحرف العربي في الفن
الحديث، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 2013، ص11
3) عرضتُ وناقشتُ بعض معوقات الحضور الجمالي للخط العربي
وأزمته الراهنة في كتابي أقوال النور- قراءات بصرية في التشكيل
المعاصر، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 2010، ص58-59.
4) أمثلة ذلك في كتاب المغامرة السريالية- مقالات ونصوص،
اختارها وترجمها عدنان محسن، منشورات الجمل، بغداد- بيروت،
2016. وتنظر: قصيدة رامبو (حروف العلة) التي تتداعى فيها
خيالاته حول العلاقة بين الحرف واللون. آرتور رامبو: الآثار
الشعرية، ترجمة ودراسة كاظم جهاد، دار آفاق للنشر، القاهرة
ومنشورات الجمل، بيروت كولونيا 2007، ص297. وسردياً تأثر كتاب
كثر بالجمالية الحروفية العربية. وقد حذا بورخس في قصته
(الألف)
حذو ابن عربي،
فقد رأى بورخيس ألفا مشخّصاً ذا وجود عياني، ورأى ابن عربي
ألفاً منيراً ج2 الفتوحات، وكلاهما تجلى له الحرف في هالة
ضوئية. (ينظر: عائشة زمام ،
تجليات «ألف» ابن عربي في قصة «الألف» لبورخيس)، مجلة نزوى، 1
يوليو-تموز-2012.
وتذكر الدكتورة إيناس حسني عدداً من التجارب لفنانين أوربيين
وصينيين تأثروا بجماليات الحرف العربي واستلهموه في أعمالهم.
ينظر كتابها: الحرف العربي في الفن الحديث، سابق،ص21 وما
بعدها.
5) حوار مع الشاعر أجراه: علي جبار عطية، جريدة الإتجاه
الثقافي- وزارة الثقافة - بغداد، 8/6/2017 .
6) الحوار السابق ، نفسه
وتذكر الدكتورة حياة الخياري في كتابها عن نون كمال الدين، أن
الشاعر الحروفي، وتعني أديب كمال الدين يعتمد الحرف أسّاًّ
رمزياً عليه تنبني القصيدة ومسباراً وجودياً تنبني عليه نظرته
إلى العالم وأشيائه. أضف نوناً: قراءة في (نون) أديب كمال
الدين، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012
7) أديب كمال الدين، شجرة الحروف، دار أزمنة ، عمّان2007
8) د.حياة الخياري: أضف نوناً، سابق، ص140
9) حوار مع الشاعر أجراه عزيز البزوني، صفحة ألف ياء- جريدة
الزمان، بغداد-لندن 15/10/2017
10) نفسه، وقد ذكر الشاعر ذلك في حوار علي جبار عطية معه، سابق
11) يمكن معاينة هذه الكتب وبعض الدراسات الأخرى في موقع
الشاعر أديب كمال الدين
.www.adeebk.com
12) أديب كمال الدين: مواقف الألف، الدار العربية للعلوم -
ناشرون، بيروت 2012
13) نفسه، ص 112
14) أديب كمال الدين: نون، الأعمال الشعرية الكاملة مج 1، دار
ضفاف، بيروت 2015
15) مواقف الألف، مفتتح، ص11
16) حوار علي جبار عطية مع الشاعر ، سابق
17) مواقف الألف، سابق، ص94
18) أديب كمال الدين: أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية
للعلوم ناشرون، بيروت، 2011 ص49
19) أديب كمال الدين: نون، قصيدة قاف ، سابق
20) قال السريّ الرفّاء
كأنّ الهلالَ نونُ لُجينٍ
غرقتْ في صحيفةٍ زرقاءِ
وقال عبدالله ابن المعتز:
انظرْ إليه كزورق من فضة
قد
أثقلته حمولة من عنبرِ
وأيضاً:
كمنجلٍ قد صيغ من فضةٍ
يحصد من زهر الدجى نرجسا
21) إبراهيم خزعل العبيدي:
التشكيل الاستعاري في شعر أديب كمال الدين،
المركـز الثقافي
للطباعة والنشـر، بابل 2017. من موقع الشاعر
22) د. مصطفى الكيلاني: الحرف والطيف-عالم أديب كمال الدين
الشعري (مقاربة تأويلية)، نشر إلكتروني 2010 ، من موقع الشاعر
23) قصيدة حروفية، مواقف الألف، سابق، ص35
24) أديب كمال الدين: قصيدة تحت شجرة الكلمة، ديوان أقول الحرف
وأعني أصابعي، سابق،
ص106
25) التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تحقيق وإشراف د.
رفيق العجم، مكتبة لبنان ناشرون، 1996 ج12، ص643
26) إبراهيم خزعل العبيدي: التشكيل الأستعاري، سابق
27)
د. عبدالقادر فيدوح: أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية في
شعر أديب كمال الدين- منشورات ضفاف - بيروت 2016
28) د. مصطفى
الكيلاني،
الحرف والطيف، سابق
29)
د. رسول بلاوي: آليات التصوير في شعر أديب كمال الدين ،
منشورات ضفاف بيروت 2015. من موقع الشاعر، سابق
30) أديب كمال الدين : مواقف الألف، سابق، ص36
31) حوار علي جبار عطية مع الشاعر،سابق. ويتكرر ذلك في حوار
عزيز البزوني، سابق.
32) د. حياة الخياري، أضف نوناً، سابق، ص29
33) أديب كمال الدين: مواقف الألف، سابق، ص12. وفي الألف يقول
ابن عربي: (:يتعلق
به كل شيء، ولا يتعلق هو بشيء، يُظهِر الحروف ولا تُظهره،
ويُخفي اسمَه في جميع المراتب، وكذلك الألفُ سرى في الحروف على
تَبايُن ألفاظها). الفتوحات المكية، سابق، م1، ص65
34) قصيدة الموكَّل بفضاء الله،
ديوان أقول الحرف وأعني أصابعي،سابق، ص.87 وفي قصيدة ما
اسمك أيها الحرف- ديوان أقول الحرف وأعني أصابعي، ص11 يأتي
بالحرف في كلمة حين يخاطبه في موضعين، ثم يترك ذلك ولا يأتي
بكلمة تطابق الحرف المخاطب:
أنا الحاء
حلمك
الباذخ بالحب
.. وأنا الباء
بسملتك
.. وأنا النون
بئرك
الأولى
.. وأنا السين
طفولتك
التي ضيعتها باكياً
.. أنا الألف
جرحك
الممهور بالدم والندم
35) د. حياة الخياري: أضف نوناً، سابق، ص87
36) قصيدة قاف، ديوان (نون)، سابق ، ص15.
فـي القصيـدة وضيافـة "الغـاوين":
محاولـة اقتـراب من شعـر أديب كمـال الدين
أ. د. عبد الوهاب شعلان
ناقد وأكاديمي جزائري
هذه إطلالة على شعر أديب كمال الدين، يخامرنا فيها بعض القلق
والارتياب، وذلك خشية أن تصدق علينا إحدى إشارات الشاعر في
ديوانه "إشارات الألف"، وأن نكون من أولئك الذين "يلامسون قشرة
بيضة القصيدة"،
أو "يقفون على شاطئها"، ويدّعون بعد ذلك الإبحار في عوالمها
القصيّة واستجلاب كنوزها الدفينة. ومهما يكن من أمر، فإن هذه
الخشية لها ما يبررها في عالمي الفن والفكر سواء، فكلاهما
يتغذيان من الواهم المؤسّس.
إن عالم أديب كمال الدين الشعري متشعّب ومترام، بيد أن بؤرته
المحورية هي القصيدة نفسها، إذ تتربّع على عرش مملكته الشعرية،
تتخذ في ذلك تجليات شتى، وتتراءى في مظاهر متعددة، لعل من
بينها هذا الاستحضار اللافت للشعراء وهو ما عبرنا عنه في
العنوان بـ"ضيافة الغاوين". والحقيقة أن مفهوم الضيافة قد نال
قسطا كبيرا من الاهتمام في الفكر الغربي الحديث، وأخذ مسالك
فلسفية معقدة، لعل من بينها ما اشتغل عليه إيمانويل ليفناس
E. Levinas
في سياق الضيافة داخل اللغة الفرنسية.
لذا، سيكون مدار الاقتراب متمحورا في مسألتين هما: رؤيا
القصيدة في نصوص الشاعر نفسه، ودلالات استدعاء شعراء بعينهم في
تجربته.
1-
على مرافئ الشعر وضفاف القصيدة :
تسري في شعر أديب كمال الدين روح وجودية قوية تتآلف مع
نزعة صوفية لا تخطئها العين، ولعل ما يلفت الانتباه هو هذا
التآلف نفسه بين رؤيتين متباعدتين، يصل التباعد بينهما حد
التناقض في بعض الأحيان،
»
فالوجودي يتسامى عندما يكتمل فيه روح هذه الإرادة، وماعدا ذلك
فهــو مجرد عبث، لكن الصوفي يقتبس من بواطـن الأشياء لهيبها،
ويقتنص أسرارها، ويلامس كوامنها، ولا يقنع أبدا بظواهرها، بغية
استشراف أبعادها المابعدية«
(1).
فالوجودية في فكر روادها وباختلاف مشاربهم الفلسفية من كيرجارد
إلى سارتر، مرورا بنيتشه وهايدغر وكارل ياسبرس، هي فلسفة الذات
في مواجهة العالم، فيما تنزع الصوفية إلى الفناء في المطلق. قد
يلتقيان في مفاهيم الغربة والعزلة والوحشة
والموت...، ولكنهما لا يلتقيان في جوهر هذه المفاهيم
وحقائقها.
إن تراجيديا الوجود والتوق إلى المطلق كلاهما كان وراء
هذا الهروب الميتافيزيقي نحو القصيدة، بوصفها محور الوجود وأصل
الكائن ومبدأ الكينونة:
مِن أجلكِ رضيتُ بالجوعِ غيمةً
والعزلةِ أرضاً وسوراً.
من أجلكِ افتتنتُ بالموت
وأطلقتُ الحروفَ في غرفتي
فطارتْ نسوراً وصقوراً،
عصافير وبلابل (2)
هكذا، تطلق قوى الجوع والعزلة والموت عنان الروح لتنفتح
على مباهج اللغة، وتأوي إلى محاضنها، فقد كانت اللغة ولا تزال
مسكن الكائن وملاذه الأخير. ويقترن هذا الهروب إلى اللغة عادة
بالتعالي والضرب في الآفاق البعيدة، ذلك أن "القصيدة التي تملك
أجنحة ملاك" كما
يقول الشاعر، هي وحدها التي تتيح للكائن الإطلال على تلك
العوالم القصيّة على تخوم الوجود الأزلي. كان كير كجارد يردد
هذه العبارة :»
ما أشبهني بشجـــرة صنوبر وحيدة، منطوية على ذاتها، متجهة نحو
الآفاق البعيدة، أجل فها أنذا وحدي، لا ألقي ظلالا، ولا يعيش
فوق أغصاني سوى اليمـــام البري«(3).
فهــــذه العزلة* الخلاقـــة، قد أتاحت للحروفي أن يرتاد عالم
اللغة المبهر، ممتطيا أجنحة القصيدة الملائكية، وفتحت الوجودي
على آفاق مترامية، صهوته في ذلك قوى التأمل والبصيرة. وكذلك
تلتقي تجربتان متباينتان في جوهر الرؤيا، رؤيا التسامي
والانعتاق من مهاوي الوجود الزائف بتعبير هايدغر، صعودا إلى
مراتب الوجود الحقيقي:
استمرَّ صعودُ القصيدةِ ألف عام
وكانَ الذي قالَ : ( كن فيكون)
ينظرُ إليها سعيداً ،
سعيداً تماماً
مثلما أمّ موسى
وقد رُدَّ إليها ابنها
بعدما كادَ يغيّبهُ البحرُ والدهر
إلى يوم يبعثون(4)
يحرّر أديب كمال الدين القصيدة من عوالق الأرض
وكوابحها، ويسموبها إلى عالم مطلق، يعود بها إلى منابعها
الأولى وإلى فجر انبثاقها، مستعينا بمدد قرآني وكشوفات روحية،
فإذا القصيدة تجاور الأفق الأعلى، وترنو إلى الوجود من مراتب
أسمى.
وفي ظل هذه الرؤيا، يقترن الشعر انطولوجيا بمفهوم
الغربة، فهي ليست غربة تاريخية متزمّنة، بقدر ما هي وثيقة
الصلة بجوهره:
للشعرِ غربته أيضاً
غربة تشبهُ الموت (5)
وإذا كان رامبو
A. Rimbaud
يرى أن الشعراء ليسوا من هذا العالم، فلأنّ جوهر الشعر نفسه
مفارق بالضرورة لهذا الوجود، من هنا يأخذ بعده الميتافيزيقي،
قرينا للسحر والجنون والحيرة والظن والبداية الدائمة. تلك هي
الحقائق الكبرى رديفة الشعر نراها تتشكل بأوجه متعددة ومتباينة
في شعر أديب كمال الدين الذي يبدو أنه نذر نفسه لمعرفتها
والتسامي إليها، ولكنه سرعان ما يستفيق مطاردا ما تبقى،
ومنفتحا على عالم الرماد، مثلما هو الشأن في قصيدة "مشهد
الرماد":
قالَ لي حرفي:
لماذا تكتبُ الشِّعر؟
قلتُ: حتّى لا أُصاب بالجنون.
فقالَ: لكنّكَ جُننتَ ثُمَّ صُلِبت
ثُمَّ أُحرِقتَ وذُرَّ رمادُكَ في الماء!
فلماذا الكتابةُ إذن؟
قلتُ: أنا أكتبُ الآن فقط
كي أمسكَ مشهدَ رمادي
وهو يغرقُ في الماءِ أمامي
شيئا فشيئا . (6)
لا يبدو لنا "مشهد الرماد" مثمرا سوى في اقترانه
بأنطولوجيا الشعر، نقصد بذلك انفتاحه على العدم والنهايات،
وإطلاله على ضفاف المطلق وجوهر الكينونة. الرماد هو ما يتبقى،
وما يتبقى يؤسّسه الشعراء. هكذا صدح هايدغر وهو يغوص في عالم
هولدرلين الشعـــري. إن الكتابة التي تمسك بمشهد الرماد وهو
يغرق في الماء تستحيل فعلا مستعصيا، جموحا وأقرب إلى المستحيل.
وما هو الشعر إذن؟ سوى
»ضوء
متحرك، متموج، ولوع بالمستحيل. وإلى اللانهائي ننشدّ في
القصيدة، سائرين على طريق المجاهدة، من أجل بلوغ اللمعة في
صفائها«
(7)،
كما يقول محمد بنيس.
في ضوء هذه العلاقات التي ينسجها الشعر مع الوجود، يمكن
أن نفهم مصائر الرماد ومشهده الشعري. ولا يكون ذلك إلا بتخليصه
من عوالق الزمن والتاريخ العابرة، وفتحه على آفاق الكينونة
والجوهر. ومن هنا لا يغدو الشعر شكلا من مقاومة عوارض الدهر
كما تدّعي نظريات وفلسفات واقعية ومثالية أيضا، بقدر ما يظل
رديفا للشوق الأزلي والظمأ الوجودي المتأصل في الكائن.
يدافع جان بيار سيميون
J.P.Siméon
في كتابه "الشعر سينقذ العالم"
la poésie sauvera le monde
عن شعر خلاصي ،»
أن تعيش شاعرا، هو ببساطة أن تقاوم القوى التي تدفع بنا إلى
المنفى، وذلك من أجل أن نعيش هذه الحياة بكاملها، ونظل
أوفيـــاء لها حتى الموت« (8)
. تلك نبوءة طالما ردّدها الشعراء والفلاسفة وبناة المدن
الفاضلة، ولكنها تظل متلبّسة بعوارض التاريخ، ودون الرؤيا
التأسيسية التي تلامس الشعر في كينونته، بوصفه معجونا بخميرة
الغربة في دلالاتها الروحية والميتافيزيقيـة الأكثر سموّا،
فإذا الشاعر هو الغريب بهذه الدلالة:
أنا الغريب ،
لا أرضَ لي ولا هدف ،
لا وجهة ولا رغبة ولا قرار.
جرّبتُ الحكمةَ والغيبَ والنساء
واللهو والغنى والحروب.
فلم أجدْ أيَّ شيء بعينني
على عذابي المقيمِ وضياعي المكتوب. (9)
يقف أديب كمال الدين إذن على ضفاف الشعر وكنه القصيدة،
مزورّا عن نظريات النقاد وأدواتهم القاصرة، محاورا مملكة الشعر
من أفق الرائي الذي يقف على الكلي والجوهري، هازئا بالعابر
والجزئي، سلاحـــه في ذلك كشف نوراني طالمــا آوى إليــه،»
ولعل الحرمان من نور الكشف هو حرمان ما يبدو في القلب من نور
التجلي في تجربة الشاعر الوجدانية والوجودية
«(10)
، بتعبير عبد القادر فيدوح. ذلك النور العرفاني الذي أتاح له
أن يستبصر الحقائق الكبرى المؤسّسة للشعر كتجربة وجودية أولا،
تمكّن الكائن من أن يصل بين اليومي والميتافيزيقي.
كان الشاعر الإيطالي جوزيت أنغرتيتي يقول:
»في
القصيدة علينا أن نقدم الغموض بوضوح«(11).
لعل ذلك ما يسم تجربة أديب كمال الدين؛ فقوامها محاورة الغيب
والنزوع إلى الوقوف على مرافئه، متعاليا بقصيدته لتجاور المطلق
والسرمدي، بيد أنه يتوسّـل إلى ذلك بلغة تخلع عنها إهاب الغامض
والمستور، تتكشّف بجلاء لا يخلو من خداع، ربما يصدق فيها ما
قاله جان كوكتو
J.Cocteau
عن شعر مالارميه في أنه غامض كالماس، كما يرى أدونيس، رغم
الفوارق الواضحة بين التجربتين. ولا عجب، فقد ظلّ السؤال دائما
مغذيا التجربة، لترسو في أعماق الوجود الإنساني:
في زمنٍ صارَ الجميع
يسألُ ليل نهار
آثرتُ أنْ أعودَ إلى الأعماق
لأحيا وسطَ
سؤالِ الأعماق (12)
2- في ضيافة "الغاوين"
:
تحاور قصيدة أديب كمال الدين باستمرار، وبصورة لافتة،
جحافل من الشعراء منذ القدم، وتستحضر تجارب متعددة، قد يغلب
عليها في الظاهر إيقاع العذاب والرمزية التراجيدية، ولكن نقدّر
أن ذلك لا يعدو أن يكون غطــــاء وسترا ، وإنّما تكتسي
الضيافــــة - وهنا أستعيد مفهوم ليفناس عن الضيافة داخل اللغة
الفرنسية- أهمية أبلغ، فهي تعاضد الرؤيا التي آنس الشاعر
نارها، حيث القصيدة التي هي صنو الوجود ومنفذ إلى المطلق
واللانهائي ،تقيم في عالم اللغة وحده.
وآية ذلك، أن أكثر الغاوين– وهنا نؤثر الوصف القرآني
للشعراء لشدة بلاغته– حضورا هو جلجامش. فبعيدا عن التصنيفات
الضيّقة، فإن جلجامش يظل من أعظم من نطقوا بالكلمة الشعرية
بحسب التعبير الهايدغري. فممّا هو معروف أن الملحمة قد حملت
»مشكلة
الحياة والموت، وما بعد الموت، والخلود، ومثّلت تمثيلا بارعا
مؤثرا ذلك الصراع الأزلي بين الموت والفناء المقدرين وبين
إرادة الإنسان المغلوبة المقهورة في محاولتها التشبت بالوجود
والبقاء«
(13)
وبم ظل الشعر الإنسانـي يهجس منذ الخليقة الأولى، إذا لم يكن
بهواجس الموت والمصير والبقاء؟
ويعزّز كل ذلك أن الشاعر يقرن شاعريته بجلجامش، ويستمد
منها قوة البقاء في حصون الشعر المنيعة :
أنا شاعرٌ محظوظ
لأنّي لا أتوقّفُ عن الكتابةِ أبداً.
والسّببُ بسيطٌ جدّاً
فقد مسحتُ بيديّ المُرتبكتين
دموعَ كلكامش المتدفّقةَ ليلَ نهار
وهو يبكي؛
مرّةً على أنكيدو الذي اغتالهُ الموت،
ومرّةً ثانيةً وثالثة
على عُشبةِ الخلودِ التي سرقتها الأفعى
من قلبهِ ذات حياة (14)
هذه "إشارة" شعرية، بالمعنى الكامل للإشارة في المعجم
الصوفي، وما يحتمل ذلك من دلالات التكثيف والمعرفة الحقيقية
التي تدرك الجواهر وليس الأشكال. هي إشارة شعرية، بكل ما
تتضمنه الشعرية من سمات الخلق والرجوع إلى البدايات والسكن في
حضرة الحقائق. فحظ الشاعر من الشعر هو حظ جلجامش من الخلود
وعشبته، الشوق إلى اللانهائي دون إدراكه. ومن هنا فالشاعرية في
محاورة هذه الأشواق المتأصلة وهذا الظمأ الذي لا يروى. إن
جلجامش شاعر في هذا المستوى .
هذا ما يعمّق روح الشعرية التي رآها أدونيس كامنة في
الميتافيزيقيا، فالمعري في نظره
»هو
أول شاعر ميتافيزيقي في تراثنا الشعري، من حيث أنه مأخوذ
بالعودة إلى حضن الأم– الأرض– مأخوذ بالمطلق: بالزمن، والموت،
والفناء والأبدية... إنه شاعر ميتافيزيقي وليس شاعرا فيلسوفا« (15)،
بالنظر إلى التباين بين الموقفين.
يستوحي أديب كمال الدين جلجامش من منظور أنطولوجي، أي
باعتباره رديف الشعر نفسه أو معادله، بيد أنه في مستوى آخر
يعود إليه ضمن دلالات العذاب الوجودي الذي لا ينقضي إلا
بالموت، وهنا يعيد تأسيس التجربة في صورة مغايرة لتلتقي
بإكراهات الشرط البشري الذي لا فكاك منه:
محظوظٌ أنتَ يا كلكامش
فصاحبُكَ أنكيدو ماتَ في حياتِك،
أما أنا فصاحبي أنكيدو
حيٌّ لا يموت!
وصراعي معه حيٌّ لا يموت!
ومحظوظٌ أنتَ
لأنَّ أفعاكَ ابتلعتْ عُشبةَ الخلود
وتركتكَ، على الأقلِّ، طليقاً.
أما أنا فأفعاي تراقبني ليلَ نهار
لتبتلعني.
نعم لتبتلعني،
بعد أن وجدتْ أن لا عُشبة خلودٍ عندي
ولا هم يحزنون
!
(16)
ذلك هو المآل التراجيدي للشاعر خصوصا ثم الإنسان، الوقوف على
هاوية الكينونة والوجود معا.
عندما سئل الشاعر لوران غسبار عن بلينسكي وريلكه، أشار إلى
اختلاف واضح بينهما»
لقد نجح بيلنسكي في التعبير عن هذه القضايا الميتافيزيقية
الكبرى بلغة الحياة اليومية«(17).
أستعيد هذه العبارة في سياق ضيافة الحلاج. فاللافت هو القرع
المستمر على أبواب القتيل واستعادته في محطات كثيرة. لا يخفى
حضور الحلاج الواسع في الشعر والرواية معا. وإذن، ماذا يضيف
ذلك للتجربة؟ لاشك أن الحلاج لم يستدع بوصفه لابس الخرقة
المصلوب، فذلك هو الوجه الأكثر تداولا، ولكنه- شأن جلجامش- كان
الشاهد على الرؤيا التي آوى إليها الشاعر، رؤيا الشعر الذي يطل
على الغيوب دون أن يتنكر للتاريخ، والقصيدة التي تنزع إلى
أقاصي الوجود وتقيم في المطلق دون أن تبرح شروطها البشرية. ذلك
هو الملمح الذي يتكرّر في ضيافة الحلاج:
إلهي ،
حينَ ارتبكتْ حاءُ الحَلّاج
في باءِ محبّتِكَ الكبرى،
ارتبكَ الحَلّاجُ
وارتبكَ علماءُ بغداد
وخليفتُها والناس.
وحينَ ذُرَّ رمادُ الحلاج
في دجلة،
ارتبكتْ دجلة.
(18)
يأتي الحلاج منظورا إليه من زاوية اللغة بوصفها تأسيسا للوجود،
مهيئا بجلال الحرف وفتنته. هكذا يحلّ الحلاج على نص أديب كمال
الدين، منزوعا عنه إهاب الشهيد المعذب الذي تغنت به
الآداب، وآثر كثير منها أن يلوّح بخرقته الصوفية إرضاء
لمارد الايديولوجيا وتمريرا لخطابات تجنيدية وخلاصية أبعد ما
تكون عن هذه الروح الشعرية والإنسانية العميقة.
لم يغيّر الحلاج لأنه صُلب وانقاد لهذا المصير الفاجع، ولكنه
فعل ذلك بقوة الحرف وزلزلة اللغة المؤسّسة. تتغذى محبته من وهج
الكلمات لذلك أربكت عناصر الخليقة والطبيعة معا. وعندما
يُستدعى موصولا بالرماد، فإن ذلك يدعونا إلى العودة إلى "مشهد
الرماد" مقترنا بالشعر في القصيدة التي تحمل هذا العنوان.
ولنلاحظ فعل التأسيس الشعري بالمفهوم الهايدغري دائما ، جامعا
جمعا أنطولوجيا بين الشعر والحلاج .
ضمــن هذا الأفق الذي يحضر فيه الحلاج، تنزل القصيدة ضيفا على
صنوه المعاصر، البياتي. وعلى الرغم من أنه لم يتردد كثيرا، فإن
القصيدة التي يحمل عنوانها اسمه لافتة في دلالتها. نحن إذن
أمام الوجه الآخر للحلاج، ليس لأن البياتي كان كثير التغني به،
ولكن لأنه سلك مسلك الحلاج في التأليف بين دواعي الخرقة
الصوفية وإكراهات المرحلة التاريخية، وهو ما سماه البياتي
»ميتافيزيقيا
تاريخية، أي ناتجة عن معاناة وجودية مرتبطة بما هو أرضي.
فالشعر العاجز عن هذا الربط تغلب اللفظية فيه على المعاناة
«
(19) .
أطلق ذلك في سياق تجربته مع ابن عربي، ولكننا نراها أكثر
التحاما بتجربة الحلاج الذي نجح، دون غيره من الصوفية، في
تقريب صوت التاريخ من أسرار الغيوب. وكذلك كان البياتي في هذا
المسلك، واصلا بين انكسارات الزمن الحضاري وأشواق الروح
القصيّة:
كنتَ تجيدُ لبسَ القميصِ الأحمر
وحملَ لافتةِ الشغيلةِ والتقدّمِ والصراعِ الطبقيّ،
والبكاءَ على ناظم حكمت
حينما يقتضي الحال.
ثُمَّ تذرفُ دمعتين
على صليبِ الحلّاج
وأنتَ ترتدي خِرقةَ الصوفيّة (20)
وتنزل القصيدة ضيفا عند السيّاب** بصورة لافتة، مقترنا- في
قصيدة "التعساء"- بجلجامش والحلاج والتوحيدي وهاملت، "يرثي
ارتباكه العظيم" كما يقول عنه الشاعر. ولنلحظ أولا هذه الصحبة
ودلالتها، ومدى الآصرة التي تجمع بين الشعر (جلجامش والحلاج)،
والغربة (التوحيدي)، والقلق (هاملت)، ثم هذا "الارتباك العظيم"
الذي يحيلنا بقوة إلى ارتباك حاء الحلاج في باء المحبة
الإلهية. ومن يتراءى لنا حضور السياب موجها أيضا في سياق
الرؤيا الشعرية ونزوعاتها المطلقة واللانهائية.
ولأمر ما ، يبدو لنا ما قاله جبرا في شعرية السيّاب داعما لهذا
الموقف
»
فنظرة بدر في كل ما كتب من شعر، تتجه إلى الأعماق في بحث لا
يستقر قلقا وكشفا، وكثيرا ما توحي بأنها نظرة المصلوب من قمته
التي تتناوشها الزوابع والعقبان، متجهة من تلك الأعالي المعذبة
نحو المشهد الإنساني الممزق بمآسيه، إنها نظرة الغضب والفجيعة
التي تتحول دائما إلى مغزى كوني يضعه في مصاف الشعراء الكبار
في أية لغة« (21).
إن في نص جبرا ما
يلفت الانتباه لهذا التآلف اللاواعي بين القصيدة والنظرية.
علينا أن نقف أمام دلالات بعض العبارات التي يمكن أن تكون
مفاتيح لفهم هذا الضــرب من استحضار السياب وصلته بهذه
الأسماء. فالاتجاه إلى الأعماق، والبحث الذي لا يستقر مستعصما
بفضائل القلق والكشف، ومظهر الصلب في مأساويته الكبرى، وارتباط
كل ذلك بسمة الشعر العظيم، هو ما يزكي المنطلق الذي آثرنا، وهو
أن القصيدة، منظورا إليها في آفاقها الميتافيزقية هي محور
التجربة، وما ضيافة الغاوين فيها سوى تأسيس لها، دون أن ينفي
ذلك استحضار هذه التجارب في بعدها التاريخي المتعيّن، كما هو
الشأن مع السيّاب نفسه:
أعيدوا أعيدوا – أنا السيّاب –
أعيدوا إليَّ ماءَ بويب
وغيلان، أين غيلان؟
وعصاي التي أهشُّ بها على وحشتي (22)
ولعل الحوار الذي أقامه أديب كمال الدين مع طاغور*** في قصيدة
"حوار مع طاغور" هو ما يقيم أواصر الموقف بجلاء. يجلس الشاعران
إلى ضفاف الغانج والفرات:
نلعبُ برموز الوهم حتّى دهمنا المساء
وألقى القبضَ علينا
بتهمةِ
تسوّلِ المعجزات
عند ضفاف الأنهار المقدسة
بتهمةِ انتظارِ مَن لا يجيء أبداً.
(23)
كان طاغور من أعظم من حطّوا رحالهم على ضفاف الشعر، فإذا
القصيدة تقيم في الوهم، وتنشد المستحيل، وتنظر ما لا يأتي.
وإذا بحكمة الهند تلتقي بملحمة بابل ورؤيا الإسلام، لتستقر في
روح الشعر الإنساني العظيم، الذي أدرك رامبو بحسه الشعري
العميق والمتأصّل بأنه اختيار لا مجال فيه للعبث، لذلك آثر أن
يتركه بعد تجربة قصيرة، مجيبا بول فيرلين
P. Verlaine
عندما طلب منـــه العودة إليه:
»
إني قلت ما ينبغي أن يقال، ولم يعد لدي شيء أقوله«
(24).
الشعر في مواجهة الوجود والمصير وعبء الكينونة، ذلك ما لم
يتحمله رامبو.
الهوامش
1- عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية في
شعر أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت، 2016 ، ط1 ، ص 146
.
2- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثاني ،
منشورات ضفاف، بيروت ، 2016 ، ط1 ، ص 42.
3- زكرياء إبراهيم، الفلسفة الوجودية، دار المعارف بمصر، 1956
، ص 36 .
* ألح الشاعر ريلكه في كتابه الشهير "رسالة إلى شاعر شاب" على
فضيلة العزلة الخلاقة التي هي من مقتضيات الشعر
وسماها "العزلة الداخلية الكبيرة" :
Rainer Maria:
,lettre a un jeune poète ,Grasset, paris,1937,p56
4- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثالث ،
منشورات ضفاف، بيروت، 2018 ، ط1 ، ص 57-58 .
5- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد السادس،
منشورات ضفاف، بيروت، 2020 ، ط1 ، ص 97
6- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد السادس،
ص 227 .
7- محمد بنيس، الحق في الشعر، دار توبقال للنشر، الدار
البيضاء، 2007 ، ط1 ، ص 13-14.
8- Jean pierre Siméon, la poésie sauvera le monde, le
passeur, paris, 2015, P102.
9- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثالث،
ص 32 .
10- عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص
114 .
11- خالد النجار، سراج الرعاة : حوارات مع كتاب عالميين، كتاب
مجلة الدوحة، فبراير2014 ، ص 35 .
12- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد السادس
، ص 272-273 .
13- طه باقر، ملحمة كلكامش، دار المدى، دمشق، 2007، ص 42.
14- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد السادس،
ص 25.
15- أدونيس، مقدمة الشعر العربي، ص 64 .
16- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد السادس،
ص 70 .
17- خالد النجار، سراج الرعاة ، ص 78 .
18- أديب كمال الدين، إشارات الألف، منشورات ضفاف ، بيروت،
2014 ، ط1 ، ص 43 .
19- ريتا عوض، الشاعـــر يلتحم بمعشوقته دمشق، مجلة العربي ،
العدد 661 ، ديسمبر 2013 ، ص 91.
20- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثالث،
ص 326 .
** حضر السيّاب بقوة في الشعر العربي ، مثل قصيدة محمد الماغوط
" إلى بدر شاكر السيّاب" من ديوانه "الفرح ليس مهنتي" ، وقصيدة
محمود درويش "أتذكر السيّاب: من ديوانه "لا تعتذر عما فعلت".
21- جبرا إبراهيم، السيّاب بعد ثلاثين سنة، مجلة الآداب، العدد
الأول والثاني، يناير- فبراير 1996 ، ص 54 .
22- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثاني
، ص 89 .
*** قدم خليفة التليسي ترجمة متميزة لشعر طاغور في كتابه "هكذا
غنى طاغور" (
الدار العربية للكتاب ليبيا – المؤسسة الوطنية للكتاب الجائر ،
1989) ، وصفه فيها بأنه "شاعر عظيم
اكتشف عظمته في البساطة". وهو- في تقديرنا- ما يقرّب
شعر أديب كمال الدين منه، على الرغم من الفوارق الجليّة بين
التجربتين.
23- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثاني،
ص 194 .
24- صلاح بوسريف، الشعــر وأفق الكتابة، منشورات ضفاف- بيروت،
الأمان - الرباط، الاختلاف- الجزائر ، 2014 ، ط1 ، ص 140.
المكان الضيّق في ضوء التأويل الظاهراتي؛
أديب كمال الدين
اختياراً
أ.د. علي هاشم الزيرجاوي
ناقد وأكاديمي عراقي
توطئة :
يبدو أن ما أحدثه دريدا من تغيير على مستوى الحقيقة بتفكيكها
للنظام اللغوي في نسخته السوسيرية، كان مدخلاً للغة والعلامة،
فضرب بذلك المفهوم القار في المنظومة المعرفيةـ الحقيقةـ
مقوضاً معناها الميتافيزيقي والواقعي، فتحولت إلى مجال أكثر
اتساعا وفعالية، ألا وهو حقل اللغة والتأويل(1)
لتؤدي دوراً معرفياً جديداً يقوم على نفي ميتافيزيقا الظواهر
الحسية كما يمكن تمثلها في الوجود، والبحث عن حقائق عدة
بفاعلية نفي الحضور للوصول إلى قراءة جديدة بفعل فكرة الغياب،
فالنص "يؤدي إلى حضور في غياب وغياب في حضور من دون وجود حد
فاصل أو ثابت بينهما "(2).
لقد
تبنّى النقد الغربي محاولات عدة للإطاحة بالمفهوم الأوحد
للحقيقة في محاولة منهم لتقويض المعنى الثابت والجامد ولربما
الموجه أيدولوجيا، فأعطى لها هيدغر "بعداً أنطولوجيا كان
مهمشاً وغائباً، أو على الأصح تم تجاهله ونسيانه طوال العصور
التاريخية المختلفة والمراحل المتعددة التي مرت بها الفلسفة
الغربية"(3)، ما يعني ارتباطها المتجذر في الوجود
الإنساني الذي يتسم بوضعه المتحرك وغير الثابت على الإطلاق،
فالحقيقة وجودياً ناقصة دوماً، ومن ثمّ فهي في حالة تغير وتطور
مستمرين، ومن غير المجدي حبسها في أنساق مقفلة أو قوالب عقلية
إنشائية، فلم يعدّ مجالها المنطق، بل أصبح الحقيقي هو موضوع
الاستطيقا وليس الجميل، والجمال أحد أساليب انفتاح الحقيقة في
العمل الفني(4)، أو هو ظهور الحقيقة ذاتها من خلال
العمل. وبذلك حاول هيدغر نفي ميتافيزيقا التفكير في حقيقة
الوجود التي تمثل عائقاً يمنع الفكر من التقدم وعرض الأفكار،
فالتفكير القار بالموجود بما هو موجود، أي أنها تبحث بسبل
الموجود وتنطلق ميتافيزيقيا على أنه الوجود، وبذلك تتجاهل
حقيقة الوجود؛ لأن الوجود عندما يُغيب ذاته يكشف عن صور أخرى
تحمل الغاية والسبب(5)، فتتحول الحقيقة
إلى غاية جمالية
تعمل الذات على مطاردتها في محاولة منها للإمساك بها
(6)، بمعنى آخر أصبحت هناك وسيلة لفهم الوجود بعد
أن خرجت الذات من بوتقة المحدود إلى المفتوح، ورؤية أخرى تؤمن
بضرورة التوحد بين الذات والوجود في الكشف عن الحقيقة غير
الثابتة ؛ لأن الذات لها من الفاعلية ما يمكنها من الإلمام
الكافي بما يتضمنه الوجود .
هذا
الأمر ينفي وصول النص إلى حقـيـقة ثابتة يـقيـنية، وإن وصل
فسـيكون ذلك لمدة محدودة؛ لأن الحقيقة أصبحت تأويلات يمكن
بوساطتها الاقتراب من الحقيقة من دون الوقوف عندها لمدة طويلة
وكأننا نجسد مقولة (نيتشه) لا توجد حقائق وإنما فقط تأويلات(7)،
وهذا الأمر يُفضي إلى تبدد المفهوم الجامد وتقويض الفكر
السابق، فتظهر رؤى جديدة تقترب من تعدد القراءة والتأويل
وتبتعد عن الجمود والركون إلى القالب الأحادي الجازم، الذي
بحقيقته الركون إلى ميتافيزيقيا قارة باتجاه أشياء محددة منها:
الوجود، والأنا، والعقل التي رسخت في اللاشعور أحادية التفكير
والتقوقع نحو أفكار محددة وقارة في الفكر الإنساني، وقد يكون
ذلك الأمر بعيداً عن المعرفة والذات، فالذات في حقيقتها لها
القابلية على أن تقرأ الوجود بصورتين: أولهما بيان البعد
الوجودي وعلاقته مع الظاهرة، والآخر قراءة الظاهرة في بعدها
الوجودي بوساطة محمولاتها المكّونة والمتكّونة، فتتحرك في فضاء
وجودي مفتوح ومحكوم في آن، مفتوح بحكم انفتاح الوجود وتكّون
الظاهرة وملاحظتها، فتستطيع الحواس أن تتلمس حضورها بفعل
ممكناتها الحسية والمعرفية وحيز وجودها، ومحكوم بمكونات الذات
المتراكمة في صيرورة التحرك المكاني والزماني المحيط بها، الذي
ينتقل تلقائيا بصورة معرفية مستقلة ليس عن أصل وجود الظاهرة
ووجودها، وإنما الوعي بالظاهرة وارتباطها بالذات، بفعل النشاط
الثقافي المعرفي وقابلية تأويله بأسس معرفية قابعة في وعي
الذات للوجود والظاهرة فيتحول واقع التأليف أو واقع الإخراج
"من الواقع الوجودي إلى الواقع العقلي الذي يسيطر على التجربة
الفعلية ويشكلها ويملي عليها أرادته بهيمنة ساحقة لا تقوى على
الوقوف ضد أهدافه وخططه المتعالية المعرفية"(8)
فتصبح التجربة الحسية
تجربة عقلية قبلية تبحث عن الممكن العقلي في ضوء الحدس المجرد
ويعني أيضاً أن التأويل سيكون حاضراً في قراءة الظاهرة
واستنطاق مكنوناتها؛ لأن التأويل لا يتحدد بالمجاز، بل هو كل
خطاب دال "ويمكن القول أكثر من ذلك، إن الخطاب الدال تأويل،
وهو الذي يؤوِّل الواقع، وذلك بما أنه يقول شيئاً عن شيء، وإذا
كان ثمة تأويل، فذلك لأن التعبير يعدّ استحواذا واقعياً بوساطة
التعابير الدالة، وليس خلاصة مزعومة من الانطباعات الآتية من
الأشياء نفسها"(9)، وهذا الأمر في جوهره يحيلنا إلى
أمرين مرتبطين بالتأويل هما التفسير وأنطولوجيا الفهم على
الرغم من التطورات الفكرية التي صاحبت هذين الأمرين وتطورهما،
إذ أصبحا وجهين من وجوه الوجود ومن ثم انفتاحهما على الذات
مثلما كان للحقيقة من تجلٍّ جديد وتغير كبير في الفهم
والقراءة، بمعنى وجود الظاهرة قد ارتبط بالتفسير وأونطولوجيا
الفهم والحقيقة وكل ذلك يؤدي إلى ما يعرف بتأسيس ممارسة
تأويلية(10)، تفكك النصوص التي تبدو أنها مرتبطة
بحقيقة غير ثابتة وفهم متغير وتفسير متعدد، يفضي إلى قراءات
جديدة تسمح ببناء قاعدة مشتركة بين المخاطِب والمخاطَب، "الأول
في استمداده منها، والثاني في اعتماده عليها للكشف عن المعنى،
غير أن عملية الكشف هذه قد تتخذ مسارين مختلفين
بالنظر إلى مزايلة المعنى الاستعمالي أو القصدي للمعنى
الوضعي المشترك، المسار الأول هو فهم الألفاظ على وفق الوضع،
والثاني تأويـل مـعناها لمـحاباة المراد أو المعـنى
الاستـعمـالي "(11)، ويكون ذلك في ضوء طبيعة
الديالكتيك الذي يلجا إليه المتقبل لتأويل عناصر الخطاب وقصدية
الذات وقراءتها للظاهرة، فأصبح التأويل عند (بول ريكو) يرتبط
بفهم الذات لذاتها، لأن "الذات التي لها موضوعات، إنما هي
نفسها مشتقة من الحياة الفاعلة"(12)
التي تحاول الظاهراتية إظهارها لحظة تعرف الذات على
العالم، بمعنى محاولة تحليل الوعي الذاتي وقد استبطن الأشياء
بوصفها ظواهر ذاتية، أي فن تأويل الذات في لحظة
تقتضي الاختزال الظاهراتي الذي يعمل على إغفال
"الموجودات خارج نطاق تجاربنا الواعية، ثم اختزال العالم
الخارجي بما يتوافق مع مضامين شعورنا وحده، بمعنى التعهدـ بشكل
أو بآخرـ على إنشاء علم للذاتية يقتضي رؤية العالم حسب افتراض
الذات أو قصديتها، وحسب فهمها وتعلقها بالشيء"(13)،
وهذا الأمر يتم بمعطيات واضحة منها: وعي الذات بوصفها العنصر
الرئيس في قراءة الظاهرة وإدراكها، بيان مفهوم القصدية للوصول
إلى المعنى ومحاولة الإمساك به بقراءة الظاهرة بأصل الوجود
الفعلي وعملية التفكير المرتبطة بالمفكر فيه، لأن فكر المفكر
هو "ما يغدقه عليه الوجود وما يمنحه إياه، وهو ما يقدره عليه
تاريخ الوجود... وفرادة المفكر وأصالته لا تقاس بما دوّنه هذا
المفكر من أفكار، وما دبجه من أنظار... إنها تقاس بأصالة
إصغائه لفكر الوجود" (14)، والإفادة من الظاهرة وما
يتصل بوجودها والذات.
هذا
الأمر يجعلنا لا نغادر الكوجيتو التي تُبنى على تصورين الأول:
البحث عن الحقيقة ومحاولة الإمساك بها، والصدق في العمل في ضمن
الحتمية وإن اقترنت بالشك والفكر، والثاني: وظيفة الحرية في
العمل في ضمن الوعي
النشط والمنتج(15)،
الذي يدفع الذات إلى مستوى الظواهر مع تسلل الحوافز التي تركز
على ما يعود للذات من فعل وقراءة، قراءة الذات بفعل النص
وقراءة النص بفعل الذات، اعتماداً على مبدأ الظاهرة والوعي بها
بفعل الوجود، فاقترب البحث من صراعين آخرين يتمثلان بعملية
التمثيل أو التصور، وهي في حقيقتها الواقع الأساس للظاهرة التي
يجب الانطلاق منه سواء كان ذلك استرجاعاً أو تمثيلاً للفعل
أولاً، والآخر ازدواجية الوعي العامل والوظيفة الموضوعية
للفهم، التي تقوم بقلب الوعي المتصرف بين سلطته المجردة في
توكيد نفسه وإنتاجها الشاق بوساطة العناصر النفسية والوجودية،
فتظهر بفعل ذلك فكرة القيمة التي تعمل على قابلية التحويل بين
الحرية والعقل، فتقدم ذات السمة التي قدمها الحافز؛ لأن العقل
سوف يعطي
المعايير الموضوعية، والأطروحة التركيبية لهذه المعايير
وللحرية هي التي تعطي القيم التي تلتحم مع الوعي والفكر لقراءة
الظاهرة قراءة مـعرفية(16) .
وعليه
أصبحت الظاهرة التجلي المدرك بفعل الحواس والوجود عند الذات
التي تسعى إلى قراءة النصوص في ضوء العلاقة الحميمة بينها وبين
وجودها المرتبط أصلاً بالواقع الزماني والمكاني وتدرجهما
وأثرهما في الواقع التاريخي والذاتي وعلاقتها مع الآخر، قراءة
تأملية بوعي تام وإدراك مباشر لاكتشاف طابع الكونية القصدي،
إذ تتلاقح فيه التأويلية مع الظاهراتية المعرفية لتحقيق
ذلك الهدف، فلا يمكن وصف الظواهر من دون تأويل معرفي وهذا
الأمر هو خلاصة جهد عمل على
ترسيخه كل من هوسرل هيدغر وغادمير وريكو ليصل إلى
التأويل الظاهراتي المعرفي في تأويل النصوص وقراءتها، فيسمح
بإعادة إنتاجها بشكل يعتمد على نظرية الحواس عند (هوسرل)،
والتأمل الذي يؤمن بعلاقة الظاهراتية بالتأويل عند (ريكو)،
فأصبح القارئ جزءاً رئيساً في عملية القراءة والتأويل، يحاكي
النصوص بوساطة البحث في ثناياها عن الوجود الذي يفتح مغاليقه
في ضمن الحقل المرجعي للذات المبدعة والقارئ على السواء، ويمكن
أن نتلمس تلك الآلية المستعملة في نصوص أديب كمال الدين إذ
كان يسعى للوصول إلى فهم الموجودات وقراءتها قراءة
واعية، يمكن بوساطتها الإفصاح عن مكوناته المبدعة التي اختلفت
في ضوء فهم الذات للنصوص المعروضة.
المكان بوصفه حضوراً
ذاتياً :
يشكل المكان للإنسان
بعداً فلسفيا ونفسياً واجتماعياً فضلاً عن وجوده الفيزيائي
القار، مما يجعل موضوع اختلافه في التناول أمراً طبيعياً،
وبطبيعة الحال قد يكون مردّ ذلك لطبيعة فهم الذات للوجود في
اللحظة الآنية الذي يعتمد على فعاليات الفكر وعلاقتها مع
المكان والظاهرة بشكل عام، والمنظومة الثقافية المعرفية التي
ترتبط بموضوعة الفهم والـتأويل بشكل خاص، فتظهر قدرة الذات على
المواءمة بين هذه العناصر المتداخلة، فالمكان يبدأ حسياً
مجرداً من العوامل الأخرى لأنه " حاضن الوجود الإنساني وشرطه
الرئيس"(17) فتتعامل معه الذات على أنه "المسافة
الممتدة والمتناهية لتناهي الجسم"(18)، وينتهي
ذاتياً على حسب قراءة الذات له
بمعني أن المكان غير متناهٍ، فالظواهر المكانية عند
الذوات المبدعة والقراء غير متجانسة على الإطلاق تتجلى أجزاؤها
في مواضع عدة، كما نفعل في تنظيم حالاتنا الشعورية في زمن ما
(19)، فيبدو المكان كما تتصوره الذات، أي كما تريده
أن يكون:
الغرفة ُ كانتْ مقفلةً
وأنا مثل الزيت الموضوع حديثاً قربَ قماشِ اللوحة
قلقاً أهتزُّ بقلبي. (20)
تتحدث الذات عن فعل الوجود المكاني الضيق، الذي يلامس
العقل المعرفي، الذي يقترب من عزلها عن الوجود الفعلي الحقيقي
بدلالة قفل المكان ليصبح أكثر ضيقاً، فينعكس ذلك على وعي الذات
بذلك المكان غير الأليف أولاً وسيكولوجيتها ثانيا، فتبدو ملاح
العزلة عن المجتمع بدلالة الوضع الظاهر الذي يجعل الجسد في
حالة إدراك المكان وضيقه؛ لأن الوجود " يبني الجسد واقعاً
مجنساً ومؤتمناً على مبادئ رؤية مجنسة، وينطبق هذا البرنامج
الاجتماعي المستدمج للإدراك على كل الأشياء في العالم، وفي
المقام الأول على الجسد نفسه في حقيقته البيولوجية "(21)،التي
ترفض الوجود بمعناه الواسع وتركن إلى المكان المنعزل، فهجرة
العالم الفسيح، ما هي
إلى هجرة الذات لذاتها أولاً وللوجود ثانياً بدلالة الركون إلى
الانطواء والصمت والقلـق، بمـعنى الركـون إلى المنفى الاختياري
الذي يناسب الذات بقراءة معرفية تأويلية، بل انعكس ذلك على
أحلامها:
الغرفة قانعةٌ
بالصمتْ
وأنا أخفي أنفاسي ..
مسحوراً من خفقِ الحلمِ الأسود ..
لا أقدرُ - يا مَن تحوي كلَّ الأسوارْ -
أنْ أمسكَ شيئاً .. ألبتّةْ (22)
ينبعث من
الغرفة فهم الذات لذاتها، فالصمت يخيم على المكان، فيتولد
الخوف والقلق، وهو صمت الذات وقناعتها به، الذي انعكس على
رؤياها لأن الرؤيا تجربة تأملية تحاول أن تعي حقيقة الحالم
ببعديه الوجودي والماورائي في ضمن مسلماته الفكرية والوجودية
في لحظة ما(23)،حتى تصل بوساطتها للظاهرة الوجودية
التي قصدها الباث في الخطاب، فالظاهرة الحسية التي خلقها ماهي
إلا إحساسه بالمكان بمعنى أدق محاولة إفراغ مكنوناته في عملية
قصدية تفصح عن وعيه بالمكان المرتبط بسايكلوجيته في لحظة
الإبداع ما يفتح باب القراءة على بعدين البعد الأول هو البعد
الظاهراتي الحسي للمكان والآخر ارتباط ذلك البعد بالخطاب
وقراءته حتى أصبحت الظاهرة هي الذات والذات هي الظاهرة وكأنهما
يتبادلان الأدوار. فالصمت
كان لكليهما، والقلق والخوف والريبة كان حاضراً عند الطرفين،
أحدهما يبعث إحساساته للآخر، وأن اختلفت نسبة الحضور،
فالذات هي التي
أصبحت أكثر تأثيراً وحضوراً في الخطاب، إذ استطاعت أن تستدعي
المكان ليكون جزءاً منها، فالتصورات في الوجود قائمة على طبيعة
العلاقة الفيزيائية أو السببية بين الجزء والكل، فالمكان للحدث
أساسه موجود في تصوراتنا الفعلية الواقعية حيث نموقع فيزيائية
الأحداث (24)، فاكتسب المكان حضوره بفعل قراءة
الذات لذاتها، إذ تقدم الأمكنة نفسها بوصفها علامة ذاتية
للنشاط الدلالي بما يحمله من رعب وخوف من المجهول والتمأزق
الوجودي، فيتولد حالة من الإحساس بانطباق الأبعاد ومحاصرتها
لحركة النفس، فيشكل ذلك تهديداً محتملاً ومساحة بغيضة على
الباث روحاً وجسداً، ما يجعل استجابته للمكان استجابة سلبية
( 25)؛ لأن الظاهرة المكانية أطبقت حضورها وما تحمله من
بعد فيزيائي على فكر الباث ووجدانه، حتى أصبحت الغرفة المقفلة
بقصدية الذات وإدراكها للفعل مكاناً غير أليف، يبعث الإحساس
بالوحدة والخوف والقلق والضعف.
وتمثل
الظاهرة بعداً اجتماعيا ونفسياً وفلسفياً ينطبق على فهم الذات
وقراءتها، فتبدو ملامح الظاهرة في بعدها التأويلي ملامح ذاتية
تبلورت بفعل انعكاس المكان في الفعل الوجودي:
مِن أجلكِ رضيتُ بالجوعِ غيمةً
والعزلةِ أرضاً وسوراً.
من أجلكِ افتتنتُ بالموت
وأطلقتُ الحروفَ في غرفتي
فطارتْ نسوراً وصقوراً،
عصافير وبلابل،
نحلات وحمامات
بُوماً وشواهين.
فارتبكتُ
لأنّ غرفتي ضيّقة
ولأنّ حرب الطيورِ بدتْ مليئةً بالرعب.
(26).
تتمحور الذات في
المكان الضيق
بوصفه ظاهرة حسية يمثل حقيقة فهمها ووعيها وإدراكها القصدي
للوجود، فالغرفة تمثل العزلة والنفور بواقعها المرير الذي يؤمن
بعملية الاستسلام للظاهرة وواقعها المعيش وفي الحقيقة هو قصدية
الذات في الإحساس بذلك المكان، ومن ثَم الإحساس بثقل الوجود
بوصفه مرآة لفهم الذات لذاتها، وقدرة مفتوحة وحرة على كينونتها
التي تحاول تصويرها بفعل انعكاس الظاهرة عليها، ما يجعلها في
حالة من العزلة يصبح معها المكان ضيقاً غير أليف، وقد يصل ذلك
إلى حد انطباق النفس، فتعيش العزلة على أنها شكل من أشكال
السجن الذاتي(27)، الذي يجعل معادلة الموت أمراً
طيعاً ؛ استجابة
لواقع الظاهرة وتحولاتها الذاتية من عدم الانسجام، والإحساس
بالضيق والعزلة عن المجتمع، فيصبح الانشغال بالموت أقرب إلى
النفس من أي شيء آخر، فتتلاقح الأبعاد الاجتماعية والنفسية
والفلسفية في مكان واحد حمل مضامين الوجود التي في حقيقتها وعي
الذات به في لحظة ما .
لقد أصبح المكان الضيق ساحة الصراع
الوجودي، لكنه الصراع الذي يناسب فهم الذات لمعطياتها،
فمثل الوجود الحقيقي للصراعات الأزلية التي تحمل طابع الرعب
والخوف، فطغى المعادي على الأليف بواقع جوهر الوجود، لأن
العصافير والبلابل والنحلات والحمامات، لا تقوى على الوجود
بمكان ضيق قبال النسور والصقور
والشواهين، فيضفى المكان إلى أن يكون حلبة للموت،
بدلالة نذير الشؤم الذي رافق
ذلك الصراع ، فأورد البوم بدلالته التشاؤمية وحركته
الزمنية المرتبطة في الليل والموقع المكاني ؛ لأنه يسكن
الأماكن الخربة، والصفات الحسية إذ يحمل قبح الصورة والصوت، كل
ذلك يصور أمرين : الأول فهم الذات للواقع الوجودي، فصور الوجود
وصراعاته المختلفة من أجل البقاء، والآخر حقيقة فهم الذات
لذاتها في خضم الصراع الوجودي وتشاؤمها مما آل إليه الوجود،
وينفي بقاء الحب وديمومته في عالم الخوف والرعب والقلق، فرسمت
بفعل المكان وحمولاته تصورها للوجود والذات.
وبما أن الحروفي كان يتلاعب بالحروف ويوظفها في خطابه توظيفاً
يناسب الذات وفهمها للظاهرة تشخيصاً وتجسيماً ليصل إلى مبتغاه
في قراءة الخطاب:
النقطةُ سعال
والحرفُ شيخ.
فما أسعدني أنا الذي سيموتُ بالسلّ
عمّا قريب في غرفته المُظلمة.
(28)
تبدأ الذات بمعاينة ذاتها وفكرها في آن، فوظفتهما بمرحلة عمرية
تشي بالكبر والمغادرة والاستعداد للموت، ولاسيما عندما تصبح
النقطة سعالاً والحرف شيخاً، ما يعني الوصول إلى مرحلة السكون
والصمت عن البوح ؛ ولأن الصمت للشاعر موت، فقد استقبلته الذات
بفرح كبير يصف ما آلت إليه حالها، فعندما تهرم الحروف وتتوقف
عن النبض يصبح الموت أمراً حاصلاً لا محالة، لقد اختارت توقف
الحياة بدلاً عن توقف الشعر، لأن الشعر هو الوجود الحقيقي
والفعال للحياة غير الزمنية، بينما الموت انقضاء الحياة بوصفه
الموجود الزمني، وهذا الحرص على البوح هو الحرص على تجديد
الذات وسموها وعلوها، وعدمه يعني عدمها وموتها ؛ لأن كل لحظة
تضيعها من دون توظيفها شعرياً من أجل هذا السمو والعلو هي لحظة
من لحظات الوجود الزمني التي ضاعت سدى(29)، وضياعها
هو توقف تام للحياة النابضة فجسمت وشخصت النقطة والحرف،
واختارت المكان المناسب لموتها بفعل موتهما في غرفة مظلمة توحي
بالقبر وفناء الحياة بصورتها الزمنية
، فيتم التعشيق
بينهما ليبرز القلق على أشده ويصير المكان هاجساً أولياً يبين
خوفها وقلقها من الوجود الذي لم يقدم لها
أكسيراً خالداً يديمها في مخيلتها(30)،
فتصبح الغرفة المظلمة دالة مكانية تحفز فيه الاستجابة للقلق
بأشد صوره، بل هي قبر بدلالة مختلفة يبعث السعادة، وهذا خلاف
الواقع المعيش، في محاولة من الذات أن تستدرج الإدراك الحسي
للظاهرة من المكان الضيق غير الأليف إلى مناشدة شعورية واعية
بمكان لربما يكون أكثر ألفة وتقبلاً من واقعها المرير، وهنا
يصبح المكان وعاء ناقلاً لهواجسها وتقلباتها وفي الوقت نفسه
صورة من صور إدراك الوجود ومتغيراته الزمنية.
إنّ تحولات المكان ما هي إلا تحولات ذاتية واعية، فالدالة
المكانية تؤدي إلى قراءة الذات والوجود بوعي تام وإدراك قصدي:
قالَ إخوتي: إنكَ متّ.
لكنّهم - كما تعرف - يجيدون فنَّ الكذب
ولم يسلمْ حتّى الذئب من أكاذيبهم.
لكنّهم صدقوا هذه المرّة
فأنتَ متّ بين يديّ
وكنّا وحيدين
في غرفةِ صباي وشيخوختك،
أعني صباي المُلوّن بالحرمان
وشيخوختك المُعطّرة بالألم.
كنّا وحيدين.
(31)
يبدو أن
المكان أصبح موضعاً للحرمان وفقد الأحبة، والحوار مع الآخر هو
حوار لبيان الظاهرة، وإيصال دالتها ومدلولاتها وتحولاتها في
آن، فالموت والكذب والغدر هي معاناة مستمرة وثيمات وجودية منذ
الأزل ترتبط بعلاقة نبي الله يوسف (عليه السلام ) مع أخوته،
ويبدو أنها علاقة الذات مع واقعها وتحولاتها الوجودية بين
(الصدق والكذب والغدر والوفاء والصبا والشيخوخة والحرمان
والألم والحياة والموت )، ومثل المكان المعطى الخارجي للثيمتين
الكبيرتين اللتين هما الأساس الرئيس للوجود والذات (الصبا
والشيخوخة، الحياة والموت)، فمثل المكان المغلق الوجودي
بمعادلته الكبرى على الرغم من صغره، فأصبحت الغرفة الوجود
بتكوينه الجغرافي الشامل، والشعور بمعطياتها يمثل الامتداد
الزمني للذات وفهمها الوجودي، فنستطيع أن نتلمس ذلك بفعل
المكان والقراءة التأويلية الظاهراتية ووعي الذات بالوجود
والمكان وتحولاتهما التي تتمحور حول علاقة البحث والتأمل التي
تربط بين الذات والوجود ؛ وهو بحث وتأمل في ثنايا النص عن
الوجود الذي يكتشفه بقراءته الظاهراتية، التي تفتح آفاق
التأويل بالانتقال من الذاتية إلى الوجود بتعليق سؤال قصدية
المؤلف إلى سؤال موضوع النص غير المحدد، فتنفتح على تأويل
الرموز والنصوص والمنجز المعرفي الأدبي بالعقل المتكون بفهمنا
للنفس والآخرين؛ لأن الظاهراتية تفتح مجال الأشياء ذات المعنى
الواسع بانفتاح الوجود وتشكله عند الذات في لحظة ما (32)،
فيصبح النص وجود الذات يتملكه ويبث رؤاه في ضوء فهمه الذاتي
الواعي والقصدي.
وقد تتصور الذات مكانها الأليف ظاهرياً على أنه ساحة واسعة
لمختلف الفعاليات التي تبعث الألم والحزن والضجيج:
غرفةٌ فرشت ثوبَها للصعاليك في آخر الليل،
للكؤوس التي تختفي
بين عينين قد صيغتا من ربيع الألم.(
33 )
تنشأ تصورات المكان في ضوء وعي الذات وتجربتها الشعورية
القصدية، فكانت في صراعين مختلفين الأول مقاومة النزعة الشخصية
والثاني مقاومة غموض النزعة الباطنية في الواقع المعيش، في
محاولة الحفاظ على تشكل الذات الحقيقية وبالمقابل النزوع إلى
دواخلها بفهم المكان ورمزيته المرتبط بالأحداث الاجتماعية
والفكرية والذاتية (34 )، ومحاولة عرض ذلك بالقراءة
الـتأويلية الظاهراتية التي تكشف عن فهم الذات للوجود/ المكان
وهو في حقيقته الانتباه إلى المعضلات الوجودية والتنويه عنها،
فالوجود تم تصويره بأبعاد معينة، فتمثل بصخب الحياة وصعلكتها
التي أصبحت المبنى الرئيس في المجتمع،
والمعضلة التي
يواجهها التأويل في مباحثه ولاسيما
تشابك علاقة النصوص بمؤلفيها وبيئاتهم الثقافية
والاجتماعية،
ويمثل ذلك إعادة صنع تجربة الآخر الذاتية، التي تؤمن بالتطابق
بين الذات وفهم المجتمع ؛ لأن فهم الذات يتأسس بوساطة المجتمع
وفهمه، فيصبح النص وفهمه وقراءته، ما هو إلا تعبير عن الذات
وتجربتها في المجتمع مع ضرورة العمل على فصل النص عن ذهنية
المؤلف وروح العصر الذي ينتمي إليه بتحويل الاهتمام إلى عملية
الفهم ذاتها في حيثياتها الخفية وبعدها التاريخي الآني للوجود
(35) ؛ لأن هذا التفاعل مع المجتمع ليس مسالما في
كل الأحوال، فهو وقوف أمام المغايرة والاختلاف عن الواقع
المعيش الذي ينبثق من قراءة الآخر، ما يجعلها في حالة من العوز
والنقص والألم أمام متغيرات الآخر وتحولاته، فتواجه الذات
ذاتها وهي منقوصة تنظر في مرآة عوزها وحاجاتها في مكان غير
أليف ومغلق(36)،فينبني فهم الوجود باللحظة الآنية
التي أحدثتها الذات للمكان ليعبر فهم الذات له عن الذات نفسها.
ويُكتشف من المكان صورة الوجود بأبعاده المتنوعة، فتقوم الذات
بمشاركة المكان / الظاهرة للعمليات الاتصالية، إذ يناقش بفعلها
الفكر الوجودي الذي يتشكل من حيث هو ذات في اللغة وباللغة،
فتؤسس واقعها للظاهرة من حيث واقع الوجود:
كانَ يجلسُ في الغرفةِ المُجاورة
شابٌّ أنيقٌ بثيابٍ سُود،
ينظرُ إلى السقف
بعينين فارغتين من أيّ شيء،
ويضعُ على ركبتيه
كتاباً على هيئةِ حقيبة
أو حقيبةً على هيئةِ كتاب.
حينَ ناداني
دخلتُ مُرتبكاً
كجُثّةٍ تسقطُ في البحر.(
37 )
تظهر ملاح الانكسار والارتباك واضحة عند الذات بفعل الظاهرة
التي تلحظها، فجلوس الشاب ظاهرة مألوفة وأناقته أمر محبب، ما
يعني أن الأمر بمجمله ظاهرة مألوفة عند الجميع، لكن يبدأ كسر
التوقع للظاهرة بالقراءة التأويلية التي تشكلها ثيمات أهمها :
(المكان وانعكاساته على النفس، واللون الأسود ودلالته، وهيأة
الآخر ذو العينين الفارغتين، والكتاب وما يحمله من مدلولات،
والحقيبة وما تمثله من حفظ وإشهار لخبايا النفس)، كل ذلك دفع
الذات إلى استحضار اليأس والقلق أمام الزائر الأخير كما تشهر
هي فأحدث المكان وثيماته الأخرى قراءة واتصالا خاصاً للتأثر
بمنبهات داخلية سيكولوجية، وفزيولوجية ومنها خارجية موجودة في
محيطها، تتلقاها على شكل نبضات عصبية ترتبط بمعطيات الظاهرة
وظروفها وأحداثها، فتنتقل إلى العقل الذي ينتقي منها ما يريد
أن يفهمه ويفكّر به ويتخذ قراره على وفق عملية التمييز، ومن
ثمّ عملية أعادة تجميع للتنبيهات التي تم اختيارها في مرحلة
التمييز، ثم تركيب تلك المنبهات في شكل خاص له معنى ( 38
)، قائم على فهم الذات لفكرة الاتصال التي حصلت بفعل ذلك
التأثر القائم أساساً على لحظة الانعزال المكاني وما رافقته من
أمور أخرى يمكن بوساطتها الاستدلال على فهمها، فطبيعة المكان
وفيزيائيته يكشف عن واقع مخيف منقطع عن الحياة وأساليب التواصل
وبداية الحساب، كأنه يستحضر الحالة الدنيوية
للحالة الأخروية بدلالة الأفعال المضارعة التي تمثل
الزمن الآني وحركته الظاهرية الحسية
( يجلسُ، ينظرُ، يضعُ )، وأسلوب الاستدعاء (النداء)
القريب كل القرب من الاستدعاء الدنيوي ولاسيما في حالات
الحساب، ودلالة اللون الأسود التي تدل على القوة والرقي ويرمز
إلى الحزن وكآبة النفس وألمها في مواجهة الحياة ؛ لأنه لفظ يدل
على الغموض والغوص في الأعماق حيث الظلمة والعتمة فضلاً عن
الموت بوصفه الدلالة الأكثر عمقاً
وإيغالاً
( 39)، وهيأة الآخر التي توحي بالقلق والخوف والترقب
الموجه نحو سقف الغرفة الذي يوحي بعدم الاكتراث وصرامة الموقف
وضرورة تنفيذ ما يوحى إليه من دون تردد، إذ يحمل صحيفة الذات
(الكتاب) وأعمالها (الحقيبة)،
مما لا يدع مجالاً
للشك بأن الموت والحساب قادمان في نهاية الأمر:
وأخيراً أخرج لي نقطةً حملتْ
ألوانَ الفجر والمغيب.
حملها بيده الصفراء المرتجفة
دونَ أن ينبس ببنتِ شفة...
لم تصلْ يدي إلى أيّ شيء،
ولم يعطني الشابُ أي شيء.
( 40)
مثل النص
في نهايته الضياع الحقيقي للذات، فالحروفي فقد حروفه بفقد
نقطته التي لم يستطع الوصول إليها، على الرغم من رحلته الطويلة
في الحياة، فالنقطة مثلت الوجود غير المستقر في ضوء قراءته،
وفي ظل هذا الوجود الضيق والمرتبك، فقد وجوده والوجود، فأراد
أن يبرر البحث عن فهم آخر يصل فيها إلى نهايته الأبدية التي
وصفها (بالزائر
الأخير )، فيستدعي حضوره المفقود الماثل في عدم الوصول وعدم
العطاء، والأمر يمثل حالة انهزام أمام الوجود وسطوته، بل هو
أمام الذات ذاتها،
بالمقابل يرى البحث أن النص يوحي بانبعاث يبعث على
التوهج، فالزائر الأخير ـ بما يمثله وما حمله من دلالات يحمل
نقطته ـ، أي منجزه المعرفي في العالم المحسوس إلى عالم آخر،
بانبعاث آخر أكثر شمولية واتساع، وكل ذلك كان تبريراً لحالة
الضياع في الوجود، فوحد عالمه المادي مع العالم الروحي ليبعث
برسالتين : أولهما قراءته للوجود ومتغيراته بفعل المكان
وهيمنته الحضورية في الخطاب، وما آل إليه الوجود، والآخر
انبعاث معرفة الذات من العالم المادي إلى العالم الروحي، الذي
ينم عن توهجها وانبعاثها في وجود آخر غير الوجود الحقيقي .
وقد يمثل
المكان على الرغم من ظاهره المتناهي في الصغر عالماً واسعاً
تشعر فيه الذات بالسعادة والغبطة، فيتجسد فهم الذات في ضوء
إدراكها ووعيها القصدي، إذ إن النص يمثل الممكنات اللغوية من
جهة والوعي الذاتي للمبدع الذي يحاول فيها المتلقي فهم ذلك
الوعي ومن ثم فهم المبدع من جهة أخرى ( 41 )، فحاول
الباث بوساطة النص فهم الوجود وعرضه في حالتين:
الحضور لم يتجسد فعلاً واقعياً، والغياب الذي يعكس بؤس
المكان وغبطته :
وبعد غرفتكِ المعلّقة بالسقف
صارتِ الغرفُ سراديب
. ( 42 )
يبرز العامل المكاني بصورة تختلف عما سبق إذ يعيش تحولاته
بصورتين مختلفتين، يساهم
بهما فهم الذات لذلك المكان وما يمثله من أثر في فهمه
والتعامل معه، فالغرفتان لهما ذات الأبعاد، لكنهما يختلفان بما
يمثلانه عند الذات، بدلالة فهم الضيق غير الأليف بقراءة المكان
المختلف عنها، فإذا كانت الغرف من بعد الحبيبة صارت أكثر ضيقاً
تصل إلى تشبيهها بالسرداب الذي يقترب من القبر أو الملجأ
الأرضي، وفي كلتا الحالتين دلالاتهما يمثلان بؤس المكان بأدق
تفاصيله، وهو بؤس خلو الحبيبة منه، بالمقابل ينطلق الفكر إلى
قراءة المكان الأول بقراءة الثاني، فالوعي بالأول، هو وعي في
الثاني، ودلالة الأول تكون على نقيض الثاني بمداه الواسع،
فالغرفة من دون الحبيبة سرداب، وبوجودها تصبح فضاءً واسعاً
وجميلاً يبعث الراحة والاطمئنان والدعة وتجعل الذات بوعي مختلف
يوحي بالتفاؤل والسعادة، فيبدو المكان أليفاً واسعاً في حالة
الحضور الذي لم يتحقق، وضيقاً بائساً في حالة الغياب:
وحينَ أنام
ينامُ البحرُ بجانبي على السريرِ مُطمئناً
لكنّ الموت يتظاهرُ بالنوم
ويبقى يعدُّ عليّ أنفاسي،
يبقى ينظرُ إليّ بارتيابٍ وشكّ
مضطجعاً بجانبي، كذلك، على السرير!
( 43 )
يبدو أن عملية
ضيق المكان أصبحت في حدود ضيقة جدا، فالغرفة تتحدد معالمها في
مكان أكثر ضيقاً (السرير)، والسرير يضيق إلى حد أصغر بفعل وجود
الآخرين بعد تجسيم البحر والموت، فهول المكان يمثل اضطراب
الذات المتمثل باضطراب البحر وترقب الموت المرافق له في كل
لحظة، عندما تتأزم النفس تبحث عن فهم خاص للظاهرة، فيصبح
المكان في منتهى الصغر ؛ لأنه أعلنت فهمها في ضوء طبيعة المكان
ورفقتهما، وفي النظر لهذه الأبنية من العلاقة التي تعتمد على
الزمن الحاضر يظهر ارتباط الأبنية بالظاهرة المكانية بعلاقة
تناقض مبدئي، فعالم البحر يختلف عن عالم الذات وعالم الموت
يختلف عن عالم البحر والذات، غير أن هذه العلاقة
و تحولاتها الحركية بدءا من النوم والتظاهر والبقاء
تقوم على فكرة التناقض بالفعل والحركة واختلال المكان الذي
يحتويهما، لكن هذه العلاقة وظفت في ضوء فهم الذات لهما (البحر،
الموت)، فوظفت المستويين لتوليد حقل مكاني مزدحم ينبئ بالقلق
والخوف وهو في حقيقته رؤية الذات للوجود ووجودها وتمردها على
هذه الرؤى ؛ لأنها ليست رؤى القول " المقيم على مستوى
الايدلوجيا المسيطرة على فعل الذات التي تساعد على تبرير
السلوك الشخصي وإضفاء مشروعية الفكر، او الراكن إلى فهم
أيديولوجي محدد، بل هي بنية القول المتمرد على ركونه هذا،
باتجاه حركة الصراع، أو باتجاه ديناميته المحركة له التي تبني
زمنه، وليست بنية القول التي تسبح في فضاء المتخيل في عالم
منسجم، أو عالم يحل تناقضاته في المتخيل، بل هي بنية القول
التي تحاول الوصول إلى عالم آخر، يخلق بنيته التي قد تكون
ديالوجية لوجود البحر والموت المجسمين وقابليتهما على إظهار
الأصوات أو بلغة الصمت القابلة على البوح بقابلية فعل الشخص
الصامت أو قد تكون غير ذلك ( 44 )، فيكون الخلق
الجديد ليس في ضوء الواقع المعيش وحسب، بل في ضوء قراءة الذات
وفهمها لذلك التركيز المكاني وسمة التجسيم التي لجأت إليها لبث
ما تحمله من فهم آني، يشترك فيه الواقع بشكل أساس وما يرتبط
بفعل الظاهرة عند الذات بوعي وإدراك ؛ لأن التأمل في فعل
الإدراك يعرب لنا عن طابعه القصدي، وتوجه نحو شيء معين، بصفته
أمراً مقصوداً في بنية هذا الفعل، من هنا
أن قصدية الإدراك لا تعني الظاهرة الخارجية بذاتها وما
يلحقها، وإنما يمكن إدراك الظاهرة من دون تأثيراتها الخارجية،
فيصبح الإدراك إدراكاً من دونها (45 )، بمعنى أن
الظاهرة تحقق قصديتها بوجودها وفهم الذات لها :
لا أكتمكِ
بعدَ ليلتكِ الخضراء
صارتِ الليالي شظايا.
وبعدَ سريرك البضّ
صارتِ الأسرّة منايا(
46 ).
يمثل
المكان حالتين مختلفتين
في ضوء فهم الذات وقراءتها للوجود الذي تبحث عنه ،
فتختلف زوايا نظرها للمكان بين الألفة من عدمها، والواسع من
عدمه، لأن فهم ظواهر العالم الخارجي والداخلي عند الذات يحتاج
إلى فهم أم الظواهر ( الكينونة )، بوساطة الفكر الطبيعي الذي
يتجه لفض التناقضات وحل الصعوبات مهما كان مأتاها، لذا فهو ضرب
من الجدل الفكري يقوم على المعرفة الذاتية بفعل الوعي، وبين
التجربة وما يفرض على الوعي من المطالب والموجبات والمعطيات
الفعلية لا المنطقية فحسب ( 47)،
فمتى ما شعرت الكينونة بوجودها الطبيعي ينتفي البعد
بينها وبين المكان، فترفع الحواجز بينهما، وتشعر بالطمأنينة،
ويزول البعد تماما، ومتى ما غُيبت الألفة، حضرت الحواجز، وحل
الفزع، وجاء البعدُ، ووسيلتنا لفهم الكائن هي اللغة، التي
نحتاج في كثير من الأحيان إلى وسيلة فهم أخرى لكي نفهمها،
إذ إن أقصى ما تقدمه لنا مجموعة أوصاف تبطن أكثر مما
تظهر، " لكن هذه اللغة التي يفترض أن تكون وسيلتنا لفهم هذا
الكائن ستكون هي ذاتها أداة عدم فهمنا له، إذ إن أقصى ما
ستقدمه لنا هو مجموعة أوصاف تبطن أكثر مما تبين، فالكائن هو
أولاً وقبل كل شيْ
دازاين
Dasein،
وما معنى دازاين ؟ أنه لا شيء، وكل شيء في الوقت نفسه، أنه
يعني الكائن هنا، لكن ليس الكائن الذي نعرفه، ويعني الكينونة،
ولكن ليست الكينونة التي نفهمها، ويعني الزمان، ولكن ليس
الزمان الفيزيائي الذي نحن منغمسين فيه " (48)
ويعني المكان، ولكن ليس المكان الذي نتصوره في الواقع، لكن كما
تفهمه الذات، فيحيلنا إلى معرفته من عدمها بفعل اللغة الهلامية
الغامضة القابلة للتأويل وتعدد المعاني الذي تتحقق بقراءة
الذات للظاهرة وتأويلها، ولأن البعد والقرب، والألفة وعدمها،
والضيق والواسع، طباع ذاتية واعية في داخلنا فنحن من يشعر بتلك
الظواهر، فتبدو هذه الظاهره وتأويلها لا من جهة علاقتها به أو
علاقته بها بل من جهة علاقتها بغيره، فإذا حمل الدازاين في ضمن
الانشغال شيئا ما إلي قربه ، فذلك لا يعني تثبيتا لشيء ما في
بقعة من المكان لأن تفسير رفع البعد أو تقديره سيكون ذاتيا(49)،
في ضوء ما تشعر به في لحظة ما، فتعيش لحظتين مختلفتين للبعد
المكاني ذاته بشكل قصدي وإدراك واعٍ .
لقد أصبح بحكم
المفهوم الذي مرّ ذكره أن عملية الاتساع والضيق ترتبط بطبيعة
فهم الذات للظاهرة وإدراكها إدراكاً قصديا:
أبي
ضاقت النافذة
بنفْسها وتحطّمتْ
ونزلَ زجاجُ الموتِ إلى الشارع،
فأزلته بلساني الجريح
يا أبي.
(50 )
تحاول
الذات عكس الظاهرة وتبادل الأدوار مع النافذة
التي ضاق بها المكان فضاقت، وهذا التصور والفهم ينبثق
من فهم المكان وتصوره في ضوء تأثير الظاهرة على الذات، فيضيق
المكان حتي يصل إلى ضيق أدواته ( النافذة )، وهذا التصور ما هو
إلاّ تصور ذاتي آني عكسته الذات على المكان الذي تحطم بمعنى
آخر حصول الموت، ونشاط التحطم ( الموت ) هو قوة الفهم وعملها
وهو أكثر أنواع التفكك دهشة وأكثرها غرابة، بل القوة المطلقة
في عملية فهم الظاهرة وإبراز عناصرها أو لحظاتها التي لم تكن
معروفة ولا معطاة، بل هي حالة فهم الذات وخلق لحظاتها التي
ميزتها ووفرتها في علاقتها مع الأشياء، التي تبدو غير واقعية
أو حقيقية من حيث أنها لا تحمل وجوداً مستقلاً في الوجود، هي
لحظات جوهرية وماهوية لما يتم قوله في ضوء فهم الذات للوجود
والظاهرة (51 ) ؛ لأن الوصول إلى الموت في قراءة
الظاهرة وتأويلها، هو أكثر الأشياء رعباً والتمسك بفكرة موت
الأشياء والتشبث بها يحتاج إلى قوى قصوى ؛ وذلك لأن فهم الموت
والإيمان به وإسقاطه على المكان، لا يجد حضوره في الخطاب إلا
عندما تجد الذات نفسها في تمزق تام في مواجهة ما هو سلبي، الذي
يتحول بدوره إلى وجود يضفي حضوره الآني على الذات عندما تضفي
تعيناً على ما في عنصرها من وجود لترفع المباشرة المجردة في
قراءة الشيء المذكور إلى مباشرة جوهرية لفهم الوجود بوساطة فهم
الذات له، فتصبح الظاهرة المحمول الحقيقي للتوسط بين الوجود
والذات، فيرتفع الوعي الخاص إلى
مستوى الوعي
الكلي، إذ ارتبط تحطم الزجاج (الموت ) بنقل مستوى الوعي
بالظاهرة إلى الوجود الكلي مع بيان قابلية الوعي بهذه الظاهرة
وإزالتها ؛ لأن " حياة الروح ليست هي تلك الحياة التي تفزع
أمام الموت وتصون نفسها من الدمار، وإنما هي، بالأحرى، الحياة
التي تتحمل الموت وتدعم نفسها من خلاله " (52)،
بفعل التحدي للظاهرة ومحاولة التغلب عليها ؛ لأن التحليل
الظاهراتي يؤمن بأن الموت نهاية لرجولة الذات ؛ لضعف فهمها
للظاهرة وإسقاطاتها، وهذا ما ترفضه على الرغم من الإيمان به،
فتعكس الظاهرة بفعل ذلك المفهوم بشكل يجعل الموت للآخر .
الموت
فعلاً مكانياً ذاتياً :
لقد مثل
ارتباط الموت بالمكان ورفضه من الذات فهما جديداً ومختلفاً ينم
عن ذلك المفهوم الظاهراتي التأويلي الذي يعي الأشياء في ضوء
تصوير الظاهرة تصويراً يقترب من الرفض، لكنه القبول في حقيقته
:
ثمّة بحر
أحملهُ بيدي اليمنى
وثمّة موت
أحملهُ بيدي اليسرى.
وحينَ أتعب
أضعُ البحرَ في يدي اليسرى
والموتَ في يدي اليمنى.
(53)
تظهر حقيقة فهم الذات لهذه الظاهرة المكانية بأسلوب التحدي،
فالموت والبحر يرقدان على سرير واحد بدلالة العنونة (
معاً على السرير )،يلازمان الذات تماما، لكن هذه الملازمة كانت
مختلفة وغريبة، إذ مثل المكان المتناهي في الصغر مقارنة مع
البحر ومكانه الواسع، حالة احتواء وتفريغ وتحدي، فاستطاعت الكف
الأيمن بواقعها
الفيزيائي المعروف من حمل البحر، والشمال لحمل الموت المرتبط
بدلالة البحر والواقع المعيش، وهذه المفارقة في الحدث نتيجة
تحدي الذات وإفراغها لمحتوى الموت بشقيه المجازي والحقيقي
والمرتبطين أصلاً بحقيقة فهم المكان وتصوراته، فالسرير يحمل
الموت، وحقيقة الفهم وتمثلاته تعود لطبيعة المكان، إذ " ترى
الظاهراتية الكائن البشري وعياً مجسداً يقصد الأشياء، وهي لذلك
تفسر الأعمال بوصفها تركيبات للوعي تعرض عالماً ما "(54)
فيتجسد في الخطاب وعي الذات للمكان وتحولاته وتقلباته
التي انعكست في فعل الخطاب وتقلباته، التي تعني أمرين: الأول:
إن عملية التقلب بين اليمين والشمال هي لبعث الروح في البحر
والموت، فإن لم ينقلبوا لأكلتهم الكف بالتعبير المجازي المعطوف
على قوله تعالى "
وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ "(55)
وهذا التأويل لاستمرار الواقع الزمني وامتداده البعيد،
والتأويل الآخر لثقل المحمولين على الذات بواقعهما المجازي
والمادي الذي يناسب الامتداد الزمني القصير، والأمر الثاني :
إيمان الذات بالملازمة المكانية الضيقة للموت مع بيان تحديها
له أولاً
والسكون إليه في نهاية الأمر ثانياً على الرغم مما تظهره في
أسلوبها الخطابي ؛ لأن نزعة الموت أو غريزة الموت تمثل " حاجة
ملحة ملازمة لكل الكائنات الحية من أجل العودة إلى وضعية
السكينة، أو عدم الوجود في نهاية الأمر "(56)، وهو
حاصل لا محالة.
ويبدو أن
ارتباط الموت بالمكان الضيق أصبح فهما قارا بدرجة كبيرة عند
الذات، بالمقابل حضر التحدي غير المتوازن بينهما ؛ لأن الصراع
مع الموت لا يعني
أن الذات تجهد للتغلب عليه بقدر ما يعني استنطاق
الظاهرة بفعل دلالاتها للتطابق مع فهمها للوجود وبيان التحدي:
حين طردتُ الموتَ من النافذة
دخل من الشبّاك.
وحينَ طردتهُ من الشبّاك
دخلَ من النافذة
(57)
حدوث ظاهرة التحدي والاستسلام لها
كان متجسداً بفعل الإصرار على تواجد الموت في مكان
الذات الضيق الذي يناسب الحدث، وما عملية غياب الموت وحضوره
إلا أمر حاصل بدلالة استعمال النافذة والشباك، فهما يؤديان
المعنى والمهمة نفسها في آن، وهذا الكشف لحقيقة قراءة الوجود
وتشكله، هو في حقيقته الوعي بالتجربة الذاتية للظاهرة بوصفها
نشاطاً ظاهراتياً نعيد قراءته مع تجدد الوعي بالتجربة
الإنسانية في الوجود التي تصل بالفكر للمثول أمام هذه الظاهرة
المخيفة، فخروج الموت ودخوله لمرتين عملية تجسيمية لها القدرة
على خلخلة المكان بما ينبعث من أصوات وحركات، ودلالتها هنا
أعنف الوقائع المتحدة يقينيا مع الوجود، لأن الوجود
يقوم وجوده على وجود الأصوات (58)، التي تؤسس
لحالات وجود الذات وحضورها، فصوت الموت بالتعبير المجازي أشد
وقعاً في الوجود، وما بعده أكثر هولاً ورعباً، وما
ذلك الصراع إلا وعي بالظاهرة التي تعني " العودة إلى
الأشياء ذاتها، وإن الظواهر إجمالاً ليست ظواهر عبثية أو
عفوية، وإنما ظواهر تختزل قصداً معيناً يشكل ماهية توجهها
الأساس" (59)، إذ لا يمكن أن يؤسس القول من دون قصد
يُحيى المعنى ويعطيه روحانية خاصة، وبالمقابل يحيى صوتاً يمكن
أن يبقى باطنياً بالواقع الفعلي، لكنه المعبَّر عن الفهم
بالأمر والإقرار به من وجهة نظر أخرى (60)،
فاليقين حاصل في إدراك حتمية الظاهرة على الرغم مما
تبديه الذات من محاولات عدم الاستسلام الذي لا يجدي نفعاً:
هكذا خرجتُ من الباب
لأجدَ الموت
يحمل سيفاً ودرعين،
مسدساً وثلاثَ بنادق
ومدفعاً من النوع الثقيل
. (61 )
عملية تحويل
الظاهرة من المكان الضيق إلى الواسع عملية مقصودة في ضوء بيان
الظاهرة وتأصيلها، فالموت أصبح في الوعي الجمعي ملازما مستديما
؛ بسبب الظروف والمتغيرات التي حصلت وتحصل، وهذا التحول في فهم
الظاهرة واتساعها لم يكن بإرادة الذات، بل خارج إرادتها، فشمل
التنوع الزمني المتعدد قديماً وحديثاً، بدلالة تغير أدوات
الموت من سيف ودرع إلى مسدس وبندقية إلى مدفع من النوع الثقيل،
وهذا التدرج الزمني والعددي عمل على اتساع مكان الظاهرة
وتنوعها، فحصل الوعي المدرك بين حقيقة الذات وما تشعر به
وحقيقة الواقع المعيش،وفهم مقصود بين هم الذات والمجتمع الذي
أصبح أداة سلبية وصلت حتى الموت.
تمثلات
الجسد الضيقة :
قد
يرتبط المكان بمساحات غاية في الدقة والضيق، تشعر الذات
باغترابها به على الرغم من حالة الاتصال بينهما، ويقينا أن
الجسد وعاء الروح أي وجود الكينونة وتمثلها في الوجود، عندما
يحدث الانفصال أو الاغتراب يحدث انفصال الروح عن الجسد:
غربة في الجسد
قد أقامَ بأحداقها الليلُ
ضاحكاً كاللهب.
غربة في الجسد
بويعتْ في غيابِ الجسد.
(62)
يمثل
الجسد المكان الضيق الذي يشعر الذات بفهمها للوجود بوساطة
الشعور بهذه العلاقة ومنطلقاتها المختلفة، علاقة بُنيت على
رؤية الذات للوجود المتمثل في كينونتها التي تبدو فيها
فاعليتها في الفهم والتمثل، فيقودنا ذلك إلى اكتشافات جديدة
وفهم مستمر وتمثل متغير، يُبنى على وضع الافتراضات المنبثقة عن
رؤية الذات لذاتها أولاً وللوجود ثانياً، أي أعادة ما عرضته في
رؤيتها عرضاً تزامنياً تعاقبياً، يبنى على أشد الافتراضات
القابلة للتأويل الظاهراتي المعبر عن قناعة المُؤَوّل وإن
تزامن مع صور المجازفة في عرض التأويل في نص مكثف، يؤدي إلى
قراءة متنوعة ومختلفة تقوم على عدم التشبث والإيمان المطلق بما
يعرضه، بل يقوم على عرض تلك الفكرة بأسلوب عدم التشبث غير
المنطقي الذي لا يستند على أسس التأويل المنطقي(63)،
القائم على بث الثيمات وربطها للإمساك بالمعنى المقصود أو
محاولة الاقتراب منه، فغربة الجسد عامل مكاني سلبي، زد على ذلك
قيام الليل فيه برعبه وظلمته وحزنه وسباته وحرقته التي شبهها
باللهب، وحالة استقرار الغربة التي تمثلت بغياب الجسد غياباً
نهائياً، كل ذلك يبين آلية اختيار المكان ,وبيان أثره على
الذات في فهما وتمثلها.
وتمثل الشفتان
المكان الضيق الذي يشعر الذات بنهايتها، على الرغم مما تمثله
من دلالة تبعث الحياة في النفس :
وما ان قبّلتُ شفتيها
حتى خرجت الأفعى إليّ
فسقتني السمّ
لأموت إلى الأبد.
(64)
يبدو أن
عملية البحث عن الموت كانت من المكان الضيق الذي ينبعث من خلال
الجسد، فالأفعى والأنثى كانتا بمرتبة واحدة كلاهما يبعث الموت
أو بتأويل آخر القبول به بعد الملامسة، فالمرأة كانت الموت أو
سبباً له، وهما في مرتبة واحدة، على الرغم من أن المكان
المقصود بما يحمله من طبيعة مادية و سيكولوجية هو مبعث النفس
وراحتها، فالأماكن الضيقة في الجسد هي مبعث سرور الذات
وديمومتها وتجددها، لكنها قد تكون موضعاً للموت والفناء، فظهر
فهم خاص لذلك المكان، بربط العلائق المشتركة والمتشابكة بين
أنماط الفهم المختلفة، " وإظهار أن الفهم، ومن ثمة التأويل،
ليس سلوكاً ذاتياً، بل ممارسة تضرب بعمقها في ضميم كينونة
الإنسان، لذا يميز (غادمير) بين قوة الحقيقة التي يتضمنها
الفهم، وبين تقنيات البحث عنه وفيه " (65)، وفي هذا
كله قد يخرج من الحسن السيئ، فيخرج من الجسد جهنم، ليكن ثقب
الجسد هو جهنم:
أوقَفَني في موقفِ الأنا
وقال: يا عبدي كم أذلّتْكَ الأنا!
أناكَ هي ثقبُ روحِك
وأناكَ هي ثقبُ جهنّم في جسدِك.
هي مَن يُفسد فيكَ ما خلقتُه
في أحسن تقويم
لتردّه في سرعةِ البرقِ إلى أسفل سافلين.
(66)
تتحول
الأنا إلى ثقب الروح الذي يؤدي بالجسد إلى المعصية ومن ثم
العذاب الدائم في جهنم، فالحوار يفصح عن المكان الضيق الخارجي
والداخلي، سواء بعملية المساءلة أو اختراق الجسد مكانياً الذي
يؤدي إلى فساد الروح والخلق، بفعل الأنا وما خلفته من أماكن
ستكون سبباً في هلاكها، فالمكان في منتهى الصغر في الحالتين،
لكنهما وسيلة الهلاك للجسد والروح، فالعمل السيئ بمثابة نتوء
صغيرة تتراكم في الواقع الجغرافي الجسدي لتصبح بمساحة جغرافية
لا يمكن الإلمام بها ومن ثم يصبح سبب الهلاك وطريق
اللاعودة إلى الرشد والصواب، لقد استطاع النص من بيان
موقف الإنسان في أمرين : أولهما المساءلة التي تواجهه في ذلك
المكان الصغير
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ }(67) وما
يتبعه الوقوف، والآخر فعالية المكان الذي أحدثته الأنا في
الجسد ( الثقب )، وهو الذي سوف يطيل الوقوف الأول أو يقصره،
فالنص يحفز القارئ إلى نظام الإحالات المنبثقة من آلية المكان
وتجسده في الفعل التأويلي الذي يحول النص من
صياغة لرد فعل معين، أو انعكاس
للواقع المعيش التي تألفه
أو تعبير عنه مكنوناتها وسبل الغور في بواطنها ومحاولة
بيان الأثر المكاني الحاصل الذي جعل النص ينتهك القوانين
الخاصة بالقراءة السطحية إلى الغور في فهم الذات لذلك المستوى
المكاني الصغير بإدراك ووعي تامين ؛ لأنها عملية تحول المحسوس
إلى قراءة ظاهراتية واعية.
المكان الواسع الضيق :
تنبعث من
المكان حالة اليأس الكبيرة التي تعيشها الذات في ضوء فهم
معطياته التي قد تصل بها إلى نهايتها، فالمكان يتسع ولكنه يضيق
بالذات ؛ لأن العلاقة ترابطية بين المكان والكينونة، فالمكان
يمثل الوجود الحقيقي والمتناهي الذي يدرك بوساطة الحواس،
والكينونة تمثل الامتداد
الحقيقي لذلك الوجود وتشكله وفهمه (68)،
وهما بطبيعة الحال يتبادلان الأدوار في إضفاء الشعور أحدهما
بالآخر:
اللهمَّ
أنقذْني من قسوةِ الصحراء
وقرّبْني من فجرِها.
وأنقذْني من غدرِ البحر
وقرّبْني من زرقته.
(69)
يتوسل الخطاب بالدعاء للخلاص من المكان الواسع الضيق في آن،
واسع في واقعه الجغرافي وضيق في ضوء فهم الذات
وإدراكها،فالصحراء فضاء غير مرتبط بملامح مكانية ثابتة، يتصف
بالاتساع غير المحدود، لكنه يحيل إلى الخوف والقلق والريبة،
ولاسيما إذا ارتبط في الزمان ( الليل ) وما يشكله من هاجس كبير
يتعاضد مع الصحراء وطبيعتها القاسية، فينتظر الفجر لينعم
بالاطمئنان، وهذا الأمر يشبه تماما أمواج البحار وغدرها، ومع
الأمرين تنظر الذات إلى ذاتها في قلقها وخوفها على الرغم من
اتساع المكانين، لكنها تنتظر الفجر والزرقة، وهو في الأصل
انتظار لغد أفضل تنعم به، فالخطاب على الرغم من مرجعيته
المكانية الواسعة،
فأنها أصبحت مرجعية ضيقة قلقة تلامس الذات وهواجسها في
الانتماء مرة وعدمه مرة أخرى، فالقرب والبعد، والضيق والاتساع،
يرتبطان بالشعور الذاتي للمكان وتشكله ؛ لأن المكان يبرز حلما
أو واقعا في فهم الذات للمكان وخصوصيته للنفس وقربه.
الصحراء في المخيال
العربي هي المكان الضيق الذي يؤدي إلى الهلاك على الرغم من
اتساعه في الواقع الجغرافي، ما ارتبط في المنظومة الفكرية
والوجودية في آن، فهي لم تكن حاضرة في الواقع الجغرافي عند
أديب كمال الدين، لأنه يعيش في واقع جغرافي يبتعد كثيراً عن
الصحراء وقساوتها، لكنه يحتفظ بالفهم القار في المدونة العربية
الجديدة، الذي يجعل من الصحراء واقعا متخيلاً لم نعشه، وإنما
نتفاعل معه:
بحثنا لأحزاننا عن منافٍ جديدة
فهربَ الأصدقاءُ منّا،
تركونا نؤكل في الصحراء.(70)
التفكير
بالمنفى لا يختلف عن التفكير بالصحراء وما ينبثق عنها من التيه
والحرمان وعدم الألفة ولربما الموت لغير قاطنيها أو ممن لم
يألف صروفها القاسية ومعطياتها، فهي عند الآخر العربي البعيد
تعني مساحة العمل، وإذا كان الشاعر الجاهلي قد " رمز لليأس
بالطلل ورمز للمرأة بالأمل، فأنه قد رمز برحلة الصحراء للعمل "(71)
من أجل تحقيق الأمل،
بالمقابل ينبثق مفهوم آخر يرتبط بالمعاناة، فالرحلة إلى
الصحراء مضنية وهي ليست مفروشة بالآمال اليسيرة، بل يحوم فوقها
الرّعب الذي يصل إلى الموت في بعض الأحيان، ورحلة الشاعر حملت
التصورين الأمل واليأس، الأمل في منفى جديد وأحزان مستمرة،
واليأس الذي يقترب بها من الموت في صحراء جديدة لا تختلف عما
كانت عليه سابقاً، فالمنفى الجديد يحيل إلى أنين الذات
وشكواها،ويحيل إلى الظاهرة المكانية وقسوتها التي لا مآل منها
الصحراء الواسعة الضيقة التي كثير ما تضيق بأهلها، إنّ هذه
الوحدة الخطابية تُقيم التوازن بين مفهوم الذات للمكان القديم
والجديد، فكلاهما واحد، والثاني أكثر بؤساً من الأول في ضوء
فهمها ؛ لأنه أقرب منه إلى الفناء الأبدي وإن لم يتحقق بالواقع
الملموس، فالمنفى صحراء ضيقة مثل ضيق المنفى وإن اتسع.
وقد
يرتبط المكان بالضياع على الرغم من اتساعه، وبذلك تصل الذات
إلى مبتغاها في عرض رؤاها، مثلما يصل المتلقي إلى غايته في
قراءة النصوص وإعادة إنتاجها:
كيفَ ضعتُ وكيف؟
من الذي ألقاني في الوادي السحيق
ودفنني في الصحراء
وزرعني في بطنِ غيمةٍ تائهة؟
من الذي جعلني أركض
خلف ذيل الشمس حتّى الموت؟
(72)
تظهر حالة الضياع واضحة في الخطاب يبدأ من محاوره الأربعة، كل
محور يصف ما تشعر به الذات في وجودها وتفكيرها، أي فهمها
ووعيها وإدراكها، يبدأ من ثيمة رئيسة تقوم على عنصر الضياع
الحاصل، المنبثق عنها المحاور المكانية الأربعة، الوادي
السحيق،
الصحراء، الغيمة، والشمس، وكل هذه الأماكن توحي بالاتساع لكنها
توحي بالضيق والضياع سواء أكان في مكان مغلق بعيد ولكنه في
الواقع الجغرافي واسع، أم جثة في صحراء شاسعة،أم غيمة تائهة
سوف ترحل بعيدا في أفق واسع وسوف تسقط في مكان مجهول، أم الجري
وراء أمر يصعب حصوله لرقعته الجغرافية غير المتحققة، وهي في كل
ذلك تعبر عن ضيقها بالمكان الواسع، وهذا التعبير يمثل الإحساس
بالظاهرة والوجود:
كنّا نجلسُ عاريين في الصحراء
حينَ اقتربَ منا حصانان أسود وأحمر.
فقمتِ بعينين دامعتين
وقبّلتني القبلةَ الأخيرة.
فدُهِشتُ
ثُمّ امتطيتِ الحصانَ الأسود
وقلتِ بصوتٍ مرتجفٍ: وداعاً.
فذُهِلتُ .(73)
يمثل
المكان الواسع مؤشراً إيجابيا يعمل على تهشيم الصورة النمطية
للصحراء وقساوتها وضيقها بالذات والآخر، فيبدو
أنَّ المساحة الواسعة قد وفرت الأجواء العاطفية التي تقترب من
الواقع الحالم الذي ينطوي على دلالة لا يمكن تجاهلها ترصد عمل
الذاكرة في الانتقال إلى صفو النفس وسموها بعيداً عن كل
المؤثرات بوساطة التفاعل الحي مع الزمن الحاضر مما أسهم في خلق
نوع من العلاقة الاتحادية
بين المكان والذات، لكنها علاقة آنية سرعان ما تزول، بفعل حالة
الرحيل والوداع الأخير، فتتغير ملامح المكان من السعادة إلى
الحزن الدائم بدلالة اللون الأسود ، ومن الاتساع إلى الضيق
بدلالة الوحدة والدهشة والذهول،
فتخضع هذهِ الموجودات
( الظواهر )
لسلسلة من التغييرات تتدخل فيها المخيلة على نحوٍ خاصٍ
لنقلِ زمنية الذاكرة منْ الماضي بوصفه مصدراً للسعادة والهناء
والاتساع إلى إدراك الحاضر وما آلت إليه الذات والمكان،
واستشراف المستقبل وما سيكون عليه من أثر تلك الظاهرة
وتغيراتها عليهما فينبئ الأمر بحالة المكان على وفق التعدد
الزمني.
ويمكن أن نلحظ قراءة المكان وأثره بفعل ما يبوح به الخطاب من
صدى وخوف يطبعه المكان على الذات ليصبح حقيقة ملموسة على الرغم
من واقعه المتخيل:
في الليل الأسود
يتحدّث هذا القلبُ الغامض
بحديث غامض
عن مدنٍ وشوارع مرّتْ كقطارٍ مزدحمٍ مهموم
.(74)
صدى
المكان يلازم الذات في مضجعها لتبوح بحقيقته المتجسدة في رؤاها
، فالمدن والشوارع تطبع أثرها بشكل سلبي وغامض ومزدحم على
الرغم من اتساعها، الذي هو في حقيقته بوح الذات بذاتها وبيان
شعورها بذلك الأثر، فالرؤيا تجسد حقيقة الظاهرة ؛ تقدم لنا
نظرة شاملة وموقفاً من الوجود يفسر الحاضر في ضوء قراءة
الظاهرة على الذات، فالمدن والشوارع على الرغم من اتساعها كانت
مكتظة بالناس مما يعكس صورتها على النفس ولاسيما في وقت الليل
الذي يبعث الحزن والهم، فتظهر الظاهرة المكانية الخبرات
المكبوتة وهواجسها في أعماق النفس حين تخف الرقابة الشعورية
الجمعية بفعل العامل المكاني المزدحم، فيتحول ذلك الشعور إلى
شعور فردي يظهر أحلاماً أو أحلام يقظة في وقت سكون النفس
واستقرارها
(75)،
فتصور المكان وأبعاده وزحمته التي هي زحمة الذات.
ويمكن
أن يتسع المكان، لكنه يضيق بفعل رؤيا الذات وفهمها للمكان، فـ
(الرندلمون) الشارع الكبير الواسع في غربة الذات، لم يستطع أن
يجد مساحته الحقيقية عندها :
قلتُ للرندلمول:
هل يمكن أن تمسحَ من شاشةِ نومي
صورَ الطفولةِ العارية
وعذابات الفراتِ وشمسه الحافية؟
(76)
يُختزل
المكان في مكان ضيق تمثل في رؤيا الذات وتصورها لأثر الجديد في
القديم، فالحياة الجديدة لم تمحُ صور الطفولة العارية
وعذاباتها من شاشة الفكر، وهذا الأمر عبر عنه بول ريكو
بإسقاط التحليل النفسي على الظاهرة وتأويلها وتتمثل "
هذه النقطة تحديداً في كل أمر يكتشف نفسه في الظرف التحليلي
نفسه، فالتحليل النفسي يظهر بوصفه تقانة في الحقل الخاص في
العلاقة التحليلية " (77)،مرتبطة بعلاقة
تأويلية تقوم على عنصري العمل والمقاومة وهما الأساس في
التحليل النفسي، فالتحليل عمل وصراع ضد المقاومة كما يرى فرويد
؛ لأن " المقاومة التي تواجه التحليل هي عين المقاومة التي
تقوم في أصل العصاب "(78)، وعلى الفهم
المتصاعد في آن، أو في لحظة مكانية زمنية يقصدها الباث في حلمه
إلى الخلف، نحو الطفولة، ونحو الماضي،والنص يكون سابقاً لذلك
ومتقدما عليه، وهذا التعارض بين الماضي والحاضر بين التراجع
والتقدم هو الذي يولد الفهم لأصل الظاهرة بفعل البعد النفسي
وتقانته الليلية، وهو الذي يولد القراءات التأويلية للظاهرة،
فالمكان الواسع أختزل بتقانة الحلم المتموقعة في المخ إلى وجود
مؤلم على الرغم من أتساع المكان الحقيقي .
الخاتمة
:
بعد
القراءة الفاحصة للظاهرة المكانية الضيقة عند (أديب كمال
الدين) في ضوء التأويل الظاهراتي، توصل البحث إلى النتائج
الآتية:
1 ـ ترتبط قراءة
المكان في ضوء انطولوجيا الفهم القائم على الوعي والإدراك
القصدي للظاهرة مهما تعدد البعد الفيزيائي له، فالأساس في ذلك
الفهم هو شعور الذات بالمكان وتشكله لديها ومن ثم تظهر القدرة
التأويلية المصاحبة للظاهرة.
2 ـ يرتبط التأويل الظاهراتي بثوابت تعد الأساس لما تم عرضه
فقد ارتبط بالتفسير وأونطولوجيا الفهم والحقيقة غير القارة وكل
ذلك يؤدي إلى ما يعرف بتأسيس ممارسة تأويلية
تهدف إلى محاولة الإمساك بالظاهرة بقدر نسبي غير جازم، وإن
اقترن بالشك والفكر أولاً ومن ثم العمل المنتج الذي
يركز على ما يعود للذات من فعل وقراءة، قراءة الذات بفعل النص
وقراءة النص بفعل الذات.
3 ـ الاعتماد على الظاهرة والوعي بها بفعل الوجود، القائم على
عملية التمثيل أو التصور، وهو الأساس للظاهرة التي يجب
الانطلاق منها سواء كان ذلك استرجاعاً أو تمثيلاً للفعل بوساطة
العناصر النفسية والوجودية التي تتعاضد جميعها لبيان الظاهرة
عند الذات والمتلقي.
4 ـ أصبح القارئ جزءاً رئيساً في عملية القراءة والتأويل،
يحاكي النصوص بوساطة البحث في ثناياها عن الوجود الذي يفتح
مغاليقه في ضمن الحقل المرجعي للذات المبدعة والقارئ على
السواء.
5 ـ تمثل الظاهرة الحسية التي خلقها الشاعر إحساساً ذاتياً
يرتبط في
مكنوناته بشكل قصدي ويفصح عن وعيه بالمكان المرتبط بسايكلوجيته
في لحظة الإبداع، فينبعث حضور الذات بوصفه حضوراً ذاتياً.
6 ـ تمثل
الظاهرة بعداً اجتماعيا ونفسياً وفلسفياً ينطبق على فهم الذات
وقراءتها لذاتها مما يشكل حضورها بفعل التمثل المكاني وانعكاسه
عليها.
7 ـ
لا يمثل المكان الواقع الحقيقي، بل الواقع الذاتي والمعرفي ،
الذي يحيلنا إلى فهمه
بفعل اللغة الهلامية الغامضة القابلة للتأويل وتعدد
المعاني التي تحققت بقراءة الذات للظاهرة وتأويلها وهذا ما
جسده (أديب كمال الدين) في أماكنه الضيقة سواء أكان ذلك حضوراً
أم تجسيدا.
8 ـ بيان الفعل المكاني لظاهرة الموت عند الشاعر بوصفها ظاهرة
وجودية قارة يحاول
استنطاقها بفعل دلالاتها التي تطابق حيز فهمه للمكان
وقراءته، فأرتبط فهمه بالمكان الضيق الذي أصبح فهما قارا بدرجة
كبيرة.
9 ـ الجسد وعاء الروح
أي وجود الكينونة وتمثلها في الوجود، وعندما يحدث الانفصال أو
الاغتراب يحدث انفصال الروح عن الجسد، وأماكنه تبعث السرور
مثلما تبعث الحزن، وذلك الأمر أقترن عند الشاعر بالموت والحزن
والانفصال عن الواقع
في ضوء ما تحمله من فهم لذلك المكان الجسدي وتمثله.
10 ـ يمثل الاتساع المكاني ظاهرة نفسية ووجودية تبعث الألفة
والمحبة والارتياح، لكن ذلك لم يتحقق عند الشاعر، فضاقت
الأماكن على الرغم من اتساعها، فالصحراء الواسعة والمدن
الكبيرة والشوارع العملاقة، لم تمحُ حزن الذات وضيقها بالمكان،
فتتغير ملامحها من السعادة إلى الحزن الدائم، ومن الاتساع إلى
الضيق.
الهوامش
:
1 ـ ينظر: من
نظرية المعرفة إلى الهرمنيوطيقا، د. مجدي عز الدين حسن، دار
نيبور للطباعة والنشر والتوزيع، العراق، ط1، 2014 م : 200 .
2 ـ الخروج من التيه، دراسة في سلطة النص، عبد العزيز حمودة،
سلسلة عالم المعرفة للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2003 م:
67 .
3 ـ من نظرية المعرفة إلى الهرمنيوطيقا :209
4 ـ ينظر: المصدر نفسه : 209
5 ـ ينظر : أسس الفكر الفلسفي المعاصر، عبد السلام بنعبد
العالي، دار توبقال للطباعة والنشر، الدار البيضاء ـ المغرب،
ط2، 2000م : 49 .
6 ـ المصدر نفسه
: 51 .
7ـ ينظر:
من نظرية المعرفة إلى الهرمنيوطيقا : 175
8ـ الذات وظاهرية الفن ( رؤية انطولوجية )، الأستاذ الدكتور :
عقيل مهدي يوسف، دار الضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد ـ
العراق، ط1، 2017م : 218 .
9 ـ
صراع التأويلات دراسات هيرمينوطيقية، بول ريكو، ترجمة : د.
منذر عياشي، مراجعة : د. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد
المتحدة،
بنغازي ـ ليبيا،
ط1، 2005م: 34
.
10 ـ للاستزادة حول تطور هذه المفاهيم ـ
الحقيقة، التفسير، أونطولوجيا الفهم ـ وأثرها في بناء
التأويل الظاهراتي، ينظر : المصدر السابق : 33 ـ 42 .
11 ـ الخطاب الاشتباهي في التراث اللساني العربي، تأليف :
البشير التهالي، دار الكتاب الجديد المتحدة،
بنغازي ـ ليبيا، ط1، 2013 م : 164 .
12 ـ
صراع التأويلات دراسات هيرمينوطيقية : 40
13 ـ
الأصول الفلسفية لنظرية المعنى في النقد الأدبي الحديث
(البنيوية وما بعدها)، عبد الأمير عباس بطي، (أطروحة دكتوراه)،
كلية الآداب، جامعة الكوفة، 1430هـ/2009م: 87 .
14 ـ هايدغر وسؤال الحداثة، محمد الشيكر، أفريقيا الشرق، الدار
البيضاء ـ المغرب، ط1، 2006م : 123 .
15 ـ
ينظر : صراع التأويلات دراسات هيرمينوطيقية :260.
16 ـ ينظر : المصدر نفسه : 264 .
17 ـ جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية، د.
عبد الحميد المحادين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت ـ
لبنان ، ط1،2001م :
20
18 ـ نظرية المكان في فلسفة ابن سينا، حسن مجيد العبيدي، دار
الشؤون الثقافية العامة، بغداد ـ العراق، ط1، 1987م : 27
.
19 ـ ينظر : علم الاجتماع والفلسفة ، قباري محمد إسماعيل، دار
الطلبة العرب، بيروت ـ
لبنان، ط2، 1968م : 2/54ـ 55 .
20ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الأول،
منشورات الضفاف، لبنان، ط1، 1436هـ ـ 2015 م : 214 .
21 ـ الهيمنة الذكورية، بيير بورديو، ترجمة : سلمان قعغراني،
مراجعة : د. ماهر تريمش، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1،
2009م: 152.
22ـ
الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الأول : 215
.
23 ـ ينظر : دراسات تطبيقية في النقدي والأدبي محورها الرؤية
والرؤيا، د. ساسين عساف، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1991م
: 87 .
24 ـ ينظر :
الاستعارات التي نحيا بها، جورج لايكوف و مارك جونسن، ترجمة :
عبد الحميد جحفة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء ـ المغرب،
ط1، 1996م : 58 .
25 ـ ينظر : إنتاج المكان بين الرؤيا والبنية والدلالة، د .
محمد الأسدي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد
ـ العراق، ط1، 2013م : 116 .
26 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد
الثاني، منشورات الضفاف، لبنان، ط1، 1437هـ
ـ 2016 م :
42 ـ 43 .
27 ـ ينظر : العزلة والمجتمع، نيقولاي برديائف، ترجمة : فؤاد
كامل، مراجعة : علي ادهم ، دار الشؤون الثقافية، بغداد
ـ العراق، ط2، 1986م : 39 .
28 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني
: 140 .
29 ـ ينظر : منزلات الرؤيا، الشاعر العربي المعاصر وعالمه،
إبراهيم أحمد ملحم، دار عالم الكتب الحديث، عمان ـ
الأردن،2010م: 116 .
30 ـ ينظر :
نقد الشعر في المنظور النفسي، د. ريكان إبراهيم، دار الشؤون
الثقافية العامة،
بغداد ـ العراق،
ط1، 1989م : 90
31 ـ
الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الثالث،
منشورات الضفاف، لبنان، ط1، 1439هـ
ـ 2018 م :
232 ـ 233 .
32 ـ ينظر : فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقا، نظرية التأويل
من أفلاطون إلى جادامر، د. عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع،
القاهرة، ط1، 2007م : 457 .
33 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الأول
: 275 .
34 ـ ينظر : تأويل الثقافات مقالات مختارة، كليفورد غيرتز،
ترجمة : د. محمد بدوي ، مراجعة الأب بولس وهبة، مركز دراسات
الوحدة، بيروت ـ لبنان ، ط1، 2009م : 126.
35 ـ ينظر: من فلسفات التأويل إلى نظرية القراءة، دراسة
تحليلية نقدية في النظريات الغربية الحديثة، عبد الكريم شرفي،
منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة ـ الجزائر، ط1، 2007م : 35
.
36 ـ ينظر : مقاربة الآخر، مقارنات أدبية، د. سعيد البازعي،
دار الشروق، القاهرة ـ مصر، ط1، 1999م: 12.
37 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الثالث
: 15 .
38 ـ علم الإعلام اللغوي، عبد العزيز شرف، الشركة
المصرية العالمية للنشر لوجمان، القاهرة، ط1، 2000م :
13 .
39 ـ ينظر : سيكولوجية إدراك اللون والشكل، قاسم حسين صالح،
دار الرشيد للنشر، بغداد ـ العراق، ط1، 1982م: 111.
40 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الثالث
: 16 .
41 ـ ينظر : إشكاليات القراءة وآليات التأويل، نصر حامد أبو
زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ المغرب ، ط9 : 21
42 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني
: 50 .
43 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الثالث
: 142 .
44 ـ ينظر: في معرفة النص، دراسات في النقد الأدبي، د. حكمت
صبّاغ الخطيب، يمنى العيد، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت،
ط3، 1985م : 81 .
45 ـ ينظر : مدخل إلى الفلسفة الظاهراتية، د. أنطوان خوري، دار
التنوير للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، 1984م : 40 .
46 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني
: 50 .
47 ـ ينظر : فكرة الفينومينولوجيا، خمسة دروس، إدموند هوسرل،
ترجمة : فتحي إنقرو، المنظمة العربية للترجمة، بيروت ـ لبنان،
ط1، 2007م : 11.
48 ـ المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، تأليف : جان
غراندان، ترجمة وتقديم : د. عمر مهيبل، منشورات الاختلاف،
الجزائر العاصمة ـ الجزائر، 1428 ـ 2007م : 13.
49 ـ ينظر : الكينونة والزمان، مارتن هيدغر، ترجمة: د . فتحي
المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت ـ لبنان، ط1،
2012م : 218 .
50 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني
: 109 . والاستزادة حول هذه التمثلات ينظر : الأعمال الشعرية
الكاملة،المجلد الأول :161، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد
الثاني :107، 211، 220، 232، 261، 268، 330، 347، و الأعمال
الشعرية الكاملة،المجلد الثالث : 69، 87، 91، 140، 142، و
الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الرابع : 73، 101، 220 .
51 ـ ـ ينظر :
ظاهريات الروح، هيجل، ترجمها وقدم لها بدراسة مفصلة وعلق عليها
د. إمام عبد الفتاح إمام، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع،
بيروت – لبنان، ط3، 2009م : 180.
52 ـ المصدر نفسه : 181 .
53 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين، المجلد الثالث
:142 .
54 ـ القراءات المتصارعة التنوّع والمصداقية في التأويل، بول ب
. آرمسترونغ، ترجمة وتقديم : فلاح رحيم، دار الكتب الجديدة،
بنغازي ـ ليبيا، ط1، 2009م : 24 .
55 ـ الكهف : 18 .
56 ـ ضد التأويل ومقالات أخرى، سوزان سونتاغ، ترجمة : نهلة
بيضون، مراجعة : د. سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة،
بيروت ـ لبنان، 2008 م : 371 .
57 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني
: 232.
58ـ ينظر : جماليات المكان، تأليف : جاستون باشلار، ترجمة :
غالب هلسا، دار الجاحظ للنشر، دار الحرية للطباعة، وزارة
الثقافة والإعلام، بغداد، 1980م
: 207.
59ـ المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا : 10.
60ـ ينظر : الصوت والظاهرة، مدخل إلى مسألة العلامة في
فينومنيولوجيا هوسرل، جاك دريدا، ترجمة : د. فتحي إنقزّو،
المركز الثقافي العربي، المغرب ـ الدار البيضاء، ط1، 2005م :
67 .
61ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني :
232 ـ 233 . والاستزادة حول هذه التمثلات ينظر : الأعمال
الشعرية الكاملة،المجلد الأول :18، 201، 237، 273، و الأعمال
الشعرية الكاملة،المجلد الثاني : 33، 51، 142، 172، 173، 255،
319، 364 ، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الثالث :
118، 138،
و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الرابع : 187، 228.
62 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الأول
:270 ـ 271 .
63 ـ ينظر : القراءات المتصارعة التنوّع والمصداقية في التأويل
: 39 ـ 40 .
64 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني
: 106 .
65 ـ المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا : 21 .
66 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الرابع
:84 . والاستزادة حول هذه التمثلات ينظر : الأعمال الشعرية
الكاملة،المجلد الأول : 20، 21، 52، 301، و الأعمال الشعرية
الكاملة،المجلد الثاني : 51، 104، 191، 206، و الأعمال الشعرية
الكاملة،المجلد الثالث : 55، 271،
و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الرابع :
45، 230، 317 .
67 ـ الصافات : 24.
68ـ ينظر : المكان في النص المسرحي، منصور الديلمي، دار الكندي
للنشر والتوزيع، الأردن ـ عمان، ط1، 1999م : 20 .
69 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الرابع
: 21 .
70 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني
: 244 .
71 ـ الصورة الفنية في الشعر الجاهلي، في ضوء النقد الحديث، د.
نصرت عبد الرحمن، مكتبة الأقصى، الأردن ـ عمان، ط1، 1976 م :
167 .
72 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،
المجلد الثاني : 92 .
73 ـ المصدر نفسه : 331 .
74 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الأول :
266.
75 ـ ينظر : التجربة الإبداعية، دراسة في سيكولوجية الاتصال
والإبداع، إسماعيل الملحم، منشورات اتحاد الكتاب العرب، سوريا
ـ دمشق، 2003م : 29
76 ـ الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال الدين،المجلد الثاني
:342 . والاستزادة حول هذه التمثلات ينظر : الأعمال الشعرية
الكاملة،المجلد الأول : 173، 185، 222، 225، 266، 276، 272 300
. و الأعمال
الشعرية الكاملة،المجلد الثاني : 67، 92، 142، 146، 147، 275،
292، 235، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد الثالث :
50، 69، 91، 118، و الأعمال الشعرية الكاملة،المجلد
الرابع : 21،
48، 221، 265 .
77 ـ صراع التأويلات دراسات هيرمينوطيقية : 223 .
78 ـ المصدر نفسه : 224 .
الحروفيّة العرفانيّة في شعر أديب كمال الدين
أ.د. سعاد بسناسي
ناقدة وأكاديمية وعضو المجلس الأعلى للّغة العربيّة في الجزائر
تعدُّ علاقة الشّعر العربيّ الحديث بالتّصوّف علاقةً قويّةً
بوصفهما يعبّران عن التّجارب الرّوحيّة والمشاعر الصّادقة التي
يعيشها كلّ من الشّعراء والمتصوّفة في سعيهم للوصول إلى
الحقيقة الإلهيّة والتّوحّد مع الله. من هذا المنظور يعتبر
التّصوّف طريقاً روحيّاً يسعى فيه الصّوفيّون إلى التّحرّر من
المادّيات والانغماس في الحبّ الإلهيّ والتّجارب الرّوحيّة
العميقة.
من خلال ما يتضمّنه التّفكير العميق في الطّبيعة الإلهيّة
والتّأمّل في الكون والنّفس؛ لذلك يميل الشّعراء الصّوفيّون
إلى استخدام الرّموز والإشارات للتّعبير عن معانيهم الرّوحيّة،
مثل استخدام الخمر كرمز للحبّ الإلهيّ.
وغالباً ما يكون الشّعر الصّوفيّ غامضاً ويتطلّب من القارئ
التّفكير العميق لفهم معانيه الخفيّة، كما تتميّز اللّغة
المستخدمة في الشّعر الصّوفيّ بالعاطفية والقوّة التّعبيريّة
لنقل الأحاسيس الرّوحيّة.
سعيًا إلى أن تكون قصائد الشّاعر معبّرة عن الشّوق إلى
الاتّحاد مع الله والشّعور بالفناء في الحبّ الإلهيّ.
غالبًا ما يستخدم الشّعر الصّوفيّ الحروف بشكل رمزيّ للدّلالة
على معانٍ عميقة وغاية في الرّوحيّة؛ إذ يعتبر استخدام الحروف
جزءاً من التّرميز الصّوفيّ الذي يعتمد على الغموض والتّأمّل
لتحقيق تجربة روحيّة وجماليّة، كأن يستخدم الحرف "ألف" الذي
يرمز إلى الوحدة والبدء، ويعتبر رمزاً لله في بعض الأحيان،
لأنّه يشير إلى البداية التي لا بداية لها، في حين يرمز الحرف
"باء"
إلى البقاء والوجود المستمرّ، وهكذا مع بقيّة الحروف كما
سيتّضح في حينه مع الشّاعر أديب كمال الدّين الذي يستغلّ
الرّمزيّة والغموض لفتح أبواب التّأمّل الرّوحيّ، ممّا يسمح
للقارئ أو المستمع بالوصول إلى مستويات أعمق من الفهم
والتّجربة الرّوحيّة.
ويعدّ الشّاعر العراقيّ أديب كمال الدّين واحدًا من أبرز
الشّعراء العرب المعاصرين الذين وظّفوا رمز الحروف في شعرهم
الصّوفيّ. يُعرف أديب كمال الدّين بإبداعه في استخدام الحروف
العربيّة كرموز تحمل معاني روحيّة وفلسفيّة عميقة. ومن خلال
استخدامه لهذه الرّموز، يسعى إلى التّعبير عن تجاربه الرّوحيّة
والتّأمّلات الفلسفيّة.
بالإضافة إلى أنّه يستخدم الحروف كرموز تعبّر عن معانٍ
روحانيّة وفلسفيّة. فكلّ حرف لديه قيمة ومعنى يرتبط بتجارب
الشّاعر الرّوحيّة وتأمّلاته.
وفي قصائد أديب كمال الدّين، نجد أنّ الحروف ليست مجرّد وحدات
لغويّة بل هي رموز تعبّر عن التّجربة الصّوفيّة بكلّ تعقيداتها
وأبعادها. يستخدم الشّاعر الحروف لإيصال إحساسه بالفناء في
الحبّ الإلهيّ والسّعي نحو الاتّحاد مع الذّات الإلهيّة، ممّا
يفتح المجال للتّأمّل والتّفسير الشّخصيّ، المفعم بالعمق
الفلسفيّ والرّوحيّ، حيث يعبّر عن تجاربه وتأمّلاته بشكل معقّد
ومليء بالدّلالات على الرّغم من أنّ الشّاعر يكرّر استخدام
الحروف في سياقات مختلفة لتعزيز المعاني الرّوحيّة والفلسفيّة.
لقد أسهم أديب كمال الدّين بشكل كبير في إثراء الشّعر الصّوفيّ
المعاصر من خلال إبداعه في استخدام الحروف كرموز روحيّة، وكان
أسلوبه الفريد يمزج بين الشّعر والرّوحانيّة والفلسفة، ممّا
يجعل من شعره مادّة غنيّة للتّأمّل والبحث عن المعاني العميقة.
بهذا الأسلوب، يساهم أديب كمال الدّين في تجديد الشّعر
الصّوفيّ ويعطيه أبعاداً جديدة من خلال استخدام الحروف كوسيلة
للتّعبير عن التّجربة الرّوحيّة.
من الحرف إلى الإشارة
للحرف عند الشّعراء الذين يميلون إلى التّصوّف دلالات روحيّة
وفلسفيّة عميقة؛ إذ الحروف ليست مجرّد أدوات لغويّة تستخدم
لتشكيل الكلمات والعبارات، بل تعتبر رموزاً تحمل معاني خفيّة
تتجاوز المعاني الظّاهريّة. استخدام الحروف في الكتابات
الصّوفيّة يعكس فلسفة عميقة تتعلّق بالعلاقة بين اللّغة
والوجود، وبين اللّفظ والمعنى، وبين المخلوق والخالق.
والحرف في شعر أديب كمال الدّين يمثّل البداية التي من خلالها
يتمّ الكشف عن الحقائق الإلهيّة، فهو عندما يستخدم الحرف فإنّه
يستخدمه بوصفه أداة للتّأمّل العميق في الكون وفي الذّات؛ لذا
فإنّ كلّ حرف يحمل طاقة ومعنى خاصّين، ومن خلال التّأمّل في
هذه الحروف، يمكن للصّوفيّ أن يكتشف أسراراً روحيّة ويقترب من
الحقيقة الإلهيّة، فضلاً عن أنّ الحرف عنده يعدّ رمزاً لوجود
الله في كلّ شيء. فمثلاً، كلّ كلمة تبدأ بحرف معيّن، وهذا
الحرف يمكن أن يحمل في طيّاته دلالة على وجود الله في هذه
الكلمة وفي معناها، لذلك قال الشّاعر:
لكلِّ مَن لا يفهمُ في الحرفِ أقول:
النّونُ شيءٌ عظيم
والنّونُ
شيءٌ صعبُ المنال.
إنّه
مِن بقايا حبيبتي الإمبراطورة
ومِن
بقايا ذاكرتي التي نسيتُها ذات مرّة
في
حادثٍ نوني عارٍ تماماً عن الحقيقة
ومقلوبٍ،
حقّاً، عن لبّ الحقيقة.
وهكذا
اتّضحَ لكم كلُّ شيء
فلا
تسألوا، بعدها، في بلاهةٍ عظيمةٍ
عن معنى النّون.[1]
ومن ثمّة فإنّ الحروف عند الشّاعر أديب كمال الدّين هي بمثالة
رموز روحيّة تحمل معاني عميقة ودلالات فلسفيّة،
الأمر الذي من شأنه أن يعكس الفهم العميق للّغة كوسيلة
للتّواصل مع الإله والتّأمّل في الوجود. وفي ضوء ذلك تعتبر
الحروف مفاتيح لفهم أسرار الكون والاقتراب من الحقيقة
الإلهيّة، ممّا يجعلها جزءاً أساسيّاً من التّجربة الصّوفيّة.
وعلى ضوء ما تقدّم
ليست الحروف في شعر أديب كمال الدّين مجرّد وحدات لغويّة بل
تحمل دلالات عميقة وإشارات رمزيّة، ترتبط بالتّجارب الرّوحيّة
والفلسفيّة للشّاعر بقدر ما يستخدم الحرف كأداة للتّعبير عن
مشاعره الرّوحيّة، ورؤاه الدّاخليّة بطريقة تعكس عمق تجربتهم
في الكشف
الرّوحيّ حيث تتّسع رؤية الصّوفيّ من خلال تأويله الشّموليّ
للأشياء التي ترتفع في نظره من الاعتقاد الى التّجربة
الرّوحيّة بفنائه عن نفسه وعن الخلق، فيتّحد بالمحبّة
الإلهيّة، وكأنّ هذه المحبّة هي خلاصه الوحيد وطريقه الأمثل
للمعرفة اليقينيّة التي يستمدّها الصّوفيّ من تفسيراته،
وعباراته في التّوحيد من خلال وحدة الشّهود/ الوجود[2]
؛
لأنّ هاتين الوحدتين تقومان على المحبّة الإلهيّة بوصفها أحد
أهمّ المواضيع التي تتناولها الشّعراء الصّوفيّون، وتوظيف
الحروف في شعر أديب كمال الدّين يعدّ وسيلة فعّالة للتّعبير عن
هذه المحبّة بطرق عميقة ورمزيّة؛ إذ الحروف في شعره ليست مجرّد
عناصر لغويّة، بل رموز تحمل معاني روحيّة، وهي تعكس العلاقة
الحميمة بين العبد والله.
وفي هذا ما يشير إلى أنّ العلاقة بين الحرف ومدلوله الإشاريّ،
والممارسة الذّوقيّة عند الشّاعر، هي بمثابة طابع حدسيّ، هذا
الطّابع الذي يعدّ
الحامل الذي لا محمول له سوى القيمة... وهذا يعني أنّه علو لا
يعلى عليه إلاّ بإيجابه الخاصّ؛ أي إلاّ بتجاوزه لذاته باتّجاه
ذروة كماله، أو صوب روحانيته البحتة، التي هي علوّ فوق
المادّة، وثقلها، وجلافتها، وعجمتها، وافتقارها إلى أيّ تسويغ
ممكن"[3].
وفي ضوء ذلك، يعتبر الحرف في شعر أديب كمال الدّين وسيلة
للتّعبير عن الشّوق والحبّ لله. من خلال تكرار حروف معيّنة، أو
استخدام حروف خاصّة في تراكيب معيّنة، يعبّر الشّاعر عن رغبته
في الاتّحاد مع الله،
كونه يعبّر عن طوية أسرار الغيوب، ومفاتح اختلاف أنواعها؛ كما
في قوله:
أوقَفَني في موقفِ الألِف
وقال: الألِفُ حبيبي.
إنْ تقدّمتَ حرفاً،
وأنتَ حرفٌ،
تقدّمتُ منكَ أبجديةً
وقدتُكَ إلى أبجديةٍ من نور.
وقال: سَيُسمّونكَ "الحُروفيّ".[4]
هناك تأمّل في النّص، وإعمال في النّظر، أراد الشّاعر أن يساعد
المتلقي على التّعمق في معاني الحبّ الإلهيّ؛ إذ كلّ حرف في
هذا المقطع الشّعريّ يمكن أن يكون باباً لمدلول روحيّ عميق،
يساعد في الوصول إلى مستويات أعمق من الفهم الرّوحيّ، والمحبّة
الإلهيّة، ومن ثمّ، فإنّ توظيف الحروف في شعر أديب كمال الدّين
يعزّز من قدرة الشّاعر على صنع
رؤاه الكشفيّة على وفق دلالات الحرف في مضامينه الصّوفيّة،
التي تشير إلى التّعبير عن المحبّة الإلهيّة بطرق رمزيّة
وروحيّة؛ لأنّ الحروف ليست مجرّد رموز لغويّة، بل تحمل معاني
عميقة تتعلّق بالحبّ الإلهيّ والشّوق والاتّحاد مع الله. من
خلال التّأمّل في هذه الحروف، يمكن للشّاعر والمتلقّي الوصول
إلى مستويات أعمق من الفهم والتّجربة الرّوحيّة، كما في قوله:
سأكون قريباً من إيقاعكَ يا فجراً
يُحْملُ فوقَ الرّمح
سأكونُ الرّاء، أنا الرّاء
منذ طفولة أمطار المعنى في قلبي.
وأكونُ
الألِف،
أنا
الألِف
منذ
شروق
الشّمس
إلى
غيبوبتها
المرّة
وسط
الأمطار.
سأكونُ
السّين،
أنا
السّين
منذ
مجيء
الهدهد
من
سبأ
النّاس[5].
تعكس تجربة أديب كمال الدّين الرّوحيّة والفكريّة حالة
التّقرّب من الله من خلال عدّة جوانب
لعلّ أهمّ هذه العوامل: السّعي إلى إقامة علاقة شخصيّة
وعاطفيّة مع الله، نظرًا إلى أنّ التّصوّف وسيلة للتّواصل
الرّوحيّ. من خلال ما يتضمّنه التّأمّل والتّفكّر في الذّات
والكون، ممّا يساعده على الوصول إلى فهم أعمق للوجود الإلهيّ،
وحتّى يصل إلى هذه الحالة، تستخدم في قصائده الصّوفيّة رموزًا
مثل النّور والضّوء، التي تمثّل الإله والحقيقة الرّوحيّة. هذه
الرّموز تساعد في التّعبير عن التّجارب الرّوحيّة وتعزّز من
قدرة الشّاعر على التّواصل مع الله.
كما تتميّز أشعاره بالتّعبير عن الأحوال والمقامات الرّوحيّة،
حيث يصف الشّاعر مشاعره وتجربته الشّخصيّة في السّعي نحو الله.
هذه التّجارب تشمل الشّوق والذّوق الرّوحيّ، ممّا يعكس عمق
العلاقة بين الشّاعر وربّه، من خلال ربط العلاقة بين الجمال
الحسّيّ والجمال الرّوحيّ، حيث يعتبر الشّاعر أنّ التّقدير
للجمال في العالم المادّيّ يمكن أن يقود إلى تقدير الجمال
الإلهيّ. هذا الرّبط يساعده على فهم العلاقة بين الرّوح
والمادّة، ممّا يعزّز من تجربته الصّوفيّة.
وعلى الرّغم من ذلك فإنّ هذه التّجربة تكتنه عالم الكشف
الرّوحيّ الذي يتجاوز التّفسير التّقليديّ، حيث يتميّز
بالجسارة في تناول مواضيع الألوهيّة والرّوحانيّة. من خلال هذا
التّعبير الفنّيّ، تمكّن أديب كمال الدّين من تحطيم الحواجز
الجماليّة والسّياسيّة والاجتماعيّة، ممّا يساهم في تعزيز
تجربتهم الرّوحيّة، ولا شكّ في أنّ السّموّ إلى الكينونة لا
تستوعبه إلاّ لغة تسعى
إلى احتواء المطلقات الجماليّة، والرّوحيّة، والفكريّة
والوجدانيّة، فلم يكن من الشّاعر إلاّ اللّجوء إلى مقام حرف
"الألِف" الذي يشار إليه في لغة الصّوفيّة ـ "بالذّات
الأحاديّة"؛ لأنّ استقامة الألِف
ـ عندهم ـ
علامة قيّوميّة، أمّا الحركة الأفقيّة المائلة فعلامة تكوين؛
إذ يعلّل ابن عربيّ جعل العرب الألف مبتدأ الحروف، ويجيب عن
السّؤال الأربعين في الفتوحات المكيّة وهو: «كيف صار الألِف
مبتدأ الحروف؟ الجواب لأنّ له الحركة المستقيمة وعن القيوميّة
يقوم كلّ شيء، فإن قلتَ إنّما يقع التّكوين بالحركة الأفقيّة،
فإنّه لا يقع إلاّ بمرض والمرض ميْل.[6]
وفي ضوء ما تقدّم تعتبر لغة الإشارة في شعر أديب كمال الدّين
هي لغة رمزيّة وإيحائيّة تستخدم الإشارات والرّموز للتّعبير عن
المعاني الرّوحيّة والصّوفيّة العميقة. هذه اللّغة تتميّز
بالخصائص التّالية:
أولا: رمزيّة اللّغة
تستخدم لغة الشّعر الصّوفيّ لدى أديب كمال الدّين رموزًا
وإشارات لها دلالات روحيّة وصوفيّة، مثل الحبّ الإلهيّ، الجمال
الأزليّ، الوصال، الفناء في الله. هذه الرّموز تتجاوز المعنى
الحرفيّ إلى دلالات رمزيّة أعمق.
ثانيا: الإيحاء والتّلميح
تعتمد لغة الإشارة في شعر أديب كمال الدّين على الإيحاء
والتّلميح بدلاً من التّصريح المباشر. فالشّاعر يلمح إلى
المعاني ويوحي بها من خلال الرّموز والإشارات، ممّا يضفي على
النّص طابعًا إيحائيًا وغامضًا.
ثالثا: الخصوصيّة والغموض
تتميّز لغة الإشارة الصّوفيّة في شعر أديب كمال الدّين
بالخصوصيّة والغموض، فهي لغة مقتصرة على طائفة المتصوّفة الذين
لهم إلمام بعالم التّصوّف وتجربته الرّوحيّة. لذا فهي لغة
معتمة وكتومة على من لا يفقه أسرارها.
رابعا: الانفتاح على التّأويل
تتيح لغة الإشارة في شعر أديب كمال الدّين مساحة واسعة
للتّأويل والتّفسير، فالرّموز والإشارات قابلة لتعدّد
التّأويلات والدّلالات بحسب تجربة القارئ ورؤيته الصّوفيّة.
وهذا ما يجعل النّص الصّوفيّ عنده منفتحًا على قراءات متعدّدة،
وبالمجمل، فإنّ لغة الإشارة في شعر أديب كمال الدّين تعدّ لغة
رمزيّة إيحائيّة، تستخدم الحروف في شكل رموز وإشارات للتّعبير
عن المعاني الصّوفيّة العميقة. وهي لغة خاصّة بعالم التّصوّف
تتميّز بالغموض والانفتاح على التّأويل؛ للبحث عن الوجود
المطلق"الذي
يشمل "الحقّ" كما يشمل مجال تجلّي الحقّ في جميع
مخلوقاته (أي العالم) مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحروف التي هي
جامعة لكلّ ذلك، ومعبّرة عنه، ودالّة عليه، ومن ثمّ فإنّ
الشّاعر – أديب كمال الدّين -
كما المتصوّفة، يجدون في "الحرف" وسيلة لبيان مقام
(المكلِّف) أي الحقّ تعالى في مقابل (المكلَّفين). كما تجسّد
الحروف لديهم إمكانيّة للتّعبير عن رؤية جديدة للخالق والخلق
والعلاقات الكونيّة، تتحرّر فيها دلالة كلّ حرف من حدود المنطق
اللّفظيّ؛ لتمثّل جزءا حيويًّا في المشهد الكونيّ، إضافة
لكونها جزءا من المشهد الإبداعيّ:[7]
استنطاق الحرف في السّر
يعبّر الشّاعر أديب كمال الدّين عن استنطاق الحرف في السّر من
خلال استخدام لغة إيحائيّة رمزيّة؛ إذ يستخدم أديب كمال الدّين
لغة إيحائيّة رمزيّة في شعره، حيث يوظّف الحرف والكلمة كرموز
للتّعبير عن المعاني الباطنيّة والتّجارب الرّوحيّة، والمدركات
الباطنيّة، فالحروف عنده تتحوّل إلى بصمة شعريّة تعبّر عن
حيوات كاملة وذوات فريدة، ووقفات روحيّة.
أوقَفَني في موقفِ الحرف
وقال: الحرفُ حرفيّ والنّقطةُ نقطتي.
فكيفَ لكَ أنْ تفهمَ سرَّ خُلودي
وأنتَ الذي يحملُ الموت
في نبضةِ القلب؟
وكيفَ لكَ أنْ تتجلّى في ملكوتي
وأنتَ الذي يبكي على جرعةِ ماءٍ
ورغيفِ خبز؟
وقال: الحرفُ حرفي
ستجدهُ في كهيعص
وألم وطه ويس وق ون.
فكيفَ لكَ أنْ تتقبّلَ سرَّ السرّ
وأنتَ الذي تتقاذفُه المنون
ليضيع في البحارِ والبلدان
وفي سناّرةِ السّنين؟
هل حمّلتُكَ ما لا تطيق
وأنا الرّحيم يا عبدي؟
النّونُ كانتْ نقطتي
فلا تكنْ كصاحبِ النّون[8]
ومن هذا المنظور يرتبط استنطاق الحرف في شعر أديب كمال الدّين
بتجربته الصّوفيّة العميقة، حيث أخلص للحرف حتّى أصبح بصمته
الشّعريّة، فالشّاعر
يسعى من خلال الحرف إلى التّعبير عن عوالمه الدّاخليّة
والتّواصل مع الذّات الإلهيّة، موظّفا في ذلك الابتكار
اللّغويّ والتّجديد الشّكليّ حيث بدأ بكتابة قصيدة التّفعيلة
ثمّ تحوّل إلى قصيدة النّثر. هذا
التّجديد يعكس سعيه إلى استنطاق الحرف واستكشاف آفاق جديدة
للتّعبير الشّعريّ.
يحمل النّص دلالات عميقة تتعلّق بالوجود والمعنى، ويعكس تجربة
الشّاعر في استنطاق الحرف والنّقطة كرموز تحمل معاني روحيّة
وفلسفيّة.
والحرف هنا يمثّل العنصر الأساسيّ في اللّغة والتّعبير، وهو
يحمل دلالات متعدّدة في الفكر الصّوفيّ. الشّاعر يشير إلى أنّ
الحرف ليس مجرّد وسيلة للتّواصل، بل هو كائن حي يحمل سرًا
ومعنى عميقًا. الحرف يصبح وسيلة لاستكشاف الذّات والوجود، ممّا
يعكس فكرة أنّ كلّ حرف يحمل في طيّاته تجربة روحيّة.
أمّا توظيف النّقطة في هذا السّياق فإنّها تعتبر مركزًا
للوجود، حيث تُعتبر نقطة البداية والنّهاية. في التّصوّف،
تُفهم النّقطة على أنّها تجسيد للوجود المطلق، وهي تعبّر عن
وحدة الوجود. الشّاعر يربط بين الحرف والنّقطة ليظهر كيف أنّ
كليهما يشكّلان جزءًا من تجربة روحيّة متكاملة.
وفي كلّ الدّلالات المعبّر عن سرّ استنطاق الحرف، كما في صورة
"أوقَفَني في موقفِ الحرف" تعكس تجربة الشّاعر في التّوقّف
والتّأمّل. هذا الموقف يشير إلى حالة من الوعي الذّاتيّ، حيث
يتفاعل الشّاعر مع الحرف والنّقطة في حوار داخليّ. هذا الحوار
يعكس الصّراع النّفسيّ والبحث عن الهويّة والمعنى في عالم مليء
بالتّعقيدات.
والشّاعر إذ يستخدم الحرف والنّقطة كرموز للوجود والمعنى، فإن
ذلك يعكس فلسفة الصّوفيّة التي ترى أنّ كلّ شيء في الكون مرتبط
ببعضه البعض. الحرف هو التّعبير عن الفكرة، بينما النّقطة
تمثّل الجوهر الذي يتجاوز الكلمات.
تتجلّى التّجربة الصّوفيّة في هذا المقطع من خلال البحث عن
الحقيقة والوجود، حيث يسعى الشّاعر إلى فهم العلاقة بين الحرف
والنّقطة، ممّا يعكس سعيه إلى الاتّحاد مع المطلق.
وفي ضوء ذلك فإنّ المقطع الشّعريّ يعكس عمق التّجربة الصّوفيّة
لأديب كمال الدّين، حيث يستنطق الحرف والنّقطة ليعبّر عن رحلة
البحث عن المعنى والوجود. الحرف يصبح رمزًا للهويّة والتّعبير،
بينما النّقطة تمثّل مركز الوجود، ممّا يجعل هذا المقطع غنيًا
بالدّلالات الرّوحيّة والفلسفيّة.
والشّاعر حين يستوقفه الحرف يتساءل معه [فكيفَ لكَ أنْ تفهمَ
سرَّ خُلودي] وكأنّ الشّاعر في هذا المقطع يريد أن يمتثل نهج
ما قاله
R.D.Laing
في كتابه سياسة الخبرة،
The Politics of Experience:
"لقد ولجنا في عالم ينتظرنا فيه الاغتراب"[9]
وهو ما يشير ضمنيّا إلى أنّ أديب كمال الدّين لم يختر الكتابة
عن المنفى بصريمة الإرادة، بقدر ما كانت حاجةً فرضتها حالة
التّشيّؤ، ولزوما موجبا اقتضته ضرورة تمزّق الواقع، فضلا عن
سلب الإرادة، وضياع البوصلة في الاتّجاه الآمن، على نحو ما
نستشفّه في مضامين شعره المصبوغ بدلالات التّشريد، والتّهجير،
وكلّ ما يمتّ بصلة إلى صفات السّلب والنّفي، وكأنّه في هذه
الحالة منقاد إلى
النّبذ،
والإبعاد؛ وكأنّه بذلك يجسّد صورة "شاعر النّفي" بعد أن ذاق
مرارة "اللاّمأوى" الذي أصبح مصير العالم ـ حسب تعبير هيدجرـ
Heidegger
حين أصبح الإنسان بلا جذور"والمتجوّل هو التّجسيد الخالص
للغريب الذي لم يفقد مأواه فحسب، بل فقد أيضا وضعه في الزّمان
على السّواء"[10].
للحروف في شعر أديب كمال الدّين دور محوريّ في التّعبير عن
الإحساس والتّجربة الرّوحيّة، فهو يستخدم الحروف بطرق مختلفة
للتّعبير عن مشاعره وأفكاره الباطنيّة، بالإضافة إلى أنّه
يكرّر بعض الحروف بشكل لافت، كحرف الألف، والنّون، الرّاء أو
السّين أو الهاء، لخلق إيقاع خاصّ يعكس حالة التّأمّل
والتّركيز الرّوحيّ؛ لأنّ التّكرار يساعد في إيصال الإحساس
بالعمق والسّكينة التي تنتاب الشّاعر في لحظات التّجلّي
الرّوحيّ.
تساعد هذه الرّموز الحرفيّة في التّعبير عن المعاني الغامضة
والتّجارب الرّوحيّة العميقة من خلال التّجانس الصّوتيّ بين
الحروف في بداية الكلمات أو نهايتها لخلق موسيقى داخليّة في
القصيدة، هذا التّجانس الصّوتيّ يعزّز من الجماليّة الموسيقيّة
للنّص ويساعد في نقل الإحساس بالسّكينة والانسجام الرّوحيّ، مع
سنن التّخمين والتّقدير، "وإذا كان الإنسان العادي يستبطن
قواعد السّنن وقوانينها بالحدس والمشاركة الاجتماعيّة
العفويّة، فإنّ مهمّة السّيميائيات – لدى الشّاعر الصّوفيّ -
هي نقل هذه المعرفة اللاّشعوريّة من الخفاء إلى التّجليّ،
والكشف عن (الثّقافة) حيث لا تبدو سوى (الطّبيعة)"[11]،
من هنا يمكن القول إنّ استخدام الحروف هو مدعاة للتّأمّل
والتّفكّر في شعر أديب كمال الدّين، حيث يمكن للقارئ أن يستنتج
معاني جديدة من خلال التّأمّل في الحروف وتركيباتها.
هذا التّأمّل في الحروف يعمّق من تجربة القراءة ويساعد في نقل
الإحساس بالعمق الرّوحيّ للنّص.
بهذه الطّرق المتنوّعة، تلعب الحروف دورًا محوريًا في التّعبير
عن الإحساس والتّجربة الصّوفيّة في الشّعر بوجه عامّ. فالشّاعر
أديب كمال الدّين يستخدمها كأدوات للتّعبير عمّا لا يمكن
التّعبير عنه بالكلمات العاديّة، ممّا يجعل نصوصه غنيّة
بالمعاني الرّوحيّة والإحساس العميق.
في إشارة إلى أنّ الحروف تحمل معاني عميقة وتعبيرات رمزيّة
تعكس الفلسفة الرّوحيّة في حياة الشّعراء الصّوفيّين، مثل جلال
الدّين الرّوميّ وابن عربيّ، وغيرهما ممّن استخدموا الحروف
كوسائل للتّعبير عن التّجارب الرّوحيّة والمعاني الغامضة، وعلى
الرّغم من ذلك تحمل دلالات روحيّة عميقة. على سبيل المثال،
يُعتبر حرف "م" رمزًا للوجود، بينما يُستخدم حرف "ق" للإشارة
إلى القرب من الله.
وغنيٌّ عن البيان أنّ استنطاق الحرف في دلالة الحرف في شعر
أديب كمال الدّين تعكس عمق التّجربة الرّوحيّة وتفتح آفاقًا
جديدة لفهم المعاني الرّوحيّة؛ بطريقة غنّية ومؤثّرة، ممّا
يجعل أديب كمال الدّين يمرّ بتجربة فريدة من نوعها في أثناء
توظيفه الحرف في شعره، على حدّ ما جاء في قوله:
لكلّ مَن لا يفهم في الحرفِ أقول:
النّونُ شيءٌ عظيم
والنّونُ شيءٌ صعبُ المنال.
إنّه مِن بقايا حبيبتي الإمبراطورة
ومِن بقايا ذاكرتي التي نسيتُها ذاتَ مَرّة
في حادثٍ نونيّ عارٍ تمامًا عن الحقيقة
ومقلوبٍ، حقّاً، عن لُبّ الحقيقة.
وهكذا اتّضحَ لكم كلّ شيء
فلا تسألوا، بعدها، في بلاهةٍ عظيمة
عن معنى النّون![12]
ولعلّ تركيزه على حرف النّون ما يشير إلى النّور أو النّفس،
ويمكن أن تشير أيضًا إلى الحروف المقطّعة في القرآن الكريم مثل
"نون" في سورة القلم؛ لذا فإنّ حرف النّون في مجاهدة أديب كمال
الدّين
الحرف بمقاماته الوجدانيّة، تسمو عن درء الواقع، واعوجاجه،
انطلاقًا من القاعدة الشّرعيّة التي تنصّ على "درء
المفسدة مقدّم على جلب المصلحة"، رغبةً في الوصول إلى سلطان
الحقيقة، ولعلّ في توظيف "النّون" ما يشير إلى قسط وافر
من هذا التّصوّر؛ لأنّ هذا الحرف في نسق مكاشفة المتصوّفة
يعدُّ حرفًا نورانيًا، وسرّ ديمومة التّواصل نحو الشّفق
الأعلى، وإذا أضيف إلى ذلك استمداد قوّة المعنى من قوله تعالى:
﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾[13]
تبيّن أنّ الشّاعر يستند في هذا التّوظيف ـ إلى معنى القسم
بالتّعظيم في حقّه، كون القسم في الآية ـ مع اختلاف أهل
التّأويل ـ يأتي
في مقام تعزيز الذّمة، وتبرئة العهد، وتوثيق اليمين بالعلم
والمعرفة، وكأنّ الشّاعر ضمن هذا السّياق ينأى بذات الواقع
المكلوم، ويلجأ إلى ذات الصّدور، والقرب بمجاورة معالم اكتشاف
ذات الضّمير؛ لتحقيق التّواصل مع الحقيقة المنشودة، وتحقيق
الانسجام مع المطلوب، كما في مطلوب النّون: ((يا نوني))
بوصفه من
"الحرف النوّاح"[14]
الذي استأثرت به قصائد المتصوّفة، بالنّظر إلى قيمته
الدّلاليّة في معنى الأسى، وقيمته الإيقاعيّة من حيث كونه
صوتًا مجهورًا متوسطًا بين الشدّة والرّخاوة، وإذا أضفنا إلى
هاتين القيمتين قيمة سمة أيقونة رسمه، تبيّن لنا أنّه "مكوَّن
من النّصف السّفليّ لدائرة تتوسَّطه نقطة هي مركز هذه
الدّائرة، وأنّ نصف الدّائرة السّفليّ هو أيضًا على هيئة
الفُلْك السّابحة فوق المياه، والنّقطة الموجودة في باطنها
تمثِّل بذرة الحياة المحتواة في الفُلْك، أو المغلَّفة به؛
وموقع هذه النّقطة المركزيّ يبيِّن، إلى جانب ذلك، أنّها في
الواقع "رُشَيْم الخلود" أو "النّواة" الثّابتة التي لا تطالها
كافّة التّحلُّلات الخارجيّة، أضف إلى ذلك أنّه يتألَّف من نصف
دائرة ونقطة؛ لكن التّحدُّب هنا متَّجه إلى الأعلى، بما يجعل
منه نصف الدّائرة العلويّ، وليس النّصف السّفليّ... وكما أنّ
نصف الدّائرة السّفليّ يرمز إلى الفُلْك، فإنّ النّصف العلويّ
يرمز إلى قوس قزح الذي "يناظِره"، بالمعنى الأدقّ للكلمة؛ أي
بتطبيق "الاتّجاه المعكوس". وهما أيضًا نصفا "بيضة العالم"،
نصفها الأول "الأرضيّ" في "المياه الدّنيا"، والآخر
"السّماويّ" في "المياه العليا"[15]،
وهو ما يبحث عنه أديب كمال الدّين، ويسعى إلى القبض عليه من
خلال "المياه العليا" بالمجاهدات والمطالب:
يا نوني
ها أنت كبرتِ وتعبتِ
وبدأت الأحلامُ تركضُ بعيداً عنكِ.
يا نقطتي وهلالي
لا مستقبل لكِ إلّا مع طفولة الصّعلوك
وجنون الشّاعر
ورؤية الصّوفيّ
ووميض الرّائيّ.[16]
السّمو الرّوحيّ بين النّقطة والحرف
يشير مفهوم السّموّ الرّوحيّ إلى الارتقاء والتّطوّر الرّوحيّ
والنّفسيّ للإنسان، وهو يتضمّن عدّة جوانب، لعلّ أهمّها
الاتّصال بالجانب الرّوحيّ والإلهيّ إذ
يتمثّل في تقوية الصّلة باللّه والسّعي لتحقيق الرّضا الإلهيّ،
وهذا يتطلّب التّأمّل والتّفكّر والعبادة، ولن يكون الأمر على
هذه الوجهة – في نظرنا – إلاّ من خلال المتصوّفة، وعلى رأسهم
الشّعراء الذين يمارسون الارتقاء بالعقل والفكر من خلال تنمية
الذّكاء العاطفيّ والرّوحيّ، والتّفكير النّاقد والإبداعيّ.
والتّحرّر من القيود الذّهنيّة والتّحيّزات، مع التّركيز على
تحقيق التّوازن والانسجام
بين الجوانب المادّية والرّوحيّة في الحياة، وبين الحاجات
الجسديّة والنّفسيّة، والتّوفيق بين المصالح الفرديّة
والجماعيّة، والشّعور بالسّكينة والطمأنينة، نتيجة لتحقيق
الذّات وإيجاد المعنى والهدف في الحياة، والشّعور بالارتباط
بالكون والآخرين.
وبذلك يتحقّق السّمو الرّوحيّ عندما يتكامل الشّاعر جسديًّا
وعقليًّا ونفسيًّا وروحيًّا. ويصل إلى مرحلة من الاتّزان
والتّوافق الدّاخليّ والخارجيّ، ويشعر بالسّعادة والرّضا
والهدوء النّفسيّ في صلته بذات الحقّ في مقابل معايشة تجربة
السّعادة بالوجدان، ومكاشفة الحقّ بالحقّ للحقّ في حقائق
الممكنات، أو ما يظهر في أعيان الممكنات في سيرورتها، ولن يكون
ذلك كذلك إلاّ بالتّدبّر، والإحاطة بالوعي الرّوحيّ، والدّراية
بالنّفس التي تتدرّج من الفاقة إلى القوّة بالسّعادة، أو
التّدرّج من السّتر إلى التّوسّل بالمكاشفة والمعاينة؛ لكي
ينال السّعادة التي لا حجب بعدها، كما في موقف الحاجب عند
الشّاعر:
أوقَفَني في موقفِ الحاجب
وقال: ما أسعدكَ اليومَ يا عبدي،
لا حاجب اليومَ لك
عن نوري وظلِّي.
دمعتُكَ ستقودكَ إليّ
وهي تغسلُ غربتَكَ وَيُتمَك
وتطلقُ طيورَ سعْدِك.
دمعتُكَ ستكشفُ لكَ عن لوعتِك
وتطهّرُكَ من عنكبوتِ ذنبِك
وأبابيل خوفِكَ وطلاسم دهرك.
دمعتُكَ ستكتبُ لك
شِعْراً بابه لي،
وممرّه لي،
وعنوانه لي،
ومدائنه لي،
ومواقفه لي،
وخلاصته: أنّكَ قد عَرفت،
ولم تعدْ جاهلاً أو ضائعاً
حتّى صارَ اسمُكَ العارف بي:
أنا عنوان سرّك.[17]
معنى ذلك أنّ حدّ الكمال في صفاء حال الشّاعر مرهون بتزكية
النّفس من أجل الوصول إلى
مرتبة الكشف، ولم يجد سبيلاً إلى ذلك غير اللّغة بوصفها
المؤسّسة للحركة الدراميّة في مثل هذه الحال، حيث اللّغة في
القصيدة السّمة ملاذّ الشّاعر الوحيد يتوارى من خلفها في
مواجهة خطيئة الحياة التي أصبحت في نظره تحدّ من قيمة الأفق
المثاليّ[18]
وتعتبر مرتبة الكشف عند المتصوّفة لتحقيق
السّموّ
الرّوحيّ من المراتب الرّوحيّة العالية التي يسعى إليها
السّالك في طريق التّصوّف؛ للكشف عن سمات الذّات في ترقّبها
إلى الأسمى:
والكلماتُ الحقّْ
تتوعّدني بالمحذور[19]
أو كما في قوله:
لبّيك
يا حاء الحق.
لبيكَ يا سين السرّ
وياء السرّ ونون المحبّة.[20]
إذ الكشف هو القدرة على رؤية الحقائق الخفيّة والإدراك
الباطنيّ للحقائق الإلهيّة والكونيّة التي لا يمكن الوصول
إليها بالحواسّ الظّاهرة أو العقل المجرّد، وإنّما بالرّؤية
الباطنيّة، والتّعبير عن البصيرة الدّاخليّة التي تمكّن الشّخص
من رؤية الحقائق الرّوحانيّة والباطنيّة، سعيًا إلى الكشف عن
مرحلة تتجلّى فيها أنوار الحقائق الإلهيّة في قلب السّالك،
ممّا يمكّنه من فهم الأمور بعمق أكبر؛ وللوصول إلى مرتبة الكشف
يتطلّب من السّالك الفناء عن ذاته والاتّحاد بالحقّ، حيث يصبح
الوجود الشّخصيّ غير ذي أهمّية أمام الوجود الإلهيّ.
وفي شعر أديب كمال الدّين الكشف ليس غاية في حدّ ذاته، بل هو
وسيلة لتعزيز العلاقة باللّه وتحقيق قرب ذات الخلق من ذات
الحقّ؛ إذ تعتبر ذات الخلق حريصة على المقاومة، وعدم الاستسلام
بالنّظر إلى أنّها
تمتلك وعيًا عميقًا بالوجود، كما في قول الشّاعر:
ليسَ كَمِثلي إنْ أرادَ البكاءْ
أنهارُ بحرٍ أُطفِئتْ في رمادْ
أو شجرٌ ممتلئٌ بالثمرِ الناضجِ قد
ضُيّع وَسْطَ الوهادْ
أو وردةٌ موعودةٌ بالحُبّ قد أُحْرِقَتْ
أو قُبْلةٌ قد حُوصرتْ
مثل بريءٍ يُقادْ
بين صهيلِ الحرابْ.
ليسَ كَمِثلي إنْ أرادَ الرّحيلْ
كثبانُ رملٍ تختفي في رياحْ.[21]
في شعر أديب كمال الدّين، نجد أنّ هناك عمقًا لمفاهيم "ذات
الحقّ" و"ذات الخلق" في جوانب عميقة من التّجربة الرّوحيّة
والفلسفيّة، حيث يعبّر الشّاعر أديب عن علاقاته وتجاربه مع
الله والعالم بطرق رمزيّة ومجرّدة، حيث تشير "ذات الحقّ" إلى
الذّات الإلهيّة، وهي الجوهر الحقيقيّ لله سبحانه وتعالى، في
فكر الشّاعر، كما تُعدُّ الذّات الإلهيّة المصدر المطلق لكلّ
شيء والمبدأ الأسمى للوجود، من خلال التّوحيد، بوصفه التّعبير
المطلق والوحدة الكاملة مع الله؛ لذا يسعى أديب كمال الدّين
إلى معرفة "ذات الحقّ" من خلال التّأمّل، الذّكر، والعبادة،
والفناء في "ذات الحقّ"، بمعنى أنّه يتجاوز ذاته الشّخصيّة
ويذوب في الذّات الإلهيّة، محقّقًا الاتّحاد مع الله، كما في
قوله:
أوقَفَني في موقفِ الحرف
وقال: الحرفُ حرفي والنقطةُ نقطتي.
فكيفَ لكَ أنْ تفهمَ سرَّ خُلودي
وأنتَ الذي يحملُ الموت
في نبضةِ القلب؟
وكيفَ لكَ أنْ تتجلّى في ملكوتي
وأنتَ الذي يبكي على جرعةِ ماءٍ
ورغيفِ خبز؟
وقال: الحرفُ حرفي
ستجدهُ في كهيعص
وألم وطه ويس وق ون.
فكيفَ لكَ أنْ تتقبّلَ سرَّ السرّ
وأنتَ الذي تتقاذفُه المنون
ليضيع في البحارِ والبلدان
وفي سناّرةِ السّنين؟
هل حمّلتُكَ ما لا تطيق
وأنا الرّحيم يا عبدي؟
النّونُ كانتْ نقطتي
فلا تكنْ كصاحبِ النّون[22]
وفي هذه الحال تُعتبر "ذات الحقّ" مصدر النّور الإلهيّ لدى
الشّاعر، الذي ينير قلوب العارفين ويكشف لهم الحقائق الإلهيّة،
في حين تشير "ذات الخلق" إلى الذّات الإنسانيّة، وكلّ ما هو
مخلوق. بوصفها الذّات التي يعيشها الإنسان بتجاربها وقيودها
وعواطفها.
وبهذا الشّكل، تجمع مفاهيم "ذات الحقّ" و"ذات الخلق" في شعر
أديب كمال الدّين بين الجوانب الرّوحيّة والفلسفيّة، ممّا يتيح
فهمًا أعمق للعلاقة بين الإنسان والله، وللطّريق الرّوحيّ الذي
يسلكه العارف للوصول إلى الحقائق الإلهيّة، كما جاء في قوله:
قالت حروفُ الحقّ
وهي تناقشُ
في الألِفِ الشّاب:
هل سَيُكْتَب له أن يعيش؟
بل هل ينبغي أن يعيش
أو ينبغي- ربّما- أن يموت!
قالت حروف الحقِّ كلاماً كبيراً
وكلاماً كثيراً.
نصفه غامضٌ ولا تذكره الذّاكرة،
ونصفه لا يُفسّره
إلّا
العارفون.[23]
التفرّد والخصوصيّة في شعر الشاعر الكبير أديب كمال الدين
أ. د. مصطفى لطيف عارف
ناقد وقاص وأكاديمي عراقي
تکتسب القصيدة الحديثة خصوصيتها، وتفردها عند الشاعر المبدع
والرائع (أديب
كمال الدين) الذي تفرد بخصوصية
شاعرية الحرف والنقطة
ولا تکون قصائده مجرد تکرار لما سبق قوله مئات المرات
بطريقة أخری. ويمكننا القول إن لكل شاعر طريقته الخاصة في
التفرد والخصوصية التي تتميز بها القصيدة الشعرية الحديثة،
لتكون مؤثرة في المتلقي، وقد عبّر شاعرنا عن هذه السمة المميزة
في قصائده، بل
اتجهت القصيدة عنده ضمن مشروعها في استئصال كل ما هو زائد
وخارجي، وغير شعري إلى قلب الشعر مباشرة من دون وسائط أو
محطات، وبذلك تخلصت من الكثير من الأسباب التي تزيح ثلاثة
أرباع الشعر خارج دائرة الشعر، ولا تعده شعرا، وتوجّهت إلى نبض
الشعر، وجوهره، وفضائه الحقيقي
وعلى مستوى إفادته من تقانات القص ومخرجاتها السردية،
فانه يعمل بمعطياته، ويتجاوزها إلى مجال أرحب، وأكثر حيوية هو
ما بعد القص، حيث تغيب السردية الظاهرة لصالح سردية باطنية
تعمل بإمرة
الشعرية،
فنراه يقول:
كانوا يحذرونني في كلّ يوم ،
بل في كلّ ساعة :
لا تخرجْ على النصّ !
قلتُ : وأين هو النصّ حتّى أخرج عليه؟
لم يكنْ هناك نصّ على الإطلاق !
وكانت تحذيراتهم مجرد هلْوَسات،
هلْوَسات من العيارِ الثقيل !
1
فهي،
أعني القصيدة الحديثة، عند شاعرنا تتقدم مباشرة إلى تشغيل
الفعل، وإطلاق كيميائه، والى بؤرة الحركة في المشهد، وتفعيل
طاقتها الإنتاجية كاملة، وتقتصد كثيرا في التشكيل إلا بالقدر
الفاعل المشترك الذي يسهم في حسم جوهر العمل لصالح شعريته، إذ
الشعر في نشاطات الحركة الشعرية، وفعالياتها ها هو المعني أكثر
من أي شيء آخر.
إنّ القصيدة الحديثة تتكلم انطلاقا من مركزها البؤري المشع ولا
تقول من المحيط، والأطراف، والطبقات البعيدة، بطريقة توحي،
وتوهم بأن الكلام قادم من لسان المركز الشعري المنتج ، وهكذا
تدخل قصائد أديب كمال الدين
فضاء القصيدة الحديثة، وهي تحاول التخلص من الإرث
الثقيل لهيمنة
الأنا الشاعرة، وتراكماتها، وأزماتها ، وتتقدم على نحو اكثر
عمقا وصفاء وصيرورة، وخصبا، بعد أن بددت الكثير من ممكناتها من
خلال ظهورها المستلب في الحقل الشعري، الأنا الشاعرة بأنموذجها
التقليدي المهيمن، فنراه يقول:
في حلمي
لمستني كفّكَ يا جدّي
فبكيتُ رأيتُ الكفّ تشيرُ إلى
حاءَ الرأسِ المرفوع على الرمح ،
لكنّي بعدَ معاشرة الأفعى ومجالسةِ الذئب،
وجدتُ الحاءَ هنا حاء الرمح
لا حاء الماء.2
فالإبداع في قصيدة الحرف عند شاعرنا الكبير (أديب كمال الدين)
هو القدرة على ابتكار شيء لم يوجد سابقا، ويعتمد على مواهب
شاعرنا المبتكر،
ومعلوماته، وخبراته دون أن نهمل محيطه الخارجي الذي يخلق
المنبهات، والايحاءات التي تربط بين قدراته الداخلية الذاتية،
والبيئة المنشطة لتنمية ما فكر به أو ما حاول خلقه،عند ذاك
يخلق النص إن كان المبدع
شاعرا، فإن نظرإلى ما حوله كان خياله وهما شدّ به ذاته
الشاعرة، وما يحيط هذه الذات، وقد يبلغ القمة من خلال الربط أو
التشبيه لأنّ الاشياء يختلف بعضها عن بعض ويشبه بعضهاعن بعض،
والشاعر يربط بينهما، فإن اشتد الشبه أو العلاقة انعدمت
الثنائية وإذا استشرى الخلاف انعدمت الرابطة، أداته التي تبرر
صنيعه هو منطلقه الذي يسمو على منطق العقل، منطق المعنى القائم
على بنية رمزية واحدة باعتبار أن المعنى نشاط إنساني رمزي
أداته اللغة الموصلة بين الأنا
والآخر، فنراه يقول:
ها أنذا أعودُ إلى الشِّعر
مثل كلّ مرّة
بسببكِ أنتِ.
أعودُ لأشاهد حروفي
يضربها الزمنُ بسوطهِ العظيم.
أعود لأرى نقطتي الكبرى التي تشبهُ مدينةً كبرى
تضيعُ وسطَ البحر.
3
إن شاعرنا يهدف إلی أن تکون قصيدته إبداعاً بکراً، و من ثم فهو
شديد الحرص علی أن ينظر إلی الوجود من زاوية لم يسبق لأحدٍ
قبله أن ينظر إليه منها،
وأن يعالج هذه الرؤية الخاصة بطريقة فنية متفردة، لتنوع
الأداوت الفنية التي يستخدمها الشاعر، وطريقة استخدامه لها،
ولميل القصيدة الحديثة إلی أن تکون کياناً متفرداً خاصاً، أصبح
بناء هذه
القصيدة علی قدر من الترکيب، والتعقيد يقتضي من قارئها نوعاً
من الثقافة الأدبية، والفنية الواسعة، والشاعر (أديب كمال
الدين) مثقف
ثقافة عربية من خلال اطلاعه الواسع على الدواوين الشعرية
للشعراء ، واطلاعه الواسع على القرآن الكريم، والسيرة النبوية
المباركة، فضلا عن اطلاعه الواسع على الثقافة الغربية عن طريق
الترجمة او اللقاء المباشر بكبار الشعراء، فنراه يقول:
ليسَ من حقّك،
يا صديقي العظيم تولستوي،
أن تلقي بآنا كارينينا
تحتَ عجلاتِ القطار!
كيفَ سمحتَ لعجلاتِ القطار
أن تقطّع أصابع آنا المترفة
ووجهها المضيء بالعذوبةِ والرقّةِ والجمال
وشعرها الفاتن .
4
ويعد التكرار
في القصيدة الحديثة
من بين الاساليب ذات الطبيعة الخادعة عند شاعرنا،
وذلك أنه ظاهريا يبتدئ للعيان مداخل سهلة الولوج
والاستثمار لكن بالمقابل بحاجة إلى أن يجيء في مكانه من
القصيدة وأن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث
الحياة في الكلمات، لا أن تتوالى من دون وعي فتصبح مجرد ثقل
ينوء تحته النص الشعري. وكان لهذا الملمح التعبيري بروز واضح
في نص شاعرنا مصحوب بأحايين كثيرة بلمسة سحرية من يد الشاعر،
وأن ترديد
وترجيع ألفاظ بعينها مثل كلمة (إلهي) عند الشاعر، من دون سواها
سيكشف لنا الموجّه الرئيس الأكثر فعالية في التجربة الشعرية
عند الشاعر، والتكرار من الأدوات الفنية التي استخدامها الشاعر
(أديب كمال الدين) في قصائده الشعرية، فنراه يقول:
إلهي،
كلّما كتبتُ قصيدةً جديدة
تمنّيتُ أن تمسحَ القصيدة الغبارَ الثقيل
عن مرآةِ حياتي
لأرى وجهي،
لكنّ القصائد كثرتْ وتكاثرت
والغبار الثقيل
لم يزلْ فوقَ المرآة
كما هو.
5
ويعد الاستفهام إحدى
البنى الرئيسة التي يقوم عليها شعرشاعرنا، بل تشكل الأساس في
كثير من النصوص الشعرية التي اعتمدها في قصائده الشعرية
الحديثة، وتعد هذه السمة من أهم السمات في تركيب القصيدة عنده،
ولم يكن حضور النص الآخر عند شاعرنا
مصادفة أو نتيجة عرضية لقراءات متنوعة أو معارف متعددة
استقاها من خلال حياته ، بل كان جزءا لا يتجزأ من عالمه الشعري
والشخصي معا، لهذا كان استدعاؤه لنص الآخر مبنيا ليس على حب
الاستدعاء أو الاستيحاء، بقدر ما كان يجد على الدوام بينه وبين
من يستدعي نصه اهتمامات ادبية أو سياسية أو دينية مشتركة، مع
وعيه للفروقات الجوهرية بين زمنه من جهة وبين الآخر من جهة
ثانية، بل إن الشاعر
(أديب كمال الدين) كان على وعي أن القصيدة الحالية
معنية بربط اختيارات الشاعر الفردي الخاص بتراث تاريخي، فكان
من المناسب أن يكون هذا التعبير عن هذا الاختيار، مرتبطا بتراث
أدبي، قد أجاد في هذا الموضوع فنراه يقول:
أوقفي في موقفِ المصطفى
وقال : أرأيتَ إلى مَن رأى
من آياتِ ربّه الكبرى
أرأيتَ إلى مَن أرسلتهُ رحمةً للعالمين ،
وختمتُ به الأنبياءَ كلّهم والمرسلين ،
وجعلتُ له الأرضَ طهوراً ومسجدا. 6
علی الرغم من أن القصيدة الحديثة تترکب من مجموعة من العناصر،
والمکونات المتنوعة،
المتنافرة في بعض الأحيان، فإن ثمة وحدة عميقة تؤلف بين
هذه العناصر، وتنحصر فيها هذه المکونات المتناثرة المتنافرة
لتصبح کياناً واحداً متجانساً، لا تفكك فيه، و لاتنافر، استطاع
شاعرنا من إدخال فنية الوحدة في قصائده الحديثة
وبوعي تام.
**************************************
[1]
- الأعمال الشعرية الكاملة : أديب كمال الدين : المجلد الخامس:
195
2- الأعمال
الشعرية الكاملة،
المجلد الأول :157
3 – من: المجلد الثاني : 22
4- الأعمال الشعرية الكاملة : المجلد الثالث : 214
5- من : المجلد الرابع : 252
6- الاعمال الشعرية الكاملة، المجلد الرابع :60
قراءة في المشروع الشعري
لأديب
كمال الدين
د. ضياء
نجم
الأسدي
ناقد وأكاديمي عراقي
حظي الشاعر
الكبير أديب كمال الدين باهتمام نقدي خاص من بين شعراء العراق،
وهو اهتمام تستحقه تجربته الشعرية لما تمتاز به من ريادة
وابتكار على المستويين المنهجي والفني. فهو الشاعر الوحيد الذي
وظّف الحرف واستثمر جوانبه المتعددة. وعلى الرغم من أن هذه
التجربة لم تكن واضحة المعالم في مجموعتيه المبكرتين (تفاصيل
1976، وديوان عربي 1981) إلا أنها أصبحت قطب الرحى في دواوينه
اللاحقة. حيث تحوّل الحرف لديه من مجرد عملية شخصنة إلى أسطورة
تخالط الواقع حتى يصعب على مستوى الفرز الدلالي أن تكتشف أيهما
الواقع وأيهما الخيال.
في لغة الأدب عموماً يتحوّل الفعل الكلامي
(speech
act)
إلى فعل افتراضي يمتلك قوة إنجازية
(per
formative act/illocutionary act)
في عالم خيالي. ومهما بلغ تأثير تلك القوة الإنجازية في عالم
الواقع الخيالي (أي العالم الموضوعي لعالم النص الخيالي) فهي
ستبقى دائماً ضمن الأطر المنطقية والدلالية لذلك العالم.
هذا التناول تؤطّره نظرية أفعال الكلام في فلسفة اللغة لجون
سيرل (Speech
acts theory by John Searle)
وهي النظرية الأهم من بين نظريات فلسفة اللغة منذ مطلع القرن
العشرين (أي منذ فتجنشتاين وجون أوستن) وحتّى يومنا هذا. وهذه
النظرية تقارب الأدب على أنه عالم من الخيال تشتغل فيه اللغة
على مستوى الفعل الإفتراضي وتعمل على وفق شروط الصدق ذاتها (felicity
conditions)
التي تعمل عليها لغة العالم الحقيقي. وهكذا فلغة الأدب لا
تميزها عن لغة الواقع إلّا مستوى تأثير القوة الإنجازية الذي
لا يتعدّى في الأولى حدود عالم النص، ويؤثر في الثانية على
العالم الموضوعي فيقوم فيه بصنع الوقائع والأحداث ضمن القواعد
المنطقية للدلالة والسياق.
يحاول أديب كمال الدين في منهجه الشعري أن يصنع عالمين: أحدهما
افتراضي يلعب فيه الحرف دور البطولة المطلقة ويمارس القوة
الإنجازية بما أودعه الشاعر فيه من قدرة على الخلق. فهو في
عالم القوة والفعل معا،
أي عالم الخلق والقوة وهما تحت سيطرة الشاعر، وعالم
الفعل الذي يمارس الشاعر فيه الخلق عبر أدواته الحروفية:
أنا النون الغامضة
أيّها الألف الصريح
سأحوّلكَ، كلّ ليلةٍ، إلى طلاسم
وقصائد جمر
وأحوّلكَ، كلّ صباحٍ، إلى رماد.
(خطاب النون، مجموعة نون، 1993)
وهو – أي الشاعر – في عالمه الخاص (عالم الفعل) يمارس دوراً
آخر، وهو تدبير شؤون حروفه التي تحوّل عالمها إلى مجرّة سحيقة
شاسعة تعجّ بالمؤامرات والثورات التي تقودها الحروف فيما
بينها، وقد بدا أيضا أنها تخطط للثورة على مبدعها ومليكها
(الشاعر):
النقطةُ فضّة
والحرفُ ليرةُ ذهب
فما أسعدني أنا ملك الحروف.
(ملك الحروف، مجموعة حاء 2002)
تقترح هذه القراءة المقتضبة للعمل الإبداعي للشاعر أديب كمال
الدين، بأنّ منهجه الشعري يشبه إلى حد كبير رؤية العارفين
والمتصوفين لصناعة الخلق والخليقة وشؤونها وتصاريفها. وهي رؤية
ليست بالجديدة إلا أنها تفترض أنّ هذا التعامل العرفاني أو
السلوكي الذي ينتهجه الشاعر مع مادته الشعرية وأدواته يعتمد
على رموز محدودة تشكل سرّ هذا الإبداع، مثله مثل الكون الذي
يعتمد في كل عظمته وإبداعه على مجموعة من الأسرار لا يعلمها
إلا الله والراسخون في العلم:
سأمنحكِ أيّتها النون المجنونة بالجمالِ والانكسار
مجدَ الكلمة،
وسأعلنكِ إمبراطورةً حقيقيّةً،
وأتوّجكِ في احتفالٍ سرّيّ عظيم
بتاجِ الحروف
وقلادةِ الكلمات
وطيلسان القصائد
ووسامِ الهيام
وعصا السحر.
(قاف، محموعة نون، 1993)
وهذه الرؤية تدعمها الرموز التي تطفح بها أعمال الشاعر بل
والعلاقات التي انتظمت بها تلك الرموز لتحاكي قصة الكون
وحركته. وأزعم بأنّ تلك الرموز على كثرتها وتعدد وظائفها في
أعمال الشاعر إلا أنها يمكن أن تُختزل على وفق قاعدة التوليد
والإنتاج إلى بضعة رموز أو بالحقيقة بضعة علاقات رمزية، يعمل
فيها الحرف على إنتاج عدد غير منته من الإيحاءات ضمن نسق
توليدي دلالي ورمزي إذا ما استخدم بشكله العام وبطاقته القصوى.
ولكنه عند الشاعر يحيل إلى دلالات معينة تنطلق منها بعدئذ تلك
الطاقة القصوى للمعاني فتولد مجرّات من المعنى والفعل الدلالي.
وآلية التوليد هذه تشابه آلية التوليد النحوي عند نعوم جومسكي
والتوليد الدلالي عن التوليديين الدلاليين من الناحية التقنية
والإجرائية. ولكنها تُستثمر في حقل آخر وموضوع مختلف وهما حقل
الشعر وموضوع قصة الخلق.
ينطلق التحليل الحالي من فكرة مفادها أن تردد مفردة ما أو
مفهوم ما في نص معين لا بد وأن تكون له خصوصية أسلوبية ودلالية
تميز أسلوب منتج النص وتشي بأبعاده (أي النص) ومستوياته
اللغوية وغير اللغوية (كالنفسية وغيرها). وهذا مايذهب إليه جان
موكاروفسكي وسبيتزر في مايسميانه بالإنحراف عن المعيار (deviation)
أو التقديم (foregrounding)
كما يراه مكاروفسكي وجفري
ليج أو البروز (Prominence)
كما يراه هاليداي وجميعها تشير إلى أن أنساقاً معينة أو مفاهيم
معينة على أي مستوى من مستويات النص يُقدِمُها ويُبَرِّزها (أي
يُكثر من استخدامها) الكاتب بوعي أو بغير وعي لتشكل فيما بعد
خصيصة أسلوبية لها أثرها في تحليل النص وتأويله. ولم يكن ليحدث
هذا لولا أنّ الكاتب يمتلك مدى واسعاً من الخيارات التي يستطيع
أن ينتقي من بينها مفاهيمه ومفراداته وأنساقه. وهذه هي رؤية
الأسلوب بوصفه إنتقاء (selection)
كما يراه تراغوت وبرات.
وهناك ثلاثة من المفاهيم يمكن أن تشكّل مفاتيح لعالم أديب
الشعري وهي الحُلم والعُري والإرتباك. تتكرر هذه المفردات بشكل
لافت في معظم قصائد الشاعر. ورغم تعدد وظائفها وتنوع سياقاتها
الدلالية إلا أنها دائماً ما تنتهي إلى الغرض الوظيفي نفسه.
فالحلم هو الكون الإفتراضي الذي خلقه الشاعر لتسكنه حروفه بعد
أن ينفث فيها الحياة:
في البابِ الأربعين
لم يكن الحُلْمُ ليأبه لصيحاتي وحشرجتي،
لم يكن يأبه لعُريي وضياعي.
كانَ الحُلْمُ هناك…
ليسَ معَ ملكاته
ليسَ معَ خَدمهِ وحَشَمه
ليسَ معَ حُرّاسهِ وعرشهِ وذهبه
ليسَ معَ مَن يأتمرون بإشارته
كانَ الحُلْمُ هناك…
مَقتولاً
(محاولة في الرثاء،
مجموعة النقطة 2001)
وتبدأ المحنة الحقيقة عندما تتكسر جدران الحلم وعالم الكون
الإفتراضي الذي تعيشه الحروف لتنسكب على الواقع، ويتحوّل الحلم
ومستوى الوعي الباطن إلى وعي ظاهر مفضوح، وهنا يشتغل مفهوم
العُري عند انكشاف عالم الحلم وسوءاته أمام عالم الواقع.
فتعرّي الحروف وفضيحتها هو فضيحة الشاعر الذي أبدعها. وهكذا
يحدث الإرتباك في لحظة كونية مهولة:
كانت الزاي ارتباكاً جديداً
وأنا أقايضُ ارتباكاً بآخر،
أنا تاجر الارتباك،
أنا مُموّل المُرتبكين الحالمين
بجهنّم باذخة خالدة.
(ارتباك الزاي، مجموعة حاء، 2002)
ويغيب الشاعر في لحظة الارتباك هذه عن الوعي ويطير صوابه
ليتأمل مشهد الفضيحة الدامي والسمج إلى حد بعيد:
مرتبكاً مذعوراً
كانَ المعنى قدّامي وورائي
يبحثُ عن معنى لطلاسمي العظمى!
(ارتباك المعنى، أخبار المعنى 1996)
ويعود الشاعر مدارياً ارتباكه بأن يمضي قدماً في مأساته
يستسيغها رغم مرارتها ليحمل أوزار خطيئته الكبرى، ويعلن عن
نفسه مصلوباً قبل قيامته وموتوراً رغم جمهورية حروفه وغريباً
وهو الذي ألف كلّ الكائنات. وفي خضم هذه المرارة ينتظر الشاعر
احتفاله الكوني البهيج بمقتل آخر حرف خرج من صلبه ليصفي كل
حساباته ويذهب إلى الجحيم أو النعيم، لا يهم طالما أنه تخلص من
عار الحروف إلى الأبد.
إن أديب كمال الدين قد مارس لعبة خطيرة وحاول أن يحاكي قصة
الخلق والتكوين. إنها تشابيه لواقعة الخلق. يريد الشاعر أن
يجسدها أمام الخليقة (في عالمه الواقعي) ليريهم المدى الذي
بلغته خطيئاتهم الكبرى والحد الذي وصلوه في التمرد على بارئهم
وجحود لطفه. فكان الحرف أول مخلوق أوجده الشاعر ليحمله الأمانة
الكبرى. ومثلما خلق الله سبحانه وتعالى الكون من نوره وبدأ
يضفي على هذا النور تجلياته حتى وصل إلى خلق آدم (عليه السلام)
الذي معه بدأت عذابات الخليقة وابتلاءاتهم وبدأت معه غواية
أبليس وحربه، خلق أديب كمال الدين عالمه الإفتراضي من وهج
الحرف وبدأ بنقطة الباء والنون ومنها ذرأ حروفه الأخرى ليجسّد
في تشابيه ممثالة لقصة الخلق واقعاً آخر أخرجه من عالم القوة
(الواقعي) إلى عالم الفعل الإفتراضي:
كانت النقطةُ تحت
وقتها كنتُ ملكاً عاشقاً
ثمَّ انتقلت النقطةُ فوق
فصرتُ صعلوكاً فشحّاذاً فلا شيء!
(محاولة في حقيقة النقطة، مجموعة النقطة 1999)
وعند تبدل موقع النقطة من الباء إلى النون تداخل عالم الشاعر
(الواقعي) الذي هو فيه محض مخلوق ضعيف مع عالمه الإفتراضي الذي
مارس فيه سلطة الخلق وأوجد كوناً من الحروف التي بدأ فيما بعد
(خلافا للخالق الفعلي القوي المقتدر) بفقدان سيطرته عليها وعلى
أفعالها. فكان قتيلها وأول من فتكت به دون رحمة:
كانت النقطةُ دمَ الجمال
دمَ المراهقة
دمَ اللذّة
دمَ السكاكين
دمَ الدموع
دمَ الخرافة
دمَ الطائر المذبوح.
كانت النقطةُ دمي
أنا تمثال الشمع.
(محاولة في حقيقة النقطة، مجموعة النقطة 1999)
كان همّ الشاعر إيضاح مدى الحب العظيم واللطف الذي عامل به
الخالق مخلوقاته (أخلق فيعبد غيري وأرزق فيشكر غيري، خيري
إليكم نازل وشرّكم إليّ صاعد): فأراد أن يكون يحيى والمسيح
والحسين والحلاج وكل الأضاحي التي نُحِرَتْ لكي تلفت أفهام
الخلق المتحجرة بالظلم والظلام إلى حجم الحبّ الفادح الذي
يقابل به الخالق جحود مخلوقاته:
حينَ احتضن الآباءُ أبناءَهم
والعشّاقُ حبيباتهم
والفجَرَةُ دنانيرهم،
لم أجدْ مَن يحتضنني إلّا الله
الذي قالَ: (اركعْ). فركعتُ.
فانشقَّ صدري وطارَ منه طائرُ الخوف.
وقالَ: (اسجدْ). فسجدتُ
على سجّادتي الصغيرةِ المُمزَّقة
حتّى تحوّلتُ إلى دمعة،
بل نقطة.
(اركعْ فركعت، مجموعة
حاء، 2002)
أراد من خلال عالمه الإفتراضي أن يعرّي جميع نقطه وحروفه ويكشف
كل سوءاتها لإنه أراد بذلك أن يكشف سوءات البشر وعريهم
وخطاياهم في عالم الواقع. فمنذ اليوم الأول الذي أنشأ فيه
الشاعر خليقته واستوى على كرسي التدبير وقال لحرفه الأول كنْ،
فلم يكن! فارتبك الشاعر، وتصبب عرقاً، وتجلّى أمامه عري الحروف
الناشزة النزقة، بل عُريه هو لإنه أراد أن يلعب دوراً ضخماً
لوحده، دور الرب الشهيد، المفجوع بأبنائه العاقين، وبقومه
المخادعين وبذرية كاملة غير منتهية من الأفاقين الخطائين. فلقد
كان مشهده (مشهد الخراب الكبير) دون كومبارس أو جوقة موسيقيين
أو مكياج أو ديكور ليعلن عن خروجه من مسرح التكوين ولينزوي في
ثقب أسود يداري فيه هزيمته الكبرى.
لقد كانت لحظة الإرتباك الكبيرة تمهيداً لقيامة الشاعر، بل
جنونه الذي أرغمه أن يخرج إلى فضاء الكونين (كونه الإفتراضي،
وعالمه الواقعي) عارياً حاسراً مشدوهاً يتضرّع إلى الله
(المسيطر الحقيقي على العالمين – أي العوالم كلها) أن ينهي هذه
التراجيديا ويوقف طغيان الحروف التي صعد جرمها إلى عنان
السماء. فعرضَ صليبه، وجَلَدَ نفسه حتى أدمى آخر حرف تعلّق به،
وأحرق كل بروتوكولاته وزبره التي نشرها لحروفه تكفيراً عن فعله
الفادح، لكن كان مكتوباً عليه أن يكون عبرةً وأن يتيه بعريه
وارتباكه وأوجاعه في سفر الخليقة وأن تظل حروفه المتمردة عاراً
على الآدميين ليشعروا بخطيئتهم المتصلة:
لحظةَ الموت أعلنتُ حبيّ
ما تيسّرَ من فرحةِ الأنبياءْ
ثمَّ هيّأتُ مائدةً من دمي
كأسها، خبزها، ليلها البربريْ.
(الشهيد، مجموعة جيم 1989)
لقد أراد الشاعر أن يُشيد حلماً، وأن يتحكّم هو بهذا الحلم، في
هدف نبيل يريد من خلاله أن يصور كيف هو حُب الإله لمخلوقاته.
ولكن حدود هذا الحلم التي تفصل عالم القوة عن عالم الفعل تكسرت
لمشيئة إلهية لا يملك الشاعر إزاءها حولاً ولا طولاً. فاستحال
عالم الظلم الإفتراضي إلى عالم واقعي وأصبح الحلم حقيقة تضجّ
بالخطايا، وبدلاً من أن يكون الشاعر في كرسي التدبير يشرح
ويوضح ويضرب الأمثال تحوّل هو إلى مضرب مثل وضحية تائهة بعد أن
ثارت عليه مخلوقاته النزقة:
جسدي يخضرُّ كعشبٍ ويموتُ كرملٍ ويضيعُ بنهرِ الكلماتِ فلا
جدوى. أُقـْتــَلُ أو يُرفَعُ رأسي فوق الرمح، يُنادى باسمي في
الريحِ فلا جدوى. فلغاتُكِ قد قتلتني. لم
تأكلني الأمراضُ ولم يذبحني السيفُ وما حاصرني الماضي
بالدعوةِ للبحرِ الفاضحِ. يطلعُ من بين
لغاتكِ جسدٌ عار يفتحُ بابَ القبرِ إلى بابِ الدارِ يناديني.
(أخبار المعنى،
مجموعة أخبار المعنى 1996)
ما يشجع على هذه القراءة لمنهج أديب كمال الدين الشعري والفني
هو أن جانبي العمل الإبداعي الذاتي والموضوعي لديه غارقان في
لعبة الترميز الديني، وأن إحالاته الأساسية في معظم كتاباته
تستمد أصولها من الأطروحة الدينية للكون.
وهو بطبيعته كشخص – في روحه على الأقل – بوهيمي سائح يقتفي أثر
الحقيقة العارية، بل يلهث خلفها حتى الرمق الأخير. وهو كشاعر
وكإنسان صاحب رؤية (تكاد تكون تجلّياً) في الله والخلق والكون
وجميع ما نراه وما لا نراه من عوالم:
هَوّمتُ، معي خطوات دمي
وزُجاجات الفجرِ الثكْلى.
هَوّمتُ، أنا روحُ العشبِ
عنقُ العُصفورِ وذاكرةُ التُفّاحْ،
وجعُ الطين ِالأسْوَد
لأمنّي الروحَ بأرضٍ تُؤوي جذري المنفيّ..
لَعلّي أَلقى مَنْ سَمّاها
مَنْ قالَ لذاكرة ِالتُفّاحْ:
كوني... كانتْ شجراً مُحترقاً يلتفُّ على الماءْ.
لا ماءْ!
(إشارة التهويمات،
إشارات التوحيدي، مجموعة جيم، 1989)
فربما هو لا يرى مع دي سوسير أن العلامة بأبعادها الثلاثة
اعتباطية الدلالة، وأن اللغة كما يراها فتجنشتاين هي لعبة تبحث
عمن يتقن قواعدها. إنه يفجر الحرف أمامنا ليرينا تكوينه الذري
وجزيئاته العارية ملمحاً إلى أن هناك مؤامرة كبرى تنطوي عليها
هذه الحروف المتلمظة المخادعة. وهو يكسر جميع قواعد اللعبة
اللغوية والدلالية ليرينا أننا حتّى في عالم الأحلام لن ننجو
من مؤامراتنا وأنها ستخرج علينا من اللاوعي لتدمر حياتنا.
إنّ آلية الحلم والعمل الحلمي عند أديب كمال الدين لا تشبه ما
ذهب إليه فرويد. فالحلم الفرويدي يُنتج في مستوى اللاوعي وهو
يؤثر ويتأثر على المستويين: الوعي واللاوعي. أما عند أديب كمال
الدين فالحلم هو فعل واع، يمارس تأثيره الأول على الوعي ثم
ينتقل إلى عالم اللاوعي الإفتراضي محدثاً فيه تأثيراً لا يقل
قوة وخطورة عما يفعله في عالم الوعي. وتتجلّى عند الشاعر
مضامين النزوع الجنسي لدى الحروف مما يعزز في قراءة أولى ما
ذهب إليه فرويد على أن اللبيدو هو محرك الفعل الآدمي المبكر.
ولكن فيما بعد نكتشف بأن هذه القراءة خاطئة وأن الحروف إذا ما
تزحزحت عن سبب تكوينها ومركزها فإنها تحركها كل نزعات الشر
والتمرد وليست نزعة الجنس النزقة فحسب. بعد عُريه وارتباكه
وهزيمته الكبرى يتكلم الشاعر، كما تكلم زرادشت ولكنه يقول ما
لم يقله الأخير، ويتساءل: "لماذا آمنت هذه الحروف اللعينة بإن
الله قد مات؟" لماذا ثارت وتمرّدت وهي تعلم انما أمرها الأول
(كنْ) لا يزال بيد خالقها الأزلي؟ ولماذا يقبل الخالق بهذا
الخراب وبهذه الفضيحة التي اجترحتها مخلوقاته؟
يتيقّن الشاعر بإنه لن يعثر على أجوبة لتساؤلاته بسبب ما أطبق
على نفسه وطالها من جرم حروفه التي صنعها فينطلق هائماً في
عالمي الفعل والقوة والإيجاد باحثاً عن أجوبة لتساؤلاته
المشروعة، ويسلم بأنّ حلمه الحالي (الحياة الدنيا) لن تمنحه
هذه الراحة وعليه أن ينتظر قيامته مدججاً بصليبه وجراحات
هزائمه ومضمخاً بدماء تجربته البريئة التي انقلبت وبالاً عليه
ليلحق بركب الأنبياء والشهداء والمعذَبين علّه يظفر أخيراً
براحة النصر على أمّة الحروف.
شعرية الحرف اجتراح هوية:
قراءة في حروفية أديب كمال الدين
د. حيدر عبد عون الرفاعي
ناقد وأكاديمي عراقي
"الموت هو الحرف الأعظم، إنّه الحرف الذي لا يسبقه حرف ولا
يدانيه حرف. وكشاعرٍ أتخذ الحرفَ وسيلةً فنيةً وروحية حتى صرتُ
بفضل ذلك أدعى بــ(الحروفيّ)، أقول: إن الحرفَ والحروفية، بل
الشعر والشعرية، إنما هي احتجاج على الموت وتنديد به، ومحاولة
للالتفاف عليه وتحجيمه وتخفيف سطوته وعنجهيته
وعبثيته"[24].
عندما تحاول أن تجمّع تفكيك حروفية أديب كمال الدين،
ربما ستفلح في موضع أو موضعين، لكنك لا تفلح على طول الخط،
بمعنى إنك لا تستطيع أن تضع قاعدة مطردة تستطيع من خلالها فك
شفرة كل اشتغالاته على التفكيك الحرفي، ذلك أن تجربته الشعرية
مع الحرف عصية وتأبى التقعيد النقدي، فهي أقرب للمتاهة، أو كما
يصفها فاضل التميمي: أشبه بــ"متوالية عددية يصعب الإمساك
بنتائجها"[25]،
إذ أن توظيف الحرف لديه يشتغل على عدة مستويات، فتارة على
المستوى التشكيلي/ شكل الحرف، وتارة على مستوى تقطيع/ تجزئة
اللفظة حروفها، وتارة على المستوى الرمزي، والقناعي،
والأسطوري، والتراثي، والسحري، والطلسمي، والخارقي، وهكذا.
وهذا ما يصعّب تحديد مسارات نهائية لحروفية أديب كمال الدين،
لأن التجريب الحروفي لديه مستمر، وكذلك أن المنطقة النصية
الحروفية لديه هي منطقة ممتدة، وليست محددة أو محصورة برقعتها
النصية، ولعل هذا ما يسم الشاعر الذي يعمل في ضوء مشروع شعري
خاص لا تنتسب تجربته إلا إليه، فيكون الجزئي ملتحماً بالكلي،
والبنية النصية دالاً شمولياً على النتاج الشعري برمته[26].
فمن اشتغاله على شكل الحرف نجده – مثلاً-
قد رمز لذاته بحرف الألف، إذ يقول:
أنا الآن في حريتي
ألِفاٌ قويّاً حيّاً متماسكاً...[27]
بينما رمز لحبيبته
بحرف النون، إذ يقول :
أيتها النون عذبني جسدُكِ
قادتني عيناكِ من صحراء إلى صحراء[28]
فهو هنا يوظف الحرف
على المستوى الشكلي، ليمارس أحد تمثلات نسق الذكورة،
فشكل حرف الألف المنتصب قد رمز به لذاته/ ذكَراً
منتصباً، حيث لا زال العرب، إلى اليوم، يُضفون على حرف الألف
ميزةً، لكونه منتصباً واقفاً، وقد ورد ذلك في الشعر الحديث،
منه قول أحمد بخيت في مدح حاكم الأمارات العربية المتحدة:
في آخر السطر أم في بدئِهِ تقفُ
في الحالتين مهيبٌ أيها الألفُ[29]
بينما رمز لحبيبته/
الأنثى بشكل حرف النون المقعّر، ولا يستبعد الباحث أن
تكون هذه المواضعة متستندة إلى مرجعية قرآنية وتحديداً في قوله
تعالى: {ن والقلم وما يسطرون} (القلم :1)، تلك الآية التي
يجعلها- الشاعر نفسه- مفتتحاً لمجموعة أعماله الشعرية الكاملة
بجزئيها- فهناك
من يفسر الــ(ن) في الآية الكريمة بالدواة/ محبرة، فشكل حرف
النون المقعّر الذي يستدعي الامتلاء بالنقطة، أو النون الدواة
التي تستدعي الامتلاء بالحبر، هي ذاتها نون النسوة، التي
تستدعي امتلاءً لتفيض بالحياة، ومن ثم تصبح النون– لدى الشاعر-
شيئاً عظيماً؛ حيث يقول:
لكل مَن لا يفهم في الحرفِ أقول :
النونُ شيءٌ عظيم
والنونُ شيءٌ صعبُ المنال
إنّه مِن بقايا حبيبتي الإمبراطورة ...
وهكذا اتضحَ لكم كلّ شيء
فلا تسألوا ، بعدها ، في بلاهةٍ عظيمة
عن معنى النون !
[30].
يذهب صالح زامل إلى: أن التأمل في الحرف جاء متأخراً في
المنظومة الفكرية الإسلامية، فضلاً عن كونه هامشياً فيها، ولعل
ذلك محمول على صلة التراث بالشفاهية، فالحروف التي كانت اسماً
لأربع سور، ومفتتحاً لتسع وعشرين سورة، قد دُفع العلم بها إلى
الغيب. جاء الاهتمام بالحرف نتيجة الدراسات التي اهتمت
بجماليات الصوت وتحريك اللسان في القراءات القرآنية، إلا أن
هذا الاهتمام لم يرتقِ بالحرف إلى مستوى المتن، بل بقي معه
الحرف قامعاً في الهامش، فقد اختزل في الممارسة الصوتية، ومن
ثم في الممارسة الخطية التي أخرجته من الدلالة الصوتية إلى
الدلالة الحركية الصورية المتمثلة في الزخرفة وأشكال الخط
العربي، هذا إذا ما استثنينا التجربة الصوفية[31]،
والتي يُشكّل الحرف ثيمةً أساسية في تجربتها.
وعليه
يمكن الاطمئنان إلى القول بأن شعر أديب كمال الدين هو شعر ما
بعد حداثوي، ذلك أنه– أولاً- أعلا بكينونة الحرف المهمش في
المنظومة الفكرية والأدبية العربية، إلى مستوى المتن، وهذه
أبرز سمات ما بعد الحداثة، حيث أخرج كمال الدين الحرف من معطاه
الوظيفة كأصغر وحدة صوتية وشكلية مكونه للكلمة/ المفردة، إلى
معطى دلالي لا علاقة له بوظيفته الأولى، معطى مستوعباً تجربة
شعرية طويلة، بل معطى متماهياً مع تجربة الشاعر مع الحياة،
فجعل الحرف موضوعاً لغوياً، وذاتاً شعرية فهي تتحاور وتتكاشف،
حرف لكنه منفتح على الكون ومستوعب معناه، منطلقاً (الشاعر) في
ذلك من عقيدة/ مرجعية قرآنية يرى من خلالها أن للحرف، وفي
الحرف أسراراً لم تكتشف بعد، مستشهداً على ذلك بقسم الله تعالى
ببعض الحروف، وافتتاح بعض السور القرآنية بحروف مقطعة[32].
لقد استطاع كمال الدين من خلال الحرف أن يشكّل هوية شخصية
ينماز بها عن أقرانه، بل يمكن القول أنه قد اجتهد لصنع أبجدية
حرفية خاصة به، تستلزم الفعل التأويلي للوقوف على ماهيتها،
فاللغة لدية مختزلة في الحرف، مما يستدعي التأويل قبل التحليل،
وهذا "يعني أن المكاشفة الشعرية عند أديب كمال الدين منفتحة
على الكثير من العوالم الممكنة والافتراضية الجمّـة فيما يرمي
إليه ترميز الحرف"[33]،
مما يجعلنا إزاء أبجدية حروفية جديدة، وهذا ما أكده الشاعر في
قصيدة ( قاف ) حيث يقول:
لجمالكِ ينبغي أنْ أخترعَ أبجدية جديدة
[34].
وبالفعل اجتهد
أديب كمال الدين في محاولة منه لاختراع أبجدية خاصة به ضمن
مشروعه الشعري الخاص، ليُشكّل من خلالها هوية شعرية ينماز بها
عن أقرانه، بيد أنه يرى أن تلك الأبجدية هبة من الله تعالى
يُقودها إلى من تَقَدّمَ نحوه :
أوقفني في موقف الألِف ،
وقال : الألِفُ حبيبي
إن تقدّمتَ حرفاً ، وأنت حرفٌ
تقدّمتُ منك أبجديةً،
وقدتُكَ إلى أبجديةٍ من نور[35]
لقد استطاع من خلال تلك الأبجدية أن يشكّـل، من ثم، شعرية خاصة
به، يمكن أن يطلق عليها الشعرية الحروفية، وهذا ما نلتمسه في
تصريحه الذي يجعل من الحرف معادل الشعر، والحروفية معادل
الشعرية، إذ يصرح : "أقول : إن الحرف والحروفية، بل الشعر
والشعرية ..."[36]،
مما يمكن القول بأن الشاعر استطاع أن يخلق مشروعه الشعري، الذي
استوى مملكة تربع على عرشها بلا منافس. تنهض تلك الشعرية– بحسب
اعتقاد الشاعر- لا على منح الحرف قوة الكلمة، بل على منحه مجدَ
الكلمة، وعصا موسى، مما حدا به إلى أن يعلنها إمبراطورية
حقيقية، متوجةً بتاج الحروف وقلادة الكلمات وطيلسان القصائد
ووسام الهيام، إذ يصرح ذلك جهراً بلا مواربة :
سأمنحكِ أيّتها النون المجنونة بالجمالِ والانكسار
مجدَ الكلمة،
وسأعلنكِ إمبراطورةً حقيقيّةً،
وأتوّجكِ في احتفالٍ سرّيّ عظيم
بتاجِ الحروف
وقلادةِ الكلمات
وطيلسان القصائد
ووسامِ الهيام
وعصا السحر.
[37]
وثانياً:
جاء نصه الإبداعي بحرية تخييلية تتعارض مع السائد المقيَد
بقانون السبب والنتيجة؛ الذي يُساير الرؤية الأدبية القديمة
ذات المفاهيم المرشدة في صياغة التراكيب الأسلوبية، فالنص
الأدبي، في مكوناته، كان محكوماً بروابط سببية على وفق نظام
اجتماعي ينبغي احترامه، ذلك أن الأمر الذي بقيت عليه القصيدة
القديمة/ القصيدة الصورة شأواً بعيداً لم يعد يفي في حقل
المناحي المعرفية التي تأثرت هي أيضاً بالدورات الاقتصادية
والسياسية والاجتماعية، وهو ما جعل هذه المفاهيم آخذه بالزوال،
أو في تطور مستمر، تبعاً لتعقيدات روح العصر، من منظور أن
المجتمع اليوم كيان متشابك العلاقات ومتداخل الأجزاء، ولعل هذا
ما جعل نسيج المجتمعات الحديثة مفكك الروابط والقيم
الانضباطية، بل حتى مركز الجماعة الذي كان يُسيّر الضمير
الجمعي لم يعد له ذلك التوجه، ولم يعد يؤدي دور الرقيب على
سلوك الناس في واقعنا المعاصر، وهذا ما آلَ إلى تنوع في
العضوية التي ينتمي إليها كل فرد تبعاً للتغيرات الطارئة على
المجتمع
[38].
ومما يؤكد متاهية حروفية أديب كمال الدين ما نلاحظه في النص
الآتي، والذي يتساءل فيه الشاعر عن عبثية المعنى، حيث يقول :
أسأل ، ودمي يهذي:
كيف يكون المعنى عبثاً يا سيدةً قتلتْ
نوناً تبحث عن صاد المعنى؟
[39].
في هذا النص ينتقل التساؤل من النص إلى القارئ في محاولته
العبثية في الوصول إلى المعنى؛ ذلك أنه كيف لسيدةٍ أن تقتل
(نوناً)؟ وما هذه النون؟ وكيف تبحث عن (صاد المعنى)؟ وما هو
صاد المعنى أصلاً ؟ لتجعلنا شعرية هذا النص إزاء رؤى فكرية
متضمنة إضماراً تجريدياً، ينتهك من خلالها حدود أو عتبة
الدلالة اللغوية، مشكّلاً فضاءً حروفياً، أشبه ما يكون
بالمتاهة الدلالية التي يصعب الوصول إلى نهايتها، تقوم هذه
الشعرية على إستراتيجية التأمل في الكون على وفق التأمل في
الحرف، وربما كان تشظي الشعر إلى حروف، هو نابع من إحساس
الشاعر بتشظي الكون. على أننا نجد كمال الدين، في النص الآتي،
يعمل على تجزئة الحرف إلى حروف، فيقول :
خذْ من كافي حائي ، خذْ منها قافي
خذْها ينبوعاً يشفي صحراء لغاتك
يشفي تأتأة الروح .....
خذْ كافي سينَ سلامٍ ، راءَ رعودٍ ، باءَ بهاءٍ ، نونَ
قيامٍ ،
ياءَ لغاتٍ ، تاءَ تخوتٍ ، واو وعودٍ ، دالَ دوالٍ ،
لامَ لُمى[40]
يصر الشاعر على أن يجعل الحرف بؤرةً، لا للنص فحسب بل بؤرة
العالم، بما يشع من فاعلية معنوية، ليغدو الحرف ينبوعاً يروي
ضمأ صحراء اللغة ويشفي تأتأة الروح، لينتقل الشاعر، من ثم، إلى
تقانة أخرى وهي تقانة الاشتغال الرمزي للحرف، ليجعل السين
معادلاً موضوعياً للسلام، والراء للرعود، والباء للبهاء،
وهكذا، فالحرف هنا ليس جزءاً من الكلمة فحسب، أي أن السين ليس
لأنها جزء من كلمة السلام، بدلالة قوله: نون قيامٍ، فالنون ليس
من ضمن حروف كلمة القيام، ليغدو الحرف– والحال هذه- المعادل
الموضوعي للموضوعات المشار إليها[41]،
بمعنى أن يكون الحرف مستوعباً للكون ومصدر إشعاع القيم
الإنسانية فيه.
وإذا ما كان كوهن يرى: أن هدف الشعرية، بعبارة بسيطة،
هو البحث عن الأساس الموضوعي الذي يستند إليه تصنيف نص في هذه
الخانة أو تلك، أي هل توجد سمات حاضرة في هذا النص كمصنف في
خانة الشعر، وغائبة في غيره ، ممن لم يصنف ضمن الخانة نفسها
حيث يذهب إلى : أن الشعر يحقق شاعريته من كونه انزياحاً عن لغة
النثر بوصفها اللغة المعيار[42]،
ومن ثم يمكن القول: إن شعرية الحرف لدى الأديب كمال الدين، لم
تأتِ من كونها انزياحاً عن اللغة المعيارية/ لغة النثر حسب، بل
لكونها انزياحاً عن لغة الشعر أيضاً، لتكون انزياحاً عن
الانزياح فجاءت نصوصه لتمثّل "قطيعة مزدوجة : مع الكتابة
الشعرية في عصره، ومع لغة هذه الكتابة"[43].
وإذا ما تأملنا النص الآتي :
أعطيكَ الكافَ فلا تسألني عن شيء أبداً،
ادخلْ في الكافِ وكلّمها ما شئت ..
فإن شئتَ الكاف إليكَ تكون دليلاً
لتقودكَ نحو الأخضر...[44]
نلاحظ أن الشاعر، في
هذا النص، قد خلق من الحرف ذاتاً شعرية تتحاور (كلمها ما شئت)
وترشد/ تقود نحو الحياة (لتقودك نحو الأخضر)، هذه الطاقة
الكامنة في الحرف- والتي لم تألفها اللغة من قبل- جاءت بفعل
الخلق والذي يؤسس لشعرية حديثة في النص الشعري تنسجم ورؤية
أدونيس للشعرية الحديثة، والتي يرى أنها تختلف عن
الشعرية العربية القديمة التي كانت قائمة على "قول المعروف في
قالب جاهز معروف، فهي تعكس واقعاً وأفكاراً، أما القصيدة
الحديثة (الطليعية) [هي قصيدة] خلق، تقدم للقارئ ما لم يعرفه
من قبل، في بنية شكلية غير معروفة، فهي إذاً لا تعكس، وتلك هي
الخاصية الجوهرية للشعر الحديث، إحلال لغة الخلق محل لغة
التعبير"[45]،
لتقدم رؤية جديدة قائمة على حداثة السؤال واستكناه المجهول .
إذا ما كان دي سوسير يرى أن اللغة نظام محكوم بقوانين خاصة،
فهي لديه نسق أنثروبولوجي، يشتمل على مبادئ معينة تسهل على
مستعمليها إنتاج الدلالة وفهمها، وهذه الدلالة، على وفق تصور
دي سوسير، لا تظهر إلا من خلال إقامة علاقة منطقية بين
الألفاظ، إذ يشبه ذلك النظام بنظام رقعة الشطرنج، ليكون
المتكلم محكوماً بهذا النظام، ومن ثم فإن أي خرق للنظام يؤدي-
في ذات اللحظة- إلى تغيُّر في طبيعة النسق، ذلك أن العناصر
محكومة بقانون يرعي طبيعة العلاقات بين عناصره. من ذلك طرح
لوسيركل سؤال: أنا أتكلم أم اللغة تتكلم؟ أي بمعنى: هل يكون
الشخص المتكلم مسيطراً سيطرة تامة على الإرادة التي يستعملها/
اللغة، بحيث أنه يفعل بها ما يريد ويشكّلها على وفق تصوراته،
أم أن اللغة تلعب دوراً أساسياً في عملية التعبير، بحيث تفرض
شروطها هي، فتتحول متكلماً أو لاعباً أساسياً في العملية[46]،
وإذا ما حاولنا تطبيق تلك المواضعة على حروفية أديب كمال الدين
نجد أن الأمر مختلف، فهو يكاد أن يكون خارج إطار هذه المواضعة،
بما يقيمه من علاقات بين المفردات اللغوية، والتي تشكّل دلالات
لم تألفها اللغة، بل هي خارج رقعة نظام اللغة، بمعنى أنه سلب
اللغة سطوتها، أو عنفها بتعبير لوسيركل، بما تفرض على المتكلم
أن يقول، أي تحييده بنظامها الدلالي، في تلك اللحظة التي سلب
اللغة سطوتها أو سلطتها أو عنفها، حرر نفسه من كل تلك القيود،
فغدا مغرداً خارج ذلك النسق الثقافي الذي يرضخ فيه المتكلم
لسلطة اللغة التي ترسم له حدود تعبيراته دلالياً، فيخشى أو
يحرص دائماً على ألّا يتجاوز تلك الحدود، فإن ظنّ أوشكّ أو
توهم بأنه تجاوزها، يتدارك بشيء من التبرير أو التعليل، بقوله:
(إن جاز التعبير) أو (إن صح التعبير). إنّ هذين الجملتين يدلان
دلالة واضحة أن المجتمع قد منح التعبير/ اللغة سطوة أو صفة
معنوية ذات إرادة متحكمة فيه، فهي تُجيز أحياناً ولا تُجيز
أحياناً أخرى، وقد تخون في بعض الأحيان، فيقولون للشخص الذي لا
تؤدي مفرداته المعنى المطلوب: (خانك التعبير). هذا النسق
الثقافي لم يُحَمّل اللغة قصوراً في عدم إيفاء مفرداتها لتسع
كل دلالة أو أي معنى، بل ذهب إلى تحميل المتكلم نفسه كل ذلك،
نعم إن المسألة هنا تضامنية؛ فالمرء المتكلم يتحمل جزءاً
كبيراً في عدم قابليته على التعبير، ويتفاوت الناس في تلك
القابلية، فنلحظ بوناً شاسعاً بين شخص وآخر، وهذا يعود لجملة
أمور، إن على مستوى التعليم، وإن على مستوى الثقافة، والاطلاع
الواسع، وغيرها، ولكن لا يعني كل هذا تبرئة ساحة اللغة من أي
مسؤولية أو قصور، وأنها كاملة في أصل الوضع، لتستوعب كل
الأفكار، وإلاّ لو كان الأمر كذلك لما كان في الاستعمال اللغوي
ما هو حقيقي وما هو مجازي، ولأغنانا عناء تعريف شيء بتعريفين:
لغوياً واصطلاحياً . أقول– بلغة واصفة: إن الحقيقة التي يجب
الإقرار بها أن اللغة العربية، وربما كل لغات العالم، هي لغة
حسّية، ويُرجع خليل عبد الكريم ذلك لـتأثير البيئة الجغرافية
التي نشأت فيها، إذ يقول: "إن البيئة التي زاملت لغة بني
يَعْرُب بن يَشْجُب كانت ولا زالت بيئة قاسية متهجمة جافية
عبوساً خشنة، وكانوا في أدنى درجات السلم الحضاري، بل بغير
مغالاة ودون مبالغة هم في طليعة الشعوب التي خاصمتها الحضارة
وأعطتها ظهرها، وظلوا على تلك الحالة حتى القرن الثامن
الميلادي عندما اختلطوا بالشعوب ذات الحضارة الباهرة والثقافة
الرفيعة والمدنية الزاهرة، إنما في ذلك الوقت كانت لغتهم قد
استوت على عودها وترسّخت قوائمها وارتفع بنيانها، فلما مسّتها
الحضارة وقتئذ لم تلامس إلا الحواشي والأطراف وعوالي الفروع،
أما سائر البدن (بدن اللغة) فقد ظل منها دون تغيير وهو ما
نقلته إلينا المعاجم والقواميس"[47].
إن اللغة لابد أن تتسم بسمات بيئتها، ويُضفى عليها من صفات
أهلها، فهي مرآتهم وما دام لغتنا قد نشأت وترعرعت في ظل تلك
البيئة (القاسية، المتهجمة، الجافية، العبوس، الخشنة) وإذا ما
أضفنا إلى ذلك ظروف المجتمع وطبيعته، التي هي بالضرورة لا
تختلف عن صفات تلك البيئة، فلا بدّ من أن تكون تلك الصفات هي
عينها صفات اللغة.
أديب كمال الدين لم يفكر ولم ترد على باله عبارة (إن جاز
التعبير) ذلك أن التعبير تعبيره، هو من يسيّره ويوجهه أنّى شاء
وكيف شاء، ومن ثم، فإن اللغة لم تعد تتكلم– حسب التساؤل الذي
يطرحه لوسيركل: أنا أتكلم أم اللغة تتكلم؟
فضلاً عن دعوى لاكان: إن اللغة هي التي تتكلم الشخص
وليس الشخص هو الذي يتكلم اللغة– على اعتبار أن اللغة سابقة
وجود الشخص/ طفلاً، ومن ثم فهي التي تحدد موضعه، وهي التي
تشكّله، وليس من السهولة التخلص من آثارها في تشكيل كيانه-[48]،
حيث يرى بعض النقاد:"إن مذهب اللغة استطاع عبر صياغاته
المتماسكة أن يجعل العالم قاطرة تجرها أحصنة اللغة"[49]،
إلا أن كمال الدين استطاع أن يُفلت عربته من مقطورة اللغة،
ليُسيرها بحروفيته الخاصة، وقد بدا للباحث أن كمال الدين
بتحرره من سطوة اللغة قد تمثّل أحد وجوه جوهر التجربة الصوفية
التي تهدف إلى تحرير الذات البشرية من أسر المادة، والانطلاق
بها نحو عوالم الغيب والسمو[50].
إن ذلك التحرر– وإن كان على مستولى اللغة– فهو يمثّل قطيعة مع
الواقع، وصلة مع المتخيّل، ومن ثم فهي قطيعة ثقافية في وعي
التجربة الحروفية، أنها تجربة تتجاوز الواقع من أجل أن تُحسِن
الغوص في داخله، وتُحسن استقصاء ما يضمره[51].
وقد ذهب عبد القادر فيدوح: إلى أن
تحرر لغة الشاعر من عوائق المضمون يُعد تمرداً على
المرجعية الموجهة؛ فكأننا بالشاعر يفكر بالحواس، ويخترق الواقع
بالرؤيا الكشفية، حيث يكون كل شيء عنده مهيئاً للتبصر[52].
هذا التمرد على المرجعية هو تمرد على الهوية التي طبعتها حالات
التكيف مع الواقع الإجرائي، ليلتجئ إلى هوية الذات الراسخة،
مقابل الأولى الواهمة، فكانت هوية الذات مرقاة لاكتناه عالمه
الشعري؛ بوصفه منتوجاً يعكس صورتين متناظرين، تكمن الأولى في
صورة زيف الواقع، بينما تُعنى الثانية بما فوق الواقع
بعوالمه الممكنة، والصورتان تدفعان الشاعر إلى التماس وسيلة
تعبير مختلفة في نتاجه الكشفي، فالشاعر في اتخاذه هويته
الروحية وأصالته الإبداعية، ما ينم عن فطرته الإنسانية
الصافية، ورؤيته الكشفية الإبداعية، سواء بدافع رفع الشيء عما
يواريه في أنساق الواقع، أم بدافع معرفة ما وراء الإدراك، من
خلال صفات الحق وجوداً وشهوداً
[53].
ناقش وجيه قانصوه- في معرض حديثه عن لا اعتيادية اللغة
الدينية– حسّية اللغة وعدم قدرتها على استيعاب الأفكار
والمعاني الغيبية، خاصة في النص الديني، فيذهب إلى: أن للنص
الديني لغة خاصة وراء اللغة الاعتيادية، وتكون ذات منطق خاص
وبنية تركيبية تختلف عن لغتنا، تشكّل بمجموعها مائزاً ذاتياً
ومعرفياً، يشفّ عن نظام آخر ثانوي ثاوٍ وراء نظام اللغة
الأولي، يكون التعرف عليه مدخلاً لكشف قواعد إنتاج ذلك النص،
وطبقة المعاني القابعة وراء المعنى الظاهر الذي تحيل إليه
اللغة الأولى، فلا يمكن فك رموز هذا النص أو الكشف عنها إلا
بالتعرف على منطق ذلك النص والنظام التركيبي الخاص به. وبغية
إدراك هذه الحقيقة، علينا أن ندرك المفارقة بين حسية اللغة
الاعتيادية ومحدودية المعقول فيها وبين تعالي المعنى
المعَـبِّر في النص الديني، أي إنّ لا اعتيادية اللغة في النص
الديني نابعة من لا اعتيادية التصورات الدينية، التي لا تتسع
لها التعابير الاعتيادية النابعة من تجاربنا المحسوسة، التي
أشار إليها شلاير ماخر، حين أثار الأبعاد اللاعقلية للدين التي
تتجاوز المجال الإدراكي للعقل، حيث يرى: إن الدين لا ينبع من
قدراتنا العقلية، وإنما من اختبارات الكائن المحدود في مواجهته
لمحدوديته وهشاشة وجوده. وهذا ما يتساوق مع رؤية كانت، أيضاً،
في محدودية أو قصور اللغة الاعتيادية في التعبير عن ما وراء
الحس، فحين نتعامل مع لغة غير مرتبطة مباشرة بالتجارب الحسية،
نكون حينئذ نتعامل مع أفكار تخمينية، ولا يمكن اعتبارها معرفة
عقلية. فاللغة المتداولة بيننا تؤدي وظيفتها بالكامل حين
نستعملها للتعبير عن تجاربنا الحسية، فهذا أساس تكوينها، أما
حين ننقل التعبير إلى ميدان ما وراء التجربة الحسية فإن اللغة
المتداولة لا تعد مؤهلة للقيام بهذه الوظيفة، بل لا بد من
ابتكار نظام تعبير آخر، وممارسة انتهاك لأساليب التعبير
المألوفة، ومن ثم تصبح لدينا لغة ثانية قابعة وراء اللغة
الأولى، تأخذ اللفظ إلى أمكنة معنى آخر، من دون أن تلغي المعنى
المعجمي، وتدخله في شبكة انتظامات وإحالات جديدة، تخلق في النص
الجديد عالماً جديداً متعالياً
[54].
إن مسألة حسّية اللغة هي مسألة عامة تشمل جميع لغات
العالم، ولا تقتصر على لغة بعينها، نعم إن التفاوت بين اللغات،
من هذه الناحية، موجود، لكن الظاهرة تشمل الكل دون استثناء،
كما أنها لا تُعد عيباً، لسبب بسيط جداً، هو أن اللغة– أي لغة،
ومهما ثرت ألفاظها- تبقى محدودة، بقبال لا محدودية المعاني،
فلا يمكن أن نتصوّر بشكل من الأشكال أن هناك لغة تستوعب
المعاني كلها، لأنه أصلاً
لا كل/ كلية للمعاني، فالمعاني هي من تشكيل الفرد،
والفرد بمقدوره أن يؤلف معاني لا حصر لها ولا انتهاء، ولا
بمقدوره هو، أصلاً، أن يتنبأ بها، فأنى باللغة وواضعها أن
يتنبأ بالمعاني التي يمكن أن تنتج منذ أصل الوضع اللغوي إلى ما
شاء الله تعالى، إذاً فاللغة محدودة والمعاني لا محدودة، وأنى
للمحدود أن يستوعب اللامحدود؟ وليس بعيداً عن ذلك ما ذهب إليه
أيمن عودة في تحليله النص الصوفي، حيث يقول: إن اللغة
تنهض في أصل وضعها لتغطي حاجة المجتمع في التواصل والتفاهم،
وكل ما يدخل في حيز الإدراك والمعرفة البشريين من المنظور
الحسي الظاهراتي، وقد عانت التجربة الصوفية من محدودية اللغة
في التعبير عن غير ما وضعت له، فأدركت أنه لا يمكن التعبير عن
كل ما يدخل في حيز المعارف الذوقية النابعة من خبرتها
(الصوفية) إلا إذا استخدمت إستراتيجيات تعبيرية غير معهودة
تنزع فيها إلى تغييب الألفة بين الألفاظ ومعانيها المتداولة
وتغريبها عنها واشتغالها باستحضار أفق دلالي جديد يحيل إلى
مضمرات معرفية مستمدة من ملابسة التجربة الصوفية والانفعال
لها، أي أنها قائمة على إستراتيجية الحضور والغياب، استحضار
المعنى الصوفي الغائب، وتغييب المعنى المعجمي الحاضر، على نحو
لا يحدث قطيعة كلية بينهما[55].
وإذا ما تفحّصنا النص الآتي سنلحظ ذلك بوضوح، حيث يصرح أديب
كمال الدين بقوله:
حرفي حرفٌ عجيب
يبحثُ في الماضي والمخبوء
يبحثُ في الغيمةِ والشعاع
يبحثُ في الظاهرِ والباطن
[56]
الشاعر في هذا النص يمنح حرفه صفة العجائبية؛ تلك التي تتخطى
المألوف وتقفز على سيرورة الزمن، وتمحي حدود المكان، لتخلق
الدهشة، ومن ثم فهو يُهيئ للحرف أسباب التنقل بين الماضي
والمخبوء، بين الغيمة والشعاع، بين الظاهر والباطن، ليُفعّل
الفعل العجائبي لاستكناه ما بين كل ذلك، إذ لولا الصفة
العجائبية لما تمكن الحرف من ذلك. وإذا ما أمعنّا النظر في
النص الآتي سنلحظ اتساع صيرورة الحرف لاستيعاب معاني الشاعر
بشكل لم تألفه اللغة في غير تلك التجربة، إذ يقول:
صرخ المغني من الأعماق
فتحوّلتُ إلى حاء وتاء وجيم
وصرتُ كافاً بشوقي
في حضرةِ الكافِ
الكبرى
[57].
نلحظ في هذا النص أن الشاعر قد تجلى في الحرف (تحوّلت
إلى حاء..) و(صرتُ كافاً) هذا التجلي لم يكن لولا اتساع الحرف
من خلال منحه البعد العجائبي، وكأن أديب كمال الدين استشعر ضيق
عبارات اللغة في اتساع رؤياه، أي كما قال النّفّريّ
"كلما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة "[58]،
فلجأ الشاعر إلى أن يشق لنفسه عبارات حروفية تسع رؤاه، ولكن
أنى للحرف/ الجزء أن يسع ما ضاقت به الكلمة/ الكل؟ ربما هي
المرجعية الصوفية التي أسست لهذا النسق، تجلي الكل في الجزء،
حيث نجد الرؤية المعرفية في التجربة الصوفية قائمة على تفاعل
أطراف ثلاثة متباينة؛ هي: الحق والكون والإنسان، وفيما يبدو أن
الإنسان محور هذا التثليث، والعلامة الكبرى والأكثر بروزاً في
الدلالة على الحق المطلق، إلى مدى يمكن اختصار هذا التثليث إلى
ثنائية، بإضمار الكون في الإنسان، كما في قول النفّـري: أنت
معنى الكون كله[59].
تَمثَل أديب كمال الدين هذه الفكرة ليجعل من الحرف معادلاً
موضوعياً للإنسان/ ذات الشاعر، والحياة والكون، ليتجلى ذاك كله
في الحرف ومن خلال الحرف، ليصبح الحرف هو الموت الأعظم، وهو
الاحتجاج على الموت والالتفاف عليه، في آن، فلا غرابة بعد كل
هذا، في أن يكون الحرف معنى الكون كله .
تمثّل أديب كمال الدين القرآن الكريم والتجربة الصوفية
مرجعيتين أساسيتين له، حيث صرّح هو بذلك "أنا كائن قرآني صوفي
حروفي"[60]،
بيد أن هاتين المرجعيتين باديتان وضوح الشمس في شعره، فالأولى:
بدت على عدة مستويات بدءاً من افتتاح بعض سوَر القرآن بالحروف،
وقسم رب العزة ببعضها، وربما هو الذي قدح فكرة التأمل في الحرف
في ذهن الشاعر، إذ يرى الشاعر:
“إن
الحرف الذي حمل معجزة القرآن الكريم لابد أن يحمل سراً أو
معجزة خاصة به، فضلاً عن أن الله تعالى قد قَسَم ببعض الحروف
في مفتتح بعض السور، وهذا دليل على وجود سر إضافي[61]،
شغل هذا السر أديب كمال الدين، ورأى أن الحرف ليس أنه
لم ينل نصيبه من الاهتمام، بل هو غير مفكر به أصلاً في المدونة
الفكرية والأدبية العربية، فكرّس أغلب جهوده في خدمة الحرف،
ومحاولة كشف أسراره، فهو ربما لا يعنى كثيراً بإبراز الجمال
بقدر ما يعنى باكتشاف أسرار الحرف، فمما يؤكد تمثّل المرجعية
القرآنية قوله :
وقالَ: الحرفُ حرفي
ستجدهُ في كهيعص
وألم وطه ويس وق ون.
فكيفَ لكَ أن تتقبّل سرَّ السر[62]
مروراً بكثرة
تناصه مع جملة من آيات النص القرآني، والتي منها- لا على سبيل
الحصر:
- وقد ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم ؟ ......
وأقرب من حبل الوريد ؟[63]
وكذلك :
- ولتكن رحمتك
أربعةً من الطير يأتين سعياً
[64]
أما المرجعية الثانية/ الصوفية فنلحظ تمثلها أما من خلال
تصريحه المباشر:
اقتبستُ من النّفّريّ جملةَ البدء
ومن دمي جملةَ المنتهى[65]
أو من خلال تضمين
شعره لأسماء أشهر المتصوفة: كـالنفّري وابن عربي وجلال الدين
الرومي والحلاج، أو من خلال تمثله لمواقف النّفّريّ عبر
ديوانه: مواقف الألف؛ لاسيما في عبارة (أوقفني وقال لي) على أن
الوقفة، من منظور الرؤية الصوفية، هي مقام وليس حالة عرضية أو
اعتباطية، فهي تعني لديهم "الحبس بين مقامين لعدم استيفاء حقوق
الذي خرج منه وعدم استحقاق دخوله في المقام الأعلى، فكأنّه
التجاذب بينهما"[66]،
بمعنى أنها مقام تمهيدي مؤقت بين مقامين يستلزم قضاء ما بقي من
حقوق المقام السابق بغية التهيؤ للمقام اللاحق، يسعى الصوفي
لتحصيله من خلال سلوكيات معينة ورياضات محددة، والوقفة، من
منظورهم، لا تعني التوقف أي اللاحركية، بل هي الحركة الدائبة،
حيث يصرح النّفّريّ: "وقال لي: لا ديمومة إلا لواقف، ولا وقفة
إلا لدائم"[67]،
وعلى وفق مقام الوقفة يكون الواقف على استعداد لتلقي الفيض
الإلهي بعد أن يبلغ مقام الرؤية والفناء في الشهود[68]،
وهذا ما تشي به عبارة (أوقفني وقال لي)، ومن ثم فإن مواقف
الألف بالنسبة إلى أديب كمال الدين هي مقام تلقي الفيض
الحروفي؛ من ذلك قال:
(الحرف حرفي، ستجده
في كهيعص وألم وطه ويس ...) . أو من خلال تمثل المعجم الصوفي،
على مستوى العبارة والتركيب:
وصرتُ كافاً بشوقي
في حضرةِ الكافِ الكبرى
[69].
ولكن السؤال الذي يمكن أن يطرح، إذا ما كان الأدب/
الشعر، رسالة،
ولكي أن تكون الرسالة فاعلة –على وفق نظرية جاكبسون- تقتضي
نسقاً مشتركاً بين المرسل والمرسل إليه، وإذا ما حاولنا تطبيق
هذا على حروفية/ شعرية أديب كمال الدين– الذي ندعي أنه قد
اجترح أبجدية خاصة به– نكون قد وقعنا في مطبٍ لا يسهل الخروج
منه، يتمثل في كيفية تحقق التواصل في شعر أديب كمال الدين
بانعدام النسق المشترك/ الشفرة بين المرسل والمرسل إليه؟ حتى
إذا ما عللنا ذلك
بالمقارنة بين تجربة كمال الدين والتجربة الصوفية،
والتي تشابهها إلى حدٍّ كبير، يمكن أن يقال: إن التجربة
الصوفية قد صيغت خصيصاً لتكون غائمة على العامة، منكشفة على
المتصوفة، فتجربة كمال الدين، غائمة على مَن، منكشفة لمَن؟
لاسيما أنه يصرّ على ذلك الغموض إذ يقول:
يقولُ النحويّ: سأضعُ النقاطَ على الحروف.
ويقول الفيلسوفُ: أضعُ النقاطَ على الحروف.
ويقول المغنيّ: ها أنذا أضعُ النقاطَ على الحروف.
أنا الوحيد الذي قلت :
سأمسحُ النقاطَ عن الحروف
لأضيع في جنوني القادم
في نونكِ التي أضاعتْ نقطتها
في الزحامِ والثرثرةِ والخوفِ من الشوارع المظلمة
[70].
فمثلاً كيف محاولة قراءة النص الآتي :-
أيّتها النون
أرسلتُ إليك الشين، هل وصلتْ ؟
وأرسلتُ إليك اللام، فهل وصلتْ ؟[71]
فإذا ما اجتهدنا في تفسير النون بالأنثى، وفق معطيات ثقافية،
يمكن أن تكون دوالاً استرشادية، كنون النسوة التي هي باتت
رمزاً للمؤنث، و (ن) والقلم، التي فُسرت– على رأي– بالدواة/
المحبرة. فكيف يمكن تفسير (الشين) و(اللام) وإلى ماذا يرمزنّ؟
للإجابة
على هكذا سؤال يمكن القول:
1-
إن حروفية أديب كمال
الدين– إن لم يكن هناك دوال استرشادية أو قرائن نصية– فهي في
بعض اشتغالاتها، لا تعني الحرف بذاته، بل كينونة الحرف كاسم
جنس، ليكن الواحد ممثلاً للمجموع، ومن ثم ليصبح وجود حرف معين،
ماهو إلا ملء فراغ حرْفي داخل اللوحة الشعرية، أقول فراغاً
حرْفياً لأنه لا يملؤه إلا الحرف تحديداً، ومن ثم يكون حينئذ،
يمكن استبدال حرف بحرف آخر، ما لم يكن هناك موانع ثقافية أو
قرائن سياقية تمنع ذلك، أي إذا استبدلنا (الشين) بــ(السين) و
(اللام) بـ(الراء)، مثلاً، في النص أعلاه، ففي رأي الباحث أن
الأمر لا يختلف شيئاً، لتكون المقطوعة
في الفرض أعلاه كالآتي :
أيّتها النون
أرسلتُ إليكِ السين، هل وصلتْ ؟
وأرسلتُ إليكِ الراء ، فهل وصلتْ ؟
2-
ينبغي قراءة مضمون
الحرف (رمزاً، قناعاً، إشارة) على وفق تجربة الشاعر بكاملها،
فهو قد اجترح رموزاً وأقنعة لبعض الأحرف، لا يمكن الاهتداء
إليها إلا من خلال الاطلاع على التجربة الحروفية كاملة، فتكون
قراءتك، حينئذ، "أن تقرأ الحرف في انعطافه على داله، وفي
إيماءته على نفسه ليستنطق دلالته، وكأنك تقرأ اللغة باللغة
التي تحتوي الشيء في مرامه، ضمن سياق اللغة الواصفة في تأملها
الأشياء باستمرار"[72]،
ذلك أن في تجربته– كما ترى د. بشرى موسى- يكون الجزئي ملتحماً
بالكلي، والبنية النصية دالاً شمولياً على النتاج الشعري برمته[73]،
أي إذا ما كان الحرف يسهم في إنتاج دلالة رمزية، على وفق
الرؤية الفنية في تجربة كمال الدين الحروفية، فإن السياق
التعبيري بصيغه المجازية هو الذي يحيل إلى ما تشير إليه الحروف
في محتواها الرمزي الداعي إلى التأويل[74]،
من ذلك نجد أنه قد رمز بالكاف إلى الذات الإلهية
حيث يقول:
أيتها
الكاف
شيئاُ من رحمتكِ التي وسعتْ كل شيء[75].
فيما رمز بالنون إلى المرأة/ حبيبته، ولذاته بالألف، حيث قال :
تهبطُ أمطاراً على صحارى النون
علّها تخضرُّ فتخرج قمحَ الألف[76]
3-
إن مرجعية أديب كمال الدين القرآنية والصوفية قد سوغت له ذلك
الغموض والإيهام، فالقرآن الكريم الذي هو {...
هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}
(البقرة : 158) لا زالت الحروف المقطّعة، في مفتتح بعض السور
القرآنية، لم يُكتشف كنهها لحد الآن، وقد أوكل أمر العلم بها
إلى الغيب، على أنه لم يقفل الخوض في قراءتها وكشف أسرارها،
لذا نجد الشاعر قد أكد أن كينونة حرفه توجد في كينونة الحروف
المقطعة في القرآن الكريم، إذ قال:
وقالَ: الحرفُ حرفي
ستجدهُ في كهيعص
وألم وطه ويس وق ون[77]
على أنني لا أدعو هنا إلى إيكال أمر حروفية كمال الدين إلى
الغيب، بل ما أعنيه أن بعض تلك الحروف هي من قبيل النص المفتوح
القابل للقراءة والتأويل أي الذي يشترك المتلقي في ملء
فراغاته، بمعنى أن وظيفة الحرف تكمن في كونه وسيطاً دلالياً
يشترك المتلقي في إنتاج معانيها، على وفق تجربته الحياتية،
فتكون أشبه بالبويضة التي يلقحها فكر المتلقي، فيولد المعنى
حاملاً جينات المتلقي القرائية، والتي هي تختلف بالضرورة من
متلقٍ إلى آخر. وأما التجربة الصوفية فإن الغموض والتعتيم
والإيهام هو إستراتيجية نصوصها، أو لنقُل هي نسق ثقافي صوفي،
ذلك "أن الصوفي يؤسس وجوده على التعارض مع الآخر، والاختلاف
معه في الرؤية والوسيلة والهدف"[78]...
ومن ثم فإن بعض حروفية كمال الدين هي أما على وفق المرجعية
الأولى (الحروف المقطّعة في القرآن الكريم)، وأما على وفق
المرجعية الثانية/ الصوفية، وهو حينئذ من قبيل النص ذي المعنى
التركيبي لا المعنى اللفظي، الذي يكون للحدس والسياق العام
مدخلية مركزية في تأويل الحرف وكشف مدلوله.
4-
حروفية كمال الدين تخلق فضاءً افتراضياً، ليصبح شعره الحروفي
لعبة شعرية، وعلى القارئ، إذا ما أراد أن يدخل في تلك اللعبة،
أن يتواطأ مع شروطها، والتي تفترضها اللعبة ذاتها، ليستمتع
بمتاهات الحرف وانكشافاته، وانفلاته من التنميط أو الإذعان
لطاعة النسق، وتقلباته في الذات أو تقلب الذات في تضاعيف رسمه،
ليصبح الشعر، والحال هذه، مغامرة جنونية، فهاهو يصرح:
أعظمُ ما في الشِعر
أنّه يصيّرُ جنوننا الفادح
حروفاُ لا معنى لها !
[79]
وعليه يمكن القول أن الشعر الحروفي لدى أديب كمال
الدين، جاء منفلتاً من نسق الشعر العربي المعاصر، انتصاراً
للهوية الذاتية على الهوية الجمعية، على وفق رؤية ما بعد
حداثوية ترى بضرورة الانتصار للنزعة الذاتية المنفلتة عن كل
مقولة مركزية، وهذا ما أكده د. عبد القادر فيدوح الذي يرى: أن
شعر كمال الدين جاء على وفق الرؤية الشعرية المعاصرة، والذي
تقوم القصيدة فيه بالكشف عن أنظمة العلامات، وهي أنظمة قوامها
الإبانة عن الجنوح الذي تمارسه الذات، وتسهم في تشكّيل المعنى
عبر القيمة الدلالية المرتبطة باللفظة والتي تستمد شرعية سمتها
أما من العبارة اللغوية أو من البياض الباني، ذلك أن الفكر
البشري في بداية الألفية الثالثة، أصبح يتيح للنزعة الذاتية أن
تنظّم عالمها المستقل، ولعل الاستقلالية المقصودة هنا: هي
توسيع النشاط غير المشروط في حدوده اللامتناهية والمرنة لرؤيته
المعرفية والسلوكية، مما زاد توجه الممارسة التلقائية، وهذا ما
أتاح للنص الأدبي– كغيره من المعارف– أن يتشعّب انطلاقاً من
فكرة خلية النص الرحمية[80]
.
الرمز والفراغ عند الشاعر أديب كمال الدين:
خصائص اللغة الشعرية وعلاقتها بالمعنى ومستوياته
د. أسامة غالي
ناقد وأكاديمي عراقي
(وأنقذْني من الثرثرةِ
فلا أنطق إلّا رمزاً).
(1)
تأتي هذه القراءة لتكشف عن توظيف الرمز وتشكلاته عند الشاعر
أديب كمال الدين ومقاربته مع ما هو موجود في الحاضنة الصوفية
كي نتعرف على ميزات النص الحروفي التي جعلت منه (نصاً إبداعياً
لم يحققه أحد من شعراء عصره)، هذا وان أديب كمال الدين عَنِي
عبر تجربته الشعرية بالحرف والنقطة والمواقف والإشارات وما
يتصل بالرمز الشعري.
عند الرجوع إلى نصوص أديب كمال الدين نجده يوسّع إطار الرمز
حتى يشمل الإشارة والتي هي عبارة عما
(يخفى عن المتكلم كشفه بالعبارة للطافة معناه) وغيرها من اللغز
والايماء، وبذا لا يجعل من الرمز قسيما للإشارة كما هو الحال
عند المتصوفة الذين وضعوا برزخا بين الرمز والإشارة مما يشي
بتباينهما، بل إن
أديب كمال الدين يجعل من الرمز جسراً يربط بين (الغيب والحس/
الخيال والواقع) لكن بطريقة أخرى تتم
بتقريب الميتافيزيقي، ووضعه بصورة حسية ماثلة أمام القارئ
خلافاً للرؤية الصوفية التي تعتمد تفسير الواقع
الحسي بإرجاعه إلى صور غيبية مستترة، وبهذا يكون أديب كمال
الدين قد استند على الرؤية القرآنية التي تعتمل
الرمز بطريقة التماثل بين عالم الغيب والشهود، فتصبح وظيفته هي
اختزال ما وراء الحس بحروف ومواقف وإشارات والسعي نحو خلق كثرة
وجودية، مفيداً بعض ملامح هذا التوظيف من تجربة النفري صاحب
المواقف:
(اقتَبسَتُ مِن النِّفَّريّ جُملةَ البَدء
ومِن دمي جُملةَ المُنتهى.
وما بين الجُملتين
بعينين دامعتين
وقلبٍ يشبهُ شجرةَ الأمل).
(2)
وهذا المفتتح وإن كان يشي بتجربة جديدة ومغايرة في حدود مجموعة
(مواقف الألف) وما يتعلّق بصدى مواقف النفري على مواقف أديب
كمال الدين الّا أن فكرة الموقف الرمزية تتكرر في نصوص أخرى
دون أن يصرّح
الشاعر بذلك أو يضع مفتتحا، وبالتالي تكون جملة البدء (فكرة
الرمز) مأخوذة من التجارب الصوفية ثم اشتغل عليها أديب كمال
الدين بأسلوب خاص حتى تماهت ملامح تلك التجارب في تجربة الشاعر
الحروفية وخرجت من إطارها المعرفي إلى إطار شعري يخضع للقصدية
والمحاكاة.
*
الرمز وانحسار اللغة:
يتعرف القارئ لنصوص أديب كمال الدين على لغة خاصة أو استعمال
لغوي خاص يندرج ضمن هوية النص الحروفي القائم على قصدية داخلية
بمعيتها تتضح خصائص لغة أديب كمال الدين الشعرية وعلاقتها
بالمعنى ومستوياته.
تأتي لغة أديب كمال الدين بتراتب وتفاوت في الدلالة مع ما
ينسجم وتراتب المعنى، حيث اللغة عند أديب كمال الدين تابعة
للمعنى في التكون ما يجعلنا نستعير قولة النفري (كلما اتسعت
الرؤية ضاقت العبارة)، فاتساع المعنى يشي بانحسار وضيق اللغة
ما يدفع بالرمز نحو الظهور كي يصير معقدا رئيسياً للتخلص من
الإشكالية البيانية، حيث اتساع المعنى يؤذن بحتمية وجود الرمز
حسب النفري، بينما في تجربة أديب كمال الدين الأمر مختلف،
الرمز متأت من قصدية داخلية وليس بسبب التلازم المفترض بين
اتساع المعنى وضيق اللغة، وهذه من أهم العلامات الفارقة في
تجربة أديب كمال الدين والتي تؤكد وجود منحى جديد ومختلف عن
المناحي والتجارب الصوفية، إضافة إلى ذلك الثيمات المركزية
التي يشتغل عليها أديب كمال الدين إذ تنتمي بمجموعها لتجربة
الشاعر الإنسانية والثقافية وعلاقته بالمجتمع ولم تكن ثيمات
جاهزة أو تقليدية تتجه نحو فكرة واحدة كما هو الحال عند
المتصوفة حيث يتجهون نحو البحث عن الذات من أجل فنائها في
المركز، فإلى جانب فكرة الحب والفناء تجد أديب كمال الدين
مشغولاً بما حوله من واقع وأفكار وشخوص، وكثير من قصائده انطوت
على الجانب المأساوي وهو يكتب عن الموت والحرب ولم تقتصر رؤيته
للأشياء بعين الرضا والتسليم بل تجد للتمرد والاستياء حضوراً
في قصائده يوازي حضور الجمال والحب والتسليم للقدر، كما أن هذا
التجميع بين الرؤى المتباعدة والمتناقضة يُعد علامة فارقة أخرى
في تجربة أديب كمال الدين ويشير إلى صوت مختلف عن الأصوات التي
عملت على استعادة وهج القصيدة الصوفية.
*
أنماط اللغة ومستويات المعنى:
تشير القراءة في نصوص أديب كمال الدين إلى وجود ثلاثة أنماط
لغوية رئيسية:
أولاً: نمط مباشر، وهو نمط يتسم بالتعبيرية، وتؤدي اللغة
المعنى بطريقة حرفية وبمستوى ظاهري لا يحتاج إلى أدنى إجراء
تأويلي.
)أوقَفَني
في موقفِ الصبر
وقالَ: الصبرُ امتحانٌ عظيم.
فماذا ستفعلُ يا عبدي؟
أعرفُ أنّ كلماتكَ سترتبك
وينهار معناها
مثل جبلٍ من الثلج
وستدمع عيناكَ مثل طفل ضائع
في السُّوق.
(3)
ففي
هذا النص لا يوجد استدعاء تأويلي، إذ جميع المفردات ذات دلالة
حقيقية مباشرة وحتى التشبيه المستعمل تشبيه حسي مفصل بين معان
متساوقة في الوضوح.
ثانياً: نمط غير مباشر، وهو نمط يعمد إلى الايهام والخفاء بغية
إيجاد مستوى باطني للمعنى تمارس بازائه قراءات متنوعة وهذا
يكون بالخروج من اللغة المعجمية إلى التواضع والإصطلاح.
)
جلسُ كي أكتبَ سرَّك
وسرَّ سرّك
بكسرةِ حرفي.
وأجلسُ أيضاً
كي أمحو حرفي
حتّى لا يظهر من سرِّك
وسرِّ سرّك
سوى السِّين وقت انقضاض الزلازل
وسوى الراء وقت انهمار المطر.)
(4)
في
هذا النص يتكرر استعمال مفردة (السر) والتي تقترن بجانب
الخفاء، ومفردة (أمحو) التي تأتي أحياناً بصياغتها الاسمية
(المحو) وتارة بصياغتها الفعلية كما في النص المتقدم،
واستعمالها كـ(فعل) سيزيل عنها دلالتها الاصطلاحية التي ارتبطت
معرفيا بسفر الذات العارفة، وينبئ عن توليف جديد يقرن الجانب
اللغوي بالجانب الاصطلاحي.
ثالثاً: نمط مُشفّر، وهو نمط خاص جداً أقرب في استعماله إلى
العلوم الغريبة كالسحر والجفر من الشعر والحقل الإبداعي
الأدبي، فضلاً عن خلو هكذا نمط من القيمة الفنية لجنوحه إلى
التجريد الخالص والتصورات التي تجمع بين علم الأثولوجيا
والتأمل الميتافيزيقي وأخلاط أخرى من العلم القديم كما عبرت
عنه المذاهب العرفانية المستورة:
(ستقولُ له كلَّ نون
وستسحرهُ بالحروفِ وأسرارها
وستدهشهُ بكهيعص ويس وطسم وألم).
(5)
وبمعية نص آخر لأديب كمال الدين تتضح كثافة التجريد وتتأكد
إشكالية الفهم، حيث يطفو الحرف على سطح النص بغية خلق حجاب
بينه وبين المتلقي.
(ذاتَ يومٍ مُقدّس،
ستفتحُ هذه الحاء التي كحّلتْ
قلبَها بسرِّ الحياة
آخرَ بابٍ: بابي الأربعين.
وستدخلُ لتكتبَ على جدران روحي
أنّها كشفتْ طاءَ الطلاسم والسحر
وتماهتْ مع حرفي الذي قاربَ الفجر
حتّى تحوّل إلى شمسٍ وبحر.
ستدخلُ لتكشفَ عن كلِّ نون
وستكون سعيدةً، دون شكٍّ، بكشوفاتِها
فلقد عرفت الحرفَ الأعظم،
وكلّمتْهُ كما تشتهي
فردَّ عليها
وردّتْ عليه
وزادتْ فزاد.
ثُمَّ أجلسها قُربه.
كيف؟
وبأيِّ صفة؟
ملكة؟
عارفة؟
ساحرة؟
لا أعرفُ لذلك جواباً أكيدا.
كلّ ما أعرفه أنني قد بنيتُ
لروحي وحرفي باباً جديدا
لا يُسمّى لكثرةِ أسمائه،
ولا يختفي لشدّةِ أسراره،
ولا يُطْرَقُ لأنّه لا يُرى،
ولن يدخله أحدٌ أبدا!).
(6)
إن قراءة نصوص أديب كمال الدين المنطوية تحت النمط الثالث تحيل
إلى موضوعة التناص خصوصا ما يرتبط بالحروف القرآنية المقطعة
الا أن القراءة تتجه في محاولتها هذه إلى جانب تأدية المعنى
الشعري بعيداً عن مرجعية الحروف القرآنية والسياق الخاص الذي
انبثقت منه، إذ من الواضح للمعنين بالشأن القرآني أن هناك
إشكالية حول نمط لغوي كهذا جاء به القرآن، والإشكالية ترتكز
على وظيفة الحروف المقطعة وتأديتها للمعنى رغم أن النص القرآني
لا تقتصر قراءته على البعد الأدبي، فكيف بحضور هكذا نمط في نص
شعري؟
إن النص الأدبي عبر مراحل تطوره وتحول موضوعاته واشتماله على
الأسطورة والرمز يبقى منتميا لثقافة عصره ويراهن على أن يجد
مساحة واسعة عند متلقيه، والتفاعل بين النص والمتلقي يتأسس
أولاً على اللغة، إضافة إلى ذلك، فإن طبيعة اللغة المستعملة
تحدد هوية الخطاب الشعري وتميزه عما سواه.
*
الحرف والنقطة:
قبل بزوغ حركة التصوف كان الرمز يمثل انعكاسا للواقع فهو نتاج
تساؤلات معقدة ارتبطت بالفراغ وبفضاءات البحث عن المجهول، أما
بعد مجيء التصوف بات الرمز نتاج رؤية تنسجم مع الإطار
الايديولوجي العام، ويستجيب الإنسان من خلاله للعوالم الروحية
المشعة بمعاني العشق والجمال والبحث عن المقدس، لذا دفع التصوف
بالرمز نحو تشكلات أخرى يتعالق عندها المعرفي بالايديولوجي
ويتجاوب عبرها الخيال مع الواقع حتى أصبح الشعر والنثر الصوفي
يرتكز على الرمز ارتكازا عميقاً وواضحاً، وبدأت تظهر علاقات
ودلالات جديدة تؤثث الفراغ الحاصل بين الذات والآخر، ولم يقتصر
الرمز على الجانب التركيبي أو الصورة في النص بل ألقى بظلاله
على الحرف والنقطة، وبدا الحرف حاضراً بقوة في النص الصوفي، ما
دعا كثير من المتصوفة أن ينقبوا في بنية الحرف ويضعوا له
تعريفات عدة تجاوبا مع قيمته الرمزية وقدرته على اختزال حقائق
وجودية، والكشف عن دلالة كل حرف وما يقابله من أسفار ومواقف،
كما أشار إلى ذلك محيي الدين بن عربي في واحدة من قصائده:
(إنّ الحروف التي في الرقم تشهدها
لها معان وأسرار لمن نظرا)
لكن المفارقة تكمن في تعامل المتصوفة مع الحرف، اذ يتجهون نحوه
من زاوية فلسفية، وهذا ما ألمح إليه ابن عربي:
(علم الحروف شريف لا يُقاس به
علم الكيان لمن قد جد أو سخرا)
خلافاً لأديب كمال الدين، حيث يتجه من زاوية الشعر، وإن كان
يشتغل على الحرف تبعاً للنفري وابن عربي والحلاج وآخرين بسبب
تقارب الرؤى والانسجام الفكري، لكنه من جهة أخرى يسعى لتحقيق
الريادة في الكتابة الحروفية الحديثة، وهذا ما ألمح إليه في
واحدة من قصائده.
(وقالَ سيسمّونك الحروفيّ
فتبصّرْ).
(7)
ومن هنا يجد المتتبع لتجربة أديب كمال الدين اشتغالا واسعاً
على الحرف، وكذا النقطة التي ترتبط بالحرف ارتباطاً شديداً
باعتبارها جزءا منه، اذ النقطة بداية الخط والحرف يعد تعبيراً
آخر عن تكرار النقطة وبتشكلات عدة يقتضيها التنوع والتفاوت في
المعنى والوجود، وقد أشار أديب كمال الدين إلى هذا:
(أوقَفَني في موقفِ
الاسم
وقالَ: ما اسمكَ يا عبدي؟
قلتُ: النقطة.
قالَ: بل الحرف والنقطة جزءٌ منه).
(8)
وعليه، فإن حضور (الحرف/ النقطة) في نصوص أديب كمال الدين
يساوق حضورهما المعرفي في الحاضنة الصوفية مع فارق ان حضورهما
عند أديب كمال الدين حضور منبثق من إطلاع وقراءة وتأمل وليس
منبثقا من حالة إشراقية فحسب، وهذا ما تؤكده نصوص أديب كمال
الدين نفسه:
(وقال: الحرفُ حرفي
ستجدهُ في كهيعص
وألم وطه ويس وق ون).
(9)
إن هذه الاستعارة للحرف القرآني طالما يعتمدها أديب كمال الدين
في نصوصه (ويزرعها في أصابعه وجسده كي تصبح ريشا، ومن ثم إذا
نبتت وكبرت فرح بها أو لها) ، لذا تتكرر في معظم قصائده، وما
ان ابتعد عنها تغير شكل الحرف.
(ما كانتْ تكفي لكتابةِ قصيدةٍ عن الحاء
ولا عن الباء
ولا عن الحاء والباء).
(10)
ثم لا يقتصر حضور الحرف عند أديب كمال الدين على النص، بل
يتجاوز ذلك إلى العنونة الفرعية والعتبات الرئيسة فجاءت
مجموعاته (جيم/ نون/ حاء/ مواقف الألف/ إشارات الألف).
********************************
1-
مواقف الألف، شعر: أديب كمال الدين، الدار العربية للعلوم
ناشرون، بيروت، لبنان 2012، ص 15
.
2-
مواقف الألف، ص 11
.
3-
مواقف الألف، ص 24
.
4-
إشارات الألف،
شعر: أديب كمال الدين
، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2014
ص 14.
5-
الحرف والغراب،
شعر: أديب كمال الدين،
الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2013
ص 24.
6-
الحرف والغراب، ص 44 و45.
7- مواقف الألف، ص 12.
8-
مواقف الألف، ص 28.
9- مواقف الألف، ص 30.
10-
إشارات الألف، ص 64
قراءة في مختاراته الشعرية
أديب كمال الدين : ملك الحروف
باقر صاحب
ناقد وقاص عراقي
ورأى نقّادٌ ودارسون أنّ كمال الدين ألحّ كثيراً على استخدام
الحروف في تجربته الشعرية الطويلة، التي يقول عنها الشاعر بأنّ
عمرها نصف قرن، لكنّه مازال مصراً على تأكيد أسلوبيّته الخاصّة
عبر استلهام، إلى أبعد مدى، عوالم الحروف والنقاط، معبّراً عن
صدق تجربته الشعرية في هذا المضمار. وبالإمكان القول إن الشاعر
ردّ على تهمة إلحاحه على الاستثمار الحروفي في أحد
الحوارات معه: (تأمّلتُ في الحرف العربي خلال رحلةٍ شعريةٍ
امتدّت أكثر من أربعة عقود ولم تزلْ متواصلة، وعبر كتابة
المئات من القصائد الحروفية التي اتّخذتِ الحرف قناعاً وكاشفاً
للقناع، وأداةً وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموزٍ
ودلالاتٍ وإشاراتٍ تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا
كلّه أخلصتُ للحرف عبر عقودٍ من السنين حتى أصبح قَدَري الذي
لازمني وسيلازمني للنهاية)، في جانبٍ آخر، التجربة الحروفية لم
تأتِ اعتباطاً، بل إنّ كمال الدين أفاد من كتب التصوّف
الإسلامي، متمثّلةً في كتب الفتوحات المكّية لابن عربي، وبعض
شطحات الحلاج وكلماته في الطواسين وأشعاره، ومواقف النفري،
وكتب أبي حيان التوحيدي.
مختارات حروفية
أديب كمال الدين، أصدر أكثر من ثلاثين مجموعة شعرية، من بينها:
نون، النقطة، شجرة الحروف، الحرف والغراب، مواقف الألف، في
مرآة الحرف، حرف من ماء. ومن ثمّ ضمّها في سبعة مجلّداتٍ من
الأعمال الشعرية الكاملة. وخصَّص مؤخراً، بما عُرف عنه من دأبٍ
واجتهاد، مجلّداً آخر لمختاراته الحروفية، صدر عام 2024 عن
داري ضفاف والاختلاف. ومنه يستطيع القارئ الدقيق، تفحّص
التجربة الشعرية لكمال الدين في عالم الحروف. قسّم كمال الدين
كتاب مختاراته الضخم (630 صفحة) إلى أربعة أقسام: مرايا
الحروف، إخوتي في الحرف، حرف السجود، حرف المتدارك وما شابه.
في البدء نقول إنّ كمال الدين يعترف نصيّاً، بأنّ كتابة قصيدةٍ
قوامها الحرف والنقطة ليس بالأمر السهل، بل معاناة، أسهل منها
أن يتخلّص من حياته، وذاك اعترافٌ بقدسية الكتابة ومهابتها،
الكتابة الحروفيّة خاصة، وعلى ذلك أنّ استنطاق الحرف والنقطة
يثريه كمال الدين بدلالاتٍ إنسانية، كما في قصيدة "أغنية إلى
الإنسان" على سبيل المثال، لا الحصر، فمن الجلي أنها خطابٌ
مباشرٌ إلى الإنسان وتذكيره بقيم الجمال والنقاء.
يمكن القول عامة، إنّ صياغاته الشعرية، التي تغلغلت فيها
الحروفيّات، بصدقٍ فنّيٍّ واضح، كانت منطلقاً للتعبير عن
القضايا الكبرى في الوجود، مثل الحياة، والموت، والحب،
والكراهية، والظلم، والفقر، والطغيان. وترسّخ هذه المنطلقات
إضاءة البروفيسور حسن ناظم لتجربة كمال الدين الحروفية وغناها
الدلالي حين يقول (الحروف احتجاجٌ على عوالم الظلم، والضياع،
والحرب، وهي خيّرة وشريرة، حيّة وميّتة، بل هي ألغازٌ ومفاتيح
لفكّ المُستغلق من هذه الألغاز نفسها. الحروف أيضاً انسجامٌ
وتنافر، إنّها التناقض المطلق. وهي، من جهةٍ أخرى، أدوات،
ووسائل، وغايات، استعملها الشاعر ليحاول استبيان غموض العالم
الداخلي، وغرابة العالم الخارجي، من دون أن يقرّر بلوغه الفهم
الأخير لكلّ شيء).
هذا
التطعيم بالحرف والنقطة في سائر أشعار أديب كمال الدين هو
لترسيخ أسلوبيّته الخاصة في تجربته الشعرية الطويلة، ولإغنائها
جمالياً، لجهة جذور الإفادة التراثية والمعاصرة من الحرف
خطيّاً وزخرفيّاً وتشكيليّاً، ومحاولة إبراز معانٍ جديدة
للحروف بحسب المعطيات الدلالية للنص.
في قصيدة "عاشق
الهلال والنقطة" يتداخل العشق الإنساني مع عالم الحروف لغاية
التصريح بالرغبة في اختراع أبجديّةٍ جديدة، بالتعاشق مع الحروف
نفسها، وكأنّها كائناتٌ حيّة:
( ينبغي للشاعرِ أن يعشق
حتّى يتعرّف إلى الشمسِ وهي تشرقُ ليلاً
وإلى الهلالِ وهو يصبحُ نوناً من غيرِ نقطة
وإلى النقطةِ وهي تصبحُ سِحْراً
يضيءُ فحمة الليل).
مخاطباته الشعرية للحروف، تسبغ على أشكالها معاني جديدةً لا
حصر لها، كأنّها أشبه بالتعاويذ، فهو حين مناداتها، يروم خلق
عالمٍ جديدٍ لها، وبالتالي خلق فرادة التجربة الشعرية للشاعر
ذاته، فهو يذهب بإصرار، إلى استثمار أقصى أبعاد مغامرته
الحروفية، مثلما يرى الناقد الدكتور حاتم الصكر في مقالةٍ
شاملةٍ عن الشاعر (لعلّ حالة أديب كمال الدين حالة نموذجية
للإصرار على استخدام الحرف، واستثمار طاقاته الروحية العميقة
على مستوى الدلالة، وطاقته الجمالية على مستوى التشكيل
والبنية).
يتحدّث الشاعر بحميميّةٍ وعتابٍ مع الحروف، كأنّ اكتشافها، في
بدايات تجربته الشعرية، يمثّل له انفتاح مغاليق الكون، بعد
معاناته الكبيرة في هذه الحياة، التي يروم من خلال الشعر،
الرسوّ في مرافئ الخلاص من المعاناة. هذا التحدّث، الذي ينساب
بعذوبةٍ وعفويّة، يشكّل الملمح المهم في البناء الفني لقصيدة
كمال الدين:
(
أين كنتِ كلّ هذه السنين؟
لماذا صعدتِ الآن إلى سطحِ أيامي
بعد أن كانَ الغموضُ يأكلك
كما يأكل سمكُ القرشِ السمكَ الصغير؟
هذه أسئلة وضعتـُها أمامَ النون
فرأيتُ الألِفَ يلقي بنفْسه في البحر
بهدوء).
في قصائد مختاراته، استثمر التناصّ مع الأنبياء في قصصهم،
وكبار الكتاب في أسفارهم الإبداعية، والفنانين في آثارهم
الخالدة، فضلاً عن شخصياتٍ أسطورية وتراثية. وأفرد لها القسم
المعنون بـ(إخوتي في الحرف)، فأفاد كمال الدين من ملحمة
كلكامش، وديستويفسكي، ولوركا، والبياتي، وعبد الحليم، وعفيفة
اسكندر، وأم كلثوم، ومحمود البريكان، ونجيب محفوظ، وفيروز،
وتولستوي، وحسب الشيخ جعفر، وسركون بولص وغيرهم. اعتنت
اشتغالاته المعرفية مع السالف ذكرهم، بحسب حالاتٍ خاصةٍ بهم،
عُرفوا بها من خلال سرديات التاريخ الأدبي عنهم، مثلاً، الشاعر
يعدُّ نفسه محظوظاً، لأنَّه مسح بيديه دموع كلكامش المنهمرة
حزناً على صديقه أنكيدو، وعلى فقده عشبة الخلود التي سرقتها
الأفعى. وعلى هذا المنوال، يتناصّ مع ديستويفسكي بذكر أهم
رواياته، ويدسّ كمال الدين معلومةً سرديةٍ بأنّه تأثّر بكتابات
عملاق الرواية الروسية في سن العشرين.
استثمار سردي
بالتوغل في قصائده عن أهل الأدب والفن، نسجّل أنّ كمال الدين
استثمر السرد في تبيين الثيمات المعروفة في سفرهم الإبداعي
وشذرات سيرة حياتهم، ليس مع إخوة الحرف فحسب، بل معظم قصائد
المختارات، مثلاً، في قصيدة عن لوركا، هناك إشارةٌ واضحةٌ على
أنّ من قتله هو الجنرال فرانكو، ولوركا كشاعرٍ مناضلٍ غنّى من
أجل الحرية لشعبه، إن لم يُستهدفْ من قبل فرانكو، فمن قبل
أتباعه، ومن قبل كلّ الطغاة القتلة على مرّ التاريخ، وكأنّ
النصّ سرديةٌ متمازجةٌ مع الأبيات العفويّة العذبة، من تاريخ
استشهاده حتى بات أيقونةً نضاليةً إبداعيةً لامعةً في تاريخ
الأدب العالمي. شواهد شعريةٌ لا تُحصى، ترينا الاستثمار السردي
في حروفيّات كمال الدين، منها سرديّته الباذخة عن عبد الوهاب
البياتي، ففيها إلماحاتٌ مختارةٌ بدقةٍ عن سيرته الشعرية
الهائلة، هذا الذي بعد رحيله بفترةٍ قريبة، وُجّهت إليه سهام
الشتم والهجاء مقلّلةً من قدر سيرته الشعرية:
(
ثُمَّ إذ ابتلعتكَ الأرض،
أعني في اللحظةِ التي ابتلعتكَ الأرض،
شتموك
وطالتْ ألسنتهم كثيراً كثيراً
حتّى صرتَ "الشاعر الضحل" لا "الشاعر الفحل"!)
وباستثمار حكاية أحد مشاهير الفن: عبد الحليم حافظ، هناك
تضمينٌ مشوّقٌ لقصّة كفاحه وشقائه في الحياة وصعوده العبقري في
عالم الغناء، روّض تحدياتٍ كبيرةً في حياته، ولكن روّضتهُ
جرثومة البلهارزيا، وأطاحت به وهو "قمة الحب والشهرة".
صوفيّات كمال الدين
ملمحٌ بارزٌ في تجربة كمال الدين، ذلك هو استلهام مواقف وشطحات
أكبر المتصوفة في التراث العربي والإسلامي، وأشهر من أفاد منهم
في هذا العالم، النفري في مواقفه، ففي القسم المعنون بـ "حرف
السجود" يعلن في المُفتتح أنه سيقتبس منه جملة البدء، في رحلته
لإشهار كتاب الملوك، قاصداً بذلك الله سبحانه وتعالى. هنا
تطويعٌ للجملة السردية، التي تتكرّر في مواقف النفري "أوقفني
وقال"، والتي ستصبح هنا مواقف كمال الدين، ففيها يخاطب النفري،
بوصفه الغاية والوسيلة في التضرع إلى الله، وهو تضرّعٌ تنتفي
فيه المطلبيّات المادية، تشبّهاً بمواقف الزهّاد والمتصوّفة،
ويحضر فيه السفر الروحاني، لتقلّد أسمى الأسماء في هذا السفر،
ومع ذلك، فهي لا تنجع، فهي المُراد العَصيّ للروح التي لا
تستقر إلّا بالصعود إلى السموات العليا:
( فكيفَ ستختار نجمَك؟
أعرفُ أنّكَ ستقول: "الغريب".
لكنّ هذا لا يُجيب.
وستقول: "المَنفيّ" أو "المَحروم" أو "الضائع"
أو "المُمتَحن" أو "المُشتاق" أو "السَّجّاد"
أو "المَنسيّ" أو "المُتضرّع" أو "المُنوّن"
أو "المُتصوّف" أو "الزاهد" أو "العارف".
وكلّ هذا لا يحيط).
تتعدّد مواقف كمال الدين، كلُّ موقفٍ مُضافٌ إلى ثيمةٍ معيّنة،
بحسب دلالتها، تتدفّق تهجّدات الشاعر إلى الله، أعني ما يلي؛
موقف الألِف، موقف الرحيل، موقف المهد، موقف الظلام، موقف
الوحشة، موقف الصبر، موقف الشوق، موقف الاسم، موقف الحرف،
وغيرها تليها الإشارات. وباستقرائنا لمواقف كمال الدين
وإشاراته، نتيقن بأنها تمثّل تجربة الشاعر من النواحي
الإنسانية والثقافية والاجتماعية أيضاً. فهي ليست ثيماتٍ
استعلائيةً راكزةً في البحث عن الذات الصوفية وفنائها وتوحّدها
مع الجليل الأعلى فحسب، بل نجدها تبحث في ما يحيطنا من واقع،
ويشغلنا من أفكار، من الجانب المأساوي في شعرنة الموت والحرب،
وآخر إيجابي في الحديث عن الحب والحياة، يتمازجان ضمن الأبعاد
الحروفية والصوفية لتجربة أديب كمال الدين.
********************************
- الأعمال
الشعرية الكاملة: مختارات حروفيّة، أديب كمال الدين، منشورات
ضفاف
ومنشورات الاختلاف،
بيروت، لبنان 2024.
الفصل الثاني؛
دراسات ومقالات عن
المجلدات الشعرية الكاملة
حكمة الروح في حروفية أديب كمال الدين
أ. د.
عبد القادر فيدوح
ناقد وأكاديمي جزائري
· مرايا
النقطة في الحرف
تتجلى "رؤيا الوجد" في أعمال الشعراء المعاصرين من خلال
عدة مَيامين، تعكس تجاربهم الإنسانية، وتفاعلهم مع رؤية جمال
الكون، بوصفه أحد مظاهر الجمال المطلق، وهو ما يعزز الشعور
بالوحدة والاتحاد مع الكون الأعلى في وجوده المطلق، ويعزز لدى
الشعراء ذوي النزعة الصوفية الشعور بالوحدة والاتحاد مع
الأنوار. فهم يرون أنفسهم جزءًا من هذا الجمال الكلي، ويشعرون
بالاندماج في سرِّ النظام الكوني السرمدي الذي يعكس الحكمة
الإلهية، وتعد "رؤيا الوجد" تجربة روحية تتجاوز حدود
الحواس المادية، وتُمكِّن القاصد من الحصول على المعرفة
الروحية والباطنية، سواء من خلال الدراسة، أو عن طريق التأمل
في معالم الحق، أو عبر التجارب الروحية الشخصية.
وإذا كان أديب كمال الدين لا يخرج عن قاعدة الأحوال
والمجاهدات الداخلية؛ لتعزيز
تجربته الباطنية- حتى لا يخالف قِيَاسَ سمو التجربة الروحية-
فإنه ينظر إلى "رؤيا الوجد"؛ بما هي كشف عن الحقائق
بالمشاهدة القلبية؛ في ضوء ما يدركه الشاعر من معانٍ عميقة
للوجود، تتجاوز الفهم العقلي، سالكا مأخذ ابن عربي على العقل
مأخذًا جديا حين يقول:[1] ومما
يدلُّك على ضعف النظر العقلي من حيث فكرُه كونُ العقل يحكم على
العلة أنها لا تكون معلولة لمن هي علة له. هذا حكم لا خفاء به.
وما في علم التجلِّي إلا هذا، وهو أن العلة تكون معلولة لمن هي
علة له. فضلا عن أن التجربة الروحية مدعاة لتوجيه مسار رحلته
الروحية، وإشارة إلى الطريق الذي يجب عليه اتباعه؛ فالرؤيا عند
أيٍّ من ذوي النزعة الصوفية هي بمثابة وسيلة لكشف بعض الحقائق،
التي قد تكون غائبة عن الإدراك العقلي العادي، أو التي يصعب
الوصول إليها بالطرق التقليدية. وربما بفعل ذلك كان أديب كمال
الدين يستشفُّ له السِّتر في "رؤيا الوجد" التي صارت
تسكنه؛ لأنه ينظر بها إلى العالم، حيث تتجاوز الظواهر
الخارجية؛ لتغوص في الأعماق النفسية والروحية، كما تُعدُّ– في
نظره- وسيلة لاستكشاف المعاني العميقة للحياة، حيث يسعى من
خلالها إلى فهم تجاربه الشخصية، وعواطفه، وقد تأتي كنوع من
الإلهام، أو الرسالة الإشراقية التي تُضيئ جَنانَ وجدانه،
وتنير سبيله في البحث عن
الكمال، وصياغة علاقة الإنسان بالوجود. وتعتمد
هذه الرؤيا على التجارب الفردية لدى الشاعر، حيث تنحت خصائصها
من جماع التجربة الإنسانية، التي يعيشها الشاعر في عالمه
الذاتي بمجموع الإدراكات،
والتجارب، والتوقعات، والوعي والثقافي، والحالات
والتحولات، بوصفها "معنى
يَرِدُ على القلب من غير تعمُّد،[2] التي
تمر به في نجواه، وتعكس كيفية رؤيته للعالم من حوله، وتعبيره
عن تجربته الإنسانية، كما تُعنى بتطلع الشاعر إلى الطريقة التي
يرى بها العالم، وتتجاوز الواقع المادي؛ لتشمل الأبعاد النفسية
والروحية؛ لذلك تعدُّ "رؤيا الوجد" الشاعرية عنصرًا
أساسيًا في إنتاج أديب كمال الدين، الذي يظهر فيها الذات
وكأنها الجَلَبة التي يلجُّ بها الوَجْد إلى الخشوع، حين ترتبط
شاعريته بالجمال الفني، والعمق العاطفي، والفَوْرة الروحية،
والتمكُّن من إثارة المشاعر، أو التأمل؛ بالقدرة على التعبير
عن الشعور بالاغتراب، والأفكار التي تعبر عن كينونته من الوجود
بطريقة مؤثرة، تشبه حكمة الروح في تأثيرها وعمقها، على نحو ما
نجده عند الشاعر أديب كمال الدين الذي يعبر برؤاه عن علامات
رفض المادة، ونبذ الحياة بمجتمعها الدَّعيِّ، الذي أصبحت فيه
المصلحة وثنية، من دون إنسانية.
تتجاوز
شاعرية أديب كمال الدين حدود مراسم الواقع، وما ينبغي مراعاته،
إلى حالة الخلو من المعاناة،
ليسفر عن علاقات جديدة بين الذات المتأملة، والجانب الروحي،
بوصفه المَغنى الأكبر– بلا استثناء- من حيثيات الواقع المادي،
وتبعًا لذلك تبدو على علامات "رؤيا الوجد" الشاعرية
وكأن الشاعر يعيش عالمه، ولا يخص سواه، كونه يمنِّي نفسه بحياة
أصيلة، يلفُّها رجاء؛ مطلبه في أن يكون السلوك مرتبطا بقواعد
التآلف الإنساني الشامل، الذي من شأنه أن يرغِّب في الإنسان
الالتئام بالحقيقة العليا. ولعل المتتبع لمدونة أديب كمال
الدين الشعرية، وتحديدًا في المجلد السابع من أعماله الكاملة،
يدرك عن الكشف في الحق، وعن كنه تحقيق الذات، وأحلامها،
وآمالها، بعيدًا عن الإدراك المباشر للواقع الذي خانته ذاكرته:
ذاكرتي جرحٌ
وجرحي أيّام،
وأيّامي سقطتْ كأوراقِ الأشجار
فتلاقفتْها ريحٌ لا تتوقفُ عن الهذيان[3].
وكأنّ أديب كمال الدين تُقَطِّبه تجربة مليئة بالألم
والحزن، حين يستخدم فيها صورًا مؤثرة؛ لإيصال معاناته؛ في
إشارة إلى أن ذكرياته ليست مجرد صور، أو أحداث من الماضي، بل
هي جروح حقيقية تؤلمه، وتحمل في تضاعيفها ألمًا دائمًا، كما
يجعل من جرح أيامه تجربة مريرة، وجارحة، في صورة "وأيّامي
سقطتْ كأوراقِ الأشجار" بخاصة عندما يُشبّه أيامه بأوراق
الشجر التي تسقط في الخريف. لعل هذه الصورة تبرز فكرة الفقدان
والزوال؛ بالنظر إلى أن الأيام تسقط وتنتهي كما تسقط أوراق
الشجر، مما يوحي بأن حياته شهدت العديد من الخسارات، وهو ما
يعكس حالة من التيه والضياع في حياة الشاعر، وكأن واقع الحال
يجسد حالة من الحزن العميق، والضياع بعدم الانتماء، أو التواري
في رحلة المعرفة، وإلى مستويات أعلى من الوعي والفهم، والتصميم
على السعي نحو الحقيقة، بعد أن كانت الذكريات الشاجنة، وجهامة
الأيام، تجسيدًا للجرح والألم، وكل ما يمر به الشاعر يضيع في
فوضى القدر، أو القوى الخارجة عن إرادته، كما جاء في قوله حين
جَلَّى نجواه بالنقطة في صراعها مع النسيان:
حينَ تحوّلت النقطةُ إلى حرفٍ
تعد "النقطة" في شعر أديب كمال الدين أيقونة مركزية في
شعره، يستكشف من خلالها موضوعات مثل الوجود، الروحانية،
والحياة. كما يستخدم الشاعر النقطة كوسيلة لتجسيد أفكار فلسفية
وروحية عميقة، مما يضفي طابعًا تأمليًا على أعماله، ويمنحها
تميزًا فريدًا في الشعر العربي المعاصر. والنقطة
ليست مجرد رمز لغوي، أو علامة كتابية، بل تحمل دلالات عميقة
ومتعددة، تجمع بين البعد الروحي والفلسفي والأدبي، فهي تحمل
دلالات قَصيِّة، حيث ترتبط بأفكار الوحدة، والبداية، والنهاية،
و"الكل في الواحد". وقد استلهم هذا البعد الصوفي
للنقطة، ليعبر عن التأمل، واستبصار المعاني الكونية في الوجود
العلوي المدرك وغير المحسوس، بوصفه جزءًا من الواقع الكلي،
الذي يتجاوز المستوى المادي للوجود. وفضلا عن ذلك، قد تكون
النقطة – في شعره - رمزًا للحظة الكشف الروحي.
ولكن، أنّى للنقطة/المركز ذلك في شعر أديب كمال الدين،
إذا لم تكن تستند إلى إشعاعات الكلمة الروحية/المحور،
كونها خطًّا مستقيما، يصل بين قطبي الحقيقة، وإلى الإسهام في
استرجاع المعنى، المبثوث في تضاعيف المفاهيم الشاردة. لقد جاءت
النقطة، هنا، لتكشف المضمر عن الوعي الشقي بالوجود، ولترفض
الزمن في ارتباطه بفقدان القيمة، على النحو الذي صنّفه
المتصوفة في ضوء المفردات التي استخدموها مثل الوتيرة/
الحال/ الآفاق/ الوجد/ المقام/ الوصل/ التجلي، وغيرها
كثير، كما جاءت "رؤيا
الوجد" لتمثيل روح الشاعر
في الغياهب، ولتستولد معناه من مبناه، ولتحرره من أغلاله،
وشدّة عطشه الذي يروي ظمأ الروح إلى الحق من لهيب السلب،
والقمع[5]
والنقطة في شعر أديب، بالنظر إلى أنها وحدة صغيرة قد تبدو
بسيطة، ولكنها في الوقت نفسه هي أساس للنظام والفوضى. يمكن أن
تمثل النظام الكامل عندما تشكل جزءًا من النص، أو الفوضى
المطلقة عندما تكون وحيدة في فراغ. وعندما يكتب أديب كمال
الدين عن النقطة، فهو يستغل رمزًا بسيطًا في ظاهره؛ ليحمل
علامات عميقة، ومعقدة، ترتبط بالوجود/ الزمن/ الروح/ والمعاني
الفلسفية، التي تتجاوز حدود اللغة والتعبير التقليدي، وأيًّا
ما كانت الحال فإن النقطة تصبح في شعره نافذة؛ نحو تأملات لا
نهائية عن الحياة والكون من عالمه الإبداعي الكشف.
إذا كانتْ قصيدتُكَ عن الحرف
فتذكّرْ أنّ الحرفَ ملاذكَ الوحيد
في عالمِ التفاهةِ والأكاذيب،
وأنّ النقطةَ سرّكَ الأزليّ
الذي لا يفهمهُ أحدٌ سواك.[6]
تشكل قسوة الحياة " في عالمِ التفاهةِ والأكاذيب" أحد
الموضوعات المحورية في حياة الشاعر، وأعماله، حيث عاش تجارب
معقدة، وصعبة، نتيجة تلقيه الأَذى،
والإِجْحاف، والإِساءَة والاستبْداد، والاستطالة، والحروب،
والاضطرابات السياسية والاجتماعية في العراق، وقد عبر عن هذه
المكابدة والقسوة من خلال استخدام الرموز مثل "النقطة" في
شعره، التي تعكس لحظات التأمل والحزن، والانكسار في مواجهة
تحديات الحياة.
وإذا كان أديب كمال الدين قد رهن مصيره بالحرف في مساره
الصوفي؛ فلأنه يرى فيه- مع النقطة- التربة الخصبة التي تنقدح
منها رؤاه، ومدار أصل معرفته بالعلم، والعالم، والمعلوم،
وبثنائية الحرف والنقطة يجتاز الشاعر مرتبة الوجود الأَضَلّ،
بحثا عن الأفق المُظِل، خلف رمز الحرف، وإشارة النقطة في سفره
معهما، وهو سفر غير متناهٍ، يجنح به إلى تحولات الذات داخل
سياقها الروحي، الذي جاء بديلا عن سياق الواقع الأصلي المأزوم،
والمصاب بقدره الميؤوس، والمسكون بالفقد. والشاعر إذ يميل إلى
الحرف بطريق المشاهدة؛ فلأنه - أيضا - أراد أن يبيِّن ما نُفث
في قلبه من صبر؛ لمواجهة المحن ببدائل العبارة التي تتيحها لغة
الحروف، وحين يُبيح الشاعر عن سرِّه من خلال الحرف؛ فهو بذلك
يربط علاقة امتلاك بينهما، وبينه وبين النقطة؛ وبذا تعتمد قدرة
الشاعر على التعبير عن التجلي بالاستعارة المطلقة للحرف
والنقطة، وأن الصورة الحقيقية - في نظرنا – لـ "رؤيا الوجد"
عند الشاعر تكمن فيما وراء دلالة الحرف. وبحسب هذا المنظور
"تستقيم البنية الدّلاليّة لعبارة "حرف" انعكاسا لبنية العالَم
وتوضيبا له، وفق رؤية معرفيّة تحاكي تمثّلنا للأشياء، وما
تقيمه من علاقات تترادف حينا وتتباين حينا آخر، ولعل هذا ما
أشار إليه "مشيل فوكو Michel
Foucault"
في ترتيبه للعلاقات العِلّيّة القصديّة القائمة بين "الكلمات
والأشياء" "فالبنية بحصرها للمرئيّ وبغربلتها له، تمكّنه من أن
ينتقل إلى اللّغة ويترجم فيها. وبفضل البنية، تنتقل قابليّة
رؤية الوجود بكامله إلى الخطاب الذي يأويها ويحتضنها. "على هذا
النّحو يكفّ الحرف عن كونه مجرّد علامة "اعتباطيّة" في نظامنا
اللّغويّ؛ ليصبح رمزًا بكلّ ما تحمله الكلمة من معاني الاختزال
والالتباس، أو هو شكل من أشكال "الإبراخيليا" (Brachylogie)،
ينطبق عليه التعريف ذاته، فكلّ حرف من الحروف الأبجديّة من حيث
حمولته الرّمزيّة هو "عبارة تعرف القصر في الخطاب والصّغر في
الأحجام الخطابية."[7]
وتأسيسا على ذلك، يحمل كل حرف من الحروف الأبجدية في شعر أديب
كمال الدين، دلالة رمزية عميقة، يولي فيها الشاعر اهتمامًا
خاصًا لهذه الحروف، ويمنحها أبعادًا فلسفية وروحانية. وتتجلى
هذه الدلالات الرمزية في عدة جوانب من شعره، كأن تكون نقطة
الانطلاق، أو بداءة المتحرك النابض، من خلال مقاصد رسم النقطة،
التي تتشكل منها الكلمات والمعاني؛ إذ يبدأ كل شيء من الحرف،
وكأنه البذرة التي تنمو منها الحياة الفكرية والروحية. فالحرف
عنده تجسيد للوجود والمعاني الخفية في الكون. وكل حرف يحمل في
تضاعيفه سرًا يمكن أن يكشف عن جوانب عميقة للمعاناة من تجربة
الحياة ومعاناة الإنسان، بوصفهما مصدرين للعناء والمقاساة، وهو
الاستعطاء المحوري للفكر الفلسفي الوجودي؛ كمدخل لفهم المكابدة
التي يعيشها المرء. وكأنّ
الشاعر يلتقي– مجازا– مع الفلاسفة الوجودين، أو على الأقل
وفقًا لفلسفة ألبير كامو Albert
Camus،
الذي نظر إلى الحياة على أنها عبثية، ولا تحمل معنىً ثابتًا،
مما يؤدي إلى الشعور بالفراغ والمعاناة، وفي ضوء ذلك يلتقي
أديب كمال الدين مع ألبير كامو من حيث إن الإنسان يواجه تحديات
وجودية، تتعلق بالبحث عن معنى في عالم يبدو بلا معنى، على نحو
ما جاء في قول الشاعر:
قالَ لي حرفي:
لا تتعبْ نَفْسَكَ بكلامٍ لا طائل منه.
واختصرْ قصيدةَ حُبِّكَ الكبرى
إلى حرفين فقط:
الكاف وسرّها الحاء
والنون وسرّها الباء،
بل اختصرْ كلَّ شيءٍ
وأرجعْهُ إلى النقطة.
نعم،
فمِن النقطةِ جئتُ
ومنها بُعثتُ
وإليها سأعود[8]
يجاهد الشاعر بمقاماته الروحية في البحث عن المعنى في غياب
الوجود الإنساني الذي لم يعد له وجود، على رأي صلاح عبد
الصبور:
الإنسان الإنسانُ عَبَرْ
في ظل هذا الواقع الموبوء– في نظر الشاعر- يصبح من الضروري
العمل على إعادة إحياء القيم الإنسانية، من خلال تعزيز
التعاطف، والرحمة، والعدالة، والتضامن بين البشر، والتأكيد على
أهمية الروحانية والأخلاق كوسيلة لتحقيق حياة أكثر إنسانية
وعدالة، وكأننا بالشاعر يقول: عدم الاكتراث بمعاناة الآخرين،
وتجاهل مبتغاهم، يُعزز من غياب الروح الإنسانية في المجتمع،
وأن الابتعاد عن القيم، وتناسق البنية الروحية، يعمق حالة
الاغتراب بين البشر، ويزيد من صعوبة التواصل الحقيقي بينهم، من
خلال ما بات يمليه العالم المعقد، والمليء بالتفاصيل
السَّافِلة؛ لذلك يدعو الشاعر إلى العودة إلى الأساسيات، حيث
يمكن للمعاني أن تكون بسيطة في انبعاثها، ولكنها عميقة، كما في
مقولة: [اختصرْ
كلَّ شيءٍ/ وأرجعْهُ
إلى النقطة]؛
حينئذ يمكن للإنسان أن
يستكشف سعة الوجود والحياة، ويبرئهما من ظاهرة تفشي التشيُّؤ Reification،
التي تعنى بانسلاخ القيم، وتَحوُّل الذات الشقية إلى الانفصام،
والتدهور في العلاقات الإنسانية، حيث تفقد العلاقات الطابع
الإنساني والعمق العاطفي؛ لتصبح معاملات سطحية، قائمة على
المنفعة؛ بما يتضمن المصلحة الفردية والروحية، والاجتماعية،
كما جاء في قوله:
لم تكنْ حياتي سوى أعجوبةٍ صغيرة
لم أستطعْ أنْ أقرأَ حرفَها
ولا أتماهى معَ نقطتها: سِرّها.
قيلَ لي: هي لَعِبٌ ولَهْو.
وقيلَ: مصادفاتٌ عمياء وعبثٌ أسْوَد.
وقيلَ: أكاذيب حقيقيّةٌ أو حقائق كاذبة![10]
في هذا السياق، يصبح الناس كالسلع أو الأدوات، يتم
تقييمهم واستخدامهم بناءً على قيمتهم الوظيفية، أو ما يمكنهم
تقديمه من فائدة، أو " تحويل العلاقات ذاتها إلى سلعة ممتدة من
دون نهاية عبر الزمن، يؤمن للعالم التجاري الإمساك بقدر أكبر
فأكبر من الحياة اليومية رهينة حتى آخر لحظة منها"[11].
هذا التحول– في نظر الشاعر- يعكس نوعًا من الاغتراب الاجتماعي،
حيث يشعر الأفراد بالانعزال عن بعضهم ببعض وعن ذواتهم، وتفقد
الروابط الاجتماعية الدافئة معانيها الأصيلة من التضامن،
والمحبة، والاحترام المتبادل، مما يؤدي إلى شعور متزايد
بالوحدة؛ بما يشبه التحول الذي يعبّر عن أزمة روحية وثقافية في
المجتمعات الحديثة، حيث تحل القيم المادية والاستهلاكية محل
القيم الإنسانية العميقة، لذلك تناهى إلى وجدان الشاعر أن
الوجود ما هو إلا حرف "لا تكون الكتابةُ إلا به،
والخَلقُ كتابة، والكتابةُ غرسٌ، والغرسُ نفْسٌ، والنفسُ
وجودٌ. وهكذا تبتدئ دائرة الوجود بالحرف وتنتهي به وإليه"[12]
تعكس فلسفة النقطة والحرف في شعر أديب كمال الدين عمق التجربة
الشعرية، وتعبّر عن رؤية فلسفية تتعلق باللغة والوجود. فالنقطة
بالنسبة إليه تمثل مركز العالم، حيث تُعدُّ رمزًا للوجود
والجوهر في نزعته الصوفية؛ إذ تُعبر النقطة عن الوحدة
واللامتناهي، وهي بداية كل شيء، في حين يُعدُّ الحرف حاملًا
للمعنى والسرّ الكشفي، حيث الحقيقة
متوارية وراء ألف حجاب،
وأن كل حرف قي مدونته يحمل دلالات خاصة، ويعكس تجاربه وعواطفه،
وعلى هذا النحو يُظهر الشاعر كيف يمكن للحروف والنقاط أن تكون
أدوات للتعبير عن التجربة الإنسانية، من خلال اختصار المعاني
والعودة إلى الجوهر، بخاصة حين يمكن أن تُختصر كل التعقيدات
إلى نقطة في جوف الحرف:
وبعدَ أن تحوّلتُ في حفلٍ رسميٍّ صاخب
حضرتهُ كلُّ قصائدِ حُبّي وأنيني،
من حرفٍ للعشقِ إلى حرفٍ للنسيان
ومن نقطةِ شوقٍ إلى نقطةِ هذيان[13]
يشكل هذا المقطع الشعري عمق تجربة الشاعر، وتعقيداتها، ويعبر
عن مشاعر الحب والفقد من خلال استخدام رموز الحروف والنقاط: [وبعدَ
أن تحوّلتُ في حفلٍ رسميٍّ صاخب] وكأنه يصور مشهدًا لحفل
رسمي، مما يوحي بالتعارض بين الضجيج الخارجي، وما يختزنه في
داخله من مشاعر. هذا التحول يشير إلى الشعور بالعزلة وسط
الزحام، وفي مثل هذه الحال يمكن أن يكون الحفل رمزًا للروتين
الاجتماعي الذي يفتقر إلى العمق العاطفي، على الرغم من تظاهره
بامتلاك الحقيقة، حين [حضرتهُ كلُّ قصائدِ حُبّي وأنيني]
ما يشير إلى أن كل قصائد الحب والألم تتجمع في هذا الحفل،
بالنظر إلى أن الحب ليس مجرد شعور، بل هو تجربة غنية ومعقدة،
تحمل معها الألم والحنين، كما يصور هذا التحول: "من
حرفٍ للعشقِ إلى حرفٍ للنسيان": الصراع
الداخلي بين الرغبة في الاحتفاظ بالذكريات، والألم الناتج من
الفقد. ولعل توظيف الحرف هنا يمثل الكلمات التي تعبر عن هذه
المشاعر، عندما يتحول من التعبير عن الحب إلى التعبير عن
النسيان، في حين يسير التحول في صورة النقطة: [ومن نقطةِ
شوقٍ إلى نقطةِ هذيان] إلى الشوق الذي يمكن أن يتحول إلى
هذيان، مما يعكس الاضطراب النفسي الناتج من الفقد، في إشارة
إلى الكيفية التي تتسنى للمشاعر العميقة أن تؤدي إلى حالة من
الفوضى العقلية، مع التركيز على التحولات النفسية، التي يمر
بها الشاعر من خلال ما يستكشفه من تعقيدات وجودية، فلم يجد
بدًّا من الانضواء تحت إطار ودِّ الموصول الحرفي، ورحمة
النقطة؛ وتبعًا لذلك، يمكن أن تقدير النقطة على أنها الأساس
الذي تُبنى عليه المفاهيم. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى
النقطة على أنها بداية كل شيء؛ أي بما هي نقطة البداية لأي حدث
في الكلمة المعنية. وعلى الرغم من أنها لا تستأثر بحجم حيز
الصلاحية المقصودة، أو بكونها بُعدًا فيزيائيًا، فإن لها
وجودًا دلاليًا، بسياقات رمزية؛ كأن تكون تعبيرًا عن البداية،
أو الوحدة، أو الأساس الذي يقوم عليه كل شيء، أو قد ترمز إلى
لحظة معينة في الزمن، أو إلى الفكرة الخالصة التي لم تتشكل بعد
في واقع محسوس.
وتأسيسًا على هذه الرؤية، يشير الشاعر إلى عملية التكوين
التدريجي للمعنى أو الفكرة؛ إذ كل حرف يمثل جزءًا من الكل، وكل
حرف يُضاف إلى الآخر ليشكل كلمة، هذه العملية تعكس بناء
الأفكار ببطء، وثبات في وجدانه، وفي هذا السياق ألمح الشاعر
إلى الوضوح أو التوقف، أو حتى إلى اللحظات الفاصلة بين الأحداث
أو الأفكار فيما له صلة بين الحرف والنقطة. من خلال وضع النقاط
واحدة تلو الأخرى؛ في إشارة إلى مراحل التفكير، أو التأمل،
التي يتبعها، أو إلى تراكم التجارب والمشاعر، حين [تتشكّلُ من
جديد] بما يدعو إلى عملية التجدُّد أو التحوُّل. بعد أن تتجمع
الحروف والنقاط، كأن يحدث نوع من إعادة التشكيل أو التحول إلى
شيء جديد، ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى كيفية تشكل الأفكار، أو
الشخصيات، أو حتى الواقع من خلال عملية مستمرة من البناء
والتفكيك وإعادة البناء، في مثل قوله:
مثل يتيمٍ يُعطى ثياب العيدِ ليلاً
ثُمَّ تُسرقُ منهُ في مطلعِ الفجر.
هكذا كانَ حُبُّكِ!
فما الذي ستفعلهُ القصيدةُ هنا؟
ستشكو وتبكي وتصيح
وتهذي وتصرخُ، تصرخُ، تصرخ
إلى أن تتساقطَ حروفُها
حرفاً إثْرَ حرف
ونقطةً إثْرَ نقطة،
ثُمَّ تتشكّلُ من جديد
حرفاً إثْرَ حرف
ونقطةً إثْرَ نقطة[14]
يعود الشاعر مرة أخرى إلى فكرة بناء الأفكار، أو المواقف، بشكل
تدريجي، مع التئام الحروف معًا؛ لتكوين كلمات ودلالات، بتعيُّن
نقاطها.
"ونقطةً
إثْرَ نقطة":
وفي المجمل، يُومِئ الشاعر إلى أن استمرارية هذه العملية؛
والنقاط التي تُضاف واحدة تلو الأخرى، تمثل استمرار التأمل أو
التجربة، وتشير إلى أن عملية التكوين، وإعادة التكوين، لا
تنتهي، بل هي مستمرة ودائمة. ولكن، أنّى للنطقة/المركز ذلك،
إذا لم تكن تستند إلى إشعاعات الكلمة/المحور، بوصفها
خطًّا مستقيمًا، لا يصل بين قطبي الحقيقة، فحسب، بل يحرز غاية
استرجاع المعنى، وإعادة تكوينه، تمامًا كما أن الحياة نفسها
عملية مستمرة من النمو والتغيير. وفضلا عن ذلك، يمكن أن تكون
هذه العبارات- أيضًا- تعبيرًا عن البحث الروحي، أو التأمل
العميق الذي يتطلب إعادة التفكير والتشكيل المستمرين، سواء
أكان ذلك في الأفكار، أم في الذات الصادقة لتحقيق المصلحة.
تعكس فلسفة النقطة والحرف في شعر أديب كمال الدين تساؤلات حول
الوجود والمعنى، وكيف يمكن للكلمات أن تعبر عن تجارب الحياة،
بالإضافة إلى وجود المعنى في التفاصيل الصغيرة، المبثوثة في
تضاعيف المفاهيم الشاردة. ما يعني أن النقطة، في شعر أديب كمال
الدين، تأتي لتكشف المضمر عن الوعي الشقي بالوجود، ولترفض
الزمن في ارتباطه بفقدان القيمة، على النحو الذي صنّفه ابن
خلدون في ضوء المفردات التي استخدمها مثل (الوتيرة)،
و(الحال)، و(الآفاق)[15]،
كما جاءت "رؤيا
الوجد" لتمثيل روح الشاعر
في الغياهب، ولتستولد معناه من مبناه، ولتحرره من أغلاله،
وشدّة عطشه الذي يروي ظمأ الروح إلى الحق[16]
التجلي مع نور الحق
يُشير التجلي في شعر أديب كمال الدين إلى ظهور
مقامات الحق، للوصول إلى حالة الاتحاد مع الوجود المطلق، الذي
يشمل كل شيء، حيث يُعبر عن الجوهر الإلهي الذي يتجلى في كل
مظاهر الحياة، بما يسمى بمقامات الحق بمستويات متتابعة من
التطور الروحي؛ وفي هذه الحال، يسعى الشاعر إلى تحقيق صفاء
القلب والنفس، والتقرب إلى الحقائق التي لا تقبل الشك، أو
الالتباس، عبر سلسلة من المجاهدات والأحوال الروحية، بوصفها
جزءًا مركزيًا في تجربته الروحية، حيث تظهر معالم التجلي في
السفر الروحي، والبحث عن المعرفة التي يشعر فيها الشاعر بقربه
من كمال الذات التي يحاصرها الدَّويّ، والضَّجَّة، والاسوداد؛
بمراتب أعلى من الوعي؛ مما يساعده في رؤية الحقائق المتوارية
التي من شأنها أن تضيء القلوب، شأن المتصوف الذي يَخْلد إلى
حالة من السكون الداخلي والسلام؛ وللوصول إلى هذه الحالة من
التجلي، يتطلب الأمر؛ مجاهدة النفس من خلال التأمل؛ لتجسيد
القيم الروحية في حياة الشاعر اليومية؛ مما يُعزز من أخلاقه،
وعلاقته بالآخرين.
يمثل التجلي في شعر أديب كمال الدين مفهومًا عميقًا، يرتبط
بالروحانية والتأمل الداخلي، أو بأنه ظهور للحقائق المخفية،
وراء ألف حجاب، أو الأبعاد الروحية للوجود من خلال التبصُّر في
تصويره للبحث عن الذات والمعرفة الإلهية، عندما يعمل بموجب
الرموز الصوفية، والحروف التي يستخدمها. وربما
بفعل ذلك، يرتبط نور التجلي في شعر أديب كمال الدين بالمعرفة
الروحية، والوصول إلى ما يكون شاهدا ودليلا على الحقيقة
المتغيِّبة من خلال الضياء؛ كرمز للتجلي، الذي يضيء القلب
والعقل، ويكشف عن الحقائق الباطنية التي– غالبا ما- تكون
مخفية، فتفيض على قلب الشاعر؛ كما في قصيدته "وجع":
قالَ لي حرفي:
هل أوجعَكَ الحُبّ؟
قلتُ: بل أحرقَني وذرَّ رمادي
في أعماقِ جسدي
حتّى صارتْ كلُّ خليّةٍ في جسدي
قصيدةً تنتظرُ النورَ لتشرق،[17]
في هذا المقطع، يتحدث الشاعر عن "النور المتجلي" الذي
يضيء حرفًا نازفًا بالحب، بوصفه رمزًا لقوة الانجلاء، التي
تومض الوجود، وتمنحه معنى، حتى في بحر الصمت اللامتناهي. وكأن
انتظار النور هو السبيل لإضاءة القلب؛ كي يدلَّه على الطريق
الصحيح. هذا النور يمثل تجليًا للحقيقة الإلهية، التي تهدي
الشاعر في رحلته الروحية، وترشده.
فحين يتجلّى البريق، والسَّنا، في الحرف، يكون هناك ارتباط
بالكون والوجود؛ أي الانكشاف الذي يرتبط بفكرة الاتحاد مع
الكون، بما يعكس استخدام الشاعر للضياء كرمز للانْبِلاج
الروحي، حيث يُصور النور كقوة تمنح البصيرة والمعرفة فقْهَ
الحقيقة، وتفتح أمام الشاعر أبواب النجاة والبراءة. ويعكس
النور المتجلي في الحروف بحث الشاعر عن معنى الوجدان العميق،
والمُهْجة وراء الكلمات والرموز، وهو ما يجعله يصل إلى حالات
من الصفاء، والانجلاء الوجداني، بعد مسيرة كَأْداء.
يجلسُ الماضي أمامي طوالَ الليل.
...
فليسَ من المعقول
أن يلازمني ملازمةَ الحرفِ للنقطة
والروح للجسد.
لكنّهُ لا يردُّ عليَّ أبداً[18]
يُظهر هذا المقطع كيف أن أديب كمال الدين يستخدم الحرف في
ملازمته سلوة الماضي، ويأسه كوسيلة للوصول إلى تجلي التصديق
بالجَنان. والتجلي هنا هو اللحظة التي تدرك فيها الذات الحقيقة
العميقة للوجود، من خلال التجربة الشخصية في سموها النفسي،
حينها يمتزج الجمال الفني بالمعنى الروحي، لتحقيق تجربة تتجاوز
الحدود المادية. كما
يعكس المقطع الشعري– أيضا– استنكاره تجربة الماضي العصيبة،
ومُقايضتها بنور التجلي، بوصفه حالة من الصفاء والوضوح، التي
يصل إليها الشاعر بعد رحلة من التأمل، والبحث، بإعادة صياغة
الحروف والنقطة، بشكل يعكس تجربته المُقدسة، والفكرية
العميقة، ببعدها الإنساني، وغناها المعرفي، على هَدْي
المتصوفة، وطريقتهم.
ويعدُّ توظيف الحروف في شعر أديب كمال الدين- بما لها من وشيجة
بالتجلي- أداة فعالة للتعبير عن خبرته الإنسانية العميقة، مما
يُعزز المعاني والدلالات، التي تستبطن قواعد السنن، وقوانينها
بالحدس والفراسة، وعلاقتهما بالممكن توقُّعُه، بعد الحرمان
الذي ابتلاه من المحن، وحين يكون الوجود غير قابل للتعايش،
يعمُّ الاشتطاط على الحق بالحرمان، وبدوره يكون مدعاة للتغرُّب
والانفصال عن الحياة بالإكراه، والاغتراب عن الخليقة للوصول
إلى الحقيقة، وهو ما يطلق عليه في المصطلحات الصوفية بـ "اغتراب
الهمَّة" في موصولها إلى استبدال الحق بالخلق، وهي غربة
العارف بوجود الموجود في الوجود، المشفوع بعدم الممكن، حيث
يبدو العالم مكتسحا وعي الذات، وفي ذلك استحالة، مادام الوعي
المحض قادرًا على تخطّي كأس الندم[19].
قالَ لي حرفي:
كتبتَ الكثيرَ من القصائدِ ذات المعاني العميقة
وقرأتَها لعَالَمٍ عَبَثيّ
من الألِفِ إلى الياء.
ألم يحن الوقت
لتكتبَ من الألِفِ إلى الياء
قصائدَ ذات طلاسم
لا يفقهها إلّا المُطلسِّمون،
ولا يُحبّها إلّا الذين تعبوا
من فراغِ العَالَم
من أيّ معنى كان؟[20]
يعبر الشاعر هنا عن عملية الإبداع، أو التفكير، كرحلة من
البناء المستمر؛ إذ الحروف والنقاط تمثل اللبنات الأساسية لهذه
العملية، سواء ما كان منها ظاهرًا أو مضمرًا؛ للبحث عن الوجه
الآخر للوجود الأجَلّ؛ لمعرفة انكشاف الحقيقة، بوصفها جوهر
الوجود، في مقابل ملاحقة المضمرات الخفية، كونها تشكيلا جوهريا
لحقيقة مثالية خفية، على نحو ما علَّلَ له ابن عربي، وأثبته
بالتأكيد على الانطلاق من الظاهر إلى الباطن في قوله: "إن
النفوس مجبولة على حب إدراك المغيّبات، واستخراج الكنوز، وحل
الرموز، وفتح المغاليق، والبحث عن خفايا الأمور، ودقائق الحكم،
ولا ترفع بالظاهر رأسًا، فإن ذلك عندها في زعمها أبْين من فلق
الصبح"[21]؛
ما يعني أن الأفكار، أو النصوص، ليست ثابتة بل هي في حالة
دائمة من التكوين وإعادة التكوين، تمامًا كما أن الحياة نفسها
عملية مستمرة من النمو والتغيير، والاستعاضة، والمبادلة، ويمكن
أن تكون هذه العبارات أيضًا تعبيرًا عن البحث الروحي، أو
التأمل العميق، فيما وصل إليه واقع الحال من تَشيُّؤ، وشعور
بالحيرة والقلق، وهو ما جعل الشاعر يبحث عن الحقيقة البديلة،
التي تقوم على رسم معاني الحروف في دلالاتها الصوفية؛ على
وَفْق الإمكانات المتاحة، التي تحصِّنها المقاومة في رفضها
الجرح النازف، ومن هنا أصبح الشاعر معنيًا بالكشف عن مدى تمام
طلب الحقيقة، والترفق بالتضرع إلى الحق[22]،
ولعل هذا ما عبر عنه باستيائه المكلوم في قصيدة [صقر]
خفتُ من حُبّكِ حينَ حَطَّ على قلبي
صقراً مُدهشاً.
خفتُ من نظراتهِ الحادّةِ المُضيئة
بما لا يُقال،
ومن مخالبهِ التي جرحتني
جُروحاً طوال.
فأبعدتُهُ سريعاً سريعاً.
كنتُ أحلمُ بحُبٍّ
على شكلِ بلبلٍ أو حمامة.
وإذ مرّتِ السنين
تركضُ ليلَ نهار،
ولم أرَ في غابةِ عمري
بلبلاً أو حمامة،
تمنّيتُ أن يعودَ صقرُكِ لي
رغمَ أنّ آثارَ جروحه لم تزلْ ظاهرة
فوقَ روحي وقلبي.[23]
يبدو أن دلالات توظيف الصقر في هذه القصيدة جاءت– أيضًا-
للموازنة بين ما هو واقع في جوارح الصقريات، وما هو متخيل في
العلاقة بالنفوذ والمجد، أو بين الأرضي والسماوي، وبين الأفقي
والعمودي، أو كما هو الشأن بيْن التعالي والعمق، وكأننا
بالشاعر في هذه القصيدة، يصف الحب كصقر يحط على قلبه؛ في إشارة
إلى القوة والسمو، لكنه أيضًا يحمل معاني البصيرة الحادة
والشجاعة، عندما يعبر الشاعر عن خوفه من الحب، فهو يشير إلى
قوة هذا الحب الذي يشبه الصقر في قدرته على الهيمنة والسيطرة،
مما قد يكون مُدهشًا، أو مُربكًا للشاعر، وهي تجربة روحية
مَهيبة، وقد تكون مرعبة في شدَّتها وجلالها، وهذا يتطلب قوة
وشجاعة - شأنه في ذلك شأن المتصوف - تمامًا كما يخشى الشاعر من
قوة الحب الذي يجتاح قلبه.
أما صورة [خفتُ من نظراتهِ الحادّةِ المُضيئة/ بما لا يُقال]،
فهي صورة تشير إلى البصيرة العميقة، والرؤية الثاقبة التي
تتجاوز الكلمات. وفي سياق "رؤيا الوجد"، يمكن أن ترمز
هذه البصيرة إلى الفهم العميق للحقائق النورانية، الفائضة على
الإمكان، التي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، وإنما تُدرك
بالقلب والروح، بمال لها من جِلوة لامعة بالانكشاف والإضاءة،
حيث يتم فيها إزالة الحجب عن القلب، وقد يكون الشاعر مُرتاعًا
من هذه النظرات؛ لأنها تكشف له عن أبعاد جديدة ومخيفة من الحب،
أبعاد لا يمكن التعبير عنها، لكنها تُشعره بحقائق قد تكون
مروِّعة في عمقها، بخاصة حين يُوعِب ألم المخالب الجارحة
كيانه، "ومن
مخالبهِ التي جرحتني جُروحًا طوال": وهي
دلالة تشير إلى المعاناة التي تصاحب هذا الحب. بالإضافة إلى أن
الجروح الطويلة تشير إلى التأثير العميق والمستمر للحب على
الشاعر، وكأننا به حين يصف الطريق سبيل الحق، فإنه غالبا ما
يكون مصحوبا بالمعاناة والمحن. يستعير الشاعر في هذه الصورة من
"رؤيا الوجد" بما تتضمنه معاني المكابدة لتجربة الحب
كشيء يفوق الوصف، وهي تجربة تجمع بين الجمال والرهبة، بين
النور والجروح. مثلما يسعى المتصوف للوصول إلى الحقيقة المطلقة
من خلال الألم والمعاناة؛ لذا كان توظيف الصقر بأبعاده
الدلالية؛ بمثابة تعبير عن حب عميق، يأخذه إلى أبعاد جديدة
ومخيفة في آن واحد، تاركًا له جروحًا تومئ إلى عمق هذه
التجربة، حيث يصبح الحب بمنزلة رحلة كشفية تتطلب شجاعة كبيرة،
وقبولًا للألم والمخاطر. وتبدو
لغة الشاعر- في هذا المقام- خرقا لتركيبة الصورة في نسيجها
الجليِّ، يحدوها عالم منجرف تحت وطأة المحاذير الجارحة، ولكن
بقدرٍ كبير من التمعن، نجد في ترابط السياق اللغوي ما يشفع
للشاعر بالكتابة على هذا النمط المجازي؛ لتقريب صورة انفكاك
الترابط بين الذات ومحيطها، لذلك جاءت لغته بيِّنة التفصيل من
حيث التركيب، وفي الوقت ذاته تبدو– لدى بعض الباحثين- مغرقة في
الغموض الدلالي، وهو يعطيها صبغة الانفتاح على أكثر التمحيص.
ولعل مرد ذلك إلى عدم التقيد بمعايير لغة الشعر المألوفة،
بالنظر إلى ميل نسق الكتابة عند أديب كمال الدين إلى التلقائية
الإبداعية، التي استطاعت أن تمكِّنه من خلق مساحات واسعة من
الاحتمالات، والارتقاء بها إلى ما فوق الواقع Hyperspace،
لذلك بدأت قصائد الشاعر في تركيباتها غير مألوفة، كونها تستند
إلى رموز، قد تبدو مُخالة على المتلقي غير المتمرِّس بالخبرة
الروحانية، دون أن تعيق القارئ الضمني Implied
Reader المُتفرِّس
في الوصول إلى المعنى المراد، واستخراج ما فيه من صور تعبر عن
عالم اللامعقول، الذي عرفه مارينتي Marinetti,
Zang بوصفه
"تضمينا للقياس المستقبلي، بأنه في عالم اللامعقول، ليس من شيء
لا معقول، بحيث ليس له معنى، وبذلك تتناغم الصور المجازية
الجنونية، تناغما تاما مع الاتجاهات الحديثة المُعَقلنة بصورة
متعددة لربط المتنافرات[24].
وإذا كانت المكابدة، كحقيقة وجودية بطبيعتها، تتضمن معاناة
وصراعات مؤلمة، سواء أكانت جسدية أم نفسية؛ فإنها تُعدُّ جزءًا
لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، وقد استثمرها الشاعر في البحث
عن معنى، أو بُغية، للتخفيف من هذه المعاناة، ومن الصراع
الوجودي؛ على أنه أحد المحاور الأساسية في شعر أديب كمال
الدين، لذلك نجده يعبر في قصائده عن البحث عن هداية في عالم
مليء بالفوضى والعُسر، وبالتبرُّم والشَّجَن. هذا البحث يقوده
إلى التساؤل عن الهوية، والوجود، وهو ما ينعكس في استخدامه
للأبجدية والحروف كرموز لمعاني البحث عن تكامله، وقيمه،
وأفكاره في مختلف المواقف، بخاصة منها الروحية، كمحاولة لتحقيق
الكمال، زيادة على الانتماءات الاجتماعية والثقافية.
وفي ضوء ذلك، يُعدُّ البحث عن الهوية– بتفريعاتها- في مسيرة
أديب كمال الدين عبارة عن رحلة مستمرة من الفناء في ذات "رؤيا
الوجد" إلى البقاء في حالة من الوحدة مع صفات الحق؛ إذ
الهوية عنده لا تُعرَّف بالأسماء أو الانتماءات، بل بتجربة
الذات في الوصول إلى الحقيقة، والتوحيد. إنها هوية تتسم
بالتحول المستمر نحو الكمال الروحي، والاتحاد مع ذات الحق، كما
في قوله:
احتمِ بشمسِكَ أنتَ
.....
حتّى لا تُغلِّفْ قصائدكَ بغيرِ الحقيقة
اكتبْ قصائدكَ عارياً كالبحر،
عارياً تماماً كالبحر[25]
لعل دعوة الشاعر إلى الإيواء بالشمس، والاستجارة
بها، هي دعوة روحية تشير إلى مفهوم يُعبّر عن الذات الداخلية
العميقة للفرد في طلبها الوقاية، التي ترتبط بالقيم
والمعتقدات، وهو ما من شأنه أن يؤثر على طريقة تفكير الإنسان
وشعوره وتصرفه. وفي
ذلك علامة تشير إلى أن الإنسان حر في اختيار كيفية التعامل مع
معاناته. هذه الحرية قد تؤدي إلى الشعور بالمسؤولية، مما يضيف
بُعدًا آخر للمعاناة؛ في مقابل البحث عن السعادة، وتحقيق
الأهداف الشخصية من كافة الطرق، التي يمكن أن تساعد مصير
الإنسان في التغلب على كل ما هو مقوِّض للاستقرار، بالنظر إلى
أن الحياة والوجود، هما معًا، مصدران للكدِّ والتوجُّع،
ويمثلان موضوعًا مُعسِرًا ومعقدًا سواء من خلال البحث عن
السعادة، أو التأمل في طبيعة الوجود. والكدّ
في نظر أديب كمال الدين ليس مجرد عمل جسدي أو مادي، بل هو
أيضاً كدّ داخلي ونفسي، طالما يتعين عليه أن يناضل ضد الأهواء
الداخلية، ويصقل نفسه عبر الصبر والإصرار على الطاعات؛ بما
تمليه صفات الحقيقة المطلقة، والوجود الثابت الذي لا يتغيَّر،
وهي الحالة التي تعكس طبيعة الحق الأسمى، الذي يجمع بين الرحمة
والعدل، والحب والإرادة، والقرب والبعد، وتجلياتها في هذه
الصفات.
يمثل الحق الأسمى في شعر أديب كمال الدين مفهومًا فلسفيًا
وروحيًا معقدًا، يتعلق بالحقيقة المطلقة، والغاية النهائية،
التي يسعى الإنسان للوصول إليها، ويتجلى هذا المفهوم في
أعماله، كرحلة بحث عن المعرفة العميقة، والتواصل مع الجوهر
المطلق، الذي يتجاوز الواقع المادي، أو ما يسمى بالرغبة في
تحقيق الوصول إلى التوحيد مع الحقيقة، أو المعرفة اليقينية،
حتى يصبح قلبه متجليًا بالأنوار، التي من شأنها أن تحقق له
الغاية النهائية في وجوده
بهذا الأسلوب، يشكل أديب كمال الدين مثالًا على كيف يمكن
للشاعر أن يُحوِّل قسوة الحياة إلى مصدر إلهام وتأمل، بدلاً من
أن تكون مجرد عائق في مسيرة الإبداع، بخاصة في توظيفه النقطة
بوصفها بداية ونهاية كل شيء، وهو ما عبر عنه في قصيدة: [صيحة
من خلف الباب]
بعدَ انتظار أربعين عاماً
فتحَ الحرفُ مُبتسماً بابه
فانحنيتُ أمامهُ باحترامٍ شديد
وقلتُ لهُ في هدوءٍ مُقدّس:
ما معنى الحياة؟
وقبلَ أن ينطقَ الحرفُ ببنتِ شَفَة،
خرجتْ لي نقطةُ الحرف
وأغلقت الباب
ثُمَّ صاحتْ:
يا هذا إنّهُ لنْ يجيب![26]
لعل النقطة –
كما أشرنا إليها سابقا - تمثل بداية ونهاية كل شيء. هي بداية
الجملة ونهايتها، وبداية الحروف ونهايتها، ومن خلال هذا الرمز،
قد يعبر الشاعر عن مفهوم الزمن، والدائرة اللامتناهية للحياة
والموت، حيث يبدأ كل شيء بنقطة، وينتهي بنقطة، في أبسط الصور،
وإلى العدم الذي يسبق، ويلي، الوجود. ومن خلال التركيز على
النقطة، قد يكون المراد التعبير عن الفكرة الفلسفية للوجود
كشيء هشٍّ، وخائر، حين يكون مرتبطًا بلحظة واحدة من الزمن،
يمكن أن تكون نقطة في بحر العدم. والحال
هذه أن محاولة ربط النقطة، والحروف، بنزعة الشاعر الصوفية،
يعدُّ ربطًا مكنونًا بالنزعة الصوفية، لمعرفة الأسرار الروحية
والمعرفة الباطنية التي تتأتى بالإلهام والتجليات بالإدراك
العميق للوجود الذي
يتجاوز الفهم السطحي والمعرفة الظاهرية، ويعد ذلك من المضامين
التي استقر عليها معظم المتصوفة الذين نظروا إلى الوجود بوصفه
متَأَملاً في نقطة البداية، كما هو الشأن عند الحلّاج الذي
أعطى للحروف رمزا، و"طاسين النقطة" مكانة تشير إلى أصل
كل خط يربط الإنسان بتجلي الحق، كونها محور "وصل العاشق
بمعشوقه" وغير قابلة للتجزئة؛ لذلك أصبحت النقطة في نظر
المتصوفة مركز الوجود وأصل
دائرته، والتي تعكس صورة الاتحاد والتمام والكمال، وبيان ذلك
أن الوجود بعينه نابع من جوهر نقطة التوحد في ذاته جلّ شأنه.[27] وفي
مثل هذا المقام تتطابق روح "رؤيا الوجد" مع ما يستذكره
الشاعر من تعب على مداره الذي يدور به في حياته، بقوله:
...
يبدو أن أديب كمال الدين يمتلك قدرة فريدة على التعبير عن
مفاهيم معقدة، مثل فوضى القدر، أو القوى الخارجة عن إرادة
الإنسان من خلال استخدامه للأدوات الشعرية مثل الصور،
والاستعارات، والرموز، والأصوات، بلغة موحية، ومجزأة؛ للتعبير
عن الحرقة والشجن، مما يعكس عدم اليقين، أو يراعي الالتباس
الذي يشعر به في حياته، أو بما استخدمه من تضاربات بين صور "رؤيا
الوجد"، أو المعاني التي تقوم على رسم معاني الحروف في
دلالاتها الصوفية؛ لإبراز الصراع بين إرادة الذات الظمأى
لمعانقة الكلي، ومواجهة الصراع بالخلاص.
الهوامش
[1] ينظر، محيي
الدين بن عربي، فصوص الحكم، دار الكتاب العربي، بيروت، بلا
تاريخ، ص 133.
[2] ينظر، عبد
الكريم القشيري، الرسالة القشيرية، مكتبة صبيح، القاهرة، بلا
تاريخ، ص 54.
[3] أديب
كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد السابع، منشورات
ضفاف، بيروت، 2024، ص 132.
[4] المصدر
نفسه، ص 132.
[5] ينظر، عبد
القادر فيدوح، أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، منشورات
ضفاف، بيروت، 2016، ص 50
[6] أديب
كمال الدين، المجلد السابع، ص 54.
[7] ينظر،
عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص
117، وما بعدها. وينظر أيضا، ينظر، حياة
الخياري: الحَرْف شكل من أشكال التّعبير الرّمزيّ ـ مقاربة
إنشائية ـ الرابط، https://2u.pw/SkqkrYGq
[8] المجلد
السابع، ص 138.
[9] صلاح
عبد الصبور، قصيدة مذكرات الصوفي بشر الحافي، الديوان، دار
العودة، بيروت، 1972، ص 269
[10] أديب
كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد السابع، ص 102.
[11] جيرمي
ريفكين، عصر الوصول، ترجمة، صباح صديق الدملوجي، المنظمة
العربية للترجمة، 2009 ص194
[12] أحمد
بلحاج آية وارهام: أبجدية الوجود. دراسة في مراتب الحروف
ومراتب الوجود عند ابن عربي، منشورات أفروديت ط أولى، المغرب،
2013 (مقدمة الكتاب)
[13] أديب
كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد السابع، ص 61
[14] المصدر
نفسه، ص 78
[15] ينظر، نورة
شاهين، الزمن الاجتماعي والزمن الإعلامي قراءة
معرفية في الرواسب الثقافية، مجلة الرافدين، الرابط https://2u.pw/TXnmmhT5
[16] ينظر،
عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف، ص 50
[17] المجلد
السابع، ص 35
[18] المصدر
نفسه، ص 149
[19] ينظر،
عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص
114، 115.
[20] أديب
كمال الدين، الأعمال الكاملة، المجلد السابع، ص 154
[21] ابن
عربي، الفتوحات المكية، تقديم، أحمد شمس الدين، دار الكتب
العلمية، بيروت 1999، ص 224
[22] ينظر،
عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص 132
[23] المجلد
السابع، ص 71
[24] ينظر،
جاكوب كروك: اللغة في الأدب الحديث، ص 232.، وينظر أيضا،
أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص 96
[25] المجلد
السابع، ص 120
[26] المجلد
السابع، ص 131.
[27] ينظر،
أيقونة الحرف وتأويل العبارة الصوفية، ص 66.
[28] المجلد
السابع، ص 133.
قراءة في المجلد السابع من أعماله الشعرية الكاملة
أديب كمال الدين : تأصيل الحروفية
ريسان الخزعلي
ناقد وشاعر عراقي
لاشتكيتُ حروفاً عشقتُها حدَّ الجنون
فلم تأبه بي أبدا.
ولا شتكيتُ حروفاُ هدّدتني وطاردتني
ليلَ نهار
حتى ألقت القبض عليَّ،
فقبّلتني وطعنتني سِرّاً وجهرا ً
ثُمَّ هجرتني ودرْوَشتني سرّاً وجهراً
إلى أن مُتُّ أو شارفتُ على الموت.*
ما تقدّم، قصيدة "محكمة الحروف" من الأعمال الكاملة – المجلد
السابع، للشاعر أديب كمال الدين، والتي تُمثّل التأصيل
(الحروفي) الذي وسم تجربتهُ الشعرية فنيّا، مبكّراً
واستمراراً. حتى أصبحت العلاقة بالحروف علاقة "صوفيّة" لا
تفارقهُ ولا يفارقها. فهو يعشق الحروف حدّ الجنون وقد
"دَرْوشته" سرّاً وجهاراً، وأصبحت أيضاً رماحا ً طاعنة كرماح
الدروايش، قد تُميتهُ أو تُشارفهُ على الموت. والشاعر لا يخفي
هذه الدروشة الحروفية/ الصوفيّة التي علّمتهُ كتاب الحرف/
كتاب الرماد، بل يكشف عن مصادرها:
ثلاثةُ
مُعلّمين علّموني كتابَ الحرف،
أعني كتابَ الرّماد.
كانَ الأوّلُ أرضيّاً
لا يعرفُ شيئاً غيرَ الجسدِ والذهب،
والثاني سَماويّاً
يدعو إلى يس وطه وكهيعص،
والثالثُ غامضاً كالقَدَر
لا يفعلُ أيَّ شيء
سوى أن يصفَعَني كلّما أخطأت.
دمرّني المُعلّمُ الأوّل
إذ هيّأَ لي الجسدَ على السّرير.
فمِن أينَ لي ببرهانِ يوسف
لأسحقَ صيحاتِ الإغراء والإغواء؟
وأتعبني الثاني
إذ اختارَ لي
رحلةَ المشي على الجمر
ليلَ نهار،
ورحلةَ الجِمالِ التي يقتلُها العطش
وهي تحملُ الماءَ على ظهرِها
في الصحراء.
وما أنصفني الثالث،
إذ أعطاني ثلاثَ كؤوس
وصاحَ بي: اخترْ كأسَك!
أعطاني كأسَ الماءِ فتجاوزتُها،
وكأسَ الخمرِ فرفضتُها،
وكأسَ النّارِ فشربتُها
لأتحوّلَ في الحال
إلى كتابِ رماد.
أليست هذه رؤية صوفيّة خاصّة للوجود؟ إنها رؤية التحوّل إلى
رماد، رؤية التلاشي والعودة إلى عنصر التكوين الأوّل. وما أكثر
نماساته مع القول الصوفي (أوقفني)!
إن موضوع "الحروفيّة" في شعر وتجربة أديب كمال الدين لابدَّ أن
يكون مرتبطاً بمعرفة سرّية الحرف في القرآن الكريم، وطلسْميتهُ
في الرقى والتعاويذ والتوّقيعات. ولابدَّ أيضاً من جذر عميق،
ديني/ تاريخي/ عائلي، يُغذّي شجرة هذه الحروفيّة ويُديم
استطالتها، وإلّا كيف يمكن تفسير هذه السعة في تشكيل وتأويل
الحرف وجعلهُ دالاً على أكثر من مدلول؟ وإنَّ الجذر الذي أشرت
إليه يتضح في قوله النثري/ الشعري - قصيدة "حتّى قيل":
"من رحمِ الحُلم ولِدت
حتى قيل إنّني منذ الولادة
كنت حرفاً يُراقص نقطته
أو نقطة ً تعشق سِرّها
أو حاء سقطت من كلمة الحُب
أو باء غرقت في شهوة الحُلم".
ضم َّالمجلد السابع من الأعمال الشعرية الكاملة خمس مجاميع لم
تُنشر سابقا، وفي عنوان كل مجموعة ما هو مرتبط بالحرف كمُوجِّه
استباقي يعزز تأصيل الحروفيّة ويجعلها شاغلاً في التلقّي: لم
يبق من "أحبك" سوى نقطة الباء، صرت شاعراً لأن حرفي لا يعرف أن
يمشي إلّا على الجمر، الرقص مع الحروف، ما لم يقلْهُ الحرف،
طفولة حرف.
ورغم تنوّع وسعة مواضيع القصائد، فقلّما تجد قصيدة تخلو من
ذكْرِ مفردة الحرف أو الحروف حتى في القصائد التي تتشاغل مع
تجربة "الأشخاص"، المطربة "أُم كلثوم" كمثال:
نعم،
تحتَ شمسِ صوتِكِ الوارفة،
يا كوكبَ الشّرق،
يتدرّبُ الحرفُ على الطيران
عندَ كلّ قصيدة:
مَرّةً بلبلاً،
مَرّةً حمامةَ شوقٍ،
وثالثةً طائراً لا اسمَ له،
ورابعةً يتحوّلُ الحرفُ
إلى جناحٍ عظيم
يملأُ الشّرقَ والغرب.
فإذا اكتملتْ صيحاتُ حُبّكِ
وأيقظتِ الرّوحَ من موتِها
والقلبَ من زلازلهِ المُزمنة،
تحوّلَ الحرفُ كلّه
إلى سماواتِ سِحرٍ
تبدأُ من النّيل
ولا تنتهي في الفرات.
إنَّ الشاعر مسكونٌ بالحرفِ وساكن فيه، وما هذا التشابك
الحروفي إلّا تأصيل لتجربة فنيّة/ شعرية قد لا يقوى الشاعر أن
ينفكَّ منها بعد أن أصبحت "النمط" في تجربته:
"نعم، كان َ محظوظا
بما يكفي
ليخط َّ لنفْسه
أبجديّة
تتألف من سبعة آلاف حرف
ونقطة واحدة".
قصائد الأعمال الشعرية الكاملة – المجلد السابع، كما في معظم
قصائد الأجزاء السابقة، قصائد وضوح طيّعة على التلقّي تعتمد
البناء النثري "قصائد نثر" والجملة القصيرة، لا جملة قصيدة
النثر الطويلة المسترسلة، كما جاءت بها قصيدة النثر من "هناك":
"حاولي
فقصائدي عذبة ٌ كماء
النبع
بسيطة كأغنية ريفيّة
وطيّبة ٌكرغيف يحلم ُ به طفل جائع
افترش رصيف الله..".
الشاعر المبدع أديب
كمال استغرقتهُ قصيدة النثر كثيرا ً– وهو العارف بالعروض،
وقصيدة الشعر بشكليّها - بعد مغادرته العراق، والتعليل: إن
مراودة، وتشكيل الحروفية بفيض شعري ودلالة واسعة، قد لا يستجيب
لها التوتّر الإيقاعي بالقدر الذي توفّره سيولة النثر، وقد
فعل :
"أجمل ُ قصائد الحرف
تلك َ التي لا تعرف ُ
سبب كتابتها
ولا سبب َ فرحك َ بها
ولا تعرف بماذا تنتهي".
إن قراءة هذه الأعمال تستوجب الكثير من الإنصات، ولا يسعها مثل
هذا المرور الذي يكتفي بالاحتفاء.
**************************************
-
الأعمال
الشعرية الكاملة: المجلّد السابع، شعر: أديب كمال الدين،
منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، بيروت، لبنان 2024.
قراءة في المجلد السادس من أعماله الشعرية الكاملة
أديب كمال الدين: الراكب في قطار التيه بحثاً عن
شخصياته الحُروفية
عدنان حسين أحمد
ناقد عراقي مقيم في لندن
صدر عن "منشورات ضفاف" في بيروت المجلّد السادس من الأعمال
الشعرية الكاملة للشاعر العراقي أديب كمال الدين المُقيم في
مدينة أديلايد الأسترالية.
يضم المجلّد خمس مجموعات شعرية وهي على التوالي: "شخصيات
حُروفيّة"، "حرفٌ من شمس"، "فتنة الحرف"، "قال لي حرفي"، "وكان
لهُ حرف". وتشتمل هذه المجموعات الخمس على 197 قصيدة تتخذ من
الحرف والنقطة ثيمات واقعية، جميلة، مُراوغة لا تتفادى الخيال.
ربما يتساءل القارئ: كيف يتسنى لأديب كمال الدين أن يكتب هذا
الكمّ النوعي الكبير من القصائد الشعرية الأنيقة الرشيقة التي
تفاجئ قارئها وتأخذ بتلابيبه من دون أن تتيح له الفرصة لالتقاط
الأنفاس، فالأعمّ الأغلب من قصائده ينطوي على عنصري المفاجأة
والإدهاش اللذين أدمنَ عليهما خمسة عقود أو يزيد ناهيك عن صوره
الشعرية المُبهرة التي تلسع المتلقي وتقذفه في أتون اللذّة
الإبداعية. لا تقتصر قصيدة أديب كمال الدين على المضمون
وجمالياته الفنيّة وإنما تتعداها إلى الشكل والتقنيات، فهو
يكتب قصيدة نثر بامتياز لكنه يتحاشى الوقوع في فخّ الوزن
المتخشِّب أو ينخرط في رطانة القافية التابوتيّة.
يراهن شاعرنا الحروفيّ على التقنية القصصية، ويندر أن يجد
القارئ قصيدة لكمال الدين تفلت من البنية القصصية التي تتكئ
على الراوي العليم الذي يسرد حكايته بضمير المتكلم الذي بلغ
عقده السابع وهو راكب في "قطار التيه" الذي لم يتوقف حتى في
محطته الأخيرة أديلايد، لأن شخصياته الحروفية التي يبحث عنها
مبثوثة في كل مكان من كوكبنا الذي لا يكفّ عن الدوران.
يكتشف قارئ المجموعة الأولى العدد الكبير من "شخصياته
الحُروفيّة" التي نذكر منها كَلكَامش، وأنكيدو، وشوبان، ومحمد
القبانجي، وصاحب الشاهر، وجان دمّو، وفان كوخ، وديمس روسس،
وأنجلينا جولي، وسعد محمد رحيم وما سواهم من شخصيات استحقت أن
تلج قاموسه الحُروفي وتصبح ثيمة شعرية لا يمكن أن ينساها
القارئ بسهولة. ففي قصيدة "الآخر الذي هو أنا" يبحث الشاعر عن
نفسه فيجدها في الآخر "الأعمى" و"التائه" الذي "يبحثُ عني، ولا
يتركني أهذي في الطريق، إلى أن أموت". يقول أديب:
"لم أكنْ مُحتاجاً إلى ما تقول،
كنتُ مُحتاجاً إلى شفتيكَ.
ولم أكنْ مُحتاجاً إلى شفتيكَ بل إلى لسانِك.
لا لم أكن مُحتاجاً إليه بل إلى روحِك.
لا لا لم أكنْ مُحتاجاً إليها بل إلى حائك،
أعني إلى بائك،
أعني إليك.
وأعرفُ أنّكَ لا تعرفُ نَفْسَكَ مِثْلي
فقدْني إليك.
نعم،
جميلٌ أن ألتقي بأعمى مِثْلي،
تائهٍ مِثْلي
يبحث عنّي
ولا يتركني أهذي في الطّريق
إلى أن أموت".
وفي قصيدة "لم تكن"
يضع "الطفل الشاعر" الذي أضاعَ دراهم العيدِ السبعة بموازاة
كَلكَامش الذي أضاعَ صديقه أنكيدو، وفقدَ عُشبه الخلود، وفي
مقابل الحلاج الذي سيُحرَق غدًا ويُنثر رماده عند ناصية الجسر،
وفي مواجهة السيّاب الذي رأى "من الهول ما يكفي لقتلِ بلاد".
ربما تُلخِّص قصيدة "حينَ قُتِلَ الملكُ الشاب" المأساة التي
يعيشها العراقيون بشكلٍ متكرر حيث يقتلون أولياءهم وملوكهم
ورؤساءهم ثم يبكونهم ويندبونهم على مرّ السنين. لقد مهّد
الشاعر لمقتل الملك الشاب بمشهدَين لا غير: "هجم الناس على
بيته، ونهبوا سيّارتَه وملابسَه وحصانَه" والمفارقة أنّ
المُهاجمين "نهبوا صورتَه الشخصيّة"! تُرى، ما الذي سيفعلون
بها وهم الذين قطعوا أنفاسَه،
وأوقفوا
دقّاتَ قلبه؟ وعلى الرغم من قساوة هذا المشهد التراجيدي نجح
الشاعر في رسم المعادل الموضوعي للمأساة حينَ أدارَ عدسة
كاميرته إلى الوراء وصوّرَ لنا بشكلٍ حيادي ما فعلهُ الدكتاتور
بأبناء الرافدين بعد بضعة عقود حينَ شرّدهم في المنافي
والأمصار وجعلهم يتحرّقون شوقاً لمعانقة خرائب الوطن وأطلاله
الدارسة، حيث قال:
"يا ليتهم ما فعلوا ذلك،
إذ جاء من بعده
طاغيةٌ
هجمَ على بيوتِهم
بيتاً بيتاً،
ونهبَ أعمارهم عمراً
عمراً".
يستنطق أديب كمال الدين حياة جان دمّو برمتها من خلال قصيدة
مُكثّفة واحدة تحمل عنوان "أمام تمثال جان دمّو" حيث ارتأت
جمعية الكحوليين في سدني أن تصنع تمثالاً لهذا الشاعر الذي لم
يبقَ في فمه الأدرد سوى سنّ واحدة، وابتسامة كبيرة يسخر بها من
البشر الفانين وبيده زجاجة خمر كبيرة يحتسي منها صباح مساء كي
لا يتسرّب إليه الملل أو يعرف القلق طريقاً إلى عقله الشارد
منذ عقود طويلة. يُمسرِّح كمال الدين هذا المشهد حين يقف بجانب
التمثال كل يوم تقريباً ويقرأ قصيدة جديدة لجان دمّو "عنوانها
السُّكرُ والشتمُ، ومضمونها السُّكرُ والشَّتمُ والعَربدة!".
ينسج شاعرنا الحروفي قصائد كثيرة على هذا المنوال الذي يجعل
المتلقّي مُلِّماً بحياة الشخصية المكتوب عنها سواء أكان
رسّاما مثل فان كوخ، أو ممثلة مثل أنجلينا جولي أو روائياً مثل
سعد محمد رحيم، وهذه قدرة إبداعية هائلة لا يتوفّر عليها إلاّ
أصحاب المواهب الفاذّة التي تختصر النهر بقطرة ماء، وتستدعي
التاريخ كله في بضع حكايات شعرية لذيذة شكلاً ومضمونا.
تتضمن المجموعة الثانية "حرفٌ من شمس" أنواعاً مختلفة من
القصائد الجميلة والمُبهرة لكننا سنكتفي بقصيدة "جناحان" التي
تندرج في إطار القصيدة المفتوحة التي تتحمّل إضافة شخصيات
جديدة لكن جرت العادة أن يكتفي الشاعر بالعدد الذي يفي بالغرض
الإبداعي، فثمة قصائد تكتفي بثلاث أو أربع شخصيات تؤدي إلى
الدهشة والإبهار. وفي قصيدة "جناحان" هناك سبع شخصيات وهي
الحرف، والطائر، والمرأة، والمرآة، والنهر، والغراب، والشاعر"
ولم تعد القصيدة بحاجة إلى المزيد فارتأى مُبدع هذا النص أن
يُنهيه بطريقة عجائبية تضع المتلقّي في دائرة الذهول. لنقرأ
المقطع الأخير من القصيدة الذي يقول:
"حينَ قرّر الشاعر أن يطير،
كتبَ اسمكِ السِّحري
في ذاكرته،
فنَبَتَ لهُ، على
الفورِ، جناحان".
تحتشد المجموعة الثالثة الموسومة بـ "فتنة الحرف" بالعديد من
القصائد الذاتية التي يكتبها الشاعر بطريقة غير مباشرة. وفي
قصيدة "بنك الأحلام" يسّهب الراوي الذي يتقنّع غالبًا بقناع
المؤلف في الحديث عن شخصية أخرى لكننا نتفاجأ في نهاية المطاف
بأنه يتحدث عن نفسه عبر لُعبة فنية شديدة الإتقان. ولو تتبعنا
قصة هذه القصيدة لوجدنا أنّ الشاعر قد أسّس بنكاً للأحلام،
ونشر إعلاناً في الصحف يطالب فيه الحالمين والمشرّدين
والمجانين أن يودعوا أحلامهم في هذا البنك ولم يستجب له سوى
رجل واحد يبعث له يومياً "مائة حلم وحلم" وحينما نسترسل في
القصة نكتشف أن هذا الرجل يشبهه في كل شيء، بما في ذلك البدلة،
والنظارة، وربطة العُنق إلى أن تأتي المفاجأة التي يعوّل عليها
الشاعر حيث يقول في خاتمة القصيدة:"وحينَ مددتُ يدي لأصافحة،
اكتشفت أنهُ . . . . . . أنا".
يُوجز أديب كمال الدين الفرقَ بين ثنائية "الهُنا والهُناك"
وهو عنوان قصيدة مميزة في مجموعته الشعرية الرابعة المُعنونة
"قال لي حرفي" فهذه القصيدة وشقيقاتها الأُخريات تنتمي إلى نمط
"القصائد المُغلقة" التي تكتفي بإجابة مُحددة تروي ظمأ القارئ،
وتُطفئ عطشه بالكامل، وحينما يجيب عن سؤال الحرف يقول:
"هُنَاكَ ينفقُ القلبُ عمرَه حالماً بالهُنَا.
وهُنَا يجدُ القلبُ أنّ الحلمَ موجودٌ
دونَ شكّ
لكنّهُ مِن دونِ حاء
ومِن دونِ لام
ومِن دونِ ميم!"
على الرغم من أنّ المجموعة الخامسة التي تنتظم تحت عنوان "وكان
له حرف" تحتوي على قصائد مركزّة تلامس شغاف القلب، وتستدرج
القارئ إلى مناخها الشعري العذب، وتزجّهُ في غابة الأسئلة
الحادّة إلا أننا سنتوقف عند قصيدة "حرف القول" لأنها تتمحور
على ثنائية "الحرف والنقطة" التي شغلت الشاعر خمسين عاماً أو
يزيد، غير أنّ "الحرف" الذي يكمن فيه "سرّ الأبدية" كان
مشروعاً شعرياً لوحده، مثلما كانت "النقطة" التي يكمن فيها
"سرّ الكون" مشروعاً شعرياً موازياً له ولا يمكن للاثنين معاً
أن يتوقفا طالما تصعد الأنفاس وتهبط في صدر الشاعر المُلهِم
أديب كمال الدين الذي صعد إلى "قطار التيه" ولن يترجل منه إلى
أن يصل إلى "محطة الضياع الأخيرة" بحسب توصيفة الشعري الجميل.
************************
- الأعمال
الشعرية الكاملة: المجلّد السادس، أديب كمال الدين، منشورات
ضفاف، بيروت، لبنان
2020.
قراءة في المجلد الخامس من أعماله الشعرية الكاملة
ناقد عراقي
أمّا (المرأة) فهي العالم الآخر اللامتناهي التي يفترض أن تكون
تلك النسمة العذبة التي تلطّف الطقس الحياتي، فهي الرقة
المتناهية وهي الدفء، وهي القيمة الجمالية العليا حتى في
تقلباتها علوّاً وهبوطاً والتي أسبغ عليها الشاعر سمة (الجمال
المُطلسم!). ألم يخاطبها بقوله:
(حينَ
أحببتُكِ فقدتُ نصفَ ذاكرتي
وحينَ خرجتُ من الحربِ فقدتُ نصفَها الآخر).
أمّا (المرآة) فيا ويل لمن تخدعه المرايا ليرى ذاته وجهاً لوجه
حين يقف أمامها، على حقيقتها دونما زيف أو رتوش. ويا ويل من
يدعي أن المرايا خادعة وأنها لا تمثّل حقيقته. سواء ظهر في
سيماء وجهه أو بغضون التجاعيد التي كست هذا الوجه الذي كان
يفيض رواء وتضجّ فيه عروق الحياة، فاذا بها تجفّ تماماً فلا
ترويها دماء! ومن هنا نجده وهو يحاول الإطاحة بالمفهوم الأوحد
في خطاب الشاعر وعدم تبنّيه لما يطرح عند الاخرين؛ اذ ترتبط
صوره الشعرية بالتأويل والذات والقارئ على السواء في ضوء
أنطولوجيا الفهم القائم على الوعي والإدراك القصدي لها.
زد على ذلك أن الأمر قد يقترن بالشك والفكر أولاً ومن ثم العمل
المنتج الذي يركز على ما يعود للذات من فعل وقراءة. وكما يذهب
إلى ذلك الدكتور علي هاشم طالب فيشير إلى أن (قراءة الذات بفعل
النص وقراءة النص بفعل الذات، مثل المكان الضيق في شعر أديب
كمال الدين في فهم الذات له ومن ثمَّ فهم الذات بوساطته وقراءة
المتلقي لهما، فانعكس الأثر بالظاهرة التي تمثّل بُعداً
اجتماعياً ونفسياً وفلسفياً ينطبق على فهم الذات وقراءتها
لذاتها مما يشكل حضورها الذاتي الذي يكون في الغرفة والسرير
والنافذة، وكل ذلك يرتبط بالحضور الذاتي وتشكله الآني، وقد يصل
ذلك الفهم في التشكل إلى الموت، ويمكن أن يكون حضوره من خلال
الجسد. كل هذه الأماكن كان يفترض أن تكون مصدر الراحة
والطمأنينة، لكنها كانت مصدرا للخوف والقلق والحزن، وهذا قد
يشمل الأماكن الواسعة التي أصبحت ضيقة في ضوء فهم الذات
لها..). (د. علي هاشم طالب/ جامعة المثنى/ كلية العلوم التربية
للعلوم الانسانية/ مجلة جامعة ذي قار/ المجلد 14 العدد 1 آذار
2019).
والغريب أننا نجد أن جميع قصائد المجموعة الأولى في المجلد
الخامس وهي المعنونة (رقصة الحرف الأخيرة)
تتكون من (19) مقطعاً شعريا
Stanza
حيث يمثّل هذا الرقم عند الروحانيين والصوفيين عمقاً كبيراً.
فهو يمثل عدد حروف البسملة التي هي الافتتاحية لسور القرآن
الكريم كافة والبالغ عددها 114 سورة، عدا واحدة منها هي سورة
التوبة، إلا أنه مما يعوّض عن هذا النقص العددي في منح ذلك
التطابق بين الرقمين أننا نجد أن تلك الآية قد جاءت مكررة
لمرتين في سورة النمل. حيث يبنون الكثير من الأسرار عليها، فهي
الافتتاحية لسورة السبع المثاني (الفاتحة) كما يذهبون في
الكثير من البحوث إلى أن السور عند تحويل حروفها بما يناسبها
من أرقام هجائية، كلها تقبل القسمة على الرقم (19) بدون باقٍ.
ولهذا يذهبون إلى أن كتاب الله المجيد متكامل رقمياً. ولو
رجعنا إلى قصائد الشاعر لوجدناها تعتمد الأسلوب ذاته في أغلب
قصائده ذات الأدوار الإيقاعية والتي تقع ضمن الرقم المشهود
(19) كما أن الشاعر أديب يتخذ من التكرار لكلمة أو لعبارة
سبيلا. إذ يتخذ منها تكية أو (دورا) لإنشودة يتغنى بها وبإيقاع
مموسق، ولو ضربنا مثلا لوجدناه يلجأ إلى تكرار كلمة معينة
كإفتتاحية لمقاطعه الشعرية، ففي قصيدة (كاف السؤال) يعمد إلى
استعمال كلمة (ما دمتَ) أو عبارة (حين ماتَ) في قصيدة (توريث).
مع أنه قد يتصرف فيها إذ يُغيّرها حسب المعنى المقصود (حين
صُلب) والذي يريد إيصاله إلى المتلقي، ففي المقطع 14 من تلك
القصيدة ينشد لنا في إيقاع جميل:
(حينَ صُلِبَ الحَلّاجُ وأُحرِقَ
أورثني رمادَ جُثّته.
فاحترتُ بأمرِ هذا الرماد.
لكنني ذات غروبٍ
وضعتُهُ في أكياسٍ صغيرة
وذررتُهُ في
دجلة.
ذررتُ كلّ سنةٍ
كيساً
ولم أزلْ على هذا الحال:
لا أنا أموت
ولا الأكياس تنتهي.)
وإذا
كان الشاعر حائرا في البداية، فإن حيرته قد انتفت حين اهتدى
إلى حل، وهو أن يأخذ هذا الرماد ويوزعه في أكياس ليذرها في
دجلة، ربما كما يفعل الهندوس مع موتاهم فقبل حرق جثثهم، يلجأون
إلى غسل الجثة في النهر المقدس (رانج) وبعد أن تجف يتم حرقها
لأن التطهير عندهم يتم بالنار ثم يذرون الرماد في النهر لتعيش
الروح- حسب معتقداتهم- في إشارة إلى الخلود. هكذا فعل الشاعر
الحروفي الأستاذ أديب كمال الدين حين قام بذرّ رماد الصوفي
الحلّاج في دجلة للبحث عن سر خلود النهر وامتداده بصورة
لامتناهية، وهو هنا يصل إلى نظرة فلسفية نحو الكون.
وفي تلميحة ذكية أخرى منه يقترب من عشبة الخلود التي سعى
للحصول عليها كلكامش وهو
يحاول التغلب على سر
الموت بغية الوصول إلى الخلود السرمدي، وبذا أقدم الشاعر
الحروفي على كسر ذلك الاحباط ومضاعفاته! إذ مهما امتد الظلم
وطغى الفساد وما يصاحبهما من حلكة النفس واسودادها، يأتي
ليبشرنا بتغريدته الخالدة:
(لا أنا أموت
ولا الأكياس تنتهي!)
وهنا أجد أن الشاعر يصل إلى ذروة القصيد وفي منتهى الروعة حيث
يكون حين وصل بها إلى معراجها الأكبر
Climax
أما في قصيدة (قاف القضبان) فنجد أن افتتاحية المقاطع كلها
تبدأ بكلمة (جلسَ) إذ يتناول فيها الكثير من الحالات، حيث إن
الجلوس يمثل الهدوء والسكينة (جلسَ الشاعر/ جلسَ الطفل/ جلسَ
الشحّاذ/ جلست العانس/ جلس البريء ..) إلى أن يصل بنا إلى (جلس
الزمن!) في استعارة جميلة منه بعد أن ألبسَ الزمن لبوس الحركة
ومن ثم السكون:
جلسَ الزمنُ خلفَ القضبان
وهو يرى السّاعات
تفرُّ مِن بين يديه الضعيفتين
مثل طيورٍ فُتِحَ لها،
فجأةً،
باب القفص.
وهكذا يرينا الشاعر حالة أخرى من التخلص من (أسر الذات!).
وهكذا تترى صوره الشعرية ليتناول مختلف الناس وهيأتهم في مرحلة
أخرى من مراحل الإحباط:
جلست العاشقةُ خلفَ القضبان.
حاولتْ أن تتكلّم
فخذلَها قلبُها
وخذلَها لسانُها
وخذلتها الكلمات.
حتى التفاحة لم تسلم من أيدي الجزارين، إذ ينشد بأسى
:
جلست التفّاحةُ خلفَ القضبان،
فذهلتْ وهي ترى عشرات السّكاكين
تحاولُ أن تنهشَ جسدَها.
وهكذا يستمر بنا الشاعر بالانتقال بنا بكامرته المتحركة لترصد
لنا مختلف المواقع والحالات ولكن على الرغم من سواد الدنيا
كلها وحلكتها الشديدة، فمهما بدت لنا العتمة من غسق الليل وكأن
لا نهاية لها، إلا أنها لم تمنع الصوفي من الاهتداء إلى النور
حيث يقول:
جلسَ الصّوفيُّ خلفَ القضبان،
جلسَ بقلبٍ مُطمئن
لأنَّ القضبان
لم تستطعْ منعَ قلبِه
مِن ترديدِ أسماءِ الله،
ولا البكاء
ما بين يديها المُقدّستين الطيّبتين.
إلا أن الشاعر حين يردد حرف الحاء ينكّس الراية ويستسلم، ففي
قصيدة (حاء الحلم) ينشد لنا وجهات نظر متباينة:
حاءُ الحُبّ أكثرُ الحاءاتِ شَعْوذةً،
هكذا قالَ لي الصحفيون.
حاءُ الحُبّ أكثرُ الحاءاتِ التباساً
وغموضاً وهرطقةً،
هكذا قالَ لي المؤرّخون.
... لكنّ قلبي قال:
حاءُ الحبِّ أكثر
الحاءاتِ مبعثاً للجنون!
إلى أن يصل بنا الشاعر في خاتمة القصيدة إلى منتهى الإحباط،
حين يردد
:
ولذا جمعتُ قصاصات قصيدتي،
وصنعتُ منها وسادةً صغيرة،
وضعتُها تحتَ رأسي،
ونمتُ.
نمتُ سعيداً،
وأنا أحلمُ بحاء الحلم،
أحلمُ كأيّ طفلٍ ينتظرُ صباحَ العيد،
العيد الذي سحقتْ رأسَه حاءُ الحرب،
وحاءُ الحرمان،
وحاءُ الجحيم!
وإذا كان حرف الرّاء هو الأكثر روّياً في قصائد الشعر
الكلاسيكي لإيقاعه الجميل، فإنّ الشاعر يعمل على سحقه، ليصب
عليه لعناته الكبيرة لتلقيه في ضلالة الحرمان والجحيم، فما بين
الحب والحرب، يكمن هذا الحرف (الراء) اذ يعمل على قلب مائدة
الحياة تماما فيلقيها في مهاوي الضلالة والردى! ويبلغ (توق)
الشاعر مَداهُ، يستعيد فيها موقعه الصوفي حيث يستهل الشاعر
قصيدته (قاب قوسين) بكلماته (يا لسعدكَ/ يا لبشراكَ/ يا
لمجدكَ/ يا لطفكَ ..) حين يختم قصيدته تلك في المقطع 19 اذ يصل
بها إلى قممها السوامق صعوداً نحو المجد الالهي، وكأنه متعب
وقد استعاد أنفاسه أخيراً، ففي نهايتها، ينشد بتوقٍ متناهٍ
ولعله هنا يخاطب الذات المفعة بالحب الإلهي:
يا لمجدك
وأنتَ تنطقُ الكاف
ليكونَ الكاف قلبك،
وأنتَ تنطقُ النُّون
فتكون النُّون نبضة قلبك.
وفي قصيدة (سين العظام والحطام) نجده يتغزل بالمرأة وجمالها
المُطلسَم، فمرّة يشبهها بالحمامة ومرّة بالبيضة، وثالثة
بالزهرة، حيث يتناغم معها بنعومة متناهية:
اسمُكِ السّين
وهو السّرّ،
وهو الموتُ السّرّيّ،
وهو سينُ مَن لا سين له
إلّا الجنون.
حيث يجد المتتبع إيقاع حرف السين الجميل بما يطلق عليه النقاد
الانكليز: فحيح الافاعي
Hissing
Sound
ولكنه في المقطع 13 يلقي بسؤاله المُحيّر بقوله (أين هو الحل
يا سينَ العظام والحطام؟) لكنه سرعان ما يرقى من جديد إلى
حالات من الكآبة شديدة حين يصور لنا كيف : استعان القتيل
بقاتله خوفاً من الخوف! في فوبيا مرعبة وصل اليها في هذه
المدينة (مدينة الغربان) بامتياز! وفي تناقضاته تلك يسخر
الشاعر سخرية مريرة من المصفقين وراء كل مصفق، والناعقين وراء
كل ناعق، كما يطلق عليهم:
الشّعراءُ المُؤدلَجون مُضحكون
لأنّهم يكتبون طوالَ العمرِ قصيدةً واحدة،
قصيدة تستعينُ بكلِّ الكناياتِ والاستعارات
لتثبتَ أنَّ الطغاة،
رغمَ كلّ أنهار الدمِ التي فَجّروها،
كانوا مُجرّد حمامات سلام.
بينما في مكان آخر تصدح حنجرته بأعذب الشعر وأبهاه، فالشعر
عنده هو رفرفة جناح الطائر! فأية صورة شعرية أجمل من هذه!
وهكذا يريد بالشعراء أن يصلوا إلى السوامق حين يدّعي أن (الشعر
هو الفصل الاعظم في سرّ الكون). وها هو ذا يتحدث
عنهم:
قالَ المعرّيّ : خَفِّف الوطء.
وقالَ الخيّام : اشرب الكأس.
وقالَ جُبران : أعطِني الناي وَغنِّ.
أمّا أنا فقلت : الحرفُ كأسٌ والحرفُ ناي
فَخَفِّفوا من وطأةِ القولِ أيّها الشُّعَراء.
لكنه في قصيدة (مرآة
حروفية) يطرح الشاعر أديب كمال الدين أسئلته غير المتناهية. قد
يجيبك على بعضٍ منها وقد يظل السؤال عالقاً في مؤخرة الذهن
بحاجة إلى جواب! اذ يدّعي أنه:
يمكنكَ، ببساطةٍ، أن تصنعَ المرآة.
خذْ شَظيّةً كبيرة
مِن زجاجِ نافذتِكَ المُحطَّمة
واغسلْها جيّداً مِن ذكرياتِكَ المريرة.
اغسلْها بالماءِ أو بالدموع.
وضعْ على وجهِها الثاني
قطراتٍ مِن دمِك.
دعها تجفّ تحتَ ضوءِ الشّمس.
وانظر الآن: ماذا ترى؟
قلْ لي بهدوءٍ شديدٍ: ماذا ترى؟
أرجوك لا تصرخْ
لا تستغِثْ
لا تذرف الدموع
لا تُدمدمْ
لا تَسخرْ
لا تضحكْ ولا حتّى تبتسمْ.
فقط، قلْ لي : ماذا ترى؟
وسأقسمُ لك
أنّني سأحتفظُ بسرِّكَ إلى أبدِ الآبدين.
ولابد أن الشاعر كان يشير إلى عبثية الوجود، وإلا ما معنى
الأبيات التالية:
على بابِ الدرجِ الطويل
كتبتُ لافتةً تقول:
هذا درجٌ لا يؤدّي لشيء
وليستْ فيه درجات للصعود
ولذا على مَن يرغب الصعود
أن يجيدَ الطيرانَ من دونِ جناحين.
فهل كان يتعين على الشاعر أن يرتقي هذا السلم الطويل، الذي
يفضي إلى لا شيء، لا شيء سوى العدم! ومما يؤكد هذا النهج هو
قلقه الخصب وحيرته غير المتناهية، حين يردد:
إذا اجتمعتْ سينُ السّرّ بميمِ الماءِ ظهرَ السّمّ.
أهو سمُّ الحُبِّ أم سمُّ الموت؟
من هنا فالذي أخلص إليه أنه لا يمكن الإحاطة بما يطرحه الشاعر
من رؤىً وافكار، لا في حروفه ولا في قصيده الشعري، لا عن
الحياة ولا عن الاخرين ولا عن ذاته حتى!
*******************************
-
الأعمال الشعرية الكاملة: المجلد الخامس، أديب كمال الدين،
بيروت، لبنان 2019.
الشاعر الحروفي أديب كمال الدين في مجلّد أعماله الرابع
يا عبدي
مَنْ عرفني فقد عرفَ الطمأنينة.
ومَنْ عرفَ الطمأنينةَ عرفَ السَّكِينة.
ومَنْ عرفَ السَّكِينةَ عرفَ الوقار.
ومَنْ عرفَ الوقار
كانَ اسمي بين شفتيه بلسماً
وفي قلبه نوراً
لا يأتيه الباطلُ أبداً
حتّى لو انهدّتْ مِن حوله الجبال.
ص 68
وكأنني بالحلّاج الذي كان يردد بذات المضمون، إنما قد أضاف
اليه الذوبان في ذات المحبوب، وفقا لنظرية الحلول التي تقضي
بذوبان (الناسوت في اللاهوت!) حيث كان يردد (مَن يبحث يجدني،
ومَن يجدني يعرفني، ومَن يعرفني يفهمني، ومَن يفهمني يحبني،
ومَن يحبني أحبه، ومن أحبه أفنيه).
ومن هنا نجد أن
الشاعر الأستاذ أديب كمال الدين ينحو نحو عالم روحاني بعيداً
عن عالم الحسّ، وذلك عن طريق استقراء الحرف العربي (وإيجاد
مدلولات عميقة له مستعينا بالتراث القرآني والقصّ القرآني،
وبالعمل على خلق عالم روحاني موازٍ لعالم الباطن) كما أشار إلى
ذلك الدكتور حسن ناظم في مقالة له منشورة في جريدة الصباح في
17 حزيران 2015.
والشاعر وإن استنطق أغلب الحروف، إلا أننا نجده يركز على حرفي
الألف والنون- إضافة إلى النقطة التي جعلها عاصمة المعنى
والمبنى للعلوم واللغة- بما لديهما من دلالات روحية كما هي
جميلة، وإننا إذ نجد تركيزه على حرف الألف لأنه هو الحرف الأول
من لفظ الجلالة (الله) فهو المبتدأ كما هو المنتهى الذي يعتبره
البعض من العارفين بأنه يمثل اسمه العظيم الأعظم الذي إذا
دُعِيَ به أجاب! وهكذا يجري تركيزه على حرف النون الذي ورد
التاكيد عليه في الآية في سورة القلم (ن وَالْقَلَمِ وَمَا
يَسْطُرُون)، كما ورد في سورة الأنبياء (وَذَا النُّونِ
إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ
فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين)
الذي هو تسمية لصاحب الحوت وهو النبي يونس عليه السلام. وهكذا
يعمل الشاعر الحروفي على شحن هذه الحروف، لتضخّ للمتلقي دلالات
وصوراً شعرية إيجابية تميّز بها دون غيره من الشعراء، وليمدّ
الحرف العربي بطاقة إيجابية كما هي استذكارية بأنْ يتقمّص
روحية هذا الحرف ليشكّل لنا ارهاصات كل حرف على حدة، وليمنحها
بُعداً يتجاوز شكلها أو رسمها الهندسي. واذا كان الشاعر قد رسم
المواقف للمتلقي في قصائده، فإنه يتسامى فيها إلى الذات
الالهية التي يتحدث فيها إلى العبد حسب انسياب مواقف الشاعر
الفكرية، وبما ينسبها للذات الالهية من بوح جميل روحي، توحي
بالطمأنينة والامان، فحرف الألف المبارك له القدح المعلّى عند
الروحانيين، فهو أول الحروف في الأبجدية العربية، كما هو أول
حرف من لفظ الجلالة (الله) وهو أول أسماءِ الله الحسنى ، وفيه
يجري التركيز عليه أي لفظ الجلالة (الله) في الآيات القرانية
ذات الدلالات المهمة ، كما في الآية (بسم الله الرحمن الرحيم)
وفي الآية (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ
أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ)
الاسراء 110 ، وهو
الاسم
العظيم الذي أدخلَ السكينة إلى قلب عبده ونبيّه موسى عليه
السلام بعد أن مرّ بحالة من الرعب حين ألقى عصاه، اذ ناجاه
(وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا
جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَىٰ
أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) سورة
القصص 31 ، بعد أن عرّفه بذاته جلّ جلاله (إِنَّنِي أَنَا
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) سورة طه 14 . فمن هذه الآيات وغيرها
كان الشاعر قد استوحى مدى جلال حرف الألف، ففي مطلع قصيدة
(موقف الالِف) ينشد:
أوقَفَني
في موقفِ الألِف
وقال: الألِفُ حبيبي.
إن تقدّمتَ حرفاً،
وأنتَ حرفٌ،
تقدّمتُ منكَ أبجديةً
وقدتُكَ إلى أبجديةٍ من نور.
وقال: سَيُسمّونكَ "الحُروفيّ".
فَتَبصّرْ،
فالليلُ طويلٌ والراقصون كُثر،
وهم أهلُ الدُّنيا وأنتَ مِن أهلي.
ص 18
الأمر الذي يشير إلى استيحاء الشاعر نشيده الروحي من الحديث
القدسي الذي رواه البخاري وورد فيه (إذا تقرّبَ العبدُ إليّ
شبراً تقرّبتُ إليه ذراعاً، وإذا تقرّبَ إليّ ذراعاً تقرّبتُ
منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة). واذا كان الشاعر
يستنطق الذات الالهية فيأتيه الالهام والاشراق الصوفي ، ففي
خاتمة لتلك القصيدة يردد هذا النشيد:
ما كنتُ إلّا حرفاً،
ما كنتُ إلّا ألِفاً
مَصيري إلى التُراب
إذ خلقتني من طين.
ص 22
واذا كان الصوفيون يرون أنهم يصلون إلى الحالة النورانية في
قمة معراجهم الأكبر، حيث كمالاتهم ضمن مراحلها السبع التي
يمرون بها، وعلى حد تعبيرهم وهم في حالاتهم النورانية تلك
يزعمون أن (لأولياء الله شراب، إذا شربوا طابوا، وإذا طابوا
وصلوا، و‘ذا وصلوا اتصلوا ، وإذا اتصلوا لا فرق بينهم وبين
محبوبهم). إلا أننا نجد أن شاعرنا سرعان ما يهبط من معراجه
المتناهي في السمو الروحي الخاطف ، اذ ينزل إلى الأرض لقوله
تعإلى: في سورة طه 55 (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا
نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ).
فهو من التراب واليه يعود. وإذا كان الشاعر في المقطع الأول من
القصيدة يتحدث فيها بالضمير المخاطب (أنتَ) فإنه يلجأ إلى
الضمير المتكلم (أنا) في المقطع الثاني، والمعروف عن الصوفيين
أنهم يمتلكون أسرارهم الخاصة، وهم لا يبوحون بأسرارهم، فهم
متكتمون، ومما ينسب إلى الشيح عبد القادر الكيلاني، شيخ
الطريقة القادرية، قوله عن الحلّاج (لو كنتُ في زمانه لنصرته،
هو أباحَ وكتمتُ) بما يطلق عليه البعض أنها (شطحات الصوفية)!
ومن هنا نجد ان الشاعر الحروفي يبوح ثم يكتم، أي يقدم ثم يحجم!
ففي ذات القصيدة يستمر عطاؤه النوراني حين يبوح:
ثُمَّ علمَ أنّ مَن يعرف القاف
سَيلقى مِحَناً لا تُحصى،
أهونها الغربة، فَتَستَّرَ.
ثُمَّ علمَ أنَّ كلّ مُتَسَتِّر
يحملُ قَدَرَه
مكتوباً ما بين عينيه الدامعتين.
ثُمَّ علمَ أنَّ كلّ دمعةٍ هي سجدة،
وكلّ سجدةٍ هي طائر سعد،
وكلّ طائر سعدٍ هو نون.
ص 43.
وهكذا نجده يردد حرف النون الذي لا يفارقه في قصائد الإشارات
التي تصل إلى 100 قصيدة، ففي (إشارة الكاف والنون) يختتم
الشاعر الحروفي قصيدته:
إلهي،
كانَ ذلك يوم ظهوري
شمساً من حرف
ونقطةَ روح.
كانَ ذلك يوم خروجي منتصراً
أحملُ كافاً في كفّي اليمنى
وأحملُ، في كفّي اليسرى، النُّون.
ص 320
أما في قصيدة (موقف المصطفى) حيث يتولّى الشاعر وصف النبي
المرسل عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وهو في معراجه الأكبر
بلغة شفافة انسيابية، إذ يبوح بما رأى وكأنه كان حاضرا بين
الرّب الجليل وبين رسوله الكريم، بعينه الباصرة وفي ذائقته
الحساسة، وفي ذلك الموقف ينشد:
أوقَفَني في موقفِ المُصطفى
وقال: أرأيتَ إلى مَن رأى
مِن آياتِ ربّهِ الكبرى؟
أرأيت إلى مَن أرسلتُه رحمةً للعالمين،
وختمتُ به الأنبياءَ كلّهم والمُرسَلين،
وجعلتُ له الأرضَ طهوراً ومَسْجِداً،
وجمعتُ على مائدته
قدحَ الصبرِ إلى قدحِ النصر،
وماعونَ المحبّةِ إلى ماعونِ العِلْم،
وشرابَ الشفاعةِ إلى شرابِ الكوثر؟
أرأيت كيفَ أسريتُ به
إلى حضرتي الكبرى
مِن سماءٍ إلى أُخرى،
فرأى مِن النُّورِ ما رأى،
فكانَ قابَ قوسين أو أدنى؟
ثُمَّ قلتُ له: صفْني يا مُحمّد،
صفْني يا حبيبي،
صفْني أيّهذا المُصطفى.
قالَ: سبحانَ الله.
قلتُ: نعم.
قالَ: والحمدُ لله.
قلتُ: نعم.
قالَ: ولا إلهَ إلّا الله.
قلتُ: نعم.
قالَ: واللهُ أكبر.
فجعلتُ الشَّمسَ تجري في وجهه
وفي صلواته الخمس.
وجعلتُ اسمَه مقروناً بِاسمي،
وشهادتَه بشهادتي،
ومحبّتَه بمحبّتي
إلى يوم يُبْعَثون،
يوم لا يَنفعُ مَالٌ ولا بنون
إلّا مَن أتاني بقلبٍ سليم.
ص 60 - 61
وإذا كان الشاعر يميل إلى التكرار لزيادة الإيقاع مع توكيد
المعنى فتأتي أشبه بالدور في الاغنية التي ينشدها المطرب إلى
درجة أننا نجد في قصيدة (إشارة الصراخ) يعمد إلى تكرار أداة
الجر (من) إلى ما يقرب من 13 مرة! كما يُلاحظ ان قصائد
الإشارات كلها تبدأ بتوجيه الخطاب إلى الخالق العظيم بكلمة
(إلهي)، والتي تنتهي جميعا بالاحباط ومرّ العذاب، وتكاد أن
تكون قصيدته (إشارة الأخضر) الوحيدة التي يختتمها الشاعر
بالتفاؤل:
إلهي،
رأيتُ الأخضرَ في الأشجار،
في العشب،
في الحُبِّ وفي الشَّوق،
في ضحكاتِ الأطفال.
فلبستُ الأخضرَ ليلَ نهار.
ص 311
وينتهي المجلد الرابع بقصيدة: (إشارة الشمس):
ما أجملَ شمسك
وهي تجري لمُستقرٍّ لها
في قلبي.
ص 321
ومن هنا نجد أن الشاعر وهو في حضرة جلال الله تفيضُ روحه
بوجدانيات صوفية بعيداً عن التعلق بالأرض وثقلها المادي، عن
طريق إعطاء الحرف بُعداً يحلّق فيه بأجنحته الروحانية بعيداً
في الفضاء، بسموٍّ، وهو في منتهى الخشوع، بعد أن يخفّ الجسد من
أثقال الأرض ليملأها شعاعاً نورانياً شفافاً وبهيّا. إذ يقوم
بالربط بين الحرف ودلالته وبين فضائه الروحي، بعد أن يخترق
شفراته السرية، فتأتي كلماته مطواعة كالعجينة في كفه يُطوّعها
كيف يشاء لتنسلّ بشغف روحي: وكأنني بالجواهري هنا وهو ينشد:
سرتْ كشعاع النورِ في فحمةِ الدّجى
أو كالنّسيم الرّخو في يَبسٍ اذا هبّا!
*********
إضاءة
في المجلّد الثالث من أعماله الشعرية الكاملة:
أديب كمال الدين واستئثار التجربة الحروفيّة
علوان السلمان
ناقد عراقي
الخطاب الشعري هو جوهر المعرفة الإنسانية، والشاعر (المنتج)
صخرة الدفاع عن طبيعتها ووجودها وهو يخوض مغامراً حالماً داخل
عوالم اللغة لخلق المفاجأة الصورية المستفزة لذاكرة الجمعي
الآخر (المستهلك) ونبش خزينها الفكري لتحقيق هدف النص الذي هو
(رؤية ما لا يرى) على حد تعبير رامبو، بتوظيف وسائل تعبيرية
وأسلوبية وفنية مكتنزة بمكوناتها الجمالية التي تتجسد بشكل
رمزي ودلالي يقترن بالواقع ويعبر عن جوهر الأشياء بلغة إيحائية
متفجّرة الدلالة، مرتكزة على خصوبة المعنى.
والشاعر أديب كمال الدين الذي استأثر بالتجربة الحرفية وحوّلها
إلى وهج من الضوء الشفيف أسهمت في شحن طاقاته الفكرية وتندية
عالمه الصوفي الذي كشفت عنه نصوصه الشعرية المنطلقة من النقطة
أصل الأشياء والمنتهية بالحرف التشكيل اللفظي والجملي:
حتّى نزفت القصيدةُ حروفاً كثيرة
ونقاطاً أكثر
دونَ أن تعترفَ بسرِّها ومعناها.
(قصيدتي الجديدة ص 20).
وباستحضار النص الشعري (قصيدتي الأزلية) الذي يتشكل من أربعة
مقاطع تنبثق من إرث صوفي وصور متخيلة تغوص في عوالم الروح
والجسد التي شكّلت وحدتها الموضوعية عبر الأنا التي تنفذ بعمق
في الأنا الصوفية التي تؤكد العلاقة المشتركة بين الأنا الشعري
التي تهمس بالبعد المعرفي والأنا الآخر بوحدة الوجود المعبر عن
حلول الروح الواعية لذاتها في الجسد الذي هو (قبّتها)- على حد
تعبير القديس بالاماس- كونه طاقة تعبيرية موحية ونصاً مفتوحاً
معبأ بمحمولات تمنحه حضوراً معرفياً بلغة تشكل صور التواصل عبر
الحركات والايماءات، مع استثمار النص القرآني والفعل الذي
ينطوي على بعدين متداخلين: أولهما حدثي وثانيهما زمني للتعبير
عن رؤى روحية يسعى المنتج (الشاعر) إلى تحقيقها:
هكذا
أُلقيتُ
في الطوفان:
كانَ نوح يهيّئُ مركبه لوحَاً فَلَوحَاً
ويُدخلُ فيهِ من كلِّ زوجين اثنين.
كنتُ أصرخ:
يا رجلاً صالحاً،
يا رجلاً مُبحراً إلى الله
خذني معك.
وإذ لم يأبه نوح لصيحتي
تسلّلتُ إلى المركبِ: المعجزة.
وشاهدتُ مأثرةَ الحمامةِ والغُراب
بعدما صعدَ الموجُ بنا كالجبال،
حتّى إذا هدأت العاصفة
وقيلَ يا أرض ابلعي ماءكِ،
هبطَ الكلُّ من سفينةِ نوح
فرحين مُبَارَكين
إلّاي.
(ص 23)
فالنص يفتتح بضمير المخاطب (خذني معك) الذي يمنحه دلالة مزدوجة
بالفعل والحركة ليحقق الأنا الشاعرة ويؤطّرها في فضاء النص
الذي يحمل في طياته عمق الدلالة التي تتحول من (أنا) الذاتية
(المنولوجية) إلى (أنا) الموضوعية (الديالوجية) باستبدال خطابه
الداخلي بالخارجي. إضافة إلى أنّ الشاعر يعتمد هرمية تنحصر في
تعالق وحدات النص الدلالية لتحقيق الوحدة العضوية عبر بناء
تركيبي يتشكل من نمطين من الجمل: أولهما الجمل الفعلية الكاشفة
عن الجانب الحدثي في النص والفضاء الزمني الذي يؤطر مستوياته
المتجسدة في الانزياح، وثانيهما الجمل الاسمية التي تعكس
الجانب الاخباري. إضافة إلى محاولة إيقاظ التاريخ بأسلوب بنائي
يحتكّ بواقعه وهو يخاطب القوى الوجدانية لإثارتها. هذا يعني
أنّ الشاعر ينسج عوالمه الشعرية من فضاءات منفتحة على الزمان
والمكان:
وثانيةً صرختُ بنوح:
يا رجلاً صالحاً،
يا رجلاً عادَ من طوفانه: الجلجلة.
قالَ نوح: مَن أنت؟
قلتُ: أنا الإنسان.
قالَ: مَن؟
قلتُ: أنا المؤمنُ الضّال.
قالَ: مَن؟
وتركني في المركبِ دهراً فدهراً
حتّى إذا غيّبَ الموتُ نوحاً،
تحرّكَ المركب
تحرّكَ بي وحدي
لأواجه طوفانَ عمري
في موجٍ كالجبال،
أنا الذي لا أعرفُ الملاحةَ والسباحة
وليسَ لديّ حمامة أو غُراب. (ص24).
فالنص ينفتح على تقنيات السرد البصري الذي يستدعي المكان
الحاضن للفعل الشعري وانفعال المنتج الشاعر المتفاعل معها بوعي
ولغة محكية، عبر خطاب الذات ومناخاتها بايجاز واختزال جملي من
خلال التحكم بالجزئيات الشيئية ووضعها تحت سلطة التخييل وتسجيل
لحظته التي تتمحور اشتغالاتها على الحدث بتعابير جمالية تقوم
على العبارة الموجزة المشحونة بالخيال والحركة المرئية لغرض
تقديم صورة متماسكة البناء، واضحة المعالم، مؤطرة بوحدة
موضوعية وحيثيات دلالية تنبثق من المفردة الرامزة باستثمار
عناصر بلاغية (مجاز/ استعارة..) فيكشف عن أفق متسع الرؤى
بتخطّيه المبنى والمعنى وخلقه لحقله الدلالي المتمثل في ترجمة
الأحاسيس والانفعالات الذاتية. فضلاً عن توظيف الشاعر للطاقات
الحسية والفكرية ونسجها بإيجاز جملي درامي يستدعي المستهلك
لاستنطاق صوره المعبرة عن لحظتها الانفعالية وألفاظه الرامزة
بوصفها (أداة فكرية معبّرة عن قيم غامضة لغرض تصعيد التكنيك
الشعري). إذ فيه تسمو التجربة إلى حالة الشمول، والمشاهد فيه
تتحول إلى رؤيا:
هكذا
أُلقيتُ
في النار:
بعدما أضرمَ النارَ أهلُ أور
لإبراهيم وألقوه فيها،
انتبهوا إليّ.
كنتُ أغرقُ في الدمعِ من أجله.
قالوا: إنّه من أتباعه فألقوه في النارِ أيضاً.
هكذا
أُلقيتُ
في النارِ أيضاً.
وإذ كانت النارُ على إبراهيم برداً وسلاماً
فإنّها لم تكنْ لي
سوى نار من الألمِ والحقدِ والحرمان
اشْتَعَلتْ،
ولم تزلْ تشتعل فيَّ
في كلّ يوم،
هكذا إلى يوم يُبعَثون!
(ص25)
فالنص يتجه صوب البناء الدرامي الذي يعبّر عن لحظة انفعالية
تجنح إلى الإيجاز والتركيز، وهي تتكىء على تحوّلات لفظية كاشفة
عن صور حسية محمّلة بنداء خفي تحت تساؤل فلسفي يقترب بتقنياته
من الحكائية الشعرية، بتوظيف ضمير المخاطب الذي يبدأ بفعل حركي
قائم على انعكاس الحالة النفسية للذات بتدفّق وجداني يعبّر عن
لمحة فكرية تكشف عن تجربة تختزن في داخلها طاقة إيحائية مثقلة
باشارات من ذاكرة ذاتية تعلن عن انتمائها إلى الحياتي- اليومي
عبر لغة تتجلّى في الانزياح بشقّيه السياقي والاستبدالي محققا
جمالية اللفظ المفجّر للطاقة الشعرية المتجاوزة والمقترنة
بالإيقاع الداخلي المنبعثة من عمق شعوري وبعد إنساني يشكّل
حضوراً في دائرة الوعي:
هكذا
أُلقيتُ
في البئر:
ألقاني إخوتي
وعادوا إلى أبي عشاءً يبكون.
قالوا: يا أبانا قد أكلهُ الذئب.
فبكى أبي،
وكانَ شيخاً جليلاً،
حتّى اخضلّتْ لحيتُهُ بالأسى والحروف.
لكنّ السيّارة إذ وصلوا إلى البئر
ما قالوا: يا بشرى هذا غلام
بل قالوا: وا أسفاه هذا هُلام.
وتركوني في البئر
يمزّقني الظلامُ والخوفُ والانتظار.
(ص26)
فالشاعر يخوض مغامرة شعرية مؤثرة بإتقانه لتكوينها الداخلي
والخارجي مع قدرة في توظيف النص القرآني القصصي ومعاصرته فيكشف
عن قدرته في الترميز وشحن الفاظه بدلالات غير مألوفة من أجل
التحليق في أفق الصورة الشعرية عبر بنية نصية تعتمد التكثيف
والاختزال. فضلاً عن توظيفه الفنون الحسية والبصرية والمكانية
لخلق عالمه الشعري الذي يقوم على أساس جمالي قوامه اللمحة
الفكرية التي تعلن عن حالة نفسية تعاني وحدتها واغترابها،
فتتأمّل وجودها القائم على المتضادات وتشكيلاتها بلغة تشكل
وسيلة تبليغ وغاية في حد ذاتها والتي يعمل المنتج الشاعر على
تفجير قدرتها الانزياحية كي يكشف عن وظيفتها الجمالية. إضافة
إلى استخدامه تقنيات فنية وأساليب لغوية كالاستفهام المحرّك
للذاكرة كي تسهم في توسيع مديات النص بجواباتها، وأسلوب النداء
(الحركة الزمنية المتراكمة بتأثير الصور في وجدان الشاعر
تراكماً كثيفاً..). إذ فيه تتوافد الصور من القلب وتتراكم فوق
بعضها والشاعر يوقظها من سباتها لينسجها بعقلانية فكرية مشوبة
بالخيال. إضافة إلى التكرار بوصفه أسلوباً دالاً على التوكيد
وسمة شعرية بما تحمله من طاقات تعبيرية وإيقاعية والتي شكّلت
لازمة لتقوية الصور التي هي (عقدة تتشابك فيها الدلالات
الفكرية والعاطفية في لحظة من الزمن..) كما يقول إزرا باوند:
ربّما سأخرجُ من البئرِ يوم يُبعَثون
أو ربّما يوم يُقالُ للأرضِ: ابلعي ماءَكِ.
فأخرجُ من مركبِ نوح
أو من نارِ إبراهيم،
وقد أكلني الرعب
ولَفَظَني الموج
وأطفأت المأساةُ عيوني.
(قصيدتي
الأزلية
ص26).
فالنص يكشف عن مسار الرؤيا في تجربة الشاعر أديب كمال الدين
الشعرية وهي تتحرك في بعدين أحدهما يولد من الآخر. أولهما
البعد الزماني، وثانيهما البعد الفني الذي يعتمد السردية
الشعرية في تشييد معمار النص ليشكل خطابا يتكئ على فضاء دلالي
يخرج باللغة من فضائها العلاماتي إلى فضائها التأويلي من خلال
بنية يغلب عليها الانزياح الذي منح النص قدرة انفعالية تتمركز
في أحضان الواقع.
*********************
الأعمال الشعرية الكاملة: المجلد الثالث: شعر: أديب كمال
الدين، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2018
الفصل الثالث
دراسات ومقالات عن المجاميع الشعرية
أديب كمال الدين:
الشاعرُ المُتعبِّد في صومعة الحرف ومحراب النقطة
عدنان حسين أحمد
ناقد عراقي مقيم في لندن
صدرت عن منشورات "ضفاف" ببيروت مجموعة شعرية للشاعر العراقي
أديب كمال الدين المقيم في أستراليا حاليا بعنوان:
"حرف من ماء".
تضمّ المجموعة أربعين قصيدة لم تزل وفيّة للحرف ومُخلصة
للنقطة. فقد بدأ كمال الدين مشروعه "الحرفنقطوي" منذ أربعة
عقود ويزيد ولا يزال ينهل من هذا المَعين الذي لا ينضب.
فالحرفُ ملاذهُ أو مَنجَمهُ الشعري، والنقطة مفتاح أسراره،
ومِفكُّ طلاسمه التي لا تتكشّف إلا بهذه العلامة المُضيئة التي
تنطوي على سحر غامض.
تحتفي غالبية قصائد كمال الدين بالحُب وتتأجج بعواطفه المتقدّة
دائمًا، فما من قصيدة تخلو من وهج التوقّد العاطفي حتى وإن لم
تدُر في فلَك الحُب، فثمة عاطفة لغوية يستشعرها القارئ الذي
يقرأ نصوص كمال الدين أو يتلقاها، عاطفة جميلة تكمن في عذوبة
المفردة، وسلاسة الصورة، وانسياب الأبيات الشعرية التي تتدفق
من منبع النهر حتى مصبّه.
تبدأ أشعار كمال الدين في الأعم الأغلب بأساطير الحب القديمة
التي عاشها آدم وحوّاء وتنتهي بأسطورة حُب الشاعر لمحبوبته
التي تمدّه بكل هذا الزخم العاطفي لأنه مٌوقن تمامًا بأنّ "كل
شيء ماعدا الحُب فناء"(ص15). وما بين الأزل والأبد ثمة أحداث
كبيرة مستقرة في الذاكرة الجمعية يستنهضها الشاعر في قصائده
مثل طوفان نوح، وحمامته، وغصن الزيتون، والناجين الذين
يتكاثرون على مرّ الأزمنة من الحروب والجوائح والطغاة فيقطعون
البحار والمحيطات التي تمنعهم من العودة إلى الأنهار التي
أحبّوها، وتعلقوا بسحرها الأخّاذ. فما من شاعر عراقي صحيح
النسب إلا ويعترف بأمومة دجلة وأبوّة الفرات، وكلما ابتعد
الشعراء العراقيون عن ضفاف دجلة والفرات شعروا باليُتم، ومضاضة
الغربة، وقسوة الاغتراب.
لو وضعنا "حروفية" كمال الدين جانبًا لتألق فيه الجانب الصوفي،
ولو نحّينا صوفيته لتوهجّ فيه الرسّام، أو الفوتوغراف، أو
القاص، أو السينارست، أو المصوِّر السينمائي الذي يصوِّر بعين
الطائر المُحلِّق أو بعين القط المتسلل أو بعين السمكة
المدهوشة. فقصائده لم تعد حكرًا على "الشِعر" كنوع أدبي وإنما
امتدت إلى مجمل الفنون القولية وغير القولية. فكل قصيدة من
قصائده تسرد قصة محبوكة أو حكاية في أضعف الأحوال. فقصيدة "ذات
اليمين وذات الشمال" التي استهلّ بها
مجموعته
"حرف من ماء" هي قصيدة مائية، إن صحّ التعبير، مثل سائر قصائد
هذا الديوان لكنها لم تتبخر ولم تحترق ولم تذُب لأن الحُب
الحقيقي غير قابل للفناء.
توقفنا في مقالات
سابقة عند بعض التقنيات التي يستعملها كمال الدين في قصائده
مثل التناص، والسرد القصصي، والبنية السينمائية وما إلى ذلك.
أما في مجموعته الجديدة فثمة احتفاء باللون، وتكريس للبنية
التشكيلية التي يمكن أن يصادفها القارئ في قصائد عديدة مبثوثة
بين دفتيّ المجموعة لكننا سنكتفي بالإشارة إلى مقطع من القصيدة
الاستهلالية التي تؤكد صحة ما نذهب إليه حيث يقول:
"لكثرةِ ما كتبتُ عنكِ
بالأبيضِ الثلجيّ
والأحمرِ الناريّ
والأزرقِ الخفيفِ أو المُوَسوِس
والأسْوَدِ الغُرابيّ
والأصفرِ الملآن بالآهاتِ والقُبُلات
والرماديّ الذي لا يكفُّ عن ملاحقةِ حروفي
ومحاصرةِ عناوين قصائدي،
ارتبكَ القُرّاء
وصاروا يقرأون قصيدتي
ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال".
ص 12
يوظِّف كمال الدين
بعض الأسماء الأدبية المشهورة ويصنع من حيواتها مادة كافية
لنسج قصائدة كما هو الحال في قصيدة "ماركيز يضحك"، فحينما بلغ
عامه الثمانين اكتشف سلسة أخطائه المرّة وصار يضحكُ منها
جميعًا كالشُهرة الفارغة، وخياله الأسطوري الجامح، لكنه لم
يضحك من المرأة التي كتب عنها ثمانين كتابًا لأنه أيقن "أنها
نبعُ الضحكِ في ذاكرةِ
الإنسان"(ص50).
في أكثر من قصيدة يلتقي الشاعر برجلٍ يشبههُ تمامًا! تُرى، هل
هو ظِلّه، أم شَبحهُ، أم قرينه؟ مفاجآت من هذا النوع توفِّر
الدهشة للمتلقين الذين يلِجون هذه الغابة الشعرية المسحورة
التي تتلاقح فيها الحقيقة مع الحُلُم، ويتماهى الواقع مع
الأساطير التي يستدعيها كمال الدين إلى نصوصه الشعرية التي
تتمحور على ثيمات محلية أو عالمية ذات نَفَس كوني. لنتأمل هذا
المقطع الشعري من قصيدة "هذيان" التي يقول فيها الشاعر كمال
الدين:
" في القاعةِ كنتُ لوحدي أقرأُ شِعْري،
إذ حضرَ رجلٌ يشبهني
وجلسَ في الصفِّ الأوّل
وأخذَ يُبدي حركاتِ الإعجابِ بشِعْري.
قلتُ له: مَن أنت؟
قال: أنا ظِلّك!
قلتُ له : لا ظِلّ لي فأنا شبحٌ!
بل أنا شبحٌ ميّت!
هل سمعتَ بظِلٍّ لشبحٍ ميّت؟".
ص 66
يتكرر حضور هذا الشخص الذي يشبههُ تمامًا في قصيدة "الدرج
الطويل" لكنه لا يشتبك معه في حوار عميق، وإنما يبادلهُ بذات
الابتسامة الساخرة التي تظهر على شفتي الشبيه كلما تلاقيا على
"الدرج الطويل"!
لنفترض أن المنفى ليس خلاصًا فرديًا وإنما "خُدْعةٌ إضافية من
خُدَعِ الوطن التي لا تنتهي" (106) فلاغرابة أن يعود إلى الوطن
كلما شدّه الحنين إلى ملاعب الطفولة ومراتع الصبا على الرغم من
قسوة الطغاة، وفظاظة الجلادين. لنقرأ هذا المقطع "الدموي" من
قصيدة "المطر يُغرقُ سريري الموحش" وكأنَّ الدمَ ظلٌّ للإنسان
العراقي أو قرين لنهر الفرات.
"على شاطئ الفرات
يتناوبُ القتَلَةُ على دورِ الجلّادِ ودورِ الضحيّة.
ولم يكن الفراتُ يأبه كثيراً لما يحصل
لأنَّ مجرى الدمِ فيه
كانَ يسيرُ إلى جانبِ مجرى الماء
منذ الأزل."
ص100
يعتمد الشاعر أديب كمال الدين على مقاطع أو وَمَضات شِعرية
تقوم على المفارقة
Paradox
التي تنطوي على نوع من التناقض الظاهري كما هو الحال في هذا
المقطع الذي يقول فيه الشاعر:
"في السِّجن
كانَ الشّرطيُّ يُغرقُ رأسَ السّجينِ في الماء
ليعترف.
أمّا أنا،
ففي كلِّ قصيدةٍ كتبتُها،
كنتُ أُغْرِقُ ذاكرتي في الماء
لتتوقّفَ عن الاعتراف."
ص 107
ينهل كمال الدين بعض الأفكار والثيمات من أساطير بلاد الرافدين
وربما تأتي أسطورة "كَلكَامش" في المقدمة لما تتضمنهُ من
خلاصات، وعِبَر، وأسئلة فلسفية لعلها تتكدّس في الذاكرة
الجمعية لأبناء الرافدين منذ آلاف السنين.
ينتمي الشاعر أديب كمال الدين إلى جيل السبعينات من القرن
الماضي فقد أصدر مجموعته الشعرية الأولى "تفاصيل" عن مطبعة
الغري الحديثة بالنجف عام 1976 ثم توالت مجموعاته الشعرية
الأخرى التي أخذت تعزِّز مشروعه "الحرفنقطوي" الذي أصبح علامة
فارقة تحمل اسمه وتوقيعه الشعري. وإذا كان بعض مجايليه من جيل
السبعينات تحديدًا أو الذين جاؤوا بعدهم من جيل الثمانينات قد
توقّف نموهم عند حدٍ معين لأسباب عديدة لسنا بصددها الآن فإن
مشروع كمال الدين لم يتوقف، كما أنَّ نموّه الشعري ظل مستمرًا
ويمكن إثبات هذا القول بالعودة إلى أي مجموعة من مجموعاته
الشعرية الأخيرة مثل "في مرآة الحرف" أو "إشارات الألف" أو
"شجرة الحروف" أو المجموعة الشعرية التي نحن بصددها الآن
ليتأكد من صحة ما ندعّيه ويكتشف بنفسه من شعريّة كمال الدين
الفذّة، وشاعريته الرقيقة، ولغته المموسقة الناعمة التي تشبه
رقرقة الماء. ثمة خصلة حسنة أخرى يتمتع بها شعر كمال الدين وهي
البنية المعمارية التي تتميّز بها جُلّ قصائدة، فما من بيتٍ
شعري فائض عن الحاجة، وما من جملة زائدة تُثقل كاهن النص
الشعري، وكل كلمة تسبح في الفلك المُخصص لها لتكوِّن في خاتمة
المطاف عقدًا فريدًا يُغبَط عليها شاعرنا المتعبِّد في صومعة
الحرف ومحراب النقطة.
*******************************
حرف من ماء، شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2017.
أديب كمال الدين في مجموعته (حرف من ماء)
ناقد عراقي
في هذه المجموعة الشعرية يقدّم لنا الشاعر حرفين فقط: الــ
(حاء) و(الباء) واللذين يمثلان القاسم المشترك المساهم في
صناعة الصورة الشعرية لمجمل النصوص. حيث نرى أهمية هذين
الحرفين في انسجامهما وترابطهما وتوحدهما الذي هو الــ (حب)،
وتناقضهما وقسوتهما إذا افترقا أو دخلت الــ (حاء) في كلمات
أخرى مثل الحرب، الحرمان. ولم يكتفِ الشاعر بالتعامل وفق هذين
الحرفين على هذا النحو فقط، بل إنه استطاع أن يستغل النقطة
الوحيدة في الباء في رفد البناء الشعري لنصوص شعرية يتوقف
أمامها المتلقي متأملاً: ماذا يعني لوسقطت النقطة من الحب أي
من الباء؟ سيكون هذا الحب بلا معنى، بلا وجود، يعني الضياع،
الفقدان، المنفى، الغربة، الظلام، هياج البحر الغاضب. ويعني
أيضاً اختلال النظام وفقدان الحياة القويمة، وعموم الفوضى
والخراب. اذن نحن سوف نرحل مع نصوص شعرية بُني أساسها على
حرفين، مع مخيلة شعرية خصبة رحبة واسعة، وفضاء يمتد بنا إلى ما
لا نهاية، وسوف نكتشف الأسلوب الغريب والمتفرّد للشاعر وهو
يستخدم الحرفين ضمن النسق المضمر للنصوص الشعرية. ففي قصيدة
(ذات اليمن وذات الشمال) الذي هي مُستهل رحلتنا هذه لاكتشاف
الأنساق المضمرة والمعلنة لتلك الحروف
:
الحُبُّ أكذوبةٌ جميلة،
يتعلّمُ منها الكونُ سرَّه الوحيد.
هذا ما قالتهُ الحاء.
لكنّ الباء قالتْ:
أنا سرُّ الحاء
ولوعتها الكبرى
وبي يكتملُ لحن الوجودِ المُظلمِ المُضيء.
لم يغفل الشاعر بحكم خبرته الطويلة أن قصيدة النثر هي أصعب
أنواع البناء الفني للشعر كونها هي المرحلة المتقدمة والمتطورة
لحركة الشعر منذ انطلاقته، ولا يمكن استسهالها أو اختيار
مفردات لا تشكل جزءاً من بناء النص، مفردات تحمل رموزها
ودلالاتها واستعاراتها، وانزياحاتها التي تتطلبها البنية
النصية للقصيدة لتكون جزءاً مساهماً ومكملاً لوحدة الموضوع،
والثيمة. ويتجلى الجهد الفني الذي بذله الشاعر في تناول النصوص
الشعرية، والتي رغم تشعبها وصعوبة مداخلها ومحاورها، بين وضوح
الرؤية الشعرية والاختيار المتقن لفضاء النص، واستخدام الحروف
ضمن سياقها دون أن يكون هناك أي خلل في مبنى النص، بل العكس،
كون للحروف أهمية لا تقل عن بقية الأدوات التي يحتاجها الشاعر
في تناول النص حتى أننا نجد انتقالة أخرى في مسار هذا النص ،
يساهم في نموها وتصاعدها بنسق متماسك ملتزماً بوحدة الموضوع ،
لنكتشف أهمية الحب في حياتنا بشكل جلي:
الحُبُّ ومضةُ القلب
من دونها لا ترقصُ الروح
ولا يشرقُ الفجر.
هذا ما قالهُ الصّوفيّ .
ونجد أيضاً أن الشاعر قد أحسن تضمين الحكاية والأسطورة متناصّا
معهما ومع الموروث الحضاري لتاريخنا المجيد ليكون كل ذلك جزءاً
من فضاء النص الذي يكشف وعي الشاعر واطلاعه التام على هذا الكم
الهائل من المعرفة، ليكوّن نسقا مضافاً لوعي النص، كما أننا
سوف نكتشف الرؤية الفلسفية التي اتخذها الشاعر جزءاً من منطلق
بناء النصوص الشعرية في نهاية هذه القصيدة:
لكنّ الشَّاعِر قال: الحُبُّ ماء
مَن لم يذقه لا يعرف القُبْلَة
ومَن لا يعرف القُبْلَةَ لا يعرف المرأة
ومَن لا يعرف المرأةَ لا يعرف المرآة
ومن لا يعرف المرآةَ لا يعرف الشِّعْر
ومن لا يعرف الشِّعْرَ لا يعرف الشَّوق
ومن لا يعرف الشَّوقَ لا يعرف الماء.
ثُمَّ بكى الشَّاعِرُ وقال:
كلّ شيء ما عدا الحُبّ فناء.
هكذا فأننا نتقدم بشكل واضح في اكتشاف سر استخدام الحروف من
قبل الشاعر وجعلها من ضمن الأدوات الرئيسية والمهمة في بناء
النص الشعري ، والتي تجدها حالة متفردة وفريدة حيث لم يستطع
أيّ شاعر استخدامها بهذه المرونة وبهذا الوعي.
في قصيدة (أيّ خطأ هذا؟) يقدم لنا الشاعر تساؤلا واضحا وصريحا
لأسلوبه في بناء النص الشعري ، وهو يريد أن يعرف هل هو على
صواب أم خطأ:
مثل الذي يرمي قطعَ الخبزِ
للبطِّ السّابحِ في البحيرة
أرمي حروفي مذهولاً على بياضِ الورقة.
وأسألُ بعدَ أن كتبتُ ألفَ قصيدة:
أهكذا تُكْتَبُ القصائد؟
وفي قصيدة ( لم أسأل عن كلمة سرّك) يوضح لنا الشاعر أهمية هذين
الحرفين (الحاء والباء)
اللذين
اتخذهما ليكونا المسار العام للمبنى النصي لنصوصه الشعرية:
يا لها مِن محنة!
قلبي لا يعرفُ كلمةَ السّرّ
إلّا التي تخفي الحاءَ والباء
وتظهرُ الحاءَ والباءَ أيضاً.
ومثل هذه الكلمة: المعجزة
لا يعرفها إلّا الذي اكتوى حتّى صارَ رماداً
وطيّرتهُ الريحُ حتّى صارَ ذكرى.
وفي قصيدة (حين أحببتُك فقدت نصف ذاكرتي) يستعرض لنا الشاعر
حياته المحفوفة بالمخاطر، ومشاركته الحروب في البلد ثم المنفى
ثم ضياع الذاكرة، وهو يعيش المِحَن بكل أنواعها: محنة الغربة،
محنة المنفى، محنة الضياع، محنة أزمة البلد التي ظلت تتفاقم
وتشتد، وهو يوظّف الحرف في بناء قصيدته:
قالَ المعرّيّ : خَفِّف الوطء.
وقالَ الخيّام : اشرب الكأس.
وقالَ جُبران : أعطِني الناي وَغنِّ.
أمّا أنا فقلت : الحرفُ كأسٌ والحرفُ ناي
وفي قصيدة (حوار مع الفرات) يستعرض لنا الشاعر محاورة شعرية
حسية فلسفية واعية بينه وبين الفرات، وهو يشكوه المنفى
والغربة، وهو يريد العودة إليه، إلا أن البحر يقول: مَن يصل
البحرَ لا يرجع إلى النهر.
ويوظف أديب كمال الدين الحرف والنقطة في هذا المبنى النصي
للقصيدة، وفي مستهلها:
سألت النقطةُ الحرفَ: كيفَ وصلتَ؟
أجابَ الحرف: ماشياً.
فهزّت النقطةُ رأسَها
واستلقتْ على فراشِها العجيب.
*
والقلبُ يحتاجُ إلى البكاءِ والصراخِ وشقِّ الثياب.
ما فائدةُ الشِّعْر إذن؟
أما في قصيدة (ماركيز يضحك)، فالشاعر يقدّم لنا، بعد أن يستحضر
شخصية الروائي الكبير ماركيز، صورة دلالية ورمزية، واستعارة
موفقة، وانزياحا واثقا عن مبنى النص الاعتيادي والذي من خلاله
ينقل لنا احساسنا بالفرحة عند سقوط الطاغية، وحدوث التغيير،
إلا أن تلك الفرحة لم تدم، وعادت خيبة الأمل تطاردنا:
ماتَ الطاغيةُ ففرحَ الناس
ولم يعرفوا أنَّ الفرحَ ممنوع
والرقصَ العلنيّ ممنوع.
فرجعَ الطاغيةُ إليهم في الفجر
بسيفٍ أغْبَر
وبوجهٍ أغْبَر
وثيابٍ غُبْر.
وفي مستهل قصيدة (نعم، لا ، ربّما) يفصح لنا الشاعر عن أهمية
النقطة في هذين الحرفين، وبدونها لا يستقيم المعنى ويفقد الحب
أهميته كليّاً:
الذين يقولون: إنَّ أصلَ الحرفِ نقطة،
يفهمون في الأبجديّةِ فقط ولا يفهمون في الحُبّ.
ذلك أنّ أصلَ الحُبِّ نقطة،
أعني نقطة الباء.
ثم نرحل معه رحلة شائقة، وهو يستعرض لنا المنفى، حيث نرى
الشاعر المخمور الذي يلاقي حتفه، والقصائد التي يحارب من
خلالها شبح الموت، وكما هائلا من المعلومات عن كتابة الشعر،
كما يقدم لنا صورة مختزلة عن حياته كشاعر وكإنسان يكتوي بنار
الغربة.
وفي قصيدة (قصيدتي تسبح وتضحك) يقدم لنا خطوة جديدة لسبر أغوار
عالمه الشعري الثر، وكيف أنه جعل الحرف سلاحاً يحارب فيه
الظلام:
سأشعلُ حرفاً من حرف
حتّى أبقى مُبصراً طوال حياتي.
ثم نكون مع صورة شعرية فائقة الجمال، في قصيدة (إذا أفاق البحر
من نومه) رغم قساوتها، وحزنها، وعمق مدلولاتها ، كون الشاعر
يعيش مع جبل من الذكريات إلا ان هذا الجبل يغطيه الثلج، فإذا
جاء الصيف فذلك زمن الذوبان، زمن هياج الذكريات وانفلاتها
وانطلاقها
الذكرياتُ تشبهُ جبلاً مُغطّى بالثلج.
المشهدُ هائلُ الجمالِ دونَ شكّ،
لكنْ إذا جاءَ الصيف
وبدأَ الثلجُ يذوبُ شيئاً فشيئاً
فإنّكَ لا تستطيع إيقافَ الذكرياتِ من الذوبان
سواءً أرقصتَ مذبوحاً من الألم
أو رقصتَ مذبوحاً من الملل
أو رقصتَ مذبوحاً من الجنون.
إن الشاعر أديب كمال الدين الذي بدأ كتابة الشعر في السبعينات
من القرن المنصرم قد استطاع أن يتطوّر مع حركة الحداثة وينتقل
معها خطوة بخطوة، ليصل بنا إلى أرقى وأسمى ما يمكن أن يقدمه
شاعر في نصوصه الشعرية من خبرة متراكبة متشعبة زاخرة، موظفاً
فيها الحرف كأداة جديدة تضاف إلى البناء الفني لقصيدة النثر
بالرغم من صعوبة تدوينها، إلا أنها تصل عنده- أي قصيدة النثر-
إلى المتلقي مرنة سهلة يمكن إدراكها وسبر أغوارها والرحيل
بعالمها دون تعقيد.
***************
حركة الشبح- الحرف/ حركة الظل- النقطة
في (حرف من ماء) لأديب كمال الدين
د. سمير الخليل
ناقد وأكايمي عراقي
تصوّر المجموعة الشعرية (حرف من ماء) قصيدة حب طويلة، الصادرة
عن منشورات ضفاف، بيروت، 2017. للشاعر "أديب كمال
الدين"العلاقة بين الحرف والنقطة، وبطريقة أوضح العلاقة بين
الإنسان وظلّه، بعد أن تحوّل هذا الإنسان إلى شبح في وطن
منكوب، ومن ثمّ اختفى ظله تماماً.
إنَّ إجمالية أو اختزال نصوص المجموعة إلى نمط صراعي واحد:
الحرف- النقطة، الشبح وظله، أو رسالة دلالية واحدة يفسد تعاقب
التطور في النصوص التي تطمح إلى أن تكون "قصيدة حب طويلة" من
خلال ضغط طبقات المعنى وتحجيم التعدد في المستويات القرائية،
ويظهر هذان الدافعان المتلازمان، الضغط والتحجيم، في تتبع
النهج السردي الذي اعتمده الشاعر من خلال الجمل الفعلية
والحركات الزمنية والفاعل المشغول بالدفاع عن نفسه وعن
حكاياته. فليس هناك "أنا الشاعر" وهي تتمحور في مركز العالم،
ولا وجود للأفق الحلمي الذي يتموضع فيه الشاعر وشعريته، هناك
فقط خط التوتر الخاص بالمفارقة الحكائية عن طريق دمج حركتين
متميزتين تسيران بتوازٍ مستمر: حركة الشبح- الحرف وحركة
النقطة- الظل، تلك البقعة السوداء التي يسحبها الشبح وراءه
أينما حل وارتحل. ولننظر إلى كيفية اشتغال النصوص وفق هذه
الآلية:
1- حركة الشبح- الحرف:
((البارحة
طرقتُ بابَ الماضي
فخرجَ لي رجلٌ يشبهني تماماً
ويرتدي ملابس تشبهُ ملابسي تماماً
وقالَ لي بلَبَاقَةٍ عالية:
العنوانُ خطأ.
وحينما استدار
وجدتُ اسمي وعنواني ورقمَ هاتفي
مكتوباً على ظهره
إنّما بحروفٍ عَصيّةٍ على القراءة.
أتراها حروف الماضي؟)).
(ص21).
حركة الظل- النقطة:
((اشتركتُ مُجبَرَاً في سبعين حرباً
وخسرتُها، بنجاحٍ أسطوريّ،
الواحدة بعد الأخرى بعد الأخرى.
لكنّي انتصرتُ في حربٍ واحدة
هي حرب النُّقطةِ التي توجتّني مَلِكاً
على أبجديّةِ الوهم.)).
(ص39).
تقدم القصائد التي وصل عددها الى الأربعين قصيدة بياناً لقراءة
جديدة فعالة، قراءة تقوم بعملية إعادة صياغة علاقة الإنسان
بمصيره الفاجع في واقع لم يعد له، وصياغة المعنى بحرية لا تقل
عن حرية اللعب الشعري، قراءة يمكنها أن تحقق وجودها وتكرسه في
سحر الدلالات المتوالدة، لكنها تركز المعنى في منظور واحد،
منظور نتابع من خلاله الشبح وهو يتحرك هنا وهناك مذكراً
بكائنيته الطيفية التي لا تعني شيئاً للآخرين بقدر ما تعني
الشيء الكثير له، فهو الحرف اللغوي الصعب (الرقم الصعب في
معادلة توازن القوى) الذي سيجر نقطته حيثما يشاء، وبذلك يستطيع
أن يتلاعب بالكلمات والعبارات والجمل ومصير كل تلك الخطب
الحماسية التي تتلاعب بعقول شعوب بأكملها. بيد أن هذا المستوى
من القراءة لا يعني إيقاف سلسلة التداعيات الدلالية وهي تتوالى
مع تقدم القراءة، ولا إيقاف تركيب النص الشعري وهو يستعين
بوحدات سردية قابلة للتمدد والإزدهار، بل يعني استخدام هذه
التقانات ليس على أساس صفاتها المحدودة، بل على أساس صفة
التعدد فيها وهي حالة تخص "إمكان الكينونة" وليست حالة تحديد
الوظيفة الشعرية أو التجنّي الذي يرافق الهجنة السردية.
وإذا كان المعنى النهائي يبهرنا فسبب ذلك أن النصوص رفضت
البساطة والتسلسل السببي وتمسكت بالتعدد الدلالي، فكل شيء يسير
على نحو مطرد وباتجاهات عدة، لكنه لا يملك قدرة تحقيق الوحدة
النهائية أو البنية العليا التي تحكم المجموعة الشعرية
بكليتها، فهناك دائماً المعنى الذاتي والمعنى الموضوعي وهما
يتصارعان على سطوع النصوص وقيعانها. وهناك الحذوفات وقد مورست
عليها رقابة مشددة من الشاعر. وهناك ظلال المعاني التي تحوّلت
إلى سراب مكتظ بالشفرات المختلفة، لكننا كلما تقدمنا نحوه يهرب
إلى الأبعد. وربما نستطيع أن نشتق ظل المعنى عن طريق إيجاد
علاقة متبادلة بين معنى مدلول جديد وشكل ناتج من تفريغ دلالة
سابقة، وهذا ما فعله "أديب كمال الدين"، ولنأخذ أمثلة على جميع
النقاط التي ذكرناها حول إمكانية توليد المعنى:
المعنى الموضوعي:
((سأعلّمُ
حرفي أن يرقص
على إيقاعِ حروفِ شعوبٍ انقرضتْ
وبقيتْ صورُها مُعلّقةً في الكهوف.))
(ص 26).
المعنى الذاتي:
((في القاعةِ كنتُ
لوحدي أقرأُ شِعْري،
إذ حضرَ رجلٌ يشبهني
وجلسَ في الصفِّ الأوّل
وأخذَ يُبدي حركاتِ الإعجابِ بشِعْري.
قلتُ له: مَن أنت؟
قال: أنا ظِلّك!
قلتُ له : لا ظِلّ لي فأنا شبحٌ!
بل أنا شبحٌ ميّت!
هل سمعتَ بظِلٍّ لشبحٍ ميّت؟
(ص66).
ظلال المعاني:
((النّاس الذين التقيتهم صدفةً على شاطئ البحر
كانوا يجيدون الابتسام.
وحينَ سألتُهم
إن كانَ بإمكاني أن أجلسَ معهم،
ضحكوا وقالوا:
نحن أشباح أيّها الغريب، كيفَ رأيتنا؟)).
(ص79)
الحذوفات:
((اختفت المرآةُ وامرأةُ المرآةِ منذ نصف قرن،
لكنَّ الشّبح الذي كانَ يتلصَّصُ من خلفِ النافذة
لم يزلْ في مكانه واقفاً.)).
(ص 91).
على هذا النهج سارت القصائد، بتبادل أدوار مدهشة، ومحاورات
متقابلة تبحث عن إجابة غائبة، لكن المرارة ظلت تتصاعد داخل
الشاعر، فهو يصبو للأفضل والأكثر دقة والأعلى وضوحاً. إنه يوزع
الإيماءات الحائرة في كل مكان، ويؤكد على موقعيته في فعل
الخلق، لكنه يصبو إلى إعادة الخلق، وهذه العملية تحتاج إلى نبش
الأرشيف السري الكامن في غيابات النصوص. فالنبش يعني إيجاد
المخبوء والقبض على بعض الأسرار المتوارية، وهذا يعني تسمية
المسكوت عنه صراحة، ولكن المسكوت عنه لا يظهر في تسمية واحدة
وعنوان شائع، إنه يتملّص من وراء أسماء أخرى وعناوين مغايرة
يحفز بعضها بعضاً، يقترب بعضها من البعض الآخر، وفي أوقات أخرى
يبتعد بعضها عن البعض الآخر، ويتطلب القبض عليها جهداً
إنسكلوبيدياً (موسوعياً) يستغرق العمر كله. وهكذا يسير العمل
النصوصي، فهو تنمية مستمرة للقدرات الإبداعية ومشروع كناية
ثقافية لا يعرف الكلل، الشاعر لا يكرر نفسه لكي يبقى متجدداً
وحيوياً ومؤثراً: ((أنا لا أكرر نفسي كل يوم/ حتى لا أموت!)).
(ص70). ((كانتْ كتابه العجيب الذي امتلأ بحروفِ الوهم/ ووهمِ
النقاط)). (ص129).
إذن عملية نبش المسكوت عنه تحتاج إلى وقفة بوح ذاتية أولاً،
إعتراف الذات الشاعرة أمام نفسها، فالاعتراف بمعناه العام يعني
الإخضاع، وكلما كان الاعتراف صادقاً، إشتدت قوة الإخضاع. وها
هو "أديب كمال الدين" يعترف بكامل قواه العقلية، غير متردد،
ولا متلفت أو مذعور، فسلطة الإعتراف هي التي تمنحه القدرة على
المناورة من جديد، وبذلك حقق الشاعر أديب كمال الدين قدرة
إبداعية لافتة إذ بقي الحرف في كل شعره السرّ الكامن وراء جمله
الشعرية وكنت أظن أنه سينفد لديه بعد ديوان واحد أو اثنين،
فإذا به أوقف كل شعره على الحرف وأسراره وتلك لعمري قدرة
إبداعية لا حدود لها تبهر المتلقي في استكشافات الحروف العربية
شعرياً.
***********************
حرف من ماء، شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت،
لبنان، 2016
الحقيقة الشعرية واستباق التأويل
في ديوان (في مرآة الحرف) لأديب كمال الدين
أ.د. سمير الخليل
ناقد وأكاديمي عراقي
إنّ الموضوعة القائلة بأن الشعر يُري المعنى من وراء
ستار "اللامعنى" هي التي منحت مجموعة قصائد (في مرآة الحرف)
الصادرة عن منشورات ضفاف، بيروت 2016 ، للشاعر أديب كمال
الدين، أولوية على أساليب اللغة الاعتيادية المزدحمة بالإشارات
المستهلكة من كثرة الاستعمال، فضلاً عن ذلك فإنّ الشعر لا
يستمد رموزه من المخيال فحسب، بل إنّه يتمخّض عن إتصال الشاعر
المباشر باللاوعي الجمعي وتوسطه بين "الأنماط العليا" للعقل
البشري الموغلة في القدم وبين النمط المعاصر لحياة البشر
العادية. ومثلما تشير القصيدة الأولى "أغنية إلى الإنسان" فإنّ
المهمة الشعرية تكون محفوفة بالإلتباس لأنّ الشاعر يقف خلواً
من الحماية أمام المخاطر التي تحيق به وهو يفرز بين رمز ورمز،
بين أمثولة وأمثولة، لمسمّى واحد لا يفصح عنه إلا بعد تقدم
القراءة وتواتر القصائد:
((هذه أغنية أعددتُها لكَ،
أغنية بسيطة جدّاً
وقصيرة جدّاً.
أغنية تتحدّثُ
بشوقٍ كبيرٍ عن الحاءِ والباء،
وتُحاولُ
بإصرارٍ كبير
أن ترسمَ لها جَناحين
وعشّاً في آخر المطاف،
عشّاً يكفي لبيضةِ طائرٍ مَنفيّ
لا اسمَ له ولا عنوان.)).(ص11).
إن القول بأن الشعر هو أغنية تتحدث عن "الحاء والباء" والتي لا
تعني غير (الحب) يوحي بأن هناك "حقيقة" ملتبسة. فما طبيعة هذه
الحقيقة؟
إن الحقيقة الشعرية- عادة- هي حقيقة ماوراء تأريخية، بمعنى
أنها شفافة، وبالوقت نفسه، مراوغة، تمثل تعليقاً للإدارة
الدنيوية التي تكتنفها الأطماع والمصالح. والحقيقة الشعرية، من
جانب آخر، هي تأريخية على نحو راديكالي. والوعي الجمالي مرتكز
على ذلك الوعي المتطرف في تأريخيته، كما أنه كوعي فعال يكون
ممكناً من خلاله. ومع ذلك يبدو أن الموقف التأريخي يتخلّى
للموقف الجمالي عن الأساس اللازم لحقيقة الفن وحقيقة فهم
وتأويل النتاجات الشعرية، وأن التخلي عن الحقيقة يعني التخلي
عن النقد الضمني في المقارنة بين عالم "المثال" وعالم
"الواقع"، بين "الماضي" و"الحاضر"، ويبدو أن البديل عن خط
الأغنية التي تتحدث عن "الحاء والباء" (الحب) هو الهاوية
العدمية التي تحف برموزية الطائر المستهدف والملاحق في معظم
نصوص المجموعة الشعرية وهو يتوق إلى الإفلات من قبضة الشاعر،
وقبضات مطارديه على طول زمن المدونة التأريخية والتي تُعد
مساوية لذلك البديل في الخطورة، وهذه بعض توصيفات "طائر
الحرية":
(( الحُرّيّةُ
طائر
ينبغي تعليمه الطيران.
*
طائرُ الحُرّيّةِ ليسَ كباقي الطيور.
فهو، للأسفِ، كثير النّسيان.
في القفصِ، مثلاً، ينسى نَفْسه.
أي ينسى كيفَ يطير
فيقعُ مَغشيّاً عليه.)).(ص67).
فهل ينتج عن جدل التأويل الثقافي في القائل بضرورة استحضار
النص الشعري إلى السياق الثقافي الذي تحدده إمكانات تكون ضمنية
في موقف ثقافي- تأريخي معين، أن يكون معنى النص الشعري غير
محدد إلا من خلال ما يريده الشاعر؟ وهل يعوق مثل هذا القول
مختلف "مقاربات" النص المتنافسة، أو "سياقات" التأويل
المصطرعة؟ وهل أن الموقع التأريخي- الثقافي يبني التأويل
بطريقة يكون فيها نقد تأويل ذلك الموقع وأيديولوجيته مستحيلين؟
هذه هي الأسئلة المنهجية، بالرغم من أن الإجابة عن مثل هذه
الأسئلة لا تقدم منهجاً جديداً أو مقارنة حديثة للنصوص، إلا
أنها تنطوي، مع ذلك، على نتائج عملية تتعلق بفهم ما يتضمنه
التأويل وما يأتي به الشاعر من مفاجآت:
((تحوّل العشُّ إلى بيضة
وتحوّلت البيضةُ إلى جناحين
وتحوّل الجناحان إلى طائر
وتحوّل الطائرُ إلى نقطة
وتحوّلت النُّقطةُ إلى حرف
وتحوّل الحرفُ إلى قصيدة.)).(ص111).
إن قصيدة الطائر أو طائر القصيدة مرتبط بشعرية أديب كمال
الدين. وما يميز شعريته النقطة والحرف، وقد واصل متابعتهما
طيلة (30) مجموعة شعرية وذلك ما يحتسب لشاعريته وقدرته الغنية.
إن العمل الشعري يخبر الملتقي بشيء ما، ولا يكون ذلك بالطريقة
التي تقول فيها الوثيقة التأريخية شيئاً ما للمؤرخ ومتلقي
التأريخ، فالنتاج الشعري يقول شيئاً ما لكل فرد كأنه قد قيل من
أجله خصيصاً، أي كشيء مواكب ومعاصر ومفروغ منه. فالمهمة إذن
تقدم نفسها بأنها فهم لمعنى ما يُقال، وما يُسمّى، وجعل هذا
المعنى مفهوماً للمتلقّين، ويقع النتاج الشعري، أيضاً، ضمن
النطاق الحقيقي لمدى الأنشطة التأويلية-الثقافية، ولابد من
توحيده مع الفهم الذاتي لكل قارئ.
وبذا، وطبقاً لما يواصله الشاعر، لا يوجد تعارض مباشر بين
الإتجاهين الجمالي والتأريخي، مثلما يعتقد نقاد الأدب
التقليديين، بل إنّ الإتجاه الشعري- دائماً- هو لحظة الإدراك
التأويلي، أي أنه اللحظة التي تسمح لنا بأن نكون مأخوذين بكشف
الشاعر لنا وفضحه لرموزه. وتكتمل هذه اللحظة الجمالية بالمهمة
التأريخية- الثقافية الرامية إلى تحقيق فهم يكون ذاتياً أيضاً،
ونجد أن كشف الشاعر يجعل من الشعر يفوق كونه ظاهرة ذاتية، فهو
يسمح بتوسط التراث التأريخي والموقف الثقافي، وإن ما يعده
الشاعر رمزاً يكشف الكثير عن ذلك الشعر. والرمز المكشوف هنا هو
"الغراب" الذي يظهر في مواضع عدة في المجموعة الشعرية، ولأغراض
ومقاصد شتى:
((كيف تستطيعُ أن تصفَ الغابة
دونَ أن تذكرَ فيها أسماءَ الشجرِ والزهور
ودونَ أن ترسمَ ريشَ الغرابِ والحمامة؟
كيف؟)).(ص28).
و:
((أحلمُ أن تكونَ
النقطةُ وطناً
والحرف سماء
لأعيشَ سعيداً
من دونِ غربان تنعقُ برأسي أبدَ الدهر)).(ص31).
و:
((بعدَ أن ماتَ غرابُ نوح
تركَ لي سِرّاً ريشَه الأسْوَد
وصراخَه المُخيفَ في كيسٍ أسْوَد.
وقال:
لا تعبثْ بالريش
فتسودّ أيامُك
ولا تسمع الصراخ
فتُصاب بالصمم.))(ص45).
و:
((إذا كانت النُّقطةُ هي البحر
فَمَن يكون الحرف:
أهو نوح
أم سفينة نوح
أم غراب نوح وحمامته؟)).(ص61).
و:
((أو ارسمْها جمرةَ نار
فإذا هي غرابكَ ليل نهار)).
(ص91).
و:
((كانَ الابنُ
الأوّلُ مجنوناً كغرابٍ ملعون)).(ص129).
وكان العنوان الرئيس للمجموعة الشعرية (في مرآة الحرف) تعزيزاً
لمسألة أن الشاعر نفسه عندما يتطلع في المرآة يجد نفسه طائراً:
((أنتَ الآنً طائرٌ حقيقيَ
تكتبُ القصائدَ كلّ
ليلة)).(ص74).
ومحنة الشاعر مع الطيران (مع كتابة الشعر) تجلّت بالمبدأ أو
المعيار الذي من خلاله القول عن تأويل ما بأنه حقيقي، والزعم
بصلاحيته في "إستباق التأويل" وهذا ما جاء في المنطوق الآتي:
((حينَ طلبتِ مِنّي الطيران،
قلتُ لكِ: أنا لستُ بطائر.
ليسَ لديَّ ريش.
لا أملكُ جناحين.
لا أعرفُ الطيران.
لا أستطيعُ أن أرى في الليل.
ليسَ مِن هواء هنا كي أطير.)).(ص122).
وسيظلّ أديب الشاعر محلّقاً بالطيران في عالم الحرف والشعر وهو
يجيد الطيران فخياله لا حدود له في التحليق.
**************************
-
في مرآة الحرف، شعر: أديب كمال الدين،
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2016.
البوح الأنويّ بين الاعتراف والانكسار
قراءة في مجموعة (في مرآة الحرف) للشاعر أديب كمال الدين
د. سامان جليل إبراهيم
ناقد وأكاديمي عراقي
(في مرآة الحرف) مجموعة شعرية للشاعر العراقي أديب كمال
الدين، صدرت عن منشورات ضفاف للنشر والتوزيع ببيروت،
وتحتوي على خمسين قصيدة شعرية كتبها الشاعر في أستراليا
عاميّ 2014م و2015م.
يحاول الكاتب منذ العنوان (في مرآة الحرف) أن يعبّر عن المشاعر
الإنسانية الممزّقة، فجاءت الدلالة العنوانية تكمن في
دلالتين،(المرآة) تمثّل تشظّي الذات المتفتتة المحزونة
الملاصقة لتخوم الحدود المنسية الهامشية الحالمة بزهو الآفاق
المرتقبة، والآمال المزعومة من هول اللحظات برتابتها، المهووسة
بالحب والانتشاء والموت والألم، المتوغّلة عبر اللغة المتوجة
بانكسارات الزمن الرديء وانهيارات اليقين المتتالية، أما لفظة
(الحرف) اتخذها ترجمة صريحة مباشرة عن مشهدية اللقطات النفسية
المزرية أثناء ثنايا المجموعة الشعرية بآهاتها:( كلُّ حرفٍ هو
أبجديّةٌ من الألم) ص26، وبهذا نلحظ لفظة الحرف حاملة لمضامين
إنسانية مثيرة، كدلالة تعبيرية صارخة عن الملل والانعتاق عن
الفضاء المكاني:
(أحلمُ أن تكونَ النُّقطةُ وطناً
والحرفُ سماء
لأعيشَ سعيداً
من دونِ غربان
تنعقُ برأسي أبدَ الدهر.)
ص31.
وقد أدّى تبلور
المكان لدى الشاعر بكل اشكاله، صورة واضحة المعاني والدلالات:
(أظنُّ أنّكِ مَن منحني هذه العين؟
...
إذن، فهو الفرات
...
للفرات ولأسماك الفرات
حاء الحرمان
وباءَ البُعد)
ص38-40.
تركّزت سطوة الأنا الساردة منذ اللحظة الأولى بالدخول
إلى فضاء النص الشعري، عبر علاقة موازية بين النصوص الداخلية
وعنواناتها التي تنطوي على صيغ وجدانية تحدد جدل الممارسة
الشعرية في التعبير عن الذات من خلال الآخر، أي أنَّ إشكالية
الأنا الساردة في هذه المجموعة الشعرية تتوظف في موجتين:
الموجة
الأولى: تتجسّد في اندماج الذات بالآخر:
( أتذكّرُكِ
كنتِ هنا تمشين،
وأحياناً تكتبين كلماتِ الأغنية
وأحياناً تتعرّين
وأحياناً تحاولين الإصغاء إليّ
وأحياناً تنامين بجانبي كقطّةٍ مُتعَبة)
ص23.
الذات الشاعرة
هنا مشحونة بالتوتر، إذ حالما تحضر فإن الآخر يحضر بصورته
المشاكسة للأنا.
الموجة الثانية:
تتوظّف من خلال انفصال الذات عن الآخر الذي يتمظهر في صورة
التجاهل الذي لا يعلم عن الآخر شيئاً:
(اختارَ لي قصيدةً قديمة
قديمة جداً،
لا أعرفُ لماذا اختارها:
ألِأنّها كانت موشومة بدمِ أنكيدو
ودموعِ كلكامش؟
) ص29.
وبهذا النهج وغيره يعود شاعرنا أديب كمال الدين إلى
ثيماته وهمومه الفكرية والوجودية التي عرفناها في مجاميعه
الشعرية الأخرى، التي يدفع بها في شتى مساحات السرد الشعري،
فمرّة يلجأ الى تقنية الحوار الصرف التي لا يمكن الاستغناء
عنها، ومرّة يلجأ إلى التقنية ذات الموقع الخاص لدى الشاعر وهي
الأخذ ببُنى مختلفة للمنلوج الداخلي كالتأمل الفكري أو
الاسترجاع واستلال شتّى النتف منه، وملاحقة تشظّي الذاكرة كي
يتحقق دمجها بالحاضر.
إنّ هذه
التداعيات الماضوية والانكسارت التي جاءت بلسان السارد– الشاعر
عبر أيقونة (الأنا) الظاهرة والمضمرة داخل النص، عكست حالة
تامة من الانكسار وسمت الشاعر بالتوتر الشديد، والميل إلى
الاحساس بالعجز في كثير من الاحيان ممّا جعل مشاعر الاكتئاب
مسيطرة ليس عليه فقط ولكن حتى على المتلقي لشعره، وهذا ما
نستشفه في قوله:
(لا البحر يفهمُ حروفي
ولا أنا أفهمُ أمواجَه.
...
اقترحتُ عليه
أن يأتي إليَّ ليكتبني.
ففعل!
وكانت النتيجةُ كارثةً كبرى
بكلِّ المقاييس،
كارثة لا يفهمها أحدٌ،
حتّى أنا :
أنا الغريقُ الأبدي)
ص63-64.
وفضلاً عمّا سلف ذكره، تنبثق الأنا الساردة في هذه
المجموعة من الارتداد إلى لحظة ماضوية عن طريق الاسترجاع
باعتباره نمطاً من انماط استخدام الزمن في النص، وهو إخبار
بعدي يعود فيه الشاعر إلى الماضي لإلقاء الضوء على أحداثه، وبه
ينقطع مؤقتاً، أو ليسترجع شيئاً من الماضي، ثم يعود إلى أحداث
حاضرة ، فهي تقنية يعتمد فيها الشاعر على الذاكرة، ذاكرة
السارد.
فإذا ما
جمعنا المفردات الدالة على هذه الشحنات أو الضغاطات النفسية
نجدها تهيمن على النص بشكل يعكس تماماً التوتر والقلق، وإذا ما
استعرضنا قصائد من مثل: (ليل نهار، بعد أن، إذا، الغريق
الأبدي، طائر الحرية، جرعة زائدة من الألم.....)، سنجد انفسنا
امام طائفة من الانكسارات الذاتية التي جاءت بلغة الاعتراف،
محاطةً بشتى أنواع الانكسار النفسي والمكاني، وينضاف إلى هذا
أنّ (الأنا) تدور في فلك دائري يبدأ بقصيدة (أغنية إلى
الإنسان) لتستقرّ عند (أين أنتَ أيّها الحرف؟)
بمعنى أن القصيدة عند الشاعر ابتدأت بالذات
وانتهت بها وخلال هذه الرحلة تتقدم الأنا بكل فاعلية لتلعب
الدور الأساس في سرد معاناة الشاعر.
إن النصّ الذي يأسر الشاعر أديب كمال الدين ويدفعه لخلقه ورميه
إلى ذائقة المتلقى هو النصّ المتماوج على حدّة اللغة، وقسوة
الصورة، والإيغال في تشظّيات النفس الإنسانية، وهذه الركائز
الثلاث هي ما يستطيع مطالع مجموعة "في مرآة الحرف" الوقوف على
أصافيها ليخرج باعتقاد أن الشاعر يحتفظ بخزين وفير من القدرة
على السرد، واقتناص الموضوع بيسر، وعرض النص بما قد لا يريح
المتلقى ويترك في نفس القارئ فسحةً للابتهاج.
نصّ الشاعر أديب كمال هو نصّ الشفرة التي لا تترك ألماً
بل تصنع جرحاً يحتاج القارئ لوقتٍ غير قصير كي يُشفى من صراخه.
وهكذا باختصار يمكن القول إنَّ قصائد "في مرآة الحرف" قد
تميّزت بلغتها الأكثر قدرة على الايصال بتقنيتها المتسامية،
ومحاولتها الغوص داخل الحدث ورسمه من الداخل ، مع اعتماد
اللحظة المتماسكة والثرية بدلالاتها وشخوصها مع إيقاع حاد
للرؤيا من خلال جملها المِلْفَعَة بغشاوة رقيقة من الواقع.
**********************
في مرآة الحرف: شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت،
لبنان 2016.
مملكة الحرف: قراءة حروفيّة في شعر أديب كمال الدين
أ. د. بشرى موسى صالح
ناقدة وأكاديمية عراقية
في تجربة أديب
كمال الدين الحروفيّة نجد أن قصيدة النثر العراقيّة قد شقّت
لنفسها طريقاً أسلوبياً خاصاً وثريّاً. وليس هذا حكماً على
تجربة الشاعر أو على قصيدة النثر، بل هو توصيف حقيقي ودال
يعّبر عن المسارات التي بها استطاعت حروفيّة الشاعر أن تمتلك
آفاقها الشعرية الفارقة التي انمازت بها عن سواها من قصائد
النثر العراقية، فضلاً عما اكسبته إياها من مستويات أسلوبية
مغايرة للمألوف تفتح عين القراءة النقدية صوبها.
ويصعب أن
نحدد مسارات نهائية لحروفية أديب كمال الدين، لأن التجريب
الحروفي لديه مستمر منذ كتاباته الشعرية الأولى، وانتهاءً بآخر
ما وصل الينا من نتاجاته، وهو ديوان (رقصة الحرف الأخيرة)
(1) الذي سيكون ميداننا النقدي الذي في فضائه سنقف عند
أبرز المسارات الحروفية لدى الشاعر،
لأن المنطقة النصية الحروفية لديه هي منطقة ممتدة،
وليست محددة، أو محصورة برقعتها النصية، ولعل هذا هو ما يسم
الشاعر الذي يعمل في ضوء مشروع شعري خاص تنتسب تجربته اليه،
ففيه يكون الجزئي ملتحماً بالكلي، والبنية النصية دالاً
شمولياً على النتاج الشعري برمته.
وتجدر الإشارة
إلى أن هذه القراءة هي استكمال لقراءة نقدية حروفية سابقة في
شعر الشاعر حددت المستويات الصوغية لحروفياته، وعلى الرغم من
بعد العهد بتلك القراءة التي مضى عليها أكثر من خمسة عشر عاماً
(2) إلا أننا نجد أن مستويات التشكيل الحروفي لديه
بقيت ثابتة- ومفتوحة على آفاق الحداثة في آن واحد ومن أهمها:
1-
المستوى الهيئي (الشكلي).
2-
المستوى الدلالي (التصويري).
3-
المستوى التحويري (الخارق).
4-
المستوى الطلمسي (السحري).
5-
المستوى الغنائي (الرمزي).
6-
المستوى التناصي (الصوفي، الأسطوري، القناعي).
ولا نريد في
هذه القراءة أن نتابع تلك المستويات فقد تابعناها في تلك
القراءة، وأشرنا الملامح الدالة عليها، بل ان ما سنعمل على
إضاءته هو التحولات الأسلوبية التي طرأت على حروفيات الشاعر،
ومدى انفتاحها على الفضاءات الشعرية الحداثوية، ومابعد
الحداثوية التي خرجت من الواحد إلى المتعدد، فضلاً عما أضاقته
تجربة الشاعر الحياتية والواقعية، وهجرته إلى أستراليا
من مساحات دلالية، وثقافية وجدت ضالتها في قصائد الشاعر
بالضرورة، ومنحتها آفاقآ ثقافية مغايرة لما كانت عليه من حدود
أو رؤى ماضوية.
يقوم ديوان
(رقصة الجرف الأخيرة) على متن نصي قوامه 19 قصيدة تبدأ بقصيدة
(كاف السؤال) وتنتهي بقصيدة (تكرار). كانت الدلالة الحروقية
المباشرة حاضرة في عنوان أربع قصائد من الديوان هي (راء
المطر)، (قاف القضبان)، (حاء الحلم)، (ميم المشهد) هذا في
التوظيف الصريح أما الحروفية فهي متغلغلة في قصائد الديوان
بانحاء مختلفة ومتعددة.
( كاف السؤال)
(3)
تقوم هذه القصيدة على 19 مقطعاً أو إضاءة يقوم
إيقاعها البنائي على افتراض السؤال التقريري عبر صيغة
(ما دمت) اللسانية التي تترجم كما يرى النحويون ب(مدة دوامك)
أو بقائك فكل مقطع من المقاطع يستهل بها:
(1) ما دمتَ
قد أنفقتَ عمرك ....
ويكرّر السطر بأكمله كما في المقطع الثاني :
"ما دمتَ قد أنفقت عمرك
ما دمت...ما دمت....المقطع
(19)
ويبدو لي أن التكرار هو واحد من أفانين قصيدة النثر الإيقاعية
التي توازن به
إيقاعها الداخلي وتخلق تغريباً ظاهراً فيها، وليست هي قاعدة في
قصائد النثر كلها، ولكنه أي التكرار عند
أديب كمال الدين
يأخذ حيّزاً مهماً وكبيراً في شعره ويمارس تحدياً نقديأ
شعرياً قي آن.
من الملاحظ على قصيدة (كاف السؤال) أنها تشتغل على الحرف في
مستويين، الأول: التضميني الذي يبوح بالحرف ويجعله جسرآ
للدلالة :
ما دمتَ قد أنفقتَ عمرَك
تتأمّلُ في ميمِ المرآة،
فكيفَ سترى
ميمَ الذي كانَ مِن العرش
قابَ قوسين أو أدنى؟
فنجد أن النص قد عبّرعن المرأة ب (ميم المرآة)، وفي هذا اشتغال
حروفي مباشر والآخر رمزي. إذ استحال الحرف لديه إلى رمز بديل
عن الموضوعات المشار اليها فهو تجسيد للدلالة فميم المرأة ليس
حرفاً في الكلمة (المرأة) حسب، بل هو معادل موضوعي عن حب
النساء وإلفة النساء ضمن المعجم الصوفي الحروفي لدى الشاعر،
ضمن مجاز يتحرك من الجزئي إلى الكلي.
ومن الملاحظ أن النص قد أمعن في خلق النمطية الصوغية الترددية
عبر صيغة (ما دمتَ) من جانب المكررة في 19 مقطعاً، وما بثّه في
كل مقطع من أداة الاستفهام (كيف) المتكررة بالنسق نفسه، لتكون
علامة السؤال (؟) هي الختام الدلالي المفتوح على (المطلق
الصوفي) في مقاطع القصيدة كلها:
ما دمتَ قد أنفقتَ عمرَك
وأنتَ تضعُ قدميكَ الحافيتين
في راء الفرات
ليلَ نهار،
فكيفَ ستركبُ غيمةً
تُحلّقُ بكَ بعيداً بعيداً؟
ومن الواضح أن دلالة (ما دمتَ) التي تحمل معنى الحصر، والثبات،
ودوام الحال ترتبط دلالياً بالحال البديلة التي تفك أسر
الجمود، وتحلّق بصاحبها إلى فضاءات مغايرة تختلف في آفاقها في
كل مقطع من مقاطع القصيدة (فركوب الغيمة) علامة على المطلق
البعيد المفتوح الذي يعبر الأقطار، والأسفار، والأمتار، لن
يكون (مادام) الآخر القرين لأنا النص يضع قدميه الحافيتين في
(راء الفرات) بديلاً كنائياً عن
نهر الفرات أو عن الوطن في استبدال مجازي كلي، ليستكمل
النص دلالته المغايرة للثبات والجمود عبر سؤال الحال المنافية
المتصدرة بأداة الاستفهام (كيف) فكيف ستركب غيمة.
ومن الواضح أن كل مقطع من المقاطع يحمل دلالة مختلفة عن
سابقتها، فالتنويع الدلالي والكلامي مختلف في كل مقطع، ولكن ما
يجمعها هو الاسئلة المنحدرة من كاف السؤال (كيف؟) وهو ما ترشحه
قراءتنا للعنوان.
وتبدو القصيدة حوارية ملتفة على نفسها ابتدع الشاعر فيها
السياق الخطابي الجمالي؛ ليجاهر بصيغه الوجودية المختلفة
المتفرعة إلى أنساق: الغربة، والجنون، والحرية، والحرمان،
والتشكيل، والمسرح، والشعر، والصلاة ، والحلم، والولادة،
والموت... الخ
ولعل مما ينبغي قوله إن القصيدة الأولى من الديوان أي ديوان،
كثيراً ما يختارها الشاعر عبر مقصدية واعية فهي عتبة الشعر
الأولى واستهلاله التعبيري، ومن الطبيعي أن يشذّ عن هذه
القاعدة شعراء كثيرون، ولكن يمتثل لها كثيرون، هذا من جانب ومن
جانب آخر فإن التعامل النقدي مع القصيدة الأولى من الديوان
بحذر وعناية أمر لابّد من التنبه اليه، ولاسيّما عند الشعراء
الذين تنهض تجربتهم الشعرية على مشروع، أمّا القصائد التالية
فمن المؤكد أن لكل منها خصوصيتها غير أن هذه الخصوصية لا تنأى
عما أسسته القصيدة الأولى من بذرة شعرية تأويلية لدى أديب كمال
الدين.
ولعل عنوان الديوان ولا أقول المجموعة الشعرية دال على التآلف
الأسلوبي والاتساقي بين القصائد (رقصة الحرف الأخيرة) في
الدلالات الشعرية، ولكن الدلالة المركزية التي يقودنا تأويلنا
اليها هي الدلالة الثلاثية (الرقص، الحرف، الأخيرة) ومن الواضح
التضاد القائم
بين الرقصة حيث الانتشاء، والطرب، وربما الجنون، ووصف الرقصة
بالنهاية، وتضع لها الرمز الحاسم زمن الموت (الأخيرة).
وهكذا نجد أن رقصة الحرف الأخيرة تحمل دلالتي الحياة والموت في
بعدها الأنتولوجي وتحمل الدلالة ذاتها في بعدها الشعري
التعبيري. إذ من الممكن أن الشاعر أراد أن يوحي بختام تجربته
الحروفية والانتقال إلى فضاء شعري جديد أو أن العنوان هو توصيف
لآخر نشاطات الحرف لديه ومساحاته الجديدة المفارقة للمألوف
المستقطبة للنظر.
توريث
(4)
يعاود الشاعر في هذه القصيدة تقانته التعبيرية ذاتها القائمة
على التكرار اللساني الأسلوبي لتقوم على الظرفية الزمانية
(حين) التي تتكرر في تسعة عشر مقطعاً، وهذا تكرار نمطي آخر
لعدد المقاطع الشعرية الذي ما تلت فيه هذه القصيدة سابقتها
(كاف السؤال)، الأمر الذي دفعني إلى تأمل عدد المقاطع في
الديوان بأكمله فوجدت أن الشاعر قد اختار هذا التكوين الأسلوبي
عن قصدية واضحة وبذلك أضاف (الرقمية) إلى الحروفية في هذا
الديوان لتقدم تكويناً أسلوبياً داعماً لأسلوبية الحرف.
ومن الصعب الوصول إلى تأويل نهائي لهذا الرقم (19)، ولماذا
اختاره الشاعر، وقد يحمل (دلالة تنظيمية)، ليس إلا لخلق نسق
منسجم في الديوان، وقد يحمل مقصدية أخرى مغايرة عن هذه، ولكننا
نجد أن هذا الاختيار يحمل دلالة عدم الاكتمال وامكانية الإضافة
فلو اختار الرقم (20)، ربما لامتلكت القصائد خاصية الانتهاء
وربما وربما.
وتقوم القصيدة على ثنائية (الموت والحياة) أو (الموت والتوريث)
إذ يستهل كل مقطع بحادثة موت: مات تَد هيوز، سيلفيا بلاث،
شارلي شابلن، دانتي، ديك الجن، طاغور ...، وهؤلاء جميعاً من
الأعلام المشهورين في الأدب وصولاً إلى ميتات الشاعر الشخصية
(مات أبي) ثم الميتات الحروفية، الألف، الحاء، النقطة. ومن
الملاحظ أن الشاعر يكسر نسق الموت ثلاث مرّات في
القصيدة مرّة بالانتحار:
حينَ انتحرَ همنغواي
ومرّة بالقتل:
حينَ قُتِلَ محمود البريكان
ومرّة بالصلب والحرق:
حينَ صُلِبَ الحلّاج وأُحرِق.
ومن الواضح أن هذا النسق لم يجرِ اختلافاً دلالياً في المقاطع
التي احتوته، وفي دلالة التوريث فكأنّ الشاعر بهذه الأشكال من
الموت أراد أن يثبت دلالة الموت ذاتها، ولسان حاله يقول تعددت
الأسباب والموت واحد وتعددت الميتات والتوريث واحد.
ولكن ما دلالة التوريث في القصيدة؟
يمكن التجوال في مقاطع القصيدة التسعة عشر بين دلالات متغيرة
امتلكها التوريث، تختلف باختلاف موروثها، وبين دلالة مركزية
واحدة هي الدلالة الوجودية المتمثلة بظل الموت، فالموت يترك
ظله على الأرض، ولا ينعم ورثة الأرض بحيواتهم لأن شبح الموت
يبقى جاثماً فوق هاماتهم.
وحين نركّز على
الثنائية الدلالية المركزية (ثنائية الموت والحياة) نجد أن
الشاعر قد جعلها ملتبسة بتلاوينه الثقافية واختار في كل مقطع
علامة دالة على (سيّد) المقطع الذي غيبه الموت، لتكون العلامة
هي الفاعل الدلالي في القصيدة.
هذه العلامات المسوّرة بظرفيه (حين) التي تعد بمثابة الرابط
الشعري الذي يجمع ب(العلامة) بين صاحبها ومتلقيها وسنختار
مقطعاً كاملاً للتدليل على هذا الأمر:
حينَ ماتَ شارلي شابلن
أورثني ضحكتَه الساخرة
وقبّعتَه وعصاه.
لم أستفدْ مِن ضحكتهِ الساخرة
لأنّي لا أجيدُ فنَّ التمثيلِ على الإطلاق.
ولم أستفدْ مِن قبّعتِه
فحينَ وضعتُها على رأسي بكيتُ.
ولم أستفدْ مِن عصاه
فحينَ توكّأتُ عليها
تدحرجتُ على الأرضِ طويلاً
طويلاً.
في هذه القصيدة يمد الشاعر في فلسفة الموت (الشيئي) أو (الموت
العلاماتي) فحين يموت المرء تموت معه أشياؤه و(علاماته)، لأن
الورثة يبددون التركات التي أنفق الموتى حيواتهم في صناعاتها،
وجمعها أو خلقها. فلم يمت شارلي شابلن وكفى، بل ماتت معه ضحكته
الساخرة، والقبعة، و(العصا)، ولم يحسن ورثتها الاستفادة منها
أو الارتزاق بها، ولعله أي النص يريد القول إن المبدعين
بصنوفهم المختلفة لا يورثون سوى الحسرات، وإن تركتهم هي بائدة،
وبائرة ولا يمكن تصريفها في سوق الحياة.
هذه هي فلسفة المقاطع بتلوينات تعتمد على المفارقات المحبوكة
البعيدة على الافتعال التي يوازن بها النص بين (أناه) الداخلة
في أجوبة الموت عبر الفعل (أورثني) (نون المتكلم) والآخر الذي
غيبه الموت.
وتبدو المفارقة الساخرة ذات طابع سردي شفيف يعتمد على الضربة
الشعرية- السردية التي تستثمر الحدث المركزي أو العلامة
المركزية في حياة البطل وتصنع المفارقة المقابلة لها.
حينَ ماتَ التوحيديّ
أورثني بقايا كتبه المُحترقة.
فلم أدرِ ما أفعلُ بها.
جلستُ قبالتها
وكتبتُ بعينين دامعتين
قصيدةً عن الدخانِ المُتصاعدِ منها.
وكلّما مرَّ قومٌ سخروا منّي
وقالوا: مجنونٌ أحرقَ كتبَه
وآخر يبكي عليها.
ومن الواضح أن المفارقة التي صنعها حول ميتة (التوحيدي) بدت
مزدوجة فهي من جانب أثارت دلالة (العبث) التي خلقها إِحراق
الكتب، والعدمية التي كانت دافعاً وراء إحراقها. ومن جانب آخر
أثارت (الضحك) ودلالة السخرية التي استشرت في نفوس الناس من
المجنون الذي أحرق كتبه ومن الآخر الذي يبكي على الكتب. وتتوسط
دلالة الحيرة بينهما:
فلم أدرِ ماذا أفعل بها؟
وفي هذه الدلالات تتأكد المفارقات الكبرى والصغرى، الكبرى في
تبديد تركات الأدباء، والفنانين، في لحظات موتهم وانتهائها إلى
العدم والزوال معهم، والصغرى في أفعال العبث التي تولدها حيرة
الوارث بشأن التركات، هذه الحيرة التي تتوسد في كل نصٍ بشكل
مختلف.
وفي مقاطع معينة يبوح النص بأفانين هذه الحيرة وهذا العبث وفي
أخرى يبدو النص هادئاً في حيرته، ففي مقطع كلكامش مثلاً يميل
النص إلى البوح المباشر بفلسفة الحداثة (زمن العولمة) التي
ضربت صفحاً عن المثالية والروح وجعلت تركات المادة هي الفاعلة
والمتسيّدة على مسرح الحياة.
حينَ ماتَ كلكامش
أورثني خيبتَه
وبحثَه العبثيّ عن سرِّ الخلود.
لم أستطعْ أنْ أفعلَ شيئاً لخيبته
لأنّها كانتْ أسطوريّة القلبِ والشفتين،
ولم أفكّر يوماً بسرِّ الخلود.
ففي زمنِ العَولَمَة،
الخلودُ ، فقط ، للدجّالين
والمُهرّجين والسفَلَة.
ومن الملاحظ أن (أنا النص) أو (أنا الشاعر) بتكويناتها النصيّة
تندس في كل مقطع لصياغة العلامات العبثية، وكذلك تفعل السخرية،
والمفارقة السردية، فحدث موت كلكامش لم يورث سراً للخلود الذي
قضى كلكامش حياته من أجله، بل أورث موتاً لا خلود فيه وهذه هي
المفارقة الكبرى، وتتردد دلالة السخرية مع الحيرة التي أنتجتها
أنا النص.
لم أستطعْ أنْ أفعلَ شيئاً لخيبته
لأنّها كانتْ أسطوريّة القلبِ والشفتين.
وهو بقوله أسطورية القلب والشفتين أفضى بالسخرية وشمول العبث
لتكوينات الروح والجسد كلها، وهو إيمان راسخ باللاجدوى
المتغلغلة قلباً ولساناً. وحين تترجل (أنا النص) في صياغة
الحيرة والبوح بزمن العبث يختار زمناً كبيراً يصلح أن يكون
فضاءً شمولياً للنص هو زمن العولمة الذي تستبدل فيه القيم
وتنقلب الأسرار ليصير سرّ الخلود:
الخلودُ ، فقط ، للدجّالين
والمُهرّجين والسفَلَة.
ونلمس في هذا البوح النبرة الانفعالية الحادة التي تطفح بالنص
وتدفع به إلى المباشرة والإمعان في صياغة الخيبة.
ومن المقاطع الأخيرة من النص تعلو (أنا الراوي) أو (أنا النص)،
وينقلب إلى الدلالات الذاتية والشعرية للموت، ويغادر الرقعة
الموضوعية لميتات المشهورين أو ميتات (الآخر) ليتابع ميتات
(الشاعر).
أما الموت الأول فهو موت الأب الذي أورثه الدمعة، والنجوى،
والتبتل إلى الله:
وضعتُ الدمعةَ في كفّي
ومددتُ كفّي إلى الله،
إلى ما شاءَ الله.
فعادتْ إليَّ بعشراتِ الحروف
ومئاتِ القصائد.
ولاشك في أن هذا الجزء من النص أراد أن يوازن به الميتات
العبثية السابقة وأن يخلق معادلات موضوعية للحيوات اللاإبداعية
التي تضرب صفحاً عن اليأس، والعدمية، والعبث فيبدأ النص هنا
ببث دلالة الفن التي تصنع الحياة، وتنبذ الموت فكأنه جعل
الحياة الإبداعية هي المعادل الموضوعي لتركة الفن والإبداع
التي خلفتها ميتات المبدعين المادية.
فالدلالالت السابقة كانت استهلالاً للمفارقات التداولية
الجاهلة التي تقايض ماهو روحي ومثالي بما هو مادي وحسي. وعمد
الشاعر إلى قلب المعادلة فموت الأب هو حدث اعتيادي لكونه شخصاً
لا يمتّ إلى الفن بصلة أو نتاج إلّا أنه أورث شاعراً وكأنه
بذلك يريد أن يكتب سيرة لهؤلاء الفنانين والمبدعين كلهم، كيف
ولدهم آباؤهم كما يولد آلاف البشر، وكيف يصنعون أساطيرهم
الإبداعية بأكفّهم المدماة من الألم، والعنف، وحفر دروب
المستحيل.
وهو هنا يريد تنمية الوعي الفني بتركات الفنانين باختلاف
فنونهم إعطاءهم القمّة التي يستحقونها والعناية بتركاتهم على
أنها لقى الحياة بعد الموت.
ويستغرق النص في دائرة الذات الشاعرة وينحو في هذا الجزء منحى
حروفياً يريد به الشاعر أن يبوح بأسطورته الشعرية أسطورة الحرف
ويدخل في صفحاتها الواحدة بعد الأخرى، أو في أبجدية الحرف
الواحد بعد الآخر.
فيبدأ مع الألِف في دوران شعري لانهائي فيختار منه حرفين هم
الألِف الاستهلالي حرف الولادة والحاء حرف الحياة:
حينَ ماتَ الألِفُ أورثتني همزتَه
:
وحينَ ماتت الحاء
ثم يختار النقطة التي هي (حرف الموت) ليجعلها تعني نهاية
الحروف وبداية أسرار الروح والزهد بالحياة فكانت هي خاتمة
النص، أو خاتمة المادة، ثم خاتمة الروح، ثم خاتمة كل شيء في
زهد مضاعف تموت فيه الروح وتتحول إلى حرفٍ من تراب.
حاء الحلم
(5)
وفي قصيدة أخرى بعنوان (حاء الحلم) نجد تجريباً حروفياً من نمط
جديد يميل إلى السرد ولا يقوم على توازٍ موّحد في المقاطع
التسعة عشر، ولكنه يجعل من حرف الحاء هو الفاعل السردي في
القصيدة.
والحاء هو أحد حروف كلمة (الحلم)، واستثمر النص حرف الحاء
بتوليدات دلالية مختلفة في كل مقطع من مقاطع القصيدة التسعة
عشر بتجريب متوازن ومتوازٍ يجمع التشقيق الحروفي والتنويع
الدلالي بعيداً عن التعسف أو الانفعال، الحلم، حاء نوح، حاء
الحرمان، حاء الحرب، حاء الحنين. وكأنّ النص يفتح مغاليق الحاء
في كل كلمة احتوت عليه ليتصدّر الحاء المركز الدلالي المركزي
في القصيدة ويوجّه دلالاتها صوب ما يريد، ولعل قراءة متأنية
لمقاطع القصيدة تفصح كيف أن الحرف يسيل في شعاب القصيدة ويملأ
دلالاتها بفضاءات أسلوبية وثيمية مبتكرة تفلت يدها من المباشرة
والافضاء النثري الثقيل عبر لعبة التوالد الحروفية التي تمثل
مرتكزاً شعرياً في حروفية أديب كمال الدين.
إنّ اقتطاع الحرف من الكلمة ينتج سلخاً دلالياً ومعرفياً
للتعبير الدلالي المألوف فحاء نوح هي نبر على دلالة ركوب
البحر، وأهواله، والطوفان، ورمز السفينة.. (الحاء) هي (مجاز
جزئي) عن الكل المضمر القابع في جنح الخيال، هذه الحاء هي
(الحاء) التخييلية النصية التي لا تأخذ من (نوح) الدلالات
الدينية أو القدسية حسب بل تستنج منه فواعل تخييلية هي (فواعل
الحرف) وكأنّ حاء (نوح) هي الفاعل المركزي السردي أو البطل
السردي الذي يسير بالدلالات إلى فضاءات شمولية في أكثر المقاطع
النصية ولاسيما بعد أن يطلق النص النار على (حاء) الحنين ويصيب
منه مقتلاً ينسى بمقتله علاماته، أي علامات (الحنين العراقي)
الفرات ودجلة اللذين ينكرانه ويتجاهلانه، وكذلك كلكامش الذي
أخلف وعده وغادر المتحف ليترجم نهاية أسطورة الخلود:
كلكامش الذي ماتَ بالنوبةِ القلبيّة
كان هذا مع انبثاق المارد الحروفي الكبير (حاء الحرب) الذي
أدمى الأجساد كلها من السرّة إلى العنق ليبدأ الطوفان، طوفان
(حاء نوح) ولوازمه التي انتجتها (حاء الحرب) وتلاعبت به وألقت
به خشبة طافية يتلاعب بها الموج على شاطىء (المحيط)، ونلمس في
كلمة (المحيط) علامة مكانية تنبض بتغير المكان من الوطن (دجلة
والفرات) إلى المنفى وشواطئه الباردة (المحيط).
في المقطع الخامس يفتح النص فضاءً حروفياً يحكي حكاية (حاء
نوح) والمقطع الخامس يتألف من سطرٍ واحد تعجّبي:
ما أكثر حروبكَ يا حرفي!
ونلحظ أن حرف الحاء يتكرّر مرتين في هذا السطر القصير الذي
يوظف ضمير (الأنا) أو المتكلم ويمزج بين (حاء الحرب) و(حاء
الحرف) ليصير مرادفاً للحرب على الطغيان، والطوفان، وقد تكون
حاء الحرف تكنية عن الشعر والكتابة فهما اللذان يختزلان
الدلالة الذاتية لأنا الشاعر أو أنا النص.
مع المقطع السادس تبدأ رحلة البحث عن (حاء نوح) أو البحث عن
المنقذ أو المخلص الذي يتحول إلى حاءات كثيرة فهو أكثر الحاءات
سراً :
نوح الجسد وهو السفينة؛
نوح القلب وهو نوح نفسه.
وتتشظّى حاء (نوح) إلى دلالات متعددة تغادر حاءها في خمسة
مقاطع ليرد اسم نوح بلا حاء قلب نوح، غراب نوح، سفينة نوح، بحر
نوح، ولاشك في أن الدلالات الدينية الرمزية حاضرة في الغراب،
والحمامة، والسفينة، والبحر، فكأنه حذف الحاء وأبقى لوازمها
لتركيز الدلالة البحثية أو دلالة البحث.
وفي الرحلة المجنونة أو البحث المجنون عن (حاء نوح) تتساقط
حاءات كثيرة: حاء الحرمان، حاء الحرب، حاء الحنين، ليتقد فاعل
نابض هو (حاء الحب) أكثر الحاءات اتقاداً فهو شعوذة عند
الصحفيين لافتقاره إلى اليقين، وأكثرها غموضاً وهرطقة
لدى المؤرخين لتساقط الروايات بين عصور النور
والظلمة... وهكذا.
ويجمع النص في مقطعه الثامن عشر قصاصات حروفه (قصاصات قصائدي)
ويصنع منها (وسادة الاحلام) ليكثف من حلمه بحاءات منشودة:
نمتُ سعيداً،
وأنا أحلمُ بحاء الحلم،
أحلمُ كأيّ طفلٍ ينتظرُ صباحَ العيد،
العيد الذي سحقتْ رأسَه حاءُ الحرب،
وحاءُ الحرمان،
وحاءُ الجحيم!
وهكذا تلتبس علامات الحياة بحروفها وعلامات الشعر بحروفه وتمتد
حروفية النص إلى كل جزء من أجزائه وتتحول الحروف إلى فواعل
شعرية لا يكون التعبير ممكناً بدونها حاء الحلم، حاء الحرب،
حاء الحرمان، حاء الجحيم.
وبذلك نجد أن أسطورة الحرف ممتدة في فضاءات النص خارقة للبعد
الحروفي المألوف إذ جعل النص منه منصةً أسلوبية تنطلق منها
أصوات الحياة وتتقافز من تكويناتها صور البوح والايحاء... بل
إن الحرف صار في هذا النص وفي غيره من نصوص الديوان فاعلاً
سردياً يتلاعب بسيرورة الأحداث، ويرسم فضاءات الدلالات حين
يتفلت من التكوين المألوف للكلمات، ويغادر أسوارها ليخلق
تكوينه الذي لا يمسك بخيط ما.
ومن الذي يلفت النظر النقدي في الديوان أن الاشتغال الحروفي
فيه بدا مختلفاً، بين التوظيف الحروفي التوالدي الاستغراقي،
والتوظيف الحروفي الايحائي اللمحي أو الجزئي.
أما التوظيف التواليدي فقد وقفنا عند بعض من أمثلته في
الديوان، ففي الديوان أمثلة كثيرة منها: ميم المشهد وسين
العظام والحطام وغيرها، وسنراجع نمط التوظيف الآخر الذي
أسميناه
بالايحائي أو اللمحي أو الجزئي، ولم نسمه الخاطف. لأن دلالة
الخطف فيها عجالة ومباغتة، وسرعة، في حين أن قصائد الشاعر
الحروفية (اللمحية) هي متجاوزة للمرحلة الاستغراقية الحروفية،
ممارسة لضرب من العمق التعبيري الحروفي الذي يستوطن قلب
الدلالات الشعرية، عن طريق التصريح المحدود، أو الضمني وفيه لا
يرد ذكراً حروفياً مباشراً وإنما تبقى الروح الحروفية فضاء
إيحائياً للدلالات الشعرية منها على سبيل المثال: قصيدة (البحر
والمرآة)، وأورد النص إشارة على سجال الحيرة في داخله لأن
الحرف يلوح من بعيد إذ قال مخاطباً المرأة أو الحياة أو
كليهما:
أردتُ أنْ أكتبَ عنكِ
فلم أستطعْ
لأنَّ الحرف لا يستطيع الجلوسَ على الورقة.
كانَ يطيرُ حيناً
ويبكي حيناً آخر
ويبدّلُ أقنعتَه باستمرار
ويحاولُ الانتحارَ ليلَ نهار.
أما الإشارة الحروفية اللمحية الأولى فتمثلت في تكرار الراء في
هذا المقطع القصير إذ يرد ثماني مرات وهو ليس تكراراً صوتياً
حسب بل هو تكرار حروفي لمحي يعبر عن (سجال الحرف) الغائب عن
سطح النص والحاضر في أنا الشعر، وقد أفصح النص عنه على نحو
مباشر بقوله:
لأنّ الحرف لا يستطيع الجلوس على الورقة. وفي هذا افصاح عن
خطوط ذلك السجال الحروفي في ذات الشعر أو الشاعر، ونزاعه مع
الورقة حين لا تطاوع حروفها، أو حين لا ينصاع الحرف لحدود
الورقة.
القصيدة الأنوية
(6)
ومن القصائد الحروفية اللمحية الاخرى في الديوان (القصيدة
الأنوية) التي تمتد أيضاً على تسعة عشر مقطعاً كحال قصائد
الديوان الأخرى، وتترجم عتبتها العنوانية الفضاء الدلالي
الذاتي لها (فالأنوية) إفصاح مباشر عن حجم الذات الفاعلة في
هذا النص التي تريد القصيدة محاكاتها ورسم خارطة وجودها
الدلالي.
تأخذ الأنا في هذه القصيدة موضع الدلالة المركزية، وتجري مقاطع
النص حواراً مع أشكالها الدلالية في الحياة وتعمد إلى محاكاتها
على نحو مباشر يهيمن فيه ضمير (الأنا) المتضخم وما آل اليه من
وجوه متغايرة.
في المقطع الأول يبث النص موجات من الأنا العارمة تقود النص
إلى (الأنوية) المتحكمة في سياقات الحياة كلها وعلى رأسها
الأنا (الطاغية) الملتبسة بالطغاة حينما كانوا، وحاشيتهم
ومريديهم الذي يرفعون صورة (الأنا) على أعلى هاماتهم في مشهد
مأساوي ناطق بمأساة الشعوب والبشر في كل مكان وفضاء حياة:
صرخَ الطاغيةُ الأرعن
مُحَاطاً بحاشيته وجلّاديه وكلابه:
أنا
أنا
أنا.
فالتهبت الأيدي بالتصفيق،
واغرورقت العيونُ بالدموع،
وامتلأت الحناجرُ بالهتاف.
هذا المشهد الأول للأنوية العارمة (الجاهلية) وهو من أشد
أنواعها ضرراً، وفيه وفي مقاطع القصيدة كلها لم نشهد حضوراً
(حروفياً) (شكلياً) لحرف ما بوصفه فاعلاً دلالياً تنبثق منه
القصيدة كحال قصائد الديوان ذات التوظيف الحروفي التواليدي
الاستغراقي الذي يجعل الحرف أسطورة دلالية ذات مجسات وسياقات
مفتوحة وتجريبية ولانهائية. ففي هذا النص نجد أن الحرف يغور
داخل دلالات النص وفي عمقها ولا يترك على سطحه سوى علامات
تلميحية قد يؤشرها التأويل. وقد لا ينتبه إلى وجودها ولكن من
الممكن أن تكون الأنا أو ضمير ال (أنا) هو شكل حروفي ضمني وهو
ترجمة للهمزة أو (ألِف الشاعر) التي يكثر نص كمال الدين من
ترديدها فـ (أنا) هي (أ) التي هي همزة الوصل بين الذات والـ
(نا) النحن أو الآخرين.. بعيداً عن التمحل القرائي.
وتبدو (الفلسفة الأنوية) متراصفة في النص بأشكال مختلفة،
ايحائية أو سلبية، فاعلة أو ضامرة، مادية أو روحية، وهكذا..
ومن الملاحظ أن لكل (الأنوات) صيحة ومرايا تنعكس في صفحاتها
صورة الأنا وعبثيتها، وكانت الرؤية الوجودية الفلسفية ماسكة
بعرى النص.. كحال نصوص الشاعر كلها، فـي نمط من الكتابة
البيضاء الخالية من التأسيس المسبق في أرض المعلوم، لأن
المجهول حرف كبير من حروف الشاعر التي تسعى إلى تبديد تركة
اليقين ويصعب أن نقف عند المقاطع التسعة عشر كلها بل سننتقي
منها ما يكفي لمناقشة بنية النص الحروفية – الدلالية.
بعد أن يخاطب النص أنا الطاغية وأنا الفنان (المطرب) وأنا
(المجنون) التي من الممكن جمعها بـ (أنا الجنون): الطاغية
مجنون، والفنان مجنون، والمجنون مجنون، تنبثق أنا جديدة هي
(الأنا الزمنية) التي ترسم ضحكة السخرية على وجوه الخليقة
الحائرة.
وأنا (الزمن) هي ثلاث أنوات فيزيائية هي: أنا الماضي، وأنا
الحاضر، وأنا المستقبل:
قالَ الماضي:
أنا أسكنُ في الماضي أبداً
فكيفَ لي أنْ أعرفَ: مَن أنا؟
ومن الواضح أن السؤال النصي هو سؤال وجودي يبوح بالتساؤل عن
إمكانية أن يكون ما مضى حاضراً
أو ممتداً، وكيف يمكن للموت أن يكون حياةً أو متى يكون
ذلك ممكناً؟
وسهل الكنى في الماضي وطن أم غربة؟.. وهكذا.
أما سؤال الحاضر فهو:
قالَ الحاضر:
أنا ساعاتٌ
تتناثرُ هذي اللحظة في الريح.
مَن يجمعها لي كي أعرفني.
وهو سؤال يتذاكى على الواقع والحياة.. حروفيته (لمحية) خاطفة
فأنا النص تختبىء في المعرفة (أعرفني) أو أعرف (أناي) وهذا
الاختباء ليس عابراً بل هو يؤسس لحيرة (الأنا) الكبيرة بشأن
الزمن (الساعات)، (اللحظة) و(حركة الريح) أو سجالات المادة
والحياة الخالقة للحيرة والدهشة حين
تتناثر موجودات الزمان أو (الآن):
مَن يجمعها لي كي أعرفني.
هذه الحيرة التي تبحث عمن يمنحها اعترافاً بالثبات والكينونة
والوجود وصولاً إلى أنا المستقبل:
قالَ المستقبلُ: أنا لا أنا لي.
لأنّي لم أزلْ
في كهفِ الغيب.
ويضع النص في زمنية المستقبل علامات راحة وخلاص وفكاك من أسر
الأنا، ورغبة في تحطيم أسوارها، والمكوث في كهف الغيب فضاء
برزخياً ينقل حيرة البشرية بإزاء ذواتهم وأنواتهم، فيه اليأس
والامل، وأكبر منهما اللهفة بانتظار ما سيأتي محطماً جنون
الأزمان والأحلام.
ومن الخطاب الأنوي الزمني- الفلسفي ينتقل النص إلى أنوات
مختلفة نختار منها (الأنا الحروفية) التي بدا وجودها في النص
لمحياً أو جزئياً يقول النص:
قال الحرفُ: أناي النقطة،
فهل سألت النقطةُ : مَن أنا؟
ومن الواضح أن الحرف لا يردّ شكلياً أو سردياً (فاعلياً) وإنما
يلتبس بالدلالات الأنوية الوجودية الممتدة في النص، فالحرف
يختزل الشعر كما يختزل الحياة، وهو يشكّل في هذا النص بنية
حوارية طرفاها الحرف والنقطة، ولاشك في أن ترابطهما وجودي
فبالنقطة يغّير الحرف مصيره وكيانه بتغير دلالته هذا من جانب،
ومن جانب آخر فالنقطة علامة انتهاء، أو انطفاء، أو موت، كما هي
دلالة وجود وحياة، ويبدو السجال بينهما عارماً وصارخاً بإبعاد
الموت والحياة، ويبدو الحرف أكثر التباساً بدلالة الحياة فمع
أصواته الأولى تولد الحياة، بينما تبقى الدلالة الوجودية
الكائنة في النقطة دلالة متسائلة قلقة تتساءل عن مصيرها
وكينونيتها التي هي أقرب
إلى دلالة الموت:
فهل سألت النقطة: مَن أنا
ومع المقطع العاشر يحضر الحرف حضوراً لمحياً ولم يتعده إلى
غيره، ويتلاعب فيه النص بحرف السين، ويودعه في السر:
قال السرُّ: أنا السين
لكنْ ما مِن راءٍ لي.
ومن الممكن أن نؤول (التقليب الحروفي) على وجهين الأول السطحي
إذ لا يتجاوز المقطع نمطاً من العبث الحروفي الدال على فاعلية
الحرف ودوره في قلب المعاني والدلالات بالقطع أو الحذف، أما
الوجه العميق فيتخذ مسارات أخرى لتعادل دلالة السر: أنا
(السين)، وأنا السين هي سر المستقبل أو أنا المستقبل، فالسر
مودع في المستقبل وفي أناه (السين)، وهو منفتح عليه ومستشرف
به، أما السطر الثاني (لكن ما من راءٍ لي) فيمكن أن يؤول
شكلياً فالسين هو سر منزوعة راؤه، أما التأويل الثاني فمرتبط
بكلمة (راءٍ)، والراء من (الرائي)، والرائي هو الناظر في سر
الحياة والوجود والمتأمل في عمقها وهو الذي يرى ما لا يراه
غيره. وهكذا ومَن يكشف الأسرار سوى الرائي؟
ونلحظ أن النص ينوع في إفضاءاته الحروفية التي تدفع بالمتلقي
إلى الاحتدام مع سيرورتها ومستوياتها والنص في تكويناته
الحروفية اللمحية أراد أن يؤكّد وجوده المصيري المتمثل بالحرف
فالحرف هو أسطورة الشاعر وهو معادلة الشعري والحياتي.
وفي الجزء الأخير من النص ترد ثلاثة مقاطع تخاطب الأنا
(الصوفية) المتماهية في (الأنا) الإلهية أو الذات الإلهية وكأن
النص يريد أن يوصلنا إلى مرحلة (الحلول الأنوي) أو الصوفي أو
(الأنا الأثيرية) التي تخلع الثوب المادي لتصبح روحاً هائمة
خفيفة ونقية وممتدة من أقصى الكون إلى أقصاه ووجد لها مثالين
هم (أنا الحلاج) و (أنا الدهر) في مقطعين متوالين أما المقطع
الاخير فبثّ النص فيه خلاصته الدلالية- الوجودية وكان عنوانه
هو أنا الموت.
قالَ الموتُ: أنا
فامتلأت الأرضُ بجثثِ الناس.
وحين نسأل ماذا يريد أن يقوله النص بأناه الحروفية المتلونة
بأنوات الشاعر والزمان والتأريخ والوجود والغد نجد جواب هذا
السؤال في أنا الموت، هذه (الأنا) التي تختصر (أنوات البشرية)
في ماضيهم، وحاضرهم، ومستقبلهم، وبمعنى آخر ان أنا الموت هي
أكبر من أنوات الحياة كلها ولا مجال للسجال أو المفاضلة
بينهما.. هي عبرة صوفية تقايض الحياة بالموت أو أنا البشر
الضعيفة بأنا الموت الجبارة وحضورها القاهر.
ومن الواضح أن في النص مساحات من التوظيف متغايرة ماخلا
التوظيف الحروفي منها الحضور الرمزي ولاسيّما للرموز
الأسطورية، والدينية، والحيوانية ومن الأسطوري يكثر ورود رمز
كلكامش وأسطورته مع الموت وعشبة الخلود، ومن الدينية يكثر
توظيف رمز النبي نوح وحكاية الطوفان ورمز السفينة، ومن الرموز
الحيوانية يهيمن رمز الغراب والحمامة بشدة على قصائد الديوان،
أما الغراب فوروده أكبر فكأنه يعادل دلالة الغربة لديه لأن
الغراب سمي غراباً لغربته، أما الحمامة فهي ضديد الغراب وهي
رمز السلام والعودة إلى الوطن وفي فمها غصن الزيتون.
ولكن ليس التوظيف الرمزي أو الأسلوبي والتناصات التي شكلّها
الشاعر في قصائد الديوان موضوعاً لمقاربتنا وإنما هو التوظيف
الحروفي المعادل لشعرية أديب كمال الدين الذي كان موضوعاً
لمراجعة قصائد هذا الديوان ومعرفة تقليبات الحروف الجديدة التي
طرأت على مشروع الشاعر الحروفي ووجدناها اتخذت مسارين في هذا
الديوان: المسار الاستغراقي والآخر اللمحي، إلا أن المستويات
الحروفية المفتوحة التي مثلت الهيكل الحروفي في شعر الشاعر
بقيت حاضرة ومفتوحة في هذا الديوان الذي عبّر عن ثقافة حروفية
مضافة تعمقّت مع غربة الشاعر في أستراليا ضمن المستويات
التشكيلية البنائية الحروفية الستة التي أشرنا اليها والتي
بقيت حاضرة في هذا الديوان إلا أنها تعمقت أكثر وامتلكت ثقة
شعرية حروفية أكبر وجنت ثماراً جديدة.
ونكرر القول في أن عنوان المجموعة (رقصة الحرف الأخيرة) بدا
مفصحاً عن دلالة اللعب الشعري مع الحرف والطرب والشغف به، وكان
حضور علامة الرقص الدالة على الحراك واللعب والفرح استكمالاً
لها وهو يردفها بالأخيرة وصفاً للرقصة. تتراقص مع الأخيرة
دلالات حائرة تتقافز بين الموت والحياة بما يعبّر عن الثنائية
الضدية الوجودية التي تتحكم في شعرية أديب كمال الدين وترسم
معالم أسطورته الحروفية التي تختزل همزة الحرف في صراخ
المجاهيل.
الهوامش
1-
رقصة الحرف الأخيرة/ أديب كمال الدين/ منشورات ضفاف/ لبنان
2015.
2-
هزة الحرف في صراخ المجاهيل/ د. بشرى موسى صالح/ مجلة آفاق
عربية-ع 3-4-1999- ص82 ومابعدها.
3-
ينظر:- رقصة الحرف/ ص13 ومابعدها.
4-
نفسه- ص 21 ومابعدها.
5-
نفسه- ص47 ومابعدها.
6-
نفسه- ص89 ومابعدها.
الصيرورة الجمالية للحرف
قراءة لديوان (رقصة الحرف الأخيرة) لأديب كمال الدين
د. محمد سمير عبد السلام
ناقد وأكاديمي مصري
يتجلّى الحرف كعلامة جمالية فريدة في كتابة الشاعر العراقي
المبدع أديب كمال الدين ، فهو يحمل دلالات التمثيل المجازي
للصوت من جهة، ويقع كبديل للذات، والأنثى، ولعلامات الحكايات،
والتراث، والأسطورة، والصيرورة الإبداعية الكونية من جهة أخرى.
إن تكوين الحرف، وتنقيطه المحتمل في الكتابة، يتجاوز بنيته
الشكلية، والاتصالية الأولي في الذاكرة الجمعية ، فهو يحمل
أصالة الصوت، وبنية المحو الكامنة في الأثر في تداعيات النص؛
فقد تأتي الباء في النص دون تنقيط؛ لتكشف عن الغياب في عالم
المتكلم الداخلي، وقد تدل النقطة على الوفرة الإبداعية للحياة
الأخرى حين تمتزج بمادة التراب، وأخيلته في الوعي؛ وكأن
النهايات تكشف عن وفرة النقطة، وصيرورتها الاستعارية،
وتحولاتها الأرضية، واستبدالاتها المحتملة للصوت.
وتبدو صيرورة الحرف الإبداعية في حالة من التداخل مع أصوات
الحكايات، والتاريخ، وشخصيات الحكايات القديمة، أو تمتزج برقص
حلمي، أو بالمحاكاة الساخرة للحياة، والموت، والشخصيات
الإشكالية. وقد تحمل دلالات فلسفية، وثقافية، وذاتية مختلفة؛
فالميم تتجلي كتمثيل للبدايات، وللنهايات التي ترتبط ببنية اسم
المفعول (مقتول، منفي، معذب)، والنون تقترن بعالم الأنثى
الصاخب، ورعب المحو الكامن في المتكلم حين تغيب النقطة، والحاء
تدل علي الحياة الوفيرة، والموت المحتمل، والكامن في الحب نفسه.
ونلاحظ مثل هذه التيمات الفنية في ديوان أديب كمال الدين،
المعنون ب"رقصة الحرف الأخيرة"؛ وقد صدر عن منشورات ضفاف
ببيروت؛ وتشير عتبة العنوان إلى فاعلية التمثيلات المجازية
للحرف، وإلى مدلوله الجمالي المتغير في تداعيات النص؛ فالحرف
قد يصير تمثيلا للذات، أو لأصواتها الكامنة في اللاوعي،
والذاكرة الجمعية، أو تكوينا يحتمل الغياب المضاعف، أو وفرة
الحياة، أو يستنزف تلك العلامات نفسها فيما يتجاوزها عبر
المحاكاة الساخرة، والتناقض الجمالي، وتداعيات الأسئلة
الفلسفية الكثيفة.
ومن التيمات الفنية المتواترة في الديوان؛ الصيرورة الجمالية
للحرف، والفضاء، واستبدالات الكتابة، ووفرة الصوت المبدع.
يتجاوز الحرف وظيفته الاتصالية، ويعيد تكوين صورته في سياق
النص وتداعياته، وكذلك في صيرورة التجربة بالمفهوم الفلسفي
النيتشوي في ديوان أديب كمال الدين؛ فالحرف شخصية فنية تمثيلية
لها كينونة، أو صوت، وهو يقع بين أحلام اليقظة للمتكلم،
والواقع بمستوياته اليومية، وفضاءاته المجازية، وهو يتصل بوجود
المتكلم النسبي، وآثاره، واستبدالاته المشكلة للهوية الجمالية
في الكتابة.
إن الحرف يمارس نوعا من المحاكاة الساخرة ـــ ما بعد الحداثية
ـــ لمدلوله الذاتي المستقر في الوعي، وللمتكلم، ولعلامات النص
الثقافية، والفلسفية من خلال تواتر الأسئلة، والتحولات.
يقول:
"ما دمتَ قد قرّرتَ أن تنجو
ممّا أنتَ فيه،
فلماذا أطفأتَ الضوءَ في مفتتحِ القصيدة
فبكت الحروف
وملأت النقاطُ صالةَ العرضِ بالصراخ؟"
ص 16
يجمع مدلول الحرف هنا بين حضور الكينونة، وتحول الأثر في علامة
النقاط؛ فالنقطة تتجلّى كدمعة، وصرخة في آن؛ ومن ثم هي تؤكد
الصوت المتمرد في حالة الكتابة، وتجلّي الذات كأثر مضاعف يقبل
المحو، والتدمير في واقع فني، أو فضاء مسرحي تشبيهي لواقع
المتكلم الأول.
وقد يدل الاختلاف في بنية الحرف علي ثراء الفراغ؛ وهو هنا بديل
للواقع الجمالي السابق؛ يقول:
"ما دمتَ لا تعرف
ما تفعلهُ هذي اللحظة،
فلماذا لا تجرّب إطلاقَ النّار
على المرأةِ العارية
في المرآةِ العارية؟"
ص 18
تبدو المرآة في النص كفراغ مسرحي للذات، وللقصيدة/ الأنثى؛ ومن
ثم فهي تشير إلى امتلاء استعاري متكرر، ولكنها تشير إلى رعب
الصمت الملازم للكينونة، وزمنها الخاص، وهو ما يذكرنا بمخاوف
العدم في فكر هيدجر.
وقد تفكك صورة الحرف الصوت المركزي المحتمل للذات المتكلمة،
وتجمع بين اللعب، وأثر الصوت المؤجل في النص، يقول في قصيدة
"قصيدة السيرك":
"وسيصرُّ على أنَّ اسمها الحياة،
شاعرُ الحرف.
لكنّه سرعانَ ما يكتشفُ المأساة
حينَ تتركه حاءُ الحُبّ
جسداً طافياً ليلَ نهار
فوقَ بحرِ الظلمات،
وتنزلُ إليه الباءُ مِن سُلّمِ القَدَر
عاريةً وهي تخفي ابتسامتَها الساخرة."
ص 108.
تحمل صورة الحاء صخب الإيروس، والنهايات معا، بينما تمارس صورة
الباء العارية سخرية ما بعد حداثية من الصوت المتكلم،
ومركزيته، وتسهم في استنزافه، أو تأجيله؛ فالنقطة الغائبة تعيد
تأويل الذات بين الحضور، والمحو في القصيدة.
وتصل تمثيلات الحرف، وتحولاته بين الواقع، والوعي إلى ذروتها
في نص "تكرار"؛ فالنقطة تشير إلى تناقضات التعاطف الكوني،
والتمزق، أو الغياب الذي يذكرنا بنشوة ديونسيوس في فكر نيتشه.
يقول:
"أردتُ أنْ أقبّلَ شفتيكِ ذاتَ حلم
فأطلقتِ عليَّ ثعالبكِ وذئابكِ وكلابك
كي تنهشَ حرفي ونقطتي دونَ رحمة".
ص 137
التمثيلات الوحشية السوريالية للإيروس، والتدمير تندمج في صورة
الأنثى، وتحولاتها بينما يبدو الحرف ممثلا للأصالة، ورعب
الفراغ المحتمل في النص.
أما النقطة فتؤول حالة التجسد، وتستنزفها فيما قبل التجسد
نفسه؛ وهي تذكرنا بالنفس الدائرية الكلية عند كارل يونج؛ فهي
تتصل بالفضاء الكوني الأسبق من حياة الجسد، وموته.
* ثانيا: الفضاء، واستبدالات الكتابة:
تتعدد مستويات الفضاء في كتابة أديب كمال الدين؛ فالنص ينتقل
في التأويل من الفضاء الداخلي في عوالم الوعي، واللاوعي إلى
المسرح بدلالات الفضاءات العبثية، والحكائية المستمدة من
التراث الثقافي.
يقول في نص "ميم المشهد":
"قالَ لي الملِك
أو مَن يمثّلُ دورَ الملِك:
كلّ شيء كانَ مسرحاً عابثاً.
لم أعدْ أتذكّر منه شيئاً
سوى نزولي مِن الدرج
مُشتعلاً بالرغبةِ والهلع."
ص 78.
ثمة تعددية ما بعد حداثية فيما يخص هوية الملك المفككة في
تشبيهاته، وكذلك في حضوره اللامركزي في الوعي المبدع، كما يوحي
المشهد باستنزاف الملكية نفسها، فالملك يعانق التشرد، والجنون،
ويبدو كفنان أو شاعر مهمش.
ويبدو مكان الحكاية القديمة كمسرح عبثي؛ وهو ما يؤكد تعدد
مستويات الفضاء في المشهد.
أما تأويلات الفضاء، فتوحي بالاستبدال بين الداخل، والخارج،
وعالم ما وراء الواقع، يقول:
"هل كانَ المشهدُ في قاعةِ العرش؟
أم في قاعةِ الرغبة؟
أم في قاعةِ العبث؟
أم في قاعةِ الموت؟"
ص 79
التأويل السابق للفضاء يشبه مسرح القسوة، ورؤى دريدا حول
التحامه بما يسبق المسرح نفسه؛ فالفضاء هنا يرتبط بالقوى
الكونية الكبرى التي تسبق الفعل الجمالي، أو الأداء، ويستبق
حضور ما بعد الحياة في صورة الدرج العميق الذي يفكك القبر، أو
يؤجله.
يتصل الصوت بأسلافه الفنية، والأسطورية، ويشكل هويته
الاختلافية من خلال الأصالة، والانتشار الجمعي للأصوات
المحتملة في سياق تعاطف كوني يتجاوز المركزيات التاريخية،
والنهايات.
وبصدد أصالة التعدد في الصوت الواحد، يرى كازنتزاكيس أن الصيحة
لا تصدر عنك، وأنه حين تتحدث، فلست مَن يتكلم، ولكن عددا
لانهائيا مِن الأسلاف ينطق بلسانك، وترافقك رغباتهم، أما
الموتى فيحددون مشيئتك وسلوكك..
(راجع، كازنتزاكيس، تصوف، ت: سيد أحمد علي،
دار المدى بسورية، ص 32).
هكذا ينتشر صوت الآخر في الواحد، ليفكك حضوره الأول، ونهاياته
المحتملة في آن؛ فالقبر سلم في النص، والصوت يرث آثار بيكيت،
والسندباد، ولوركا مثلا.
يقول في سياق استرجاع مسرح بيكيت في قصيدة توريث:
"لكنني ذات حياةٍ
كتبتُ مسرحيةً حُروفيّةً كبرى
عن الانتظارِ العبثيّ،
مسرحية لم يشاهدها أحد
لأنّه لم يمثّلها أحد."
ص 26.
ويتناص المقطع مع مسرحية "في انتظار غودو لبيكيت"، ويذكرنا
بوقفات بيكيت، ورؤى الصمت الجمالية عنده كما أوّلها إيهاب حسن،
ولكنه هنا صمت مضاعف، يؤكد انتشار العبث فيما وراء الخشبة،
والجمهور، والسياق الفني برمته؛ ويذكرنا تأجيل العرض الصامت
بالحوار بين فلاديمير، والصبي في مسرحية بيكيت؛ فمعرفتهما
بالذات، والآخر مفككة، ومؤجلة.
وقد جاءت صورة السندباد الإشكالية في التراث متناقضة، ومؤولة
بصورة البطل المهزوم الذي يشبه مسخ كافكا، واختلطت النقطة
بتضاعف الحياة، وتضاعف الفراغ معا؛ وكأنها أثر للذات يقع بين
الوجود، والاختفاء.
وأرى أن ديوان "رقصة الحرف الأخيرة" حلقة تحمل دلالات التعدد،
والتناقض الجمالي بين التعاطف الكوني، والتفكك في مشروع أديب
كمال الدين الإبداعي الذي يقوم على إعادة تشكيل صور الحرف،
وأصواته الاستعارية الأخرى، وهي تيمة فريدة في الشعر العربي
المعاصر.
********************
رقصة الحرف الأخيرة، شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف،
بيروت/ لبنان 2015.
نشوء الصوت الشعري في الصور وتشكيلات الحرف
قراءة في (إشارات الألف) لأديب كمال الدين
د. محمد سمير عبد السلام
ناقد وأكاديمي مصري
تجمع كتابة الشاعر العراقي المبدع أديب كمال الدين بين البحث
عن الحضور الشعري للصوت المبدع، وتعاليه الروحي المتجاوز
لمركزية التجسد الفيزيقي، والاحتفاء بصيرورة الأثر الجمالي
للذات، وتعددية حضوره التمثيلي الاستعاري في الخطاب الشعري؛
ومن ثم فالتصوف يستشرف نقاء الصوت المتكلم، وإمكانية استبداله
بصوت الآخر/ الآخرين في الوقت نفسه؛ فالمناجاة– في خطاب أديب
كمال الدين الشعري– تشير إلى دائرية الصوت، واستنزافه لبنية
الحضور التاريخي، والفيزيقي، وتؤول الكينونة النسبية من خلال
تداخلها المحتمل مع الأثر الفني الجمالي، أو الأصوات المحتملة
للآخر؛ وهو ما يذكرنا بمدلول التصوف طبقا لنيقوس كازنتزاكيس،
فضلا عن استشراف الصوت لموقف المناجاة، وما يحمله من تكشف
للإشارات، ومعاينة الخبرات الرؤيوية السماوية مثلما هو في
كتابات النفري في المواقف والمخاطبات؛ فالتصوف– في خطاب أديب
كمال الدين الشعري– عالمي، ويحتفي بالاستبدال، والحضور
التشبيهي المتعدد للذات، وبالتناقض النيتشوي، وبالنشوء الجمالي
الآخر في الفضاءات الجمالية المحتملة، والمتداخلة، كما يحتفي
بالتحول السردي للكينونة، وتجاوزها للنهايات التي تشير إلى
بدايات تمثيلية، وطيفية جديدة في النص، وتداعياته.
الكتابة هنا تحاكي بنى النهايات محاكاة ساخرة ما بعد حداثية؛
إذ تفكك الحضور الفيزيقي ابتداء، وتكشف عن تحولاته الطيفية في
المشهد الكوني، والفضاء السيميائي الفني المحتمل.
وتبدو هذه التيمات، والتقنيات الفنية واضحة في ديوان أديب كمال
الدين المعنون ب "إشارات الألف"؛ وقد صدر عن منشورات ضفاف
ببيروت، ط1، سنة 2014.
وتشير عتبة العنوان/ إشارات الألف إلى استمرار احتفاء خطاب
الشاعر بجماليات الحرف، ودلالاته الفنية، وتحولاته الجمالية،
وارتباطه بتأويل الذات، وعلامات العالم، وتناقضاته الإبداعية
المحتملة، وأسئلته، وتوافقيته التشكيلية، وتجانسه، وتفكك آثاره
في الوقت نفسه.
إن الحرف– في خطاب أديب كمال الدين الشعري– يتصل بالمدلول
الباطني المحتمل للذات، وعلامات العالم من جهة، ويشير إلى
التجسدات السيميائية الطيفية لكينونة المتكلم في صيرورة النص،
وتداعياته، ووظائفه الشعرية / السردية من جهة أخرى.
لا ينفصل المدلول التأويلي العميق للحرف هنا– إذاً– عن قوى
الاختلاف، والتعددية التمثيلية للأثر في النص؛ فهو يوحي بنقاء
لحظة الحضور الدائرية في الوعي، واللاوعي، وبالوفرة الجمالية
للعلامات التفسيرية الفنية، واستبدالاتها في النص.
ويرى رولان بارت– في كتابه هسهسة اللغة– أن الجمع– في النص– لا
يكمن في غموض مضامينه، وإنما يستند إلى ما يمكن تسميته
بالتعددية التجسيمية للدوال التي تنسجه؛ فالتعددية التي
يعاينها القارئ تنبع من السطح غير المتجانس، والأصوات،
والأشياء المنفصلة؛ إذ لا يستطيع النص أن يكون هو إلا في
اختلافه.
(راجع، رولان بارت، هسهسة اللغة، ترجمة: د. منذر عياشي، مركز
الإنماء الحضاري بحلب، ط1، سنة 1999، ص 90).
يشير بارت– إذاً– إلى التعددية السيميائية الكامنة في بنية
النص نفسها من جهة، وإلى امتدادها في فعل القراءة، وارتكازه
على قوى الاختلاف نفسها من جهة أخرى.
وإن الصوت لينبعث فيما وراء بنيته الأولى– في ديوان أديب كمال
الدين– وينفتح على جماليات الأثر، وامتزاجه الممكن بالفراغ، أو
الحضور الطيفي الآخر المؤول للكينونة، والمؤجل للنهايات في
بنيتها؛ وكأنّ الحرف يوشك أن يحتل الفضاء الجمالي؛ ليوحي
بتعالي الصوت، وبدايات كتابة جديدة، أو نشوء تفسيري سيميائي
آخر في المشهد.
* تفكيك بنية التجسد:
يشير الصوت المتكلم إلى خبرته الرؤيوية السماوية بينما ينسج
فضاء تجريبيا يوحي بالأثر الجمالي التفسيري للصوت، وعلاقته
بالفراغ، والحياة الجمالية للصورة فيما وراء التجلي الفيزيقي
للذات، وعلامات العالم. يقول في نص إشارة من أنا:
"
إلهي،
حينَ مشيتُ وسطَ المقبرةِ الكبرى،
كانَ القمرُ يملأُ ظهرَ القبور
بفضّته القصوى.
وكنتُ أكلّمُ نفْسي،
حينَ تناثرَ بعضُ عظامِ الموتى
فوقَ الأرض،
كنتُ أكلّمُ نفْسي
بكلامٍ لا معنى له:
مَن أنا؟
ولماذا جئتُ
إلى هذي المقبرة الكبرى؟".
ص 294.
تبزغ الإشراقة الداخلية للذات في تعارض تشكيلي سيميائي ما بعد
حداثي مع فضاء القبور الجمالي، وتناقضاته الإبداعية بين
استشراف النهايات، والحياة التصويرية المحتملة للموتي في علامة
النور، وفيما وراء بنية التجسد التي تشير إلى طاقة السؤال،
واستنبات أصوات الموتى فيما وراء السكون الظاهر.
إن السؤال– في الخطاب– يوحي بالتمرد، ومقاومة بنية الموت،
وصخبه، كما تبدو المقبرة الكبرى كعلامة تفسيرية تتضمن تاريخ
الصراع الأرضي، ووفرة النهايات، وتأجيلها في حياتها الأخرى
الكامنة في إشراقة الصوت الداخلية، ومعاينته للنور، وللعب
الأصوات الممكن في المشهد.
وقد يتعارض حضور المتكلم الدائري المتعالي مع إشارات الرعب
الأرضي، وتاريخه في نص إشارة الشمعة، إذ ينقل الصوت نفسه في
علامة الشمعة بينما يمارس إغواء النهايات المؤجلة؛ ومن ثم تبدو
الشمعة بديلة لبنية التجسد، ومؤجلة لصخب النهايات. يقول:
"فارتبكتُ
من منظرِ الدَّم
والحروب
والجُثث.
ارتبكتُ حدّ أنّني أشعلتُ قلبي
شمعةً
وسطَ هذا الظلام المخيف.
أشعلتُه ومضيتُ إلى حَتْفي
كالأعمى."
ص 263.
تشير عتبة عنوان القصيدة إلى تفكيك بنية الرعب في استبدال
التجسد بالنور في الخطاب الشعري، أو بعلاقات القوى المنتجة
للحضارة في مقابل بنى الصراع العبثي، وتواترها التاريخي؛
فعلامة الشمعة تومئ بتشكل للضمير الذاتي الكوني في فراغ مضاعف،
أو في ظلمة متواترة لصورة الدم في فضاء إنساني عابر للأزمنة؛
الشمعة تخترق صخب الموت في الماضي، وفي لحظة الحضور، وتؤجل
النهايات، والتجسد معا باتجاه عالم جمالي يحمل أثر النهايات،
ويستنزفها في الآن نفسه.
ويسخر خطاب المتكلم من بنية الانتصار، ومن بنية الحضور
الفيزيقي في نص إشارة نهاية الحرب؛ وكأنه يؤجل اكتمال بنية
الحرب نفسها في تشوه كل من علامتي الذات، والآخر ضمن الفضاء
الجمالي الاستعاري للمتكلم نفسه؛ وهو ما يذكرنا بتصور فرويد
حول ارتباط الصراع الداخلي بموت الفرد؛ فالنص يشير- في نسقه
العلاماتي- إلى تكثيف بنى الصراع الكبرى، والجزئية في علامة
الذات التي تتصل – روحيا – بتأويل التاريخ، والأسطورة. يقول:
"إلهي،
خرجتُ من الحربِ منتصراً،
حرب الطغاةِ والأوغادِ والأعدقاء.
خرجتُ منتصراً
أجرُّ جثّتي بيدي في الطرقات
ليلَ نهار!"
ص 247.
ثمة سخرية ما بعد حداثية – في النص – من بنية انتصار تاريخي
كثيف، وزائف؛ فقد انتقل تاريخ الحروب إلى عالم الأحلام، والصور
في وعي، ولا وعي المتكلم، ويبدو حضور المتكلم هنا كتمثيل
استعاري لعذاب برومثيوس الأبدي؛ فكل من الأنا، والآخر يكمن
بداخله، وفي فضائه الذي يسخر من النهايات، ومن مركزية التجسد
معا في الصورة الحلمية التي تستشرف ما وراء الحروب، ونهاياتها
العبثية.
وقد تتجلى الهوية التمثيلية الاستعارية للذات كبديل عن مركزية
الموت في فعل الكتابة، واستبدالاته؛ إذ يشير خطاب المتكلم
الشعري إلى الوجود الفني الآخر للذات، وتعدديته فيما يشبه
الولادات النصية المتجددة، والمؤجلة لبنية الموت. يقول في نص
إشارة الإشارة:
"إلهي،
الكلُّ مرعوبٌ من الموت
إلّاي!
فأنا فكّرتُ فيه حتّى احترقتُ
رماداً تذروهُ الرِّياح،
ثمَّ فكّرتُ فيه حتّى غرقتُ
وأكلَ سمكُ القرشِ جُثّتي،
ثمَّ فكّرتُ فيه حتّى جُننتُ
درويشاً أعمى يهذي بأسرار الحروف
ليلَ نهار.
وهكذا صارَ الموتُ خفيفاً عليّ
أخفّ من الحريقِ والغرقِ والجنون!"
ص 234.
يرتكز الخطاب الشعري على الوجود التصويري المؤجل لبنية النص في
وعي المتكلم؛ فالذات تستبدل بعلامات الرماد، والغرق، والجنون
في أزمنة، وفضاءات تعددية، تتجاوز التجسد التاريخي، وتعيين
الهوية؛ ومن ثم تفكك بنية الموت من داخل غياب إبداعي مضاعف في
تحولات الصور الاستعارية، والتشبيهات؛ وكأن الكينونة تنبعث في
الولادة المتجددة للحرف، ومدلوله الباطني الجمالي، وتأويلاته
المجازية في المشهد الكوني الداخلي، وفي تداعيات الكتابة،
وتشكيلاتها.
ويشير تكرار الصوت الموازي لتكرار بنية الموت إلى إغواء التجدد
في بنية إبداعية للفراغ أو الغياب الذي يتراوح مع حضور تصويري
يفكك مدلول كل من الموت، والتجسد في النص.
وقد يستشرف خطاب المتكلم سيرا تخيلية/ شعرية محتملة للذات،
وكأنها تمتزج بأصوات الآخر/ الآخرين من الواقع، وتاريخ الفن.
يقول في نص إشارة لما حدث:
"ولم ينصفني
أولئك الذين جاءوا
من بعد
وقتلوني
بسيوفهم الصدئة
وخناجرهم المسمومة،
ولا
أولئك الذين رأوني
في آخر العمر
شحّاذاً أبكي على بابِك،
فاستكثروا عليَّ ذلك
فَمَثَّلوا بجثّتي فرحين
وبحروفي مسرورين!"
ص 214، 215.
يحتفي الصوت بحضوره الاحتمالي المستعاد من أصوات الماضي،
والحكايات، وعوالم الفن؛ وكأنه ينسج تاريخا آخر، وسيرا تشبيهية
محتملة تؤول الموت ضمن صيرورة الحياة، وتحولات الأثر، وحياة
الأصوات الأخرى في وعي، ولا وعي الذات المتكلمة.
ويومئ المتكلم إلى استبدال تشكيل الحرف، وجمالياته للجسد؛
فالتمثيل بالحرف يأتي كقتل معلق، أو مؤجل، كما يقترن الحرف
بالصوت المتكلم، وهويته المتجاوزة لبنية الموت؛ فهو نواة
تشكيلية تشبيهية لعودة الصوت من الماضي، أو التباسه بالآخر، أو
حضوره كأثر جمالي في فضاء سيميائي شعري في المستقبل.
* تكرار النشوء، والتحول السردي للصوت:
لا ينفصل تشكيل الحرف عن الحضور التصويري الطيفي البديل في
كتابة أديب كمال الدين؛ فالصوت ينبعث في تشكيلات الحرف،
وعلاماته التأويلية، وفي انبعاث الأصوات، والأطياف في تحولات
السرد الشعري التفسيري للكينونة؛ يقول في نص إشارة هل:
"ومن بئرِ الحرمانِ في قلبي،
أتقطّعُ شوقاً
أو حزناً
وأذوبُ، أذوبُ، أذوب
حتّى أتحوّل إلى حرفٍ
أو نقطة؟"
ص 300.
يشير الحرف إلى التناغم، أو التجانس في لحظة النشوء الآخر
للكينونة؛ فالتلاشي في وظائف السرد الشعري، يولد وفرة لحظات
النشوء في الأثر الجمالي للحرف، وللنقطة التي يتنازعها المحو،
والوجود؛ مثلما هو في تصور دريدا حول الأثر.
إن الذات هنا تشبه استبدالات العلامة في الكتابة الأولى؛
فالنقطة تؤول حضور الذات، وتستبدل نشوءها الأول باتجاه النشوء
الآخر الذي يوحي باستشراف الإكمال في نص قيد التشكل دائما.
وقد يستعيد الخطاب، ولغته الشعرية الاحتمالية ما بعد الحداثية
أطياف الماضي ضمن العالم الداخلي للمتكلم؛ وكأنها تجدد النشوء
في تعاطف الصوت مع إشراقات الصور، والأصوات المجردة العابرة
للزمكانية؛ يقول في نص إشارة الحرب:
"إلهي،
هل أشبهُ هذا الملك المجنون؟
أم أشبهُ هذا الجنديّ المقتول؟
أم أشبهُ هذه الحرب التي لم تحدثْ أبداً،
أعني هذه الحرب التي تحدثُ كلّ يوم؟"
ص 213.
يعيد المتكلم تأويل ذاته عبر مزح أطياف الماضي في المشهد؛ مثل
شبحي نبوخذ نصر، وكاليجولا، ويستشرف وفرة الحرب، وتشبيهاتها
المحتملة، وغيابها المضاعف الذي يذكرنا باستباق العالم
الافتراضي للحرب في تصور بودريار؛ فالصخب الطيفي للحرب،
ولأطياف التاريخ يمتزج بنشوء الصوت الآخر في فعل الكتابة.
* التداخل بين الفن، والواقع:
يراوح المتكلم – في خطابه – بين الواقع، والفضاء السيميائي
التجريبي الفني في النص، ويستعيد أصداء، وأطياف الحكايات،
والأعمال الفنية في عالمه الداخلي، وفي قاعة عرض محتملة تفكك
مركزية الواقع؛ يقول في نص إشارة القاعة:
"إلهي،
في القاعةِ المُطلّةِ على البحر
غنّيتُ أغنيةَ السَّفينةِ التائهة
ثُمَّ أغنيةَ السَّفينةِ المهجورة
ثُمَّ أغنيةَ السَّفينةِ الغارقة.
لم يكنْ في القاعةِ أحدٌ أبداً
لكنّي لم أستسلمْ،
صافحتُ الجمهورَ واحداً واحداً
وشكرتُه واحداً واحداً
ثُمَّ أغلقتُ البابَ مُرتبكاً
فتلقّفني الشَّارعُ
ومضيتُ إلى حيث لا أدري."
ص 220
القاعة توحي بعرض للأصوات، والتشكيلات الجمالية، والآثار التي
توحي بتجدد عوالم الفن، ونماذج الذاكرة الجمعية في وجود شبحي
يقع بين وعي المتكلم، والفراغ الإبداعي للفضاء التجريبي
للقاعة.
وتذكرنا السفن المستعادة من أطياف الفن، والتاريخ بعوالم
شكسبير في العاصفة، وعوالم يوجين أونيل، وأطياف السفينة
السحرية عند ماركيز؛ وكأن العرض يستنزف فضاء القاعة باتجاه لعب
العلامات، والأصوات.
* الاختلاف، والتناقض الإبداعي في بنية الحرف:
قد يمتزج كل من التناغم، أو الهارموني، وبنية التلاشي، أو
التفكك في مدلول الحرف نفسه، وإيماءاته، وتأويلاته؛ وهو ما
يؤكد التناقض النيتشوي ما بعد الحداثي في تشكيل الحرف، وبنيته،
وأصالة قوى الاختلاف التصويرية، والدلالية في نص أديب كمال
الدين؛ يقول في نص إشارة السين:
"لكنّي من بعد سنين وسنين
أنامُ سعيداً وسطَ الشَّارع،
وسطَ كوابيس السِّين:
إذ أضعُ على الأرضِ جسدي
لكنْ مِن دونِ رأس،
وأضعُ على الأرضِ رأسي
لكنْ مِن دونِ عينين أو شفتين."
ص 218
لقد اقترن الحرف بالغناء، وبالتمزق الذي يشبه تمزق ديونسيوس في
تصور نيتشه؛ الحرف تشكيل، يعيد إنتاج الكينونة، ويؤجلها في
مساحة من الفراغ، ويعيد التساؤل حول دورات الوجود، وماهيته.
**********************************
- إشارات الألف، شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت،
لبنان
2014.
حدود الأسى وأفق الفرح الإنساني في (إشارات الألف)
لأديب كمال الدين
د. محمد المسعودي
ناقد وأكاديمي مغربي
ننطلق في مقاربة هذين البعدين المشكلين لقصائد الديوان من
عينات وقع اختيارنا عليها بعد طول تأمل في الكتاب وتدبر
لنصوصه. وهكذا وقع الاختيار على النصوص الآتية التي سنتناولها
بالتدرج:
1 - يقول الشاعر في نص "إشارة الغريق":
"
إلهي،
كلّهم اختاروا العبور
فوقَ الجسر
فعبروهُ فرحين مسرورين
إلّاي.
إذ اختارَ قلبي الطَّيَرَانَ فوقَ الجسر.
ولأنّي لا أملكُ جناحين للطيَرَان
فقد سقطتُ
وتلقّفني الماء،
وصارَ عليَّ أن أمرّ
من تحتِ الجسر
غريقاً كلّ يوم،
غريقاً
يلفظُ أنفاسَه الأخيرةَ كلّ يوم."
.
ص 26
يصوّر هذا النص، في منطوقه الشعري، حالة الذات الشاعرة التي
اختارت طريقا آخر للوصول إلى الذات الإلهية وعشقها، إنه طريق
الفناء: الغرق كل يوم، ولفظ الأنفاس الأخيرة كل يوم. وهو طريق
الحالم المحلق بالوجد والخيال، الطائر بأجنحة لا يملك بها سوى
مزيد من العناء والضنى. بهذه الشاكلة يجسد الشاعر شعور الأسى
الذي يتلبسه، وهو يعاني من أجل الوصول والقربى. ولذلك كانت
المفارقة الشعرية ميسم بناء هذا النص ومن علاماته المميزة:
الآخرون في عبورهم فرحين مسرورين على الجسر في مقابل الذات
الشاعرة الحالمة بعبور من نوع آخر، لكنها تسقط في الماء ويصبح
الألم اليومي ديدنها، والموت المستمر وسيلتها للقربى. إنها
مفارقة الفناء والبقاء، والحزن والفرح، والسعادة والشقاء التي
تسكن نسغ الكينونة الإنسانية. وعلى الرغم من أن الشاعر يوظف
ضمير المتكلم المفرد إلا أن الحالة التي يصورها تشمل آخرين
ساروا على درب الشاعر وارتضوا الغرق مثله.
هكذا يصنع النص عوالمه الشعرية من خلال تجاذب قطبي الأسى
والفرح، وعن طريقهما تتشكل صوره الشعرية الشفيفة. وهي شعرية
تقول الكثير في تعبير يسير. وهذه لمحة مهمة من لمحات شعرية
أديب كمال الدين
.
2
- ويقول الشاعر في نص "إشارة العذاب":
"إلهي،
تخلقُ الجسدَ مُلتاعاً بالنَّار
وتلقيه إلى الأرض،
تلقيه إلى أسفل سافلين
كي يذوبَ شوقاً ودموعاً ورغبة.
أين المفر؟
حدودُكَ محاطةٌ بنهرِ النَّار.
وعقابُكَ سيفٌ بتّار
أعرفُ وميضَه
مثلما أعرفُ أصابع كفّي.
والجسدُ يتعذّبُ ليلَ نهار!
أما مِن رحمةٍ يا مَن اسمه الرَّحمة؟
أما مِن غوثٍ يا مَن لا مغيث سواه؟
لا مطركَ ينزل
ولا النَّار تبرد
ولا الجسد يكفُّ عن الشَّوقِ والدَّمعِ والأنين!"
ص 39-40
يرتقي النص الذي نقف عنده، هنا، إلى مستوى أعلى من مستويات
التعبير عن الأسى الذي يسكن الروح. إنه يتخذ لبوس النجوى،
وإهاب العتاب والشكوى. وهو يصور لوعة الشوق، وهملان الدمع،
وتعالي الأنين في بوح شعري صارخ بالعشق والمحبة، على الرغم من
أن المحبوب يأبى إلا أن يرى المحب يتضرع بالشكوى ويغرق في
الألم حتى الثمالة. ويستعمل الشاعر سمة المفارقة أساسا لتشكيل
متخيله الشعري في هذه القصيدة، أيضا: إنه يتحدث عن معاناة
الجسد، عن احتراقه بالنار، وشعوره بلهيبها وقسوتها، غير أن
الإشارة تمضي إلى الروح التي تكابد الشوق والألم، وتصاعد أنينا
ولوعة. وعن طريق هذه المواراة والمداورة يتمكن الشاعر من تشخيص
واقع حال الإنسان الذي يتوزع بين الجسد والروح، والأنين
والانتشاء، والموت والبقاء في سيرورة وجوده. وعبر هذه الشعرية
الصوفية يقول أديب كمال الدين في إشاراته الدالة معاني كثيرة،
ما نقف عنده في هذا الحيز مجرد ظلال منها. وهي شعرية تميل إلى
بلاغة الإيجاز، واللمحات الشعرية الدالة الخاطفة.
3 - أما نص
"إشارة الطريق"، فيعزف على نغمة أخرى:
" إلهي،
في الطريقِ إليك،
عبرتُ نهرَ الخوفِ ثلاثَ مرّات
ونهرَ الحُبِّ سبعَ مرّات
ونهرَ الموتِ أربعين مرّة.
وكنتُ مضيئاً
إذ لم أعدْ أسمع رنينَ الذهب
ولا أرى جناحَ غرابِ الشَّهوةِ الذي تبعني،
مِن قبل، كظلِّي.
في الطريقِ إليك
كنتُ سعيداً كغيمة
لأنّني احتفظتُ في قلبي بلغةِ الماء
ونقطةِ الحرف
وجمرةِ المحبّة."
ص 50
إذا كان الجسد يلقى العذاب والألم، والروح تشقى في سبيل
الوصول، كما رأينا في النص السابق، فإن السعادة والفرح قرينا
المحبة. هذه المحبة التي تجعل الذات الشاعرة تنسى كل عذاب،
إنها الماء الذي يجعل الغيمة حبلى بالغيث، أو الذات الشاعرة
حبلى بلغة العطاء والخير، وبجمر المحبة، وبهاء نقطة الحرف الذي
ينطق عن هذه الذات وبها. بهذه الشاكلة يعزف النص على نغمة محبة
الذات الإلهية ليجعلها بابا نحو الفرح الإنساني، وأسا من أسس
سعادة الإنسان. وقد كانت المحبة وسيلة طهارة من غراب الشهوة،
ورنين الذهب، بحيث تألقت الروح وأضاءت بنور ربها. ولم يكن هذا
العبور السعيد نحو المحبة سوى نتيجة خوف وحب وفناء. هكذا يتولد
الفرح من الحزن، والسعادة من الشقاء، والبقاء من الموت. وبهذه
الشعرية المحلقة في تنويعات صوفية فريدة ومتنوعة يشكل أديب
كمال الدين شعريته الفريدة التي تغرد على نغمات مخصوصة غير
مسبوقة في الشعرية العربية، وهي شعرية، لا شك، تجد جذورها
ضاربة في المتخيل الصوفي العربي الإسلامي، وفي العرفان
الإنساني، كما لا يخفى على قارئ هذه التجربة، وعلى المتأمل في
صورها، وفي بناء عوالمها.
4
- وبالنسبة إلى نص "إشارة الأخضر" فتتسع حالة البهجة والإحساس
بها لتصير بهجة لا تتصل بفرح الوصول، وبسعادة المحبة، وإنما
لتحتفي بالموجود بما أنه دال على الموجد الأول الذي تتغنى به
الذات الشاعرة دائما وتجعله ديدنها وغايتها. يقول الشاعر:
"
إلهي،
رأيتُ الأخضرَ في الأشجار،
في العشب،
في الحُبِّ وفي الشَّوق،
في ضحكاتِ الأطفال.
فلبستُ الأخضرَ ليلَ نهار."
ص131
هكذا يصبح لون الطبيعة الغالب، وهو الأخضر، سمة الشاعر ولباسه
الذي يدل على بهجته وفرحه. وهي البهجة التي يشترك فيها مع
عناصر أخرى، بل يستمدها من الوجود والحياة: من الأشجار،
والعشب، والحب والشوق، وضحكات الأطفال. وهكذا صار الأخضر لباسه
الأبدي الذي يرتديه ليل نهار. وبهذه الشاكلة يجذر الشاعر حالة
الفرح لتصبح حالة كونية متصلة بالطبيعة وبالإنسان. وبهذه
الشاكلة، أيضا، يرتقي الفرح من مستواه الإنساني ليكون ميسم
الكون، وعلامة دالة على خالق الفرح وخالق الوجود. وهذا النص
الشعري المكثف يقول هذه المعاني وظلال أخرى عبر بلاغته
الإشارية الدالة. ونصوص أديب كمال الدين غنية بإشارتها التي لا
تعد هذه القبسات التي نقتبسها منها مجرد إلماحات عبرت روحنا
ومخيلتنا ونحن نتلقاها، وأكيد أن القراء سيلقون فيها الكثير من
الدلالات التي حُجبت عنا.
وفي ختام هذه القراءة للنصوص المشتغل بها، ومن خلال الديوان
نلمس أن الخطاب فيها جميعا يتجه إلى الذات الإلهية التي
يخاطبها الشاعر، خطاب لوعة وأسى وعشق وشوق وظمأ وضنى، كما
يخاطبها خطاب نشوة وفرح وسكينة واطمئنان وري وخلو من كل هم.
وهذا التوزع بين الخطابين يكشف عن ذات تستشعر القلق وتتغيا
الطمأنينة. وبهذه الكيفية لا تقف هذه الإشارات عند معناها
الصوفي الذي يستبطن المعنى الخفي والدلالة المتوارية، فحسب،
وإنما هي إشارات تفصح عن مكنون الذات الشاعرة، وتعبر عن رؤياها
من خلال بلاغة شعرية تقصد الشفافية والوضوح، وتنبني على جمالية
البوح والإفصاح. وبهذه الكيفية ينبني متخيل الديوان، ككل، على
لمحات صوفية جلى، وعلى نغمات شعرية تجمع الأسى والفرح في رؤية
إنسانية عميقة لها جذور في الكون والحياة.
***********************************
إشارت الألف ، شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت،
لبنان
2014.
شعريّة النصّ في مجموعة
)الحرف
والغراب)
لأديب كمال الدين
مُقاربة نقديّة
د.
محمّد فاضل المِشلَب
ناقد وأكاديمي عراقي
مدخل
تبتغي هذه الدراسة الوقوف على لغة شاعر عراقي عُرف بوفرة نتاجه
الشّعري وأسلوبه ذي الملمح المأنوس عند قرّاء قصائده عامّةً،
فمنذ نتاجه الأول (تفاصيل) العام 1976 واضبَ أديب كمال الدّين
على انضاج إصداراته الشعريّة بلغة غير مُتوحّشة، تنبذُ غرابة
الرّصف، وفداحة المعنى، وتنحازُ لتشكيل المعنى وآفاقه بلا
تلاعب وعر، ودون تقليب "هذياني" للمجاز البلاغي، ولا يظن
المتلقي أنّه يميلُ للغة العادية، بل في كونه يكتبُ شعرًا
بلغةِ يومه وعصره، إذ يحتفي عموم شعره بالتشكيل اللفظي الواضح،
غير المركون في المقبرة اللسانية لو صحّ الوصف، بلغة يعيها
الشاعر، ويمارسُ غوايته بتشكيلها أشعارًا وحيوات، أو كما تعبّر
الشاعرة نازك الملائكة بالقول: ((اللغة إن لم تركض مع الحياة
ماتت))([81]).
وكي نحيط بلغة النصِّ الشّعري المُنتخب عينةً هنا، سنتناولها
باستفاضة في مجموعة (الحرف والغراب) على مطالب ثلاثة تختصُّ
بمحتويات المجموعة المختارة، يسبقها مهاد نظري عن اللغة
الشعريّة بوصفها الأداة الأولى التي نقرأ عن طريقها النصوص
نقديًا، على وفق منهجٍ قائمٍ على رصدِ قصائد المجموعة فنيًا،
واستنطاقها نقديًا، ووصف موضوعاتها وفلسفتها الكامنة في كلّ
موضوع.
اللغة الشعريّة / مهاد نظري:
من البديهي أنّ الشعرَ قوةٌ لغويّة لا تتأتى لأيّ إنسان،
ومقدرة إبداعية لا تتجلى بسهولة، فـ((الشعر هو طاقة الكلام
الثانية، هو سلطة من السحر والافتتان))([82])،
وهذه الطاقة هي من تميّز الشعراء وتصنّف نصوصهم، فيما تؤول
سلطة الشعر، ولغته إلى تحريك عواطفٍ معينة، في نفسِ المتلقي،
على اعتبار أن ((النصوص الشعريّة مصمّمة أساسًا لكي تثير فينا
القلق قبل كلّ شيء))([83]).
هذا ما يخصُّ فكرة الشعر، هويته، روحه، أما الألفاظ المُشكّلة
للغة الشعر، فهي كما يرى
عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ): ((لا تُفيد حتى تُؤَلَّف ضربًا
خاصًّا من التأليف، ويُعمَد بها إلى وجهٍ دون وجهٍ من التركيب
والترتيب))([84])،
ولو أردنا وصف اللغة الشعريّة وأن نقارب تشكيلها الاصطلاحي
نذهبُ للقولِ ((بأنها رسم قوامه الكلمات المشحونة بالأحاسيس
والعاطفة))([85])،
وهي كذلك ((تصوير للانفعال المتأجّج في نفس الشاعر، ومنح
الكلمات قوة تعبيرية خلّاقة تشعّ بمعانٍ جديدة، لم تكن تمثّلها
اللّغة في حالة الاستعمال اليومي)([86])،
وهي عند دارسٍ آخر أنها ((ليست هي لغة الحياة المتواكبة مع
حاجات الناس، هذه هي اللغة الوضعية النفعية، اللغة النمطية،
بينما لغة الشعر هي تلك اللغة التي تعنى بالظلال النفسية
والدلالات الوجدانية، وتجسيد الأحاسيس والمشاعر الإنسانيّة))([87])،
وما يمنح اللغة الشعريّة تلك الطاقة التعبيرية والقوة
المُحلّقة في الفضاء هو الخيال، الذي يمسُّ كيان الشاعر،
ويهبهُ فرصة التجوال فوق أقاليم اللغة، إذ يصبحُ الخيال
((قوّةَ تصوّرٍ نستطيع بواسطتها إيجاد صور ذهنية نجسّدها
بالكلمات))([88])،
وهذا ما جعل سيسيل دي لويس من الخيال شرطًا أساسيًا لتشكيل لغة
شعريّة.
إذ يمكن القول إنّ الشّعر يكتسبُ هويّته ((من خلال اللغة،
وحياته هي حياتها، هي بذرتها الأولى، وطاقته، وما يؤجج فيه
قابلية الأثر، والفاعلية، ويهبه الأبعاد الأدبية، الجمالية
التي يحيا بمظاهرها))([89])،
وعليه تنمازُ اللغة الشعريّة عن اللغة اليوميّة (النفعيّة)،
والعلميّة بأنّها تبتغي تحرير الطاقة الداخلية للغة، وبموطئات
استعارية، تتجاوزُ أفق المألوف، لتحلَّ في المقام السَّامي
(الشعر).
لكلّ شاعر معجمه اللغوي الخاص الذي يُهيئ من خلاله قصيدته،
معجم يُضيف إليه ويعدّل عليه، كلما مرّت السنون، وتغايرت
التجارب الحياتية، والمعرفية ونضجت، فتتغاير لغة النصوص،
وتتنوع على مقاماتٍ صوريّة شتى. وعليه بعد الاطلاع على مجموعة
(الحرف والغراب) للشاعر أديب كمال الدّين أمكن حصرَ حقول اللغة
الأدبية الواردة في المجموعة هذه في اتجاهين هما: حقل شعريّة
الطبيعة، وحقل شعريّة الرثاء، التي نحاولُ مقاربتها نقديًا
والوقوف عليها استنطاقًا لِمَا وراء القول الشعريّ.
أولاً/ شعريّة الطبيعة
تحفلُ مجموعة (الحرف والغراب) بمعجم لغوي ينتمي أكثره إلى
مفردات الطبيعة، عن طريق فرعيها المتحرّك والصامت، فالمتحرّك
هي الطبيعة التي تُصنّف بحسب الطير والحيوان والحشرات، أمّا
الصامتة فهي ما تؤول إلى الأشجار والبحار والأنهار والأحجار
وما شابه ذلك([90]).
احتفت لغة أديب كمال الدّين في مجموعة الحرف والغراب،
بالطيبعة، بعناصرها المتعدّدة، بحيث أمكنَ التعبير ((إن
ترديدها ضمن تشكيلة سياقية، يشير إلى حالة نفسية تسكن الشاعر))([91])،
وعندما نأتي لقراءة أول نصٍّ افتتح به الشاعر مجموعته، كان
عنوانه (الغراب والحمامة)، إذ وضِعا كرمزين يشيرُ فيهما الشاعر
إلى ثنائية الشر والخير، تلك الثنائية التي جُبلَ عليها
الإنسان، منذ قابيل وهابيل، وما انفك ذلك الصراع المرير، الذي
عانت منه - ولا زالت –البشريّة، إذ يقولُ:
((حينَ
طارَ الغرابُ ولم يرجعْ
صرخَ النَّاسُ وسطَ سفينةِ نوح مرعوبين.
وحدي - وقد كنتُ طفلاً صغيراً
-
رأيتُ جناحَ الغراب،
أعني رأيتُ سوادَ الجناح،
فرميتُ الغرابَ بحجر.
هل أصبتُه؟
لا أدري.
هل أصبتُ منه مَقْتَلاً؟
لا أدري.
لماذا كنتُ وحدي الذي رأى
سوادَ الغراب
ولم يره النَّاس؟))([92]).
فالشاعرُ وضعَ نفسهُ وسط حشدٍ بشري، في مكان عُرف في مختلفِ
الحضارات والأديان أنّه مكان للأمن والنجاة، أعني سفينة نوحٍ،
التي صارت ملجأ الخائفين ممن آمنوا بالنبي نوح (ع)، والمكان
هذا كان وسط دوّامة ستحلُّ فيها الكوارث، واللعنات، لأسبابٍ
عدّة، فالشاعر تحدّث من خلال القصيدة بلسانِ طفل صغير، في
إشارة إلى البراءة الحقّة، والفطرة الأولى السليمة غير
الملوثة، وهو وفقًا لذلك كان الوحيد الذي شاهد الغراب،
المتدثّر بهالة الشؤم والنحس والكراهية عند الناس([93])،
وكأنّما البقية ممن كان في رحلة النجاة تلك، لم يرَ الغراب،
لكثرة آثامهم، وذنوبهم، ولم يقتصر على الطفل المشاهدة فحسب، بل
تعدّى لمحاولة إبعاد الشّر، ومنعهُ من الالتحاق بركبِ
السّفينة، فيما كان المقطع الثاني من القصيدة، يستجلبُ رمزية
السّلام والمحبّة، الحمامة الشقُّ الثاني من العنوان، ومدلوله
للخير والوئام الذي يُراد فرضه على هذه الأرض:
((حينَ
عادت الحمامةُ بغصنِ الزيتون
صرخَ النَّاسُ وسطَ السَّفينةِ فرحين.
لكنَّ الغراب سرعانَ ما عاد
ليصيحَ بي بصوتٍ أجشّ:
أيّهذا الشقيّ لِمَ رميتني بالحجر؟
اقترب الغرابُ منّي
وضربني على عيني
فظهرت الحروفُ على جبيني
عنيفةً، مليئةً بالغموضِ والأسرار.
ثُمَّ نقرَ جمجمتي
فانبثقَ الدَّمُ عنيفاً كشلّال...
فاقتربت الحمامةُ منّي
ووضعتْ على رأسي حفنةَ رماد:
حفنةً صغيرة،
مليئةً بالغموضِ والأسرار))([94]).
فأسلوب الشاعر في هذا النصّ امتاز بوصفه سرديًا، يحكي لنا
صورته عن طريق الحكي داخل القصيدة، مع شخصيتي (الغراب
والحمامة)، وفعل كلّ منها معه، مع ذاته، واحد سلبي مظهره الدم،
والثاني ايجابي، مظهرهُ التساؤلات والمجازات.
أمّا في قصيدة (دروس) فيلجأُ الشاعر إلى أسلوب تقطيع قصيدته
إلى مقطوعاتٍ لكل واحدة منها عنوان،
ومنها المقطع الأول المعنون بـ(درس الفرات)، إذ نقرأُ:
((بعد
أن لعبنا معاً
ورقصنا معاً
وأطلقتُ نقطةَ القلبِ فيه لأوّل مرّة،
بعد أن غرقنا معاً
وسكرنا معاً
وسفحنا دمنا الزكيّ معاً
وضعنا معاً
مثل طفلين يتيمين في السُّوق،
قالَ لي الفرات
في لحظةِ صدقٍ عجيبة:
انجُ بنفْسك!
ففائي أكذوبةٌ
ورائي محضُ خيال.
رغم أنّ تائي طويلة،
أطول من سفينةِ نوح!
قالَ لي: انجُ بنفْسك!
فلم تعدْ هناك
فوقَ مائي الذي يمتدُّ من أقصى الخرافة
إلى أقصى الغيمة،
ومن أقصى الشَّمس
إلى أقصى الحرف،
لم تعدْ هناك
-
صدّقني
- أيّ سفينة!
ولم يعدْ هناك - وا أسفاه
- أيّ نوح!))([95]).
فتحضر العلاقة
الحميمية مع الطبيعة، مع أحد أعظم الأنهار على الأرض، وهو نهر
الفرات، أحد شريانيّ الحياة في العراق، فهو مهبط المشاكسات،
والنزوات البريئة، عبر مفردات (اللعب، الرقص، الغرق، السكر)
وكلها مفردات ضاجة بالحياة، أسهمت في تشكيل صورة البراءة
الأول، والطبيعة غير المستباحة، التي سرعان ما أظهر الشاعر
انتهاءها، وبداية زمن صعب، عسير، مليء بالانتهاكات،
والاستبداد، فخاطبه بفعلٍ راسخ في الذاكرة العراقيّة، (أنجُ)،
الذي لهُ صداهُ عند غير المنتمين أيام النظام الاستبدادي، ومن
لهُ رؤى مختلفة عن أهواء السلطة، الذي لن يكون عندهُ طوق نجاة
فيما لو بقي، وهذا ما عبّر عنه مجازًا باسم النبي نوح (ع) منقذ
البشرية.
وتساوقًا مع (درس الفرات)، يأتي (درس النسيان):
((حينَ
ركبتُ غيمةَ شبابي
جاءَ مَن يسألني أن أبيعها له.
وحينَ رفضتُ بقوّة
جاءت الرِّيحُ فدفعت الغيمةَ مِن تحتي
لأسقطَ إلى الأرض،
لأسقطَ كلّ يوم
دونَ أن أكفَّ عن هذا الدرس.
أعني أن أكفَّ عن تذكّرِ هذا الدرس المخيف،
الدرس العصيّ على نفْسه
وعليَّ وعلى النسيان!))([96]).
فوظّف مفردات الطبيعة المتحرّكة (الغيمة، الريح)؛ لتدليل على
انتهاء الأمل للمفرد، والوقوع في دائرة الاحباط، والرعب الذي
حاق بالإنسان العراقيّ منذ زمن بعيد، وهذا هو درس في فصاحة
القمع، الذي مورس على المجتمع.
الغربة في الطبيعة بوصفها مكانًا، سمة عايشها الشاعر في
قصائده، وعبّر عنها معجمه الشعريّ، عبر ثلاثة أمكنة هي
(بغداد)، وهي محل نشأته الثقافيّة والدراسيّة، فـ(بابل) وهي
محل ولادة الشاعر، ثمّ (سدني)، وهي مستقره الأخير، ومنفاه
المُختار، فيجمعُ طبيعة الأمكنة المذكورة، في نصِّه (مُبادلة)،
في حواريته التي دأبَ على الاشتغال الرّمزيّ فيها مع الحرف
والنقطة بوصفهما محمولين لهما حضورهما اللافت، في أغلب
مجموعاته، إذ يقول:
(أعطني،
أيّها الحرف،
نقطةَ باءِ بغداد
وسأعطيكَ طابعَ النسر
بمنقاره المعقوف
وذكرى حروبه البشعة)([97]).
فالشاعرُ وضعَ مُتلقيًا داخل القصيدة، يخاطبهُ، يحاورهُ،
بصفقةٍ تؤمّن له – إن تمّت – حياة ما كبيرة، فبينهُ وبين بغداد
الحلم، مُبادلة طمحَ لها الشاعر بوصفها مدينةً للسَّلام، مدينة
للحرف والثقافة، وبؤرة للعالم المُتحضِّر، كأيّام زهوها
البعيد، بدلا من محمولهِ "الموتي" المستعار له بلفظة "النسر"
الجاثم على صدرهِ مثل أيقونةٍ ثابتة، دون أن يغادرهُ، وهو ما
شكّل وطأة على ذات الشاعر، وعلى ذاكرته المثقوبة برصاص الحروب
المُتعددة.
فيما طمعَ الشاعر بالمكان بابل محل ولادته، وبواكيره الأولى،
بعدِّهِ حضنًا دافئًا يقيهِ من أرق الزمن، الذي فتّشَ عن
الخلود فيه مثل سلفه "جلجامش" لكن دون طائلٍ، ودون أن يصيبَ
هدف مطمحه:
((أو
أعطني
نقطةَ باءِ بابل
وسأعطيكَ طابعَ رأسِ كلكامش
وقد قُدَّ من صخرةِ الخيبةِ والخذلان
بعدما سرقت الأفعى
عُشبةَ الرُّوحِ منه
وهو نائمٌ يتوسّدُ حلمَ الخلود))([98]).
أمّا الخيار الطبيعي الأخير من المكان، فكان المنفى
الاختياريّ، الذي ارتضاهُ الشاعر؛ هروبًا آمنًا من هولِ
الفجيعة، التي عايشها إبان سنوات الدكتاتوريّة، وحروبها
العبثيّة، إذ صارت ذات الشاعر دريئة تتمرأى عليها طعناتُ
السنين، والزمن الذي مرّ بمراراتٍ وحسراتٍ شتّى، فيقولُ:
((أعطني،
إذن، أيّها الحرف،
نقطةَ نونِ سدني
وسأعطيكَ
طابعَ امرأةٍ من فتنةٍ واشتهاء
بيدها زهرة من هباء،
وطابعَ كهلٍ يهذي قصائده المتشظّية
وهو يقلّب كفّيه
على ما أنفقَ من عمرِه
في شقّتِه الضيّقة))([99])،
وهذا الاختيار لمكان النفي نرجحهُ الأقرب لنفسيّة الشّاعر.ومن
نصوص المجموعةِ المختلفة في محاكاة الطبيعة، نقرأُ المقطع
الآتي:
((مَنْ
سيصدّقُ أنَّ الأرضَ تمطر
والسَّماء تهتزُّ
ممّا ترى!))([100]).
إذ عاكس الشاعرُ صور الطبيعة المألوفة، وقلب المعادلة الطبيعية
بالمعنى الشعريّ، فصارت الأرض ممطرة، والسماء متلقية، لكن أيّ
مطر نتساءل هنا؟ هل هو المطر الأحمر؟ الذي أحسن البشر هطوله في
سفك الأرواح، وتبرير انتهاك المحرمات، وتجاوزات لم يضع لها
حدّ؟
إنّ اندماج الشاعر مع الطبيعة المتحركة تشبيهًا واستعارةً،
سنلقاهُ في غير قصيدة، كما في قصيدته ذات العنونة التي تغري
المتلقي على التفاؤل (بطاقة تهنئة) التي جاءت مقسّمة على ثلاثة
مقاطع مُرقّمة من (1) إلى (3)، لكنّ يبدؤها الشاعر بحالهِ في
المنفى، وصورة العزلة التي تحيط به، وكيف غادرت الأشياء
الجميلة التي كان يؤمل النفس بلقياها من جديد، ليدخل في حوار
داخلي مع الذات، قرين الشاعر في القصيدة:
((لا
بأس
هذه المرّة
لا تكتبْ عن الطائر.
أنتَ لستَ بطائر،
فهمتْ؟
ولا عن الجناح.
أنتَ لستَ جناحاً،
فهمتْ؟
ولا عن المنقار.
أنتَ لستَ منقاراً،
فهمتْ؟
ولا
ولا
ولا.
اكتبْ، فقط، عن الريش.
أنتَ ريشةٌ سقطتْ من جناحِ طائر.
سقطتْ فحملتْها الرِّيح
مِن بلدٍ إلى بلد،
ومِن بحرٍ إلى بحر،
ومِن عشٍّ إلى عشّ،
ومِن حرفٍ إلى حرف،
ومِن سماءٍ إلى سماء،
ومِن عبثٍ إلى عبث،
ومِن رعبٍ إلى رعب،
ومِن موتٍ إلى موت،
جحيمٍ إلى جحيم!))([101]).
فكلُّ التشبيهات التي حاول الشاعر نسبتها له، لم يتقبلها
قرينه، فالطائر وجناحه موظفّان كناية عن سعة الآفاق المديدة،
والتوق لوصول لسواحل الحرية، لليوتوبيا التي يرسمها في داخله،
كلّ ذي مطمح في تشييد عالمٍ مثاليّ، لكن لم يثمر من كلّ تلك
التشبيهات سوى التشبيه الخاص بالريشة، وما تتصف به من صفات
واهنة، ورهافة يُنتقدُ من يكتسي بها؛ لمرارة الواقع، وبلادة
الزمن.
الطبيعةُ في معجم الشاعر في مجموعة (الحرف والغراب) لم تأخذ
بُعدها الموضوعيّ المألوف في تاريخ الشعر العربي، بل نوّع
الشاعر على مقامِ تلك الموضوعة، وغايرها حينًا بسكبِ مأساته
الكبرى، على حروف الطبيعة حيّها وصامتها، إذ يقول:
((حينَ
خرجَ الحرفُ من الحربِ،
دخلَ إلى الصحراء
التي سلّمتْه إلى الجبلِ الذي سلّمه بدوره إلى الغيمةِ التي
سلّمتْه
بدورِها إلى البحر
الذي سلّمه إلى الموتِ الذي قادهُ بدوره إلى نَفْسِه.
وهكذا عادَ الحرفُ إلى الحربِ مِن جديد!))([102]).
إذ يمكن القول إنّ الطبيعة مفردة طاغية في معجم الشاعر؛ لكنها
ليست أليفة، في لغة نصّ المجموعة، لا من حيث التشبيهات
والاستعارات أو من حيث الكنايات، فكلها تصبُّ في خانة ما يعتري
قلبَ الشاعر من نكباتٍ واغتراباتٍ، ومساراتٍ مُعْوَجَّة،
وخطوات خانتها الأقدارُ، في الوصول إلى وطن أخضر كبير، فيقولُ
الشاعر في قصيدته (آثار أقدام) التي يوظّف فيها التناسل
التركيبيّ للمفردات، أي مفردةٌ تُنجبُ مفردةً أخرى، وأخرى
تُولدُ أخرى؛ وصولاً للمعنى المبتغى:
((ليسَ
هناك من بحر،
فالبحر تحوّلَ إلى شاطئ.
وليسَ هناك من شاطئ،
الشاطئ تحوّلَ إلى رمل.
وليسَ هناك من رمل،
الرمل تحوّلَ إلى آثارِ أقدام.
وليسَ هناك من آثارِ أقدام،
آثار الأقدامِ تحوّلتْ إلى ذكريات.
وليسَ هناك من ذكريات،
الذكريات تحوّلتْ إلى دموع.
وليسَ هناك من دموع،
الدموع تحوّلتْ إلى بحرِ سفينةِ نوح.
ونوح مرَّ مِن هنا بسفينته ومضى!))([103]).
والأسلوب نفسه يُستعمل، أيْ التناسل التركيبيّ، الذي نجدهُ في
قصيدة أديب كمال الدّين المعنونة (حياة)، فنقرأ في المقطع
الأول من القصيدة:
((شجرةٌ
كبيرةٌ تقفُ في هدوء
وسطَ شارعٍ مزدحم.
خلفَ الشَّجرةِ بناية،
خلفَ البنايةِ مقبرة،
خلفَ المقبرةِ نهر،
خلفَ النهرِ طفل،
خلفَ الطفلِ مرآة،
خلفَ المرآة امرأة))([104]).
إذ رسم الشاعر مُفردات الطبيعة الضَّاجة بالحياة (الشجرة،
النهر) وموازاتها وضع مفردات الحركة لتلك الطبيعة ذاتها
(الشارع المزدحم، الطفل، المرأة)، وإزاء تلك المفردات الست،
التي تكتسى بشريان الطاقة الإنسانيّة وفورته، كلّها مفردات
تكتبُ خطوات الحياة، بموازاة مفردة واحدة تدلُّ على الانمحاء
والخفوت، هي مفردة (المقبرة)، التي قد لا تُشكل معطى معنويًّا
كبيرًا داخل المقطع المقتبس هذا، لتعدد التراكيب الباعثة على
الحيوية، لا الموتية، ليأتي في المقطع المرقم بـ (2) لتدوين
سؤاله الشعريّ حول المرأة :
((ماذا
تفعلُ المرأةُ خلفَ المرآة؟
هل كانتْ تبكي؟
تهذي؟
تتعرّى؟
تغنّي؟
ترقص حتّى الموت؟))([105]).
فالسؤال هذا هو استكناه لفعل الإنسان (المرأة)، ووجوديتها التي
تتستر بها خلف قناع المرآة، فموقع المرأة في الخلف يعني
الاختفاء، عدم المواجهة مع الذات أولًا ومع الآخر ثانيًا ومن
ثمّ غياب الأجوبة وضمور المعرفة حول فعل العاطفة (البكاء،
الهذيان، التعرّي، الغناء) التي تتكرر بطباقٍ صرفي متقارب. فلا
تريدُ تلك المرأة إيتاء فعلٍ متناف في حضرة الذات (المرآة)،
وما يقابل تلك المرآة من حضور غير ملموس نصيًّا للآخر.
ومع المقطعين الأخيرين من القصيدة ذي الرقمين (3) و(4)، يجدُ
المتلقي نهايةَ تلك الحكاية للوجود الإنسانيّ داخل القصيدة،
ختام تلك الحياة، عبر المرأة؛ بوصفها كنايةً عن النشوء والتجدد
الضاج بالحبِّ، فإذا كان آدم هو مبتدأُ الحياةِ على هذه الأرض،
فإنّ حواء هذه القصيدة ستكون هي مختتمُ الوجودِ كلّه:
((حينَ
ماتت المرأة،
ماتتْ، على الفورِ،
المرآة.
ثُمَّ ماتَ الطفل
ثُمَّ النهر
ثُمَّ البناية
ثُمَّ
الشَّجرةُ الكبيرة
ثُمَّ الشَّارعُ المزدحم.
وحدها المقبرة
بقيتْ تتأمّلُ المشهدَ في هدوءٍ ولا مبالاة))([106]).
ثانيًا/ شعريّة الرّثاء
يرتبطُ الرثاء بحالة الفقد التي تصيبُ الإنسان، فيلجأ إليه
الشاعرُ؛ غرضًا لتخفيف آلامه، ومأساته، والبوح شعريًا عن مكنون
الحزن، الذي يسكنهُ بسبب الموت، وفق رؤيا يقيسُ بها وجوده
ووجود مَن حوله، فلو ذهبنا إلى معنى الرثاء في لسان العرب
لوجدناه بمعنى إطلاق الصفات الإيجابيّة على المتوفّى: ((رَثأتُ
الرجلُ رثْأ مَدحتهُ بعدَ موتهِ))([107])،
وقد وافق عدد من النقاد القدماء ذلك المفهوم، فهذا قدامة بن
جعفر (ت 337 هـ) على سبيل المثال يرى الرثاءَ بأنّه صيغة مدحٍ
لكن خطابها يتجه إلى الميّت([108]).
أمّا في الاصطلاح فالرثاءُ هو ((غرض من أغراض الشعر الغنائي،
يعبر الشاعر فيه عن محاسن الحزن، واللوعة التي تنتابه لغياب
عزيز فجع بفقده، أو لكارثة تنزل بأمة، أو شعب، أو دولة))([109])،
وهو عند دارس ثانٍ ((فن شعري يعد بشكل أو بآخر هو الذات
الإنسانيّة الملتصقة بالعواطف والنزعات الوجدانيّة
والتأمليّة))([110])،
وفق ذلك يمكن القول إن الرثاء هو في مقدّمة الأغراض الشعريّة
التقليدية صدقًا، وحرارة عاطفيّة، من غير رتوشٍ، أو تزييف في
المشاعر والأحاسيس، وحسب منزلة الإنسان الميّت([111]).
وقد وظّف أديب كمال الدّين موضوعة الرثاء، تجاه عدد من
الشخصيات المعروفة في العراق والعالم، قاربَ عشر شخصيات من
مختلفِ بُقعِ الابداع، مثل يوسف الصائغ، وجان دمّو، ومهنّد
الأنصاريّ، وناظم الغزاليّ، وغاريثيا لوركا، وسيلفيا بلاث
وغيرهم، ومن الملاحظ لعموم هذه القصائد أنّ أغلبها جاءت معنونة
بأسماء المرثيين.
ووفقًا للجرد الحاصل لقصائد الرثاء في مجموعة (الحرف والغراب)
تكون هذه القصائد هي الأكثر عددًا، إذ لم يكن ترديد نغمة
الرثاء التقليدي هي الشاغل المؤرق لخيال الشاعر، بل عمل على
توسعة عالم ذلك الرثاء من المدار الضيق (الشخصي)، إلى المدار
الأوسع (المجتمعي)، ومن الآني، أيّ لحظة الاستعادة "الرثائية"،
إلى لحظة التمسّك بالمُستعاد؛ بوصفه صورةً شعريّةً لقيم عليا
ومُثل للوعي. فنقرأُ استعادته الرثائية للشاعر الإسباني
فيديركيو غارثيا لوركا:
((سيقتلكَ
فرانكو
أو أتباعُ فرانكو
أو رصاص فرانكو.
وستموت
بل ستشبعُ موتاً
أنتَ الذي لم تشبعْ من الحياة
مثلما الحياة
لم تشبعْ منك.
سيبكي عليكَ القَتَلة
وأشباهُ القَتَلة
وأعداءُ القَتَلة.
سيبكي عليكَ، إذنْ، إخوتُك:
إخوةُ يوسف
مثلما سيبكي الشيخُ الكبير
والمرأةُ التي جُنّتْ بحبِّك
والنِّساءُ اللواتي قطّعنَ أيديهنّ.
حتّى الذئب سيبكي عليك!))([112]).
النصُّ سردٌ واصف للشاعر لوركا انطلاقًا من لحظة مقتله، وهي
اللحظة التي يتجلّى فيها الشاعرُ الشاب، ليصير عمودَ ضوءٍ
شاهقٍ، وأفقَ تحررٍ سامٍ، وتقاسم أسباب موته كلّا من الدكتاتور
وأعوانه، بل سيتناهب الآخرون جوائز موته وتضحيته، الذين وقفوا
ضدّ لوركا أيام حياته، ثمّ تباكوا عليهِ وراء أفول جسده، هؤلاء
استعار لهم تشبيهًا من النصِّ القرآني، عبر قصة يوسف وأخوته
والذئب، وما للقصِّة من حضور في ذهن المتلقي من غدرٍ ونفاقٍ
وسوء تصرّف انتهك قيم الإخوة والإنسانيّة، مضيفًا لصفاتهم
المُراوِغَة، صفة البكاء الشَّكلي، أو دموع التماسيح كتشبيه
للواصلين على دماء لوركا وتضحيته التي قدّمها على مذبح الحرية.
ورغم تلك الصورة المُستدعاة للمتملقين والراكبين موجة البطولة
الفارغة، سيعيدُ أديب كمال الدّين خطابه الشعريّ نحو لوركا
الإنسان والقيمة، وأنّ هاجس مسيرته الوضّاء، سيكون لكل جموع
البشرية على اختلاف دياناتها، وأعراقها، وألوانها، وأنّ ميزة
لوركا اختلاط دمه الغرناطيّ بالدم العربي([113])،
الذي حكم الأندلس زهاء السبعة قرون فضجّت في نسغِ لوركا قيم
مشرقية أصيلة فضلاً عن قيمه القوميّة الأوربيّة، وكأنّ الشاعر
يريد منح لوركا سمة الكونيّة، وإخراجه من هُويته الضيقة
(الإسبانية) نحو هُوية لا حدِّ لمداها، يقولُ أديب كمال
الدّين:
((لكنْ
لا يهمّ أيّها الغرناطيّ الجميل،
لا يهمّ يا مَن يسيرُ الدَّمُ العربيُّ
في عروقِه المضيئةِ بالشَّوق،
لا يهمّ أيّها القتيلُ دونَ قبرٍ أو شاهدة،
لا يهمّ يا مَن كانَ الهواءُ يجرحُ قلبَه،
فقصائدُكَ الملونّةُ كموعدِ حُبّ
واللذيذةُ كملعقةِ عسلٍ في فمِ طفل،
قد عبرت الأزمنة
وطارتْ فوقَ القارّاتِ والأمكنة
وطارتْ فوقَ الحدودِ ونقاطِ التفتيش
وطارتْ فوقَ غيومِ المستحيل
حتّى صارتْ تشارك أهلَ الأرضِ أحلامَهم
وتضيء لهم وحشتَهم الفسيحة
وتكفكف دموعَهم وحرمانَهم.
هكذا امتلأتَ بالحياةِ إذنْ،
يا أيقونةَ الشِّعْر،
وصارت شمسُ الأنهارِ سفينتك
وقمرُ الفضّةِ دليلك
وشعراءُ الفجر في كلِّ مكان
نوافذَكَ التي تتألقُ بحروفِك
أيّها الغرناطيّ القتيل.))([114]).
صيغة استعادة الشعراء المتوفّين في مجموعة (الحرف والغراب)،
تستمرُ مع نصِّ آخر هو (قنينة جان دمّو)، ليس الغاية منه كما
ذكرنا سابقًا الرثاء من أجل الرثاء؛ بل اختيار شعراء لهم موقف
من الوجود كلّه، ظهر في نصوصهم الإبداعية، ومارسوه في حياتهم،
فإنّ كان (لوركا) الشّاعر/الثائر في القصيدة السابق تحليلها،
فإنّ (جان دمّو)، هو الشّاعر/ الضمير، الذي رفض إخراس صوته من
قبل السلطة في العراق، قبل العام 2003، فلجأ للسكر والغيبوبة
المُدْرَكَة؛ للنيل من قمع السلطة، والخلاص من ملاحقتها، عبر
ثلاث تراكيب نحتها أديب كمال الدّين، هي (أفاعي بغداد، وعقارب
عمّان، وكناغر سدني)، إذ يُشير التركيبان الأولان لمصدر الرعب
والفتك، اللذان هما سمتا سلطة بغداد آنذاك وعيونها
المخابراتية، التي وزّعتها في غير بقعِ العالم، مثل عمّان
العاصمة، فيما آلت سدني ورمزها الكانغر إلى مثوى اغترابي لجان
دمّو، ومستقر لروحه التي بقيت مطاردة في مدن العراق، وعمّان،
وتعبت حتى وصلت لقارة بعيدة لم يألفها مرافقًا قنينة خمر وضمير
ساطع، فتمدَّد في أرضها، جنب قنينته، ونام إلى الأبد، فالحياة
مع وضعاء البشر ليس من اختياره، وعليه وجدنا أنّ رثاءَ جان
دمّو هو رثاءٌ للضمير المستيقظ:
((ضميرُنا
المُستتر،
ضميرُنا السكرانُ ليلَ نهار،
ضميرُنا الذي يصحو
كي يواصلَ فوراً سكرَه وشتائمه
وفكاهاته التي تشبهُ طيوراً ميّتة،
حتّى ينام في آخر الليل
سعيداً كيتيمٍ طُرِدَ من الملجأ
مفترشاً الرصيفَ أو الحديقةَ العامّة،
وقنينةُ الخمرةِ قربَ رأسه
تحرسُه بشخيرِها العميقِ من الكوابيس
ومن أفاعي بغداد
وعقارب عمّان
وكناغر سدني.
ضميرُنا الذي يكتبُ الشِّعر
دونَ أن نقرأ له قصيدةً واحدة!
ضميرُنا الذي يكرهُ الطغاة
وشعراءَ الطغاة
والشُّعراءَ المرتزقة
والشُّعراءَ السَّفلة،
ويحقدُ على الزمانِ الذي لم يمنحْه
سوى وسام العربدة ...
وجدوهُ ذاتَ يوم
ميّتاً تحتَ جسر سدني.
كانتْ قنّينةُ الخمرة
قد تعبتْ من شدّةِ صراحته
ودموعه الطفوليّة
ووحشةِ قلبه التي عجزت الملائكةُ والشياطين
عن فهمِ وجعِها اليوميّ وعذابِها السِّحريّ.
قنّينةُ الخمرةِ هذه
كانتْ صديقته الوحيدة،
صديقتهُ المخلصةُ التي قتلتْه
بهدوءٍ أسْوَد
وهي تقبّله بشغفٍ أسْوَد
قُبْلةَ الحياة))([115]).
شاعر عراقي آخر هو يوسف الصائغ، الذي تجذابتهُ الأهواء
السياسية، والإيديولوجية، وعانى منها مدة من حياته، حدّ الوصول
للبراءة من انتمائه اليّساري الذي آمن بأفكاره، ونضج فيه،
وسُجن لأجله، لكن مع بداية النسف لتعدديّة الآراء في ظل نظام
حزب البعث في العراق بعد العام 1968، اضطر الشاعر يوسف الصائغ
إلى كتابة مقال بعنوان (مقدَّمة لقصيدةِ حبٍّ فاشل) أعلن فيه
براءته من الحزب الشيوعي العراقيّ، حزبه الأثير، ومبتناه
الفكري والثقافي؛ ليلقي نفسه في أحضان الحزب "الفاشستي" حزب
البعث، في العام 1980، غصبًا وإكراهًا، واتقاءً من شرِّ
الدكتاتور([116])،
من كلّ تلك التفاصيل المحيطة بحياة الصائغ، كتب أديب كمال
الدّين رثاءه الذي استعاد به شخصية يوسف الصائغ، وما حملته من
إشكالات جعلت أصحاب اليمين والشمال ينظرون إليه برفض، إذ
يقولُ:
((حاملاً
على ظهرِك
جثّةَ مالك بن الريب وآلامَه الهائلة،
واقفاً تحتَ لحيةِ ماركس الكثّة
وشوارب ستالين الصخريّة
لتهتفَ بملء الفم
تحتَ لافتةِ النضالِ الأُمميّ
ومقارعةِ الإمبرياليّة.
حتّى إذا طارَ رفاقُ الدربِ عبر الحدود
استبدلتَ بسرعةِ البرق
لحيةَ ماركس الكثّة
بلحيةِ عفلق الحليقة
وشوارب ستالين الصخريّة
بشوارب صدّام المرعبة
لتهتفَ بملء الفمِ أيضاً
تحتَ لافتةِ الطاغية،
تحتَ لافتةِ الحربِ ضد "الفرس المجوس"!))([117]).
فاستعار أديب شخصية مالك بن الريب التي وظّفها الصائغ سابقًا
في مدونته الأدبية؛ بوصفه قناعًا تتقاطعُ سيرته فيه وسيرة يوسف
الصائغ، هذا القناعُ دال على الاغتراب، والانزواء وحيدًا دون
أهلٍ وأصحاب، هذا ما شعر الصائغ به، فلا رفقاء الأمس من
الشيوعيين العراقيين باتوا طامحين بصحبته وإبداعه، ولا حزب
السلطة الذي قدّم لهم شروط الطاعة، يحسنون العهد بولائه. وهذا
ما حاول النصُّ قوله، فرمز للشيوعيين بأيقونتهم ستالين ذي
السيرة السلطوية العنيفة، التي كانت تسحق كلّ من يفكر بالخروج
عن طاعته، عبر الاستعارة الطريفة (الشوارب الصخرية)، وهي
تلميحٌ لجمودِ النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي غير المرن،
الذي صار واجهته (ستالين) بزعيقه الإعلامي لتوحيدِ الأمم ضدّ
من وصفهم بالإمبريالية وأطماعها، والشعارات المزيفة، التي وعدت
الآخرين بجنةٍ على الأرض لكن دون طائل لذلك الوعد الحلمي،
بمقابل ذلك تأتي صورة الدكتاتور صدّام حسين، بوصفها أيقونةً
للجهة الأخرى التي لجأ لها الصائغ اضطرارًا، بعد تهديد ووعيد،
فضاع ابداعه عند شرائح واسعة من المتلقين والمثقفين، حتى بخل
عليه بلافتة تنعاه في إتحاد الأدباء في بغداد، الذي هو كان من
مؤسسيه([118])،
فصار الشعور بالخسران يحيطُ به من كل الأركان، فتلقى النكبات
واحدة تلو الأخرى، بدءا بزوجته (جولي) التي ماتت بحادث سيارة،
وخسارة "الشرف الإيديولوجي" الذي آمن به، وإذلال قلمه لمؤسسة
السلطة الإعلامية والثقافية، فيقول أديبُ في عتابٍ بصيغة
الرثاء الحميمي:
((أيّها
الشَّاعرُ اليوسفيّ:
لِمَ خذلتَ نفسَك؟
لِمَ خذلتَ مالكاً معك؟
لِمَ خذلتَ سيّدةَ التُّفَّاحاتِ الأربع؟
لِمَ أيّها اليوسفيّ؟
هل كانَ مشهدُ الذهبِ لا يُحتَمل؟
أم كانَ مشهدُ الرُّعبِ لا يُحتَمل؟
أم أردتَ الذي كانَ فوقَ الجَمل))([119]).
فاتخذ الشاعر من اسم يوسف الصائغ، الأول صفة حميمية، تُنبئ
بوديعة الصائغ، وبشخصيته التي كانت محل إعجاب ومحل تناقض أثار
جميع من عرفه، فكان العتاب الرثائي من خلال الجُمل المصدرة
بلِمَ الاستفهامية التكرارية التي خرجت لمعنى الاستنكار، لما
فعله الصائغ، بعموم شعره عبر مرموزه (مالك بن الريب)، أو زوجته
الأثيرة جولي (= سيدة التفاحات الأربع)، واضعًا الشاعر
احتمالين لمآل الصائغ، بين اللهاث للإمساك بالامتيازات التي
تمنحها أجهزة السلطة، وبين الرعب الذي عايشه الشاعر في السجن
إبان الستينيات، والذي لا يريد تكرار العودة إليه التي قد تكون
أبديّة هذه المرّة.
الصورة المحزنة التي آل إليها يوسف الصائغ في نصِّ رثائه غير
التقليدي، يتكرر مع مأساة شاعرة أمريكية هي سليفيا بلاث
Sylvia Plath([120])
المولودة في 1932، التي حازت على
شهرة أدبية مؤثرة في الحركة الأدبية في الولايات المتحدة
الأمريكية والمملكة المتحدة، بمقابل تلك الشهرة وذلك التأثير،
فقد نالت زواجًا تعيسًا من شاعر بريطاني مهم وشهير هو تَد هيوز
Ted Hughes،
أوصلها لحد ارتكابها فعل الانتحار، فهذه النهاية المأساوية
تلقاها النصّ الشعريّ لأديب كمال الدّين بطريقة الرثاء لكن
ليست بقالب جنائزي تقليدي؛ بل من أجل تسليط الضوء على
معاناتها، ومأساتها بوصفها شاعرةً ناجحةً، وزوجةً محطّمةً،
فيبدأ كما في رثاءِ يوسف الصائغ، بمشهد اختتام حياتها،
منتحرةً، إذ يقولُ:
((لم
تكنْ على مائدتِكِ الليلة
كأسُ النبيذ ولا
ملعقةُ العسل،
بل كانتْ على مائدتك
كأسُ الزوجِ الخائن
والطفولةِ المُحَطَّمة،
وملعقةُ الأملِ: العلقم.
أي كانتْ على مائدتِك
كأسُ الحلمِ القاسي
والأبِ الأكثر قسوة،
وملعقةُ الوهمِ التي لا تجيد
سوى تذوّق نفْسها.
بعبارةٍ أكثر وضوحاً،
كانت على مائدتِك
كأسُ السُّمّ
والقصائد المرتبكةِ المتلعثمة،
وملعقةُ القلبِ الذي لوّحَ للحياة
طوالَ ثلاثين عاماً
بيدِ الغريق
وداعاً!
أشربُ نخبَكِ
أيّتها الحمامة التي ضلّتْ طريقَها
إلى العشّ
فانطلقتْ باتجاهِ البحرِ العظيم))([121]).
فشبهها الشاعرُ بالحمامة، بوصفها إنسانةً جعلت كلماتها رسائلَ
للسّلام والمحبّة والجمال، ولم تلقَ إزاء ذلك سوى الجفاء، مثل
صورة الأب الذي مات وهي صغيرة وبقي يتردد في أحلامها بهيأة
نازي وحشي كما تصفه في قصيدة "أبي"، فالقصيدة ((محاولة للجمع
بين الشخصي والأسطوري ثمة طزاجة وحداثة تنزلق منها شرائح تنساب
في عقلك وقلبك. هي ترنيمة مضطربة وغريبة للنفس المنقسمة وليس
ضربا من المزاج غير المنضبط، مستهدفًا أبيها وزوجها. يظهر الأب
في صورة حذاء أسود، تمثال ضخم، صليب معقوف، وخفّاش))([122])،
وسوء المعاملة والخيانة الكارثية من زوجها الشاعر الشهير (تَد
هيوز) على الرغم من عشقها له، حدَّ وصولها للانهيار، واكتشاف
الحياة الهشَّة التي تحياها، لتقرّر إنهاء حياتها، في العام
1963، عن ثلاثين سنة فقط؛ لتصبح أسطورةً بنوع كتاباتها
الشعريّة ذات خاصية الاعتراف التي أصبحت ملمحًا خاصًّا في
الأدب الإنكلو أمريكي، فضلاً عن براءتها وشفافيتها وتفرّدها
بالأحاسيس([123]).
النمط الآخر من قصائد الرثاء في مجموعة (الحرف والغراب)، خصّها
الشاعر لثلاثة من عناصر الفنّ في العالم العربي، ثلاثة غناءً
هم: (ناظم الغزالي، وعفيفة اسكندر، وعبد الحليم حافظ) وواحد في
فنّ الإخراج هو العراقيّ (مهنّد الأنصاريّ).
ففي قصيدة (مطرب بغداديّ) يُشكّل أديب كمال الدّين صورة لناظم
الغزالي المتوفّى في بغداد تشرين الأوّل العام 1963([124])،
صورة لهيأته الشكليّة، ومنها يتدفقُ السّرد الشعريّ للنصِّ،
فيقولُ:
((بجسدٍ سمين
وبوجهٍ سمين
وبعينين باسمتين،
سيذهبُ هذا الغزاليّ
جيئةً وذهاباً
أمامَ كاميرا التلفزيون
وهو يغنّي بصوتٍ رقيق:
"يَم العيون السود ما جوزن أنه
وخدّچ الگيمر أنه
تريگ مِنه"))([125]).
فوظّف الشّاعر اقتباسًا من أغنيةٍ معروفة للغزالي باللهجة
البغداديّة المحكيّة، بوصفها انعكاسًا لشهرته التي ستجوب بلاد
النهرين والعرب، التي عن طريقها حازَ على محبّة واسعة من
الناس، وَعُدَّ سفيرًا للفنّ العراقيّ، ذلك الزمن، وحين أعطى
الشاعر طيفًا استعاديًا للغزالي في المقطع الأول من القصيدة،
وضع في المقطع الثاني قصّة حبٍّ مُتخيلة شعريًا، بين الغزالي
وفتاة بغدادية وصدّها المتعالي، فيقولُ:
((وإذ
لم تأبه العاشقةُ البغداديّة
لأغنيته القيمريّة
ولا لملابسه الجديدة
ولا لخدوده السّمينة
فسيغنّي لها:
"واگفة بالباب تصرخ يا لطيف
لاني مجنونة ولا عقلي خفيف.
من ورة التنور تناوشني الرغيف
يا رغيف الحلوة يكفيني سنة".
وإذ لم تأبهْ له ثانيةً
فسيغّني لها ثالثةً عن النخل
ورابعةً عن العيدِ
وهديّةِ العيد
وسابعةً عن الصبا
وعاشرةً مِن مقامِ الصبا.
حتّى إذ تقدّمَ به العمر
فسيصرخُ من لوعةِ العشقِ والهوى:
"عيّرتْني بالشيبِ وهو وقارُ".
لكنّه هذه المرّة
سيمسُّ وتراً
وسيطلقُ طيراً
يسمعُ تصفيقه الشرقُ والغرب.
بيدَ أنّ العاشقةَ البغداديّة
كانتْ
-
كعادتها
- تتبغددُ من النافذة.
والمطربُ السّمين
بوجهه السّمين
وبعينيه الباسمتين
صارَ على موعدٍ مع الموت
حتّى إذا تعثّرَ به في صباحٍ غريب،
بكى عليه الدفُّ والكمانُ والناي.
وخرجتْ بغداد كلّها
تودّعهُ إلى الأبد.))([126]).
فتكشف القصيدة عن ذلك الحبِّ الخائب، رغم شهرة الفنان، وملمحه
البغدادي الأنيق، إلا أن ذلك لم يمنح محبوبته البغدادية
الاستجابة له، فظهرت تلك الفتاة عنيدة، قوية الفؤاد، لا
تستجيبُ بسهولة، تتدلّع، وضع الشاعر فيها صفة البغددة بتأثير
طاغٍ، في لغة القصيدة، وما أن شهد الآخرون للفنان بالموهبة
والإبداع والشهرة، سرعان ما أمسك به الموت، وأخذه، وهو في أوج
قوته وألقه الفني، وكأنّ الشاعر يريد تبيان ملحمة الأسى
العراقيّ، الذي لا يريد للفرح أن يعيش مدة طويلة، فاختتم
الموتُ حياة الفنان الجميل، بينما اختتمت الخيبةُ حياة الفتاة
البغدادية، والقصيدة.
أمّا رثاء أديب كمال الدّين للمطربة (عفيفة اسكندر)([127])،
فجاء وكأنّه رثاءٌ لزمنٍ جميل كامل غادرنا، حيث لم يستطع
العراقيون الاحتفاظ به؛ لا لبخلِ قلوبهم بالفرح، بل لشغفِ
الغياب بتقليب صفحات حيواتهم بعجالة قد تبدو لا نظير لها،
فيقولُ أديب، وكما شخصّناه أسلوبيًّا في جميع مراثيه في هذه
المجموعة
مبتدئاً من لحظة موت المرثي:
((ماتتْ
تلك التي شكتْ لوعةَ الفراق
وأرادتْ من الله
أن يبيّنَ الحوبةَ في المفارقين حبيباتهم
والغائبين.
ماتتْ وهي تغنّي
من شاشةِ تلفزيونِ بغداد
مثل لُعبةٍ كبيرةٍ جميلةٍ دون روح
تماماً دون روح مثل بغداد:
مدينة المُتخَمين والمُعدَمين والأرمن واليهود،
مدينة الملاهي والباراتِ والكنائس والمساجد،
مدينة المعتزلةِ والمتصوّفةِ والملاحدة.))([128]).
جاءت ترنيمة الرثاء لعفيفة اسكندر ممزوجة بواحدة من أشهر
أغنياتها، باللهجة العراقيّة المحكيّة (أريد الله يبيّن حوبتي
بيهم)، معطيًا تشبيها لها بمدينة بغداد الجميلة لكن دون روح،
حسب وصف الشاعر، رغم أنها مدينة كونية
Cosmopolite
تضمّ مختلف الطوائف، والأديان، والأعراق، والاتجاهات، والرؤى
المتعددة، لكن لم يُكتب لذلك النسيج بالبقاء موحدًا مزهوًا
بألوانه، بل تفتت وضاع به أنموذج وطن جميل، وكان الشاعر استعار
جملة الدعاء المحكيّة (أريد الله يبيّن حوبتي بيهم) كطلبٍ من
كل مظلوم في هذا البلد عسى أن يستجيب الله:
((لم
يستجب الله - بالطبع - لأغنيتِها الجميلة،
فلم تظهر الحوبة
على المفارقين والغائبين أبدا
وبقوا كالأشباحِ سعداء أبدا.
لكنَّ المطربةَ غنّت الأغنية
لسبعين عاماً أو تزيد
شاكيةً لوعة الفراقِ المرّ
للملكِ المسكينِ وقاتله،
ثُمَّ للزعيمِ: مُنقذِ الفقراءِ وقاتله،
ثُمَّ للطاغيةِ: مشعلِ الحروبِ وقاتله.
هكذا بقيتْ تغنّي أغنيةً عذبةً
دونَ روح
حتّى فارقتْها الرُّوح!))([129]).
فتغدو الأغنيةُ ورثاءُ صاحبتها المعمّرة، صورةً لتاريخِ حديث
لهذا البلد، إذ عاصرت عفيفة اسكندر، النظام الملكيّ، وشهد
فاجعة سقوطه، وزامنتْ صعود شمس الجمهوريّة العراقيّة، على يد
مؤسسها عبد الكريم قاسم، وأفولها المأساوي المريع في العام
1963، ثمّ واكبتِ البلد وهو يدخل النفق المُظلم أيام حكم حزب
البعث وطاغيته، فاستمرت الأغنيةُ أغنية للعراقيين المنتهكين،
الذين لم يملكوا سوى لحظة الدعاء، وتكرارها، عسى أن يولد أمل
ما.
استمرارًا لرثاءِ ذلك الزمنِ الجميل، الذي يحنُّ إليه الشاعر
في نصوصٍ عدّة، يستدعي- رثاءًا- مُثلَه الأثيرة لقلبه،
وأيقونات المجتمع الخالدة، وهذه المرة مع شخصية عبد الحليم
حافظ المطرب المصريّ، الذي صنع أسطورته من المعاناة، والفقدان،
فقدان الأمِّ وهو رضيع، وفقدان الأب بعدها، ومشوار صعب لإثبات
صوته، وذاته، حتى بلوغ النجومية، وأوج المجد، محطّمًا تابوهاتِ
الغناء آنذاك، ومانحًا الأغنية العربيّة المشرقيّة وهجًا،
ولزمنه نغمًا تتآلف وإيَّاه بسهولة أذن الجمهور، رغم ذلك لم
يهنأ عبد الحليم، وبقيت المعاناة رفقيته، دون سواه([130])،
فيقولُ أديب كمال الدّين وعلى غرار بنائه الشعريّ لقصائده في
رثاء المطربين، اعتماده على استدعاء شخصية المرثي لحظة رحيله
عن الدنيا، وبالتساوق مع أغنية شهيرة له، ومزجها مع سيرته،
مازجًا عن طريق ذلك أسلوبًا لرثاءِ الأمكنة والعواطف والشخوص،
رثاءِ لكلّ الزمن ونستولوجياه:
((حينَ
انكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة
ما بين أصابع العندليبِ المرتبكة،
سالتْ روحُه العاشقة ...
كانَ مطربُ قارئة الفنجان
عبقريّاً بما يكفي
ليركبَ درّاجةَ النُّجومِ الهوائيّة
ويغنّي عن القمر، ...
ويفتنَ ألفَ سندريلا وسندريلا بألفِ أغنيةٍ وأغنية ...
لكنَّ قارئ الفنجان الذكيّ
ومطرب قارئة الفنجان العبقريّ
الذي روّضَ الفقرَ والجوعَ والحرمان ...
وروّضَ ألفَ سندريلا وسندريلا،
روّضتْه جرثومةُ البلهارسيا التي لا تَرى ولا تُرى!
كانتْ أذكى من عبقريّته اللامعة
وأعظم حظّاً من نجوميّته الساطعة.
فانكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة
ما بين أصابعه العاشقة
حتّى سالتْ روحُه العذبة،
وهي في قمّةِ الحُبِّ والشَّوق،
وسطَ دموع الناي وأنين الكمان))([131]).
فخطُّ السرد بيّن، ينثال ببكائية غنائية، تناسب إيقاع المرثي،
إذ يقتطفُ الشاعر من حياة حليم المتسعة، محطَّات ليضيء درب
مرثاته الشعريّة، في جملةِ استعاراتٍ وكناياتٍ، مثل ذكره
النصِّ في اشارة للدراجة الهوائية التي ظهر بها مع الفنانة
شادية، في فيلم معبودة (الجماهير المُنتج) العام 1967، أو
قوله: (ويغنّي
عن القمر)،
في إشارة لأغنية حليم (مدّاح القمر)، وقوله: (ويفتنَ
ألفَ سندريلا وسندريلا)، في كناية عن حبِّه للفنانة سعاد حسني
المُلقبة بالسندريلا، فيما كانت الجرثومة التي أصيب بها
الفنان، كناية عن قدره المؤلم، الذي سيكون مبتدأه، ومنتاه عن
سبع وأربعين سنة.
ختام قصائد الرثاء في مجموعة (الحرف والغراب)، جاءت عن المخرج
الإذاعي العراقيّ (مهند الأنصاري) المتوفى في العام 2000، إذ
يقولُ:
((أيّها
الموت،
أيّها الوحشُ المُهذّب،
كيفَ تغيّبُ مُكلّمي وتوأم روحي
ومرآةَ حرفي؟
كيفَ تغيّبُ قلباً،
كلّ نبضةٍ فيه حاء،
وكلّ حاءٍ فيه باء،
وكلّ باءٍ فيه بَسْملَة الأنبياء؟
كيفَ تنثرُ رمادَك
فوقَ رأسه الذي كانَ من طمأنينةِ الذهب
أو من ذهبِ الطمأنينة؟
كيفَ تشقُّ قميصَه الذي كانَ بوّابة البحر،
حينَ كانَ البحرُ عيداً حقيقيّاً
لمهرجان الحروفِ السَّعيدة
والمرايا التي ترقصُ حولَ نفْسها
كدوران الطيورِ السَّعيدة؟
إذنْ،
كيفَ تُحطّمُ أيّها الموت،
أيّها الوحشُ المُهذّب،
بوّابةَ المستحيل؟
بل كيفَ تقولُ الذي لا يُقال،
أيّها الموت،
أيّها الوحشُ السليطُ اللسان؟))([132]).
فتحوّل النصُّ من رثاءٍ مغموس بالحبِّ لمبدع عراقي، إلى مجابهة
للموت، ومساءلته، عن ذلك السّر الذي يجعله يُعجّل في أخذ
الأحبة، فشخصية الأنصاري داخل النصِّ ترقى إلى مصاف أنبل
الشخصيات التي قد يلتقيها الإنسان؛ نظرًا للكيفيّة الشعريّة
التي صاغها أديب كمال الدّين، لمفردة (حبّ)، ومزجها برشاقة
داخل نبض مهنّد الأنصاريّ صنوه وتوأم روحه، إنها حرفية الشاعر
الذي لمس وهج قصيدته ببشر من عملات نادرة كأخلاق الأنبياء،
لينتقلَ إلى ذلك السؤال الصعب، وتلك المساءلة مع الموت، ذلك
المجهول الذي لم تستبطنه التآويلُ، ليرشقه الشاعرُ، بأداة
الاستفهام (كيف)، مصدوم بمفاجأة غياب الأنصاريّ الأبديّة، الذي
عاش الابداع حياةً كاملةً، اختتمتْ بكلمةٍ واحدة هي الموت.
الخاتمة
- بعد هذا التجوال النقدي في نصوص أديب كمال الدّين المعاصرة،
باحثًا عن سمة لغته الشعريّة في عينة من أعماله الشعريّة
الكاملة، وهي مجموعة (الحرف والغراب)، إذ رصدتْ جملة من السمات
الخاصة بنصوص هذه المجموعة:
- هيمنت على نصوص المجموعة اللغة الشعريّة الواضحة، السلسة،
المبتعدة عن التكلّف، وعن الغوص الفادح في الغموض، عن طريق
أسلوب يتَّغيّا الإيحاء حينًا، والتصريح حينًا آخر.
- الوعي بخصوصية لغة الشعر، بوصفها تعبيرًا عن الحياة، وواقعها
الراهن المُعاش، وميل الشاعر لتوظيف أسلوب السّرد بوصفه أداةً
تقنية لانثيال القصيدة وخلق معناها.
- الطبيعةُ في مُعجم الشاعر في مجموعة (الحرف والغراب) لم تأخذ
بُعدها الموضوعيّ المألوف في تاريخ الشعر العربيّ، بل نوّع
الشاعر على سُلّمِ تلك الموضوعة، وغايرها حينًا بسكبِ مأساته
الكبرى، على حروف الطبيعة حيّها وصامتها.
- لم يكن ترديد نغمة الرثاء التقليدي هي الشاغل المؤرق لخيال
الشاعر، بل عمل على توسعة عالم ذلك الرثاء من المدار الضيّق
(الشخصيّ) إلى المدار الأوسع (المجتمعي)، ومن الآني، أيّ لحظة
الاستعادة "الرثائية"، إلى لحظة التمسّك بالمُستعاد بوصفه
صورةً شعريّة لقيم عليا ومُثلًا للوعي.
- مزجه الواعي لصور الرثاء الشخصيّ مع صور أكثر اتساعًا، تلمحُ
لرثاءِ زمنٍ غودر بكلّ تفصيلاته.
تصوّرات عن مجموعة (الحرف والغراب) لأديب كمال الدين
حينما يذبل عود الياسمين
د. علي متعب جاسم
ناقد وأكاديمي عراقي
حين يكون الحديث خاصّاً في زاوية من زوايا تجربة الشاعر أديب
كمال الدين، يكون من المناسب الحديث أو الإشارة على أقل تقدير
إلى النمط. أعني به حين يستقل الشاعر في نمذجة كتابته وترسيخ
تجربته عبر اتجاه واحد وأساليب مختلفة تتحكم في نصوصه وتخرجها.
ومن المؤكد أنّي أشير هنا إلى تجربته مع الحرف التي امتدت إلى
ما يقرب من نصف قرن اشتغل فيها أديب كمال الدين اشتغالات
متنوعة خضعت في كل مسافة شعرية قطعها لتجارب مختلفة انصهرت
لتكمل أو تستكمل جوانب شعريته
.
حين تناولنا تجربة الشاعر منذ مطلعها في السبعينيات أشرنا إلى
مجموعة من الدوافع والتقنيات التي استغلها الشاعر أو لجأ إليها
ولمّا كانت تلك الدراسة تحاول أن تضع في الميزان النقدي تجربة
جيل كامل كانت الموازنة المنهجية تقتضي توزيع الاهتمامات على
أكثر من ثلاثين شاعراً اقتربوا في فجر تجاربهما واختلفوا في
ضحاها، وقد ذكرنا حينها أنّ السبعينيين لم يكونوا موحدي الرؤى
ولم يجتمعوا إلا على زحزحة المشروع الستيني الشعري إذ لم
يحالفهم الحظ في مشروعهم النظري، كان منفاهم على مستويين
جغرافي وفني، أعني أنّهم تفرّقت بهم السبل منذ سنوات إعدادهم
فاتجه كل منهم مختاراً رؤيته في الكتابة، بعد الإصدارات الأولى
لهم
.
وأديب الذي اعترض يوما ما في إحدى مقالاته عن عدم وجود اسمه
ضمن الموجة الجديدة من الشعراء أعني السبعينيين كان واحداً
منهم من جيل هو الأشد إثارة للشغب الصحفي إن جاز لنا التعبير
.
أصدر "تفاصيل" عام 1976 وهي من أوائل الشعر السبعيني المطبوعة
وقبله كاظم جهاد، ما يعني مضي ثلاث سنوات على مشروع القصيدة
اليومية الذي انفرطت حباته قبل أن ينضج. "تفاصيل" ليست لها
علاقة بالقصيدة اليومية. هي تجربة ذاتية حاولت أو حاول الشاعر
فيها أن يتمثّل رؤية ذاتية. فالقصيدة السبعينية نحت في اتجاهين
رئيسين، الأول الاتجاه الذاتي والثاني السياسي عند أبرز
ممثليها. وإذا كان الثاني ميّالاً إلى قصائد تعبوية فإنّ الأول
غاص في تقديم التجربة الذهنية كما عند زاهر وسلام وخزعل وأديب
كمال الدين. تظهر هذه التجربة عند أديب منذ "تفاصيل"، فعلى
مستوى التكنيك تبرز عنده عناية واضحة برصد التفاصيل الجزئية
التي تكوّن الصورة الكلية للنص وتتوازى مع الفعل التكنيكي في
الكتابة. إذ غالبا ما يضع لنصّه علامة كبرى ثم تتجزأ إلى
علامات أصغر وبالتالي تكون العناية بالتفاصيل والإشارة إلى
عناية كمال الدين بالغة الاهمية هنا، أعني تحديدا أنه اشتغل
بدقة على مفهوم إنتاج اللغة من خلال عنايته بالرمز والإيحاء
إلى حد بعيد مكوّناً صوراً ويستثمر الحرف بوصفه مرموزاً في
مواضع عدة، إلا أنه لم يكن خياراً رئيساً له في الكتابة
.
في مجموعته الثانية الصادرة عام 1981 "ديوان عربيّ" تظهر ملامح
التجربة الذهنية وتبين خطوطها وملامحها واضحة من حيث الاهتمام
بالتجربة وبنسقها الجمالي، وبدأت تظهر عنده القدرة على خلق
التجربة بعد أن كان عنده الوعي بالتجربة هو الأظهر. وعلى الرغم
من وجود ملامح في المجموعتين تشيران إلى استثمار الطاقات
المعطّلة شعرياً في الثقافة العربية وأعني هنا الحرف تحديداً
إلا أنه لم يكن خياراً رئيساً في الكتابة كما أشرت قبل قليل
ولم يظهر هذا الخيار إلا في مجموعات لاحقة ابتدأها ب "جيم"
1989 و"نون" 1993 و"أخبار المعنى" 1996 وما بعدها.
وسواء كان الأثر
الصوفي مغذيّاً لتجربة الحرف عند كمال الدين، ولا سيما ذلك
القسم الخاص بأسرار الحروف ومنافعها إذ يكون لكل حرف مزاياه
وخواصه او التأثر بتجربة رامبو الحروفية أو كليهما معا ولا
نستبعد ذلك فإنّ الأمر كما يبدو لنا إن الشاعر يستلهم الحرف
ليفجر من خلاله طاقات شعرية، وهذه الطاقات تخضع لتحوّلات
التجربة عنده وأفق النظر الذي يضعه في الكتابة. ففي مجموعة
"النقطة" مثلاً تبدو صورة الضياع والاغتراب ساطعة. انعكست حتى
على تقنية بناء الصورة وورودها كما في قصيدة "محاولة مع الهاء"
التي تتوالد الصورة من نفسها لتعيده نفسها مرة أخرى، وفي قصيدة
"أنثى المعنى" من مجموعة "أخبار المعنى" يكون الحرف معادلاً
وحيداً للكون "الباء لها شكل الأنثى"، "الباء فراش مكتظ
بالمعنى،" "الباء: البحر بعيد".......... وهكذا يكون الحرف
خلقاً للأشياء كما يراها الشاعر أو يريدها أن تكون. لم يكن
الحرف كشفاً بالصدفة إنّما خيارا في الكتابة، وهو ما يعني
خضوعه للمغايرة في الرؤية والتجربة، فهو وجوه للشاعر كما يقول
الدكتور حسن ناظم
.
في مجموعته "أربعون قصيدة عن الحرف" تتمظهر تجربة التمسك
بالحياة، صنعها، استمراريتها، الكشف عن أسرارها، والحرف في هذه
التجربة حاضر بما يكفل له الدور الرئيس. ففي قصيدة "جاء نوح
ومضى" يطرح عبر استرجاعه ثيمة قصة نوح عليه السلام في محاولته
إنقاذ العالم وفق مبدأ الأخيار، يترك الشاعر وحرفه بعيدين عن
سفينة النجاة غير أنّ التشبث بالحياة والإصرار عليها يجعلانه
متوسّلاً بالنجدة مستغيثاً وليس معترضاً. وهذه الثيمة تتردد في
قصائد أخرى مثلاً في قصيدة "دراهم كلكامش" التي تطرح تصوّره عن
الحياة أو قصيدة " تناص مع الحرف
" التي يطرح فيها خلود الحرف ما يعني خلود الشعر والشاعر
"بالإحالة إلى العنونة" وبالتالي التعبير عن تجربة الحياة.
والآن
ها نحن أمام مجموعة جديدة للشاعر أسماها: "الحرف والغراب"
سنحاول الكشف عن مخبآت التجربة، ما يخفيه الحرف وما تعكسه
التجربة
.
البداية في الإشارة سريعاً إلى بعض ما يحمله مصطلح التجربة
.
إنّ التجربة الشعرية لأيّ شاعر خلّاق هي معايشته الصميمة
العارمة لحدثه والتعبير عنه بالأسلوب الفني المناسب، "كما أنّ
أيّة تجربة شعرية مميزة لا بد أن تنعكس على مرآتها بشكل أو
بآخر ثقافة الشاعر ومبنى تفكيره وموقفه من الوجود والكون
والإنسان ومقدرته الفنية على التوصيل والتواصل مع المستقبل
ولذلك تختلف وتتمايز تجارب الشعراء باختلاف وتمايز مؤهلاتهم
الأدبية ووسائلهم التقنية في القدرة على التبليغ والتأثر
والأثر والذوبان في مصهر الاشتعال الإبداعي بصورة ضبابية
غامضة." "خواطر وآراء في مفهوم التجربة الشعرية " ممدوح السكاف
/ صحيفة العروبة / سوريا/ 2010".
وأيا كانت التجربة وتوصيفها فهي تعتمد بشكل أو آخر على إنتاج
الذاكرة وتفعيلها وهو ما يعني أنّ عمل الشاعر ينطلق دائماً من
بؤرة إحساس بالماضي، أيّاً كان هذا الماضي ومن ثم ليكشف من
خلاله عن لحظته الحاضرة أو المستقبلية "ويبدو أنّ مدى القدرة
على بعث التجربة يعتمد في المحل الأول على تلك الدوافع
والنزعات التي كانت نشيطة في هذه التجربة. إننا نستطيع القول
إنّ التجربة هي هذه الدوافع "كما يقول رتشاردز في مبادئ النقد
الأدبي" 240
.
سيكون
من المناسب القول إن هيمنة نصوص معينة على أجواء المجموعة يعني
بشكل ما سيادة تجربتها أو تسيّدها، والمسألة ليست إحصائية
بالضبط بقدر ما توحيه سيادة مثل تلك النصوص وما تشيعه من أجواء
وتداعيات متقاربة، إلى أبعد من ذلك قليلاً حين يتسنّى لنا ربط
عنوان المجموعة بقصائده، إذ قد يتبنى العنوان، عنوان نصّ ما في
إشارة يمررها الشاعر موحية بقراءة خاصة ومميزة لنص العنوان أو
في إيحاء منه إلى أهمية تجربة ذلك النص.
وملاحظتنا على المجموعة ليست كما ذكرنا تماماً ولكن نرى أنّ
للعنوان بنية رمزية ترتبط بتجربة الشاعر جميعها، فالحرف غدا
سيمياء دالة على الشاعر، وبما أنّه كما ذكرنا متحوّل بحسب
تحوّلات الرؤية، سيكون عندئذ "الحرف" متحوّلاً بحسب تحوّلات
التجربة
.
بالعودة إلى العنوان، "الغراب" دال على في المثيلوجيا العربية
على التشاؤم وعدم الاطمئنان للشيء، وهو شعور جمعي رافق البشرية
منذ نوح عليه السلام، وتحوّل إلى رمز بهذه الثيمة عند مئات
الشعراء، غير أنّ الأمر في هذا العنوان يحمل دالاً آخر بقرينه
"الحرف" إذ بمتابعة النصوص معظمها، أنها تحمل ثيمتي الحياة
والموت أو ان شئنا الدقة الصراع بين الحياة والموت، وهي الثيمة
التي تعلن عن نفسها في القصيدة الأولى وسنأتي على منتخبات من
القصائد، أقول بالعودة إلى هذه الثيمة، سنرى أنّ الغراب هو طرف
المعادلة الآخر في حين أنّ الطرف الأول هو الحرف الذي يشي
بالدلالات الآتية أو يكون رمزا ل"الحمامة" في القصيدة الأولى،
أو لوركا أو عفيفة اسكندر أو غيرها من عناوين النصوص يصبح كل
نص إذاً ابتداء من الأول هو "الحمامة والغراب"، أي الحياة
والموت.
سنقف
عند المقطع الأخير من قصيدة "الحمامة والغراب":
هكذا أنا على هذه الحال
منذ ألف ألف عام:
الغرابُ ينقرُ جمجمتي
فينبثقُ الدَّمُ عنيفاً كشلّال.
والحمامةُ تضعُ فوقَ جمجمتي،
دونَ جدوى،
حفنةَ رماد!
سنلاحظ منذ الانتباهة الأولى للصورة أنّ ثمّة استمرارية في
الحركة التي يتناوب طرفاها الغراب والحمامة، لا أمل في الخروج
من كفّ المعادلة الاول إلى الآخر، إلا أنّ ما تشي به الصورة
انخذال الطرف الأول إلى الآخر أو تراخيه أمامه
. إنّ الحياة بلا جدوى سينتهكها الموت، لأنها ضياعات متوالية
وانهزامات تتقافز امام سطوة الموت
. في النص الآخر التالي "مثلثات". الحياة ذلك السرّ الأزليّ
الذي لن ينتهك حجبه إلّا الموت، مثلث بأبعاد مختلفة، لأنّه
يضمّ في محيطه "السلطة والرغبة والقوة والعبث والسأم". أما
السرّ الأزليّ لها فلن يوجد. سنلاحظ حين يمكننا تخطيط المثلثات
هندسيا أنّ مثلث السلطة رأسه إلى الأعلى. في إشارة واضحة لمنطق
السلطة والتسيد الذي يتحكم بالحياة في حين أنّ الفروع الاخرى
تتجه اتجاهات مختلفة، ويغيب أو يغيب في ضمن ذلك مثلث الجمال أو
الخلود، كلّ المثلثات هي دالة على خسارة وانهزام، فالأول
الطفولة الحافية والثاني الصبا
الغارق والثالث الشباب المحاصر والرابع الشيخوخة التي تشبه
مسافراً بعيداً.
هذه
الخسارات لا تمثّل الشاعر بقدر ما تعكس رؤية الشاعر عن نفسه،
تصوراته عن الحياة.
أكاد أقتنع تماماً أنّ النصوص معظمها تكشف عن هذه التجربة،
صراع بين الموت والحياة أزلي، غير أنّ رحلة الحياة التي بدأت
تذبل، ذبول عود الياسمين يتخطى بألم إلى العالم الآخر
.
في نص "تسعة عشر مقطعاً" مثلاً: سنقف عند المقطع الأول والأخير
مع إشارتنا إلى أنّ المقاطع لا تتناسل من بعضها وإنما من
المقطع الأول:
حينَ خرجَ الحرفُ من الحربِ، دخلَ إلى الصحراء التي سلّمتْه
إلى الجبلِ الذي سلّمه بدوره إلى الغيمةِ التي سلّمتْه بدورِها
إلى البحرِ الذي سلّمه إلى الموتِ الذي قادهُ بدوره إلى
نَفْسِه.
وهكذا عادَ الحرفُ إلى الحربِ مِن جديد!
سنلاحظ أنّ الحرف بوصفه معادلاً للحياة، تجري عليه هذه
التحوّلات وهي دالة جميعها على "الحرب/ الخسارات، الصحراء/
التيه، الغيمة. البحر/ الذوبان والتلاشي، الموت/ النهاية
المحتومة"
. تدور المقاطع الممتدة أسفل هذا المقطع متناسلة منه، كما في
المقطع مثلا 18:
حينَ طرقتُ بابَ حياتي التي نُحِتَتْ
من الخشبِ العتيقِ كاللعنة
خرجتْ إليَّ الشياطين من كلِّ شقّ!
أما
المقطع الأخير فدال على ما أشرنا إليه في المقطع الأول:
سيبدأُ الحرفُ الليلة
كتابةَ قصيدته الجديدة
ليكتشفَ أنَّ النُّقطة
لم تكتفِ ببناءِ سجنٍ كبيرٍ له
بل أعدّتْ له منصّةَ الشنقِ أيضاً!
في
قصيدة "مبادلة" أيضاً مثلاً حوار مع الحرف/ الحياة والشاعر
الذي يرضى أنّ يبدل الاشياء كلها بباء بغداد أو بابل، في إيحاء
واضح على تهشّم قيم الحياة في داخله وتعلّقه بذاكرة طفولته أو
شبابه
.
في
آخر نصّ في المجموعة "أيّة أغنية هذه؟"
تجسيد واضح لحالة الصراع التي يعكسها الشاعر بعدما تخزه أغنية
تكون دافعه لتاملات مختلفة وتداعيات حول الحياة والموت:
تؤلمني الأغنية
وهي تشيرُ بأصابع مبتورةٍ
إلى النَّجمةِ المُعلّقةِ في الأعالي.
فأتذكّرُ نبْضي الذي ماتَ في شارعٍ
لا يؤدّي إلّا إلى الخمرِ والدَّمع،
...............
تؤلمني الأغنية
حدّ أن أرى الموتَ في الليل
راقصاً قرب سريري
بشَعْرٍ طويلٍ أبيض
وعينين فسفوريتين
في النهاية ، هل يمكن أنّ نلخّص تصوّراتنا عن المجموعة؟ يمكن
إذا قلنا إن المجموعة تناولت في نصوصها الموت وذبول الحياة،
الإحساس بذبول الأشياء، الحرف رمز للحياة وتحوّلاتها أصبح
يتكسر على هامشها، هذا الإحساس هو الذي يمثل التجربة أو هو
الدافع كما قال رتشاردز .
إنّ كل نصّ وبالذات النصوص التي كُتبت لشخصيات متوفاة هي تمثل
وكشف للموت فكما يقول أرشيبالد مكليش في "الشعر والتجربة": "إن
الشاعر يتوجّه نحو أشياء العالم لا لكي يكوّن أفكاراً عنها بل
ليكشفها وبذا يكتشف نفسه".
الآن
في هذه المجموعة إذن الحرف لم يعد سرّاً للمعنى ولا كشفاً
للغيب فقد تحوّل إلى رمز لعود الياسمين الذابل.
******************
-
الحرف والغراب، شعر: أديب كمال الدين، الدار العربية للعلوم
ناشرون، بيروت، لبنان 2013.
الحضور القرآني والصوفي في (مواقف الألِف)
للشاعر
أديب كمال الدين
أ.د. فاضل عبود التميمي
ناقد وأكاديمي عراقي
في تجربة
الإنسان: (أديب كمال الدين) الإبداعيّة تنبثق رؤيتان
متلازمتان؛ الأولى: تجربة الشاعر الذي يرى ببصيرته ما لا نرى،
والأخرى تجربة الشعر الذي يرى بحدسه ما غاب عنّا وغمض، والجامع
بينهما يحيل على (نصوص) لا تقف عند اليومي، والتاريخي،
والمغيّب، والمعلن، والعدمي، والصوفي، والمؤمن حدّ العشق،
والعاشق حدّ الايمان، وإنّما تتجاوز تلك (الأطر) إلى منطقة
الاكتشاف الخاص التي هي هدف الشاعر.
وإذا
كانت (نصوص) الشاعر قد اهتدت إلى ما سمّاه النقد بـ(الحروفيّة)
التي نقلت الشعر، والشاعر إلى آفاق معرفيّة، وأسلوبيّة مميّزة،
فإنّ الحروفيّة نفسها أخذت برقاب نصوص الشاعر الجديدة إلى حقل
الإشارات المطلقة تلك التي جاهرت في مخاطبة الذات العليا، وهي
مكبّلة بالمحبة، والمحن، والأسرار، والحروب، والتناقضات
الضاجّة بسؤال الوجود بحثا عن الخلاص.
حضر النصّ
القرآني الكريم، والأجواء الصوفيّة في المجموعة الشعريّة
الموسومة بـ(مواقف الألِف) التي أصدرها الشاعر (أديب كمال
الدين) عن الدار العربيّة للعلوم: ناشرون في طبعتها الاولى
2012، وكأنّ المجموعة صدى لهما جمع بين دفتيه أنماطاً من
الحضور النصيّ المعلِن عن درجة انغمار الشاعر في الأجواء
القرآنيّة، والصوفيّة معاً.
يقيناً
أنّ المتلقي يستطيع أن يكشف عن حضور النص القرآني بدءاً من
(عتبة) الصفحة السادسة التي جعلها الشاعر حرّة من دون أنْ
يسمّها، فلا هي بالمقدمة، ولا بالاستهلال، ولا بالتوطئة،
ولكنها جاءت بعد صفحة (المحتويات) مباشرة ليعلن من خلالها
الشاعر لحظة البدء التي يشرع منها المتلقي في قراءة الأشعار،
وتلقي جمالياتها.
حملت تلك
(العتبة) وظيفتين: الأولى تمثّلت في جلب انتباه المتلقي، وشدّه
إلى موضوعات النصوص الشعريّة، و الأخرى أشارت بأوجز القول إلى
فضاء التجربة الشعريّة في المجموعة بعد أن
تواجه عينا
المتلقي (سورة النور) بآيتها الخامسة والثلاثين حاملة شحنات
اشراقيّة متدفّقة الدلالة: ﴿اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
﴾، ثمّ أعقبها بنصّ الآية الرابعة والثمانين من سورة يوسف:
﴿وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ
وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ﴾
جامعا بين نصّين
قرآنيّين دالّا بهما على افتتانه بما فيهما من دلالة مارست
تأثيرها المباشر في متنه الشعري، فالنصّان الكريمان حملا بهجة
الحضور القرآني في نصوص المجموعة وفضائها.
وعندي أنّ
النصّ الأوّل كان قد فعل ما شاء له من فعل تأثيري في لغة
المجموعة، ونسقها الشكلي، أمّا النص الثاني فكان تأثيره خاصّاً
في الوضع النفسي الذي يعيشه الشاعر منفيّاً في (البلاد
الغريبة) على حدّ تعبيره، مستلهما صورة الوالد وقد ابيضّت
عيناه حزناً على فراق ولده، بالإحالة على النص القرآني حمّال
الوجوه.
وكان
الشاعر قد أشار في قصيدة المفتتح إلى أنّه أوقف هذه المجموعة
التي أطلق عليها اسم (كتاب) في: (مدح ملك الملوك ذاك الذي يقول
للشيء كن فيكون)، في لفتة شعريّة أخذت من نور القرآن الكريم
لتحيل على الذات الإلهيّة في لحظة صفاء نفسيّ تذكّر بمقامات
المتصوفة والمريدين.
أمّا تأثير
الشكل القرآني لسورة (النور) فقد كان بائناً في طريقة الكتابة
الشعريّة لأكثر من قصيدة استلهمت دوران النسق القرآني القائم
على الربط بين نهايات النصوص، وابتداءاتها، أي أنّ اللاحق من
الكلام يصبح بدءا للسياق الجديد في تكراريّة تشير إلى تجدّد
الطاقة الدلاليّة والصوتيّة للكلمة المكرّرة: ﴿
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ
فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ
يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا
شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾،
فتكرار: (المصباح)، و(الزجاجة) في النصّ الكريم سمّته البلاغة
العربيّة بـ(التعانق) الذي يتشكّل بسبب تجاور اللفظين
المباركين، وكأنّهما في لحظة عناق، وقد ظهرت ملامح نسقه
التعبيري واضحة
في نصّ أديب: (موقف الألِف):
ستصعدُ يا عبدي درجاً،
كلّ درجةٍ بألف،
وكلّ ألفٍ بمائة،
وكلّ مائةٍ بكفّ،
وستحتار أيّها أقرب.......ص14.
وفي مقطع من قصيدة (موقف النون) الذي يقول فيه:
ثمَّ علمَ أنَّ كلّ دمعةٍ هي سجدة،
وكلّ سجدةٍ هي طائر سعد،
وكلّ طائر سعدٍ هو نون.....
ص37
وكذلك في قصيدة: (موقف إبراهيم) التي ظهر فيها تأثير النسق
الكتابي للقرآن الكريم محدّداً في الأسطر الآتية:
من واقعةِ السؤالِ إلى واقعةِ الخَلْق،
ومن واقعةِ الخَلْقِ إلى واقعةِ النَّار،
ومن واقعةِ النَّارِ إلى واقعةِ هاجر،
ومن واقعةِ هاجر إلى واقعةِ العطش،
ومن واقعةِ العطشِ إلى واقعةِ زمزم،
ومن واقعةِ زمزم إلى واقعةِ إسماعيل،
ومن واقعةِ إسماعيل إلى واقعةِ البيتِ العتيق؟...
ص46.
إنّ (تعانق)
أواخر الألفاظ بأوائلها في نصوص الشاعر السابقة من شأنه أن
حقّق قدرا واضحا من التناسب الأسلوبي التكراري المولّد للدلالة
التي جرت في السياق جريانا متّصلا بواقع حال الشاعر المتماهي
مع أهمية اللفظ وما حمل من ظلال الشعر.
وظهر
التأثير القرآني الأكبر واضحاً في المجموعة من خلال سياقين
مهمين:
الأول:
يمكن دراسته على وفق التناص الظاهر: وهو من أوضح أشكال
التناصّات التي وجدتها في مجموعة: (مواقف الألف) إذ دخلت
النصوص القرآنيّة في شعر المجموعة لتشكّل تناصّاً دلاليّاً
همّه الارتقاء بالأسلوب الشعريّ، والإحالة على مرجعيّة النصّ
الخارجيّ التي تعلّقت بلغة القرآن الكريم المشيرة إلى نواهي
الذات الإلهيّة، ومقولاتها نحو قول الشاعر من قصيدة: (موقف
الألِف):
وستحتار أيّها أقرب.
ولكنّ الوقت ليسَ وقت تأمّل،
فاقرأْ واصعدْ.
وفي كلِّ صعود
قل
اللهمَّ مالكَ المُلْكِ تُؤتي المُلْكَ مَن تَشاء
وتنزِعُ المُلْكَ ممَّن تَشاء....
ص15.
ففي النص
السابق استدعى الشاعر الآية:26 من سورة آل عمران استدعاءً
ظاهرا وصريحا ليشير إلى سلطة النص القرآني الذي مارس تنصيصاً
كاملاً في مساحة الشكل التعبيري للنصّ الشعري على الرغم من
أنّه كان مسبوقاً بتقديمٍ شعريٍّ كان بمنزلة الافتتاح للنصّ
القرآني الكريم.
وما جاء في قول
الشاعر في نصّه: (موقف نوح):
واستوتْ على الجُوديّ
وقيلَ بعداً للقومِ الظالمين....
ص45.
الذي حضر
فيه جزء كامل من الآية: 44 من سورة (هود) محاطاً بصياغة الشاعر
التي جعلت النصّ القرآني مهيمناً على دلالة الشعر، ومحيلاً على
فكرة التناص الظاهر، أو التنصيص بمفهومه الدقيق.
ومثل ذلك
التناص ورد كثيراً في المجموعة، أشير فقط إلى مثالين منه،
وأترك ما تبقى بسبب ضيق المقال، ففي قول الشاعر:
فرأى ِمنَ النورِ ما رأى
فكانَ قابَ قوسين أو أدنى.....
ص53. حضرت الآية 9 من سورة (النجم) حضوراً كاملاً، كما هو
الحال في قول الشاعر:
ولنْ تخرجَ منها...
حتّى يلجَ الجملُ في سَمِّ الخِياط....
ص81. الذي حضر فيه جزء من الآية: 40 من سورة (الأعراف) تامّاً،
والمجموعة حافلة بأمثلة كثيرة من هذا التناص لا أجد ضرورة إلى
تكرارها.
الآخر:
يمكن دراسته على وفق التناص المستتر: وهو تناص عمد فيه الشاعر
إلى إذابة الأنساق القرآنيّة في سياقات النصوص بعد أن أضاف
إليها شيئاً من لغته لتبدو الصورة الشعريّة مزيجاً من لغتين
مختلفتين تشتركان في إقامة نمط من التشكيل الشعري الحواري نحو
قول الشاعر:
كيفَ سأسقيكَ من أنهارٍ من عَسلٍ مُصفّى،
أنهارٍ لذّة للشاربين
لا فيها لغوٌ ولا تأثيم؟
وكيفَ ستجلس في مقعَدِ صدْقٍ عندَ مليكٍ مُقتدر؟ ...
ص13.
الذي أعدّه مثالاً واضحاً للتناص الخفيّ مع القرآن الكريم،
فالسطر الأوّل فيه جاء بناؤه النصيّ قريباً من قوله تعالى في
الآية 15من سورة (محمد): (وأنهار من عَسلٍ مصفّى)، وكان السطر
الثاني قد أخذ شكله النصيّ من الآية السابقة: (وأنهار من خمر
لذّة للشاربين)، فيما السطر الثالث تناص مع الآية 35 من سورة
(النبأ): (لا يسمعون فيها لغواً ولا كِذّابا)، أمّا السطر
الأخير فقد استمد صيغته من الآية:55 من سورة (القمر): (في
مَقعدِ صدقٍ عند مَليكٍ مُقْتَدِر)، فالتراكيب الشعريّة في
النصوص السابق أخذت صيغها، ودلالاتها النهائية من القرآن
الكريم اقتباساً لا تنصيصاً.
وكذلك
الحال في قول الشاعر في قصيدة: (موقف الوحشة):
وذكّر الناسَ
فالناس سُكارى
وما هم بسُكارى
ذكّرهم بقافي وقرآني...ص22.
الذي حضرت فيه معالم
الآية:
2
من سورة
(الحج):
(وترى الناسَ سُكارى وما هم بسكارى) محاطة بصياغات الشاعر التي
جعلت النص القرآني وسط تعبير شعريّ لا تكتمل رؤيته الفنيّة إلا
باستدعاء نصّ خارجيّ يحيل على فكرة التناص المستتر، ويعمل على
بلورة أسلوب شعريّ مزدوج الدلالة.
وكذا الحال في قول الشاعر:
أوقفني في موقفِ
عيسى
وقال: يا عبدي...
أرايتَ إلى مَن كلّم الناسَ
في المهدِ صبيّا.....ص51.
الذي أشار إلى التداخل النصي مع الآية: 29 من سورة (مريم) التي
نصّها: (قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّا)، فالتناص في
شكله النهائي كان قريبا من النص القرآني في تركيب أحال على
إظهار الدلالة القريبة من دلالة النص الأوّل، وفي المجموعة
تناصات خفيّة أخرى....
وكان
الشاعر- كما رأينا- قد افتتح مجموعته بقصيدة سمّاها (مفتتح)
ص11 لتكون بمنزلة المقدّمة الخاصّة بالكتاب: المجموعة، حاول من
خلالها أن يحدّد أهمّ الأفكار، والمضامين التي جالت في متنها،
ولي أن أشير إلى ندرة المقدّمات التي تكتب شعراً لتكون مفتاحاً
علنيّا يلج عبره المتلقي إلى متن الكتاب، أو القصائد.
يقول
الشاعر في مستهل: (القصيدة: المقدمة):
اقتَبَستُ من النِّفَّريّ جُملةَ البدء
ومن دمي جُملةَ المنتهى....
ص11.
في إشارة واضحة
إلى خضوع قصائد الشاعر لعالم (النِّفَّريّ) الصوفي الذي تمور
في فضاء دلالاته شبكة المعاني الخاصّة التي تتداول أفكار
المتصوّفة، ومصطلحاتهم، وانحيازهم الدائم نحو النور الربّاني:
هو الحَيُّ الباقي
والكلُّ فناءٌ مطلق
إنّ اسمي هو الحَيّ القيوم.....
ص23.
ففي
الأسطر الشعريّة الثلاثة السابقة وردت ألفاظ الصوفيّة الشهيرة:
(الحي الباقي)، و(الفناء المطلق)، و(الحيّ القيوم)، مؤكّدة
حضور الأجواء الصوفيّة في شعر الشاعر، واندماجها في معالم
صوره، ووردت في المجموعة نفسها الإشارات الصوفيّة الآتية في
:(موقف الاسم):
أوقَفَني في موقفِ الاسم
وقالَ: ما اسمكَ يا عبدي؟
قلتُ: النُّقطة.
قالَ: بل الحرف والنُّقطة جزءٌ منه.
ثُمَّ قال: ما اسمك؟
قلتُ: الحرف.
قالَ: بل الحُروفيّ والحرف جزءٌ منه.
ثُمَّ قالَ: ما اسمك؟
قلتُ: الحُروفيّ.
قالَ: بل الصُّوفيّ والحُروفيّ جزءٌ منه.
ثُمَّ قالَ: ما اسمك؟
قلتُ: الصُّوفيّ.
قالَ: بل العارف والصُّوفيّ جزءٌ منه.....
ص28.
أو في قوله من قصيدة:(موقف السجن):
يا عبدي
حرّر نفسَكَ بمحبّتي
فلا حرّيةَ لكَ إلّا معي....
ص78.
إنّ تحرير النفس بمحبة المطلق وجه من وجوه الهمّ الصوفيّ الذي
يشترط للحرية خضوع العبد لسماء محبة المحبوب اختيارا، ووردت في
ص84 من المجموعة ألفاظ: (الظاهر)، و(الباطن)، و(التجلي)،
و(الغوث)، وهي من ألفاظ الصوفيّة بلا شك لتؤكّد وله الشاعر
بالطقس الصوفيّ، فضلا عن أنّه- الشاعر- جاء بحروف القرآن
الكريم المقطّعة تلك التي وقف عند رموزها الصوفيّة كثيراً،
وعدوها سرّاً من أسرار الله تعالى في القرآن:
بشمسِ الفجرِ في كهيعص نوري
وحم كتابي
وطسم عرشي وجلالتي وحضوري
كيفَ يحدثُ هذا؟
... ص90.
وكان
الشاعر قد أشار في سطر من سطور المقدّمة: القصيدة إلى أنّه:
كَتَبَ كتاباً في مدح ملكِ الملوك...ص11، قاصداً بالكتاب
مجموعته الشعريّة: (مواقف الألف) وقد اقترح لها في البدء
عنوان: (لوعة عابر سبيل) ثم تحوّل إلى عنوان آخر: (نقطة شوق
وحرف أنين) ليكون أكثر قرباً من فضاء تجربته الشعريّة القائمة
على استثمار شكل الحرف العربي، وطرائق التصويت به جماليّاً،
لكنّه بعد أن تأمل سبعين مرّة في سنّارة السنين تأمّل (صيّاد
اصطاد سمكة في بطنها ليرة ذهب)- آخذا جوهر الحكاية من كتاب ألف
ليلة وليلة - وسمّى الكتاب في المرّة الأخيرة: (مواقف الألف).
والعنوان:
(مواقف الألف) الذي يشير تركيبه النحوي إلى غياب المبتدأ
(هذه)، وحضور الخبر
وهو مضاف، و(الألف) مضاف إليه مجرور، وقد لحقته (أل) التعريف
مفيدة التخصيص: أي أنّ (المواقف) التي جاءت على سبيل التنكير
أصبحت معرّفة
بإضافتها إلى الألف عتبة استعار الشاعر جزأها الأوّل: (مواقف)
من كتاب (النِّفَّريّ)
شائع الصيت: (كتاب المواقف) الذي حققه المستشرق: (أرثر يوحنا
أربري)، ونشرته دار الكتب المصريّة في القاهرة 1934، أمّا
جزؤها الآخر (الألف) فهو حضور للحرف الاوّل من الابجديّة
العربيّة التي افتتن الشاعر بجماليّة تصويتها ورسمها.
و(كتاب
المواقف) الذي صارت الإشارات إليه تتوالى من النقاد والشعراء
الساعين إلى بلورة أسلوب للحداثة الشعريّة ليس في العراق وحده،
وإنّما في الثقافة العربيّة كلّها، كان الشاعر المفكّر
(أدونيس) قد ذهب فيه مذهباً خطيراً حينما بحث في دراسة رائدة
عن التشابه النصيّ بين الصوفيّة والسرياليّة، فأخذ بالنِّفَّريّ
وأدخله في فضاء الحداثة المعاصرة
مشيراً إلى أنّ أسلوب النِّفَّريّ
في (المواقف أو المخاطبات) يدخل في باب الشعر من أوسع أبوابه،
فهو أكثر شعريّة في نثره من شعراء نظّامين لا يجيدون غير رصف
الكلمات، ثم وصل الأمر إلى أنّ كثيرين عدّوا (النِّفَّريّ)
شاعر قصيدة نثر محتمين بنصوصه، ومقولاته الصادمة لكل وعي ثابت,
ومحافظ ،يسعى إلى التقليد المجرّد.
هل كان
الشاعر أديب كمال الدين ممّن حمل لواء الشعر متجها به نحو
تجربة (النِّفَّريّ) الصوفيّة؟ .... نعم بالتأكيد فجملته
الشعريّة الاستهلاليّة السابقة: (اقتبستُ من النِّفَّريّ جملةَ
البدء) تحيل على ذلك، وتكرار ألفاظ الصوفيّة يؤكد ذلك أيضاً،
وكان النِّفَّريّ في كتابة (المواقف) قد عنون مواقفه كلّها
بهذا اللفظ مضيفاً إليها ألفاظاً أخرى استلّها من عوالم تجربته
الصوفيّة نحو: موقف العز، والقرب، والكبرياء، وأنت معنى الكون،
والموت، واستوى الكشف والحجاب، والبصيرة، وغيرها.
لقد أخذت
عنوانات (النِّفَّريّ) السابقة، وغيرها بأنساقها
الشكليّة، والمضمونيّة طريقها إلى: عنوانات مواقف ألف الشاعر
أديب كمال الدين، التي جميعها ابتدأت بلفظ (موقف) مضافاً إلى
لفظ آخر اختاره الشاعر من عالمه الشعري، بدءاً من (مواقف
الألف) الأول في المجموعة التي أخذت اسمها لتمرّ بمواقف أخرى
من خلال (54) قصيدة كلّها ابتدأت عنواناتها
بكلمة (موقف) آخذة من (النِّفَّريّ) جملة البدء لتحيك
مواقفها الخاصّة المتأمّلة في عالم الحرف: موقف الألِف،
والاسم، والحرف، والنون، والكلام، والكتابة، والبيت، والدائرة،
وعالم الأنبياء والأولياء: موقف نوح، وإبراهيم، ويعقوب،
والخضر، وعيسى، والمصطفى، وعلي، وكربلاء، وكميل، فضلاً عن
العوالم الأخرى التي تجري الدلالة فيها متّكئة على: موقف
الخطأ، والرحيل، والمهد، والظلام، والوحشة، والصبر، والشوق،
والحيرة، والغربة، والجسد، والروح، والحلم، والخوف، والعزة،
والأين، والباب، والمطر، والماء، والسجن، والحاجب، والنهر،
والطائر، والسجدة، والأنا، وغيرها ممّا لا مجال لذكرها.
وكان
(النِّفَّريّ) قد استهل مواقفه كلّها بعبارة كانت لازمة نصيّة
تكرّرت في الكتاب يقول فيها: (أوقفني...) مشيراً إلى الذات
الإلهيّة، وتجلي صوتها البهي في خطاب أديب الصوفي، الذي كتب في
استهلال: (موقف الكبرياء): (أوقفني في كبريائه وقال لي: أنا
الظاهر الذي لا يكشفه ظهوره، وأنا الباطن الذي لا ترجع البواطن
بدرك من علمه....)
... (كتاب المواقف)
ص3.
وقال في موقف القوة: (أوقفني في وصف القوة، وقال لي: هي وصف من
أوصافه القيوميّة
وقال لي: القيوميّة قامت بكل شيء)
.... (كتاب المواقف)
ص124
وكان مجموع (مواقف) (النِّفَّريّ) في الكتاب (77)
موقفاً ابتدأها بموقف العزّ، وانتهى فيها بموقف الكنف، وفي
نصوصها النثريّة تألقت اللغة آخذة جمالها الشعري من إفضاء
الذات الهائمة في بحر التصوّف العميق، وهذا عين ما فعله الشاعر
أديب كمال الدين في استهلال نصوصه التي تبتدئ بـاستهلال
القصيدة الأولى: (أوقفني في موقف الألِف)، لتنتهي باستهلال
القصيدة الأخيرة: (أوقفني في موقف الجنّة) مؤكّدا من خلالها
ولهه الخاص بالخطاب الصوفي.
هكذا
تظهر عناية (الشاعر) بالنصّ القرآني الكريم، وبالنصّ (الصوفي)
في تفاعليّة ثقافيّة أعطت انطباعا واضحا عن تمازجيّة نسقيّة هي
أدخل إلى فضاء الشعر الذي يتبنى علاقات منفتحة على وهج
(الكتابات) الأخرى التي يتمظهر في أنساقها صوت الشاعر الرافض
لكلّ إشكالات الحياة بهدف إعلاء صوت الإنسان، وتأكيد تحولاته
العابرة لحدود الشكل، والمقيمة في المعنى.
**********************************
-
مواقف الألف، شعر: أديب كمال الدين، الدار العربية للعلوم
ناشرون، بيروت، لبنان.
الوقوف بخشوع أمام الحرف
قراءة في مجموعة (مواقف الألِف) للشاعر أديب كمال الدين
هادي الحسيني
ناقد وشاعر عراقي
مقيم في أوسلو
يواصل الشاعر أديب كمال الدين تألقه المستمر وهو يستنطق حروف
لغتنا العربية بقصائده وكتبه المفعمة بالشعر ودهشته التي خفق
بريقها في السنوات الماضية لأسباب عدة منها استسهال البعض
للكتابة الشعرية والتي هي أصعب أنواع الكتابة لِما تحتاج من
موهبة عالية وصفاء داخل الروح. إلا أن شعراء بحجم أديب كمال
الدين تمكنوا بنصوصهم العالية بجودتها من خلال طروحاتها الشيقة
أن تعيد هيبة لغتنا العربية وهيبة الشعر العراقي إلى مكانته
المعروفة منذ قرون طويلة من الزمن وهو السبّاق في ثورات الشكل
والمضمون وأخذ على عاتقه تطوير الشعر العربي.
في مجموعته (مواقف الألِف)
والصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون في عام 2012
.
الشاعرُ يسحب القارئ إلى مناطق صوفية بحتة وتضمينات من نصوص
قرآنية، ومن ثم يستعير جملة البدء من النفري ومن دم الشاعر
جُملة المنتهى. ففي مفتتح مواقف الألِف يؤكد الشاعر أديب كمال
الدين في قصائده على عوامل أساسية داخل نصوصه، فوحدة القصيدة
وعدم دخولها في متاهات بعيدة وكذلك جملته الرشيقة التي يطوع
بمهارة واضحة حروف لغتنا العربية كما يشاء، ليشكل منها بارقات
جمال تنثال على قلوب القراء بروح الشاعر التي تتعالى فيها قوة
صوره الشعرية وهي تشبه الفراشات حين تلقح ورود الحدائق ومن ثم
ترسل تلك الورود عطرها . في صفحة 11 يقول الشاعر في مفتتحه
:
اقتَبسَتُ مِن النِّفَّريّ جُملةَ البَدْء
ومِن دمي جُملةَ المُنتهى.
وما بين الجُملتين
بعينين دامعتين
وقلبٍ يشبهُ شجرةَ الأمل
كتبتُ كتاباً في مدحِ ملكِ الملوك،
ذاك الذي يقولُ للشيء كُنْ فيكون،
سَمّيتُه: لوعة عابرِ سبيل.
ثُمَّ عُدتُ فَسمّيتُه:
نقطة شوقٍ وحرف أنين.
ثُمَّ تأمّلتُ سبعين مَرّة
في سنّارةِ السِّنين،
تأمّلتُ مثل صيّاد
اصطادَ سمكةً في بطنِها ليرة ذهب،
لأُسمّيه: مواقف الألِف
في اقتفاءِ أثرِ التائبين والتائهين والعاشقين.
ويبدأ الشاعر بمواقفه التي تكونت من 54 قصيدة، يسبقها مفتتح
على شكل قصيدة وقبلهما يذكر آيتين من الذكر الحكيم الأولى آية
35 من سورة النور، والثانية الآية 84 من سورة يوسف.
في القصيدة الأولى: موقف الألِف يقول الشاعر أديب كمال الدين ص
12:
أوقَفَني
في موقفِ الألِف
وقال: الألِفُ حبيبي.
إن تقدّمتَ حرفاً،
وأنتَ حرفٌ،
تقدّمتُ منكَ أبجديةً
وقدتُكَ إلى أبجديةٍ من نور.
وقال: سَيُسمّونكَ "الحُروفيّ".
فَتَبصّرْ،
فالليلُ طويلٌ والراقصون كُثر،
وهم أهلُ الدُّنيا وأنتَ مِن أهلي.
فكيفَ سيكون بَصَرُك؟
وكيفَ ستكون بَصيرتُك؟
وكيفَ ستختار نجمَك،
وأنتَ لستَ ممَّن يقرأ الشَّمس
أو طالعَ الشَّمس
ولا بالذي يقتفي أثرَ القافلة
بحثاً عن الذهب،
ولا بالذي يقودُ الشِّراعَ في البحر
بحثاً عن الجزيرةِ المفقودة؟
الحرف يتألق في كل جملة من القصيدة، والصور الشعرية تبرز واضحة
للعيان ترافقها رشاقة اللغة التي يكتب فيها الشاعر. ومن موقف
الألِف إلى موقف الخطأ ثم موقف الرحيل وموقف المهد وموقف
الظلام وموقف الوحشة والصبر والشوق والاسم، وصولا إلى موقف
الحرف ص 30 والذي يؤكد فيه شاعرنا على أن عائدية الحرف ومالكه
الأصلي هو الله سبحانه وتعالى الذي هو مالك كل شيء في هذا
الكون فيقول:
أوقَفَني في موقفِ الحرف
وقالَ: الحرفُ حرفي والنُّقطةُ نقطتي.
فكيفَ لكَ أن تفهمَ سرَّ خُلودي
وأنتَ الذي يحملُ الموت
في نبضةِ القلب؟
وكيفَ لكَ أن تتجلّى في ملكوتي
وأنتَ الذي يبكي على جرعةِ ماءٍ
ورغيفِ خبز؟
وقالَ: الحرفُ حرفي
ستجدهُ في كهيعص
وألم وطه ويس وق ون.
وهنا جاء ذكر كهيعص التي وردت في سورة مريم وهي سورة مكية
النزول، وقد روى محمد بن اسحاق في السيرة النبوية من حديث لأم
سلمى وأحمد بن حنبل عن أبن مسعود في قصة الهجرة إلى الحبشة من
مكة أن جعفر بن أبي طالب قد قرأ صدر هذه السورة على النجاشي
وأصحابه، عندما بعث المشركون إلى النجاشي رجلين فكان مما ذكرا
للنجاشي بأن يسألهما عن المسيح عليه السلام فقرأ عليه جعفر:
بسم الله الرحمن الرحيم* كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ
عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا *
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا *
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ
امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا *
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ
رَضِيًّا.
سورة مريم 1-6
يستحضر الشاعر في نزعته الصوفية هذه العديد مما عُرف بالحروف
المقطعة التي بدأت بها بعض سور القرآن مثل: ألم، طه، يس. ويتم
"تجريد" الشاعر من لقبه الشعري الذي اكتسبه منذ سنوات طويلة:
(الحروفي). محاكمة شعرية رائعة في موقف الحرف ينصت فيها الشاعر
إلى الذات الإلهية موضحا له كل الأشياء، وينصت بروح الشاعر
المتسامحة
.
ثم يكتب الشاعر أديب كمال الدين عن مواقف عديدة مثل الحيرة و
الغربة والنون والكلام والجسد والروح والحلم، وموقف نوح
وإبراهيم ويعقوب والخضر وعيسى والمصطفى (ص) وموقف علي وكربلاء
ودعاء كُميل، وموقف الخوف والعزة والأين والكتابة والباب
والمطر والماء والغرق والطائر والسجدة والأنا والبياض.
يؤكد
هنا شاعرنا على صوفية نصوصه وهو يجعل لأغلب الانبياء وخاتمهم
سيدنا محمد (ص) مواقف يوضح فيها مكانة الأنبياء عند الخالق
العظيم.
الشاعر لم يكتب موقفا
لنبي الله يوسف لكنه يتحدث عنه كثيرا في موقف يعقوب ومواقف
أخرى عديدة ضمن مجموعته الباهرة هذه (مواقف الألف). في موقف
يعقوب ص 47 يقول الشاعر:
أوقَفَني في موقفِ يعقوب
وقال: يا عبدي
أرأيتَ إلى صبرِ يعقوب،
صبر تهدُّ له الجبال هَدّاً،
صبر صَيّرَ يعقوبَ دمعةً
بحجمِ نبيّ،
وألماً بحجمِ نبيّ،
وأَسَفاً بحجمِ نبيّ.
فأكرمتُه بعد هذا العناء العظيم
فكانَ بحقٍّ نبيّاً،
وابناً لنبيّ،
وأباً لنبيّ.
كانَ يعقوب من العارفين:
أن لا ملجأ منّي إلّا إليّ.
وفي قصيدة (موقف كربلاء) يبدع الشاعر أديب كمال الدين في تصوير
مشهد من مشاهد الطف المؤلمة التي دارت رحاها في عام 61 هجرية.
وكانت ثورة الحسين (ع) ضد الطغاة والظالمين بقولته الشهيرة
(هيهات منا الذلة). يقف الشاعر في قصيدته وسط مخيم الحسين (ع)
وسط السهام ورؤوس الشهداء المقطّعة المحمولة فوق أسنة الرماح
وثمة نساء وأطفال ودموع ثقيلة وجنود يرقصون طربا رقصة طغاتهم.
يقف الشاعر هذا الموقف، ليصور لنا محنة الناجي الوحيد
من الذكور:
الإمام زين العابدين المعروف بالسجّاد (ع)، وهو يرى الجثث
والسبايا والعطش الذي يبّس الألسن، تصوير شعري لمشهد مخيف وما
زال حتى يومنا هذا، فيقول الشاعر في موقف كربلاء ص 56
أوقَفَني في موقفِ كربلاء
وقالَ لي:
يا عبدي
امشِ خلفَ الرماح
امشِ خلفَ رأس أبيك
المحمولِ على الرماح.
أنتَ الناجي الوحيد
وسطَ نساء يبكين بدموعٍ ثِقال
والجندُ يرقصون طرباً رقصةَ الذهب،
وروحُكَ ترقصُ معهم
رقصةَ العطشِ والرُّعبِ والتعب.
أنتَ الناجي الوحيد
بين جَمْعٍ عجيب
تحدّقُ مذهولاً في زرقةِ الكون
وتستنجدُ بكلماتي التامّات
لأنظر إلى محنتِكَ
التي بدأتْ في كربلاء
وانتهتْ إلى كربلاءات.
تصيحُ: أغثْني، إلهي، أغثْني.
فأقول:
كم تمنّيتَ أن يكونَ رأسُكَ
فوق الرماح
وليس رأس أبيك.
كم تمنّيتَ أن تستبدلَ ألماً بدم،
وذلّةَ الأصفاد
بشموخِ الرمح
والملائكة حافيّن بالرأس.
كم تمنيّتَ
يا مَن سأنصرهُ إلى أبد الآبدين
يا مَن سيقضي السِّنين
ساجداً وسطَ بحرِ الأنين.
كم تمنيّتَ كم!
ومن الصوفية العالية ينقلنا الشاعر إلى مواقف كل يوم والسجن
والحاجب والندم والدمعة والطاغية، ثم مواقف الأول والآخر وموقف
الذهب وقسوة القلب والسلام والحجاب والبيت والحمد، وآخرها
موقفيّ الدائرة والجنة!
في كل مواقف المجموعة ثمة علوم وأخبار وصوفية وحب وحنين وأخطاء
وحكم ومواعظ وصبر وخوف وسلام وأمان، كذلك ثمة تناص قرآني
واقتباس من كتاب النفري (المواقف) عبر كلمة (أوقفني) التي
أبتدأ الشاعر قصائد المجموعة كلها وهو يشير إلى الذات الإلهية
وقد أكد عليها الشاعر في بداية مفتتحه للمجموعة .. ونقرأ في
قصيدة (موقف الذهب) نصّا باهرا في معناه والشاعر يسطر حروفه
ببراعة وإتقان، فالذهب الذي يسحر ناظره ويغويه وتتقاتل الناس
من أجل الحصول عليه تلخص ماهية قصيدة الشاعر كما نرى في ص 86
أوقَفَني في موقفِ الذهب
وقال: هذا هو الذهب بين يديك.
فهل سحرَكَ منظرُه أم أَلَقُه
أم أدهشتْكَ نعومتُه وغواياتُه؟
هل تذكّرتَ مَشهدَ المتقاتلين مِن أجله،
البائعين كلّ شيء مِن أجلِ رنينه؟
هل تذكّرتَ كيفَ خالطه الدَّم
وأحاطتْ به السّكاكين مِن كلِّ جانب؟
ها قد حملتَ الذهبَ على ظهرِكَ اليوم
فماذا وجدتَ سوى غِلْظة وفظاظة
لامستْ قلبَك؟
هذا هو ملمسُ الذهبِ يا عبدي:
ملمسُ الباطلِ في صورةِ الشَّمس.
وهكذا هو الشاعر ينثر حروفه بعد أن يشكّل منها قصائده النابعة
من فكر حر متنور يتبع أثر الإنسان في مأساته. ونقرأ أخيرا في
مجموعة الشاعر أديب كمال الدين (مواقف الألِف) قصيدة بعنوان
(موقف الجنة) وهي آخر قصائد المجموعة حيث يقول فيه ص 94:
أوقَفَني
في موقفِ الجَنّة
وقال: هذه هي الجَنّة.
فانظرْ إلى رحمةِ ربّك
كيفَ أحاطتْ بك.
ادخلْها فأنتَ مِن المُكرَمين
وقل: الحمدُ للهِ ملء السَّماوات والأرض.
فأنتَ ما دخلتَها يا عبدي
بألفِكَ بل بقافي،
ولا بمحبّتِكَ بل بمحبّتي لك،
ولا بصبرِكَ بل بصبري عليك.
ادخلْها وقلْ:
الحمدُ للهِ الذي هَدانا لهذا
وما كُنّا لنهتدي لولا أنْ هَدانا الله.
وقل: سلامٌ قولاً مِن ربٍّ رحيم.
عنوان مجموعة الشاعر أديب كمال الدين (مواقف الألِف)
يعني الوقوف بخشوع أمام الحرف والذات من خلال الشعر، وقد أختار
الشاعر حرف الألِف لتلك المواقف كونه الحرف الأول الذي تبتدئ
فيه أبجدية لغتنا العربية والتي هي لغة القرآن
.
إنها مجموعة شعرية يتألق فيها شاعرنا أديب كمال الدين كعادته
في أغلب مجاميعه الأخرى والتي أخذت على عاتقها القيام بفتوحات
كثيرة في قصيدة النثر العراقية والعربية الحديثة لتكون في
طليعة الشعر العربي لِما فيها من مواصفات عالية التقنية
والتكنيك، خاصة في استنطاق حروفنا العربية شعرياً، وهي تجربة
فريدة من نوعها تُحسب للشاعر المجدد أديب كمال الدين.
*******************************
-
مواقف الألف، شعر: أديب كمال الدين، الدار العربية للعلوم
ناشرون، بيروت، لبنان 2012.
في (أقول الحرف وأعني أصابعي) لأديب كمال الدين:
وردة الشعر تهرب
بعيدا في الرقص
عبدالحفيظ بن جلولي
ناقد جزائري
تحتدم الصورة في عقل الشاعر، فيمررها بانتظام تشمله الفوضى
والنغم، الضياء والعتمة وكل الأشكال التي لا يمكن لغير عقل
الشاعر أن يتصورها، ولهذا كان الشعر على الدوام يمثل اللحظة
التي يَعْبر فيها الشاعر إلى ذاته، إلى قصيدته التي يناور
ويحاور من خلالها العالم، فهو بصورة أو بأخرى يحيل إلى ذاته،
وتلك منظومة الإفضاء الشعري في قصائد «أقول الحرف وأعني
أصابعي» للشاعر العراقي أديب كمال الدين.
بين الحرف والأصابع تنقال القصيدة: لا يمكن فصل الشاعر عن
كورال القصيدة، وهي تتشكل في ريعان الصدى بين تهيؤ الشاعر في
«أقول» وتشكيل حركة ما في «أصابعي»، لتخرج القصيدة معينة في
إصاتة ما، وكأنها تتراقص في «مربد». المكان لا يعين القصيدة،
وحده شكل الشاعر يقف ظلا يبحث عنه «الحرف» الذي لا يعني في
النهاية سوى شاعر عرف كيف يرسم منوال «أقول الحرف وأعني
أصابعي». قد لا تكون القصيدة هوية الشاعر، لكنها تظل صورته
التي انفلتت منه، ليقول بها ذاته، فردانيته في العالم، إنها
تتشكل وفق نظام الأصابع في احساسها المفرط بالأشياء: «ثمة خطأ
في الأصابع»، هل تنشأ القصيدة مشوهة؟
تتمسرح الكلمة وهي تخضّ خيال الشاعر، تربك أصابعه، كما لو كان
يلوح لشيء بعينه ويتبين أنه ليس هو، فترتبك هوية النص ليقول
الذات في حقيقة قلقها وهي تراود الخيال، وليمة الكلمات، حين
تفقد بوصلة المعنى فيعيد الشاعر رسم اتجاهه نحوها، القصيدة
بمعنى من المعاني اتجاه الشاعر نحو ذاته، ليس بمعنى الهوية:
«والرجوع إليكِ
يشبهُ قصيدةَ حُبّ
دونَ دموع أو أصابع أو حروف!»
يتجه الشاعر نحوه. ما تنسجه القصيدة هو اللاشيء الذي يشعره
الشاعر، ومنه يستقي مادته، وفيه يشرك أشياءه لتحقق المسافة بين
«أقول..» و«أصابعي»، أي بين الكلام باعتباره منصة العالم
المتناهي إلى الظهور، والشاعر المهاجر إلى فراغه بعد انصرام
القصيدة منه:
« غير أنَّ أصابعي
امتدّتْ إلى قلبي»،
يبدو للشاعر أن
القصيدة مسكنها القلب، لأنه لا يستطيع أن يغالب الإحساس الطاغي
بالفردانية، الذي يعومه في لذة النشوة بالعالم وهو ينشطر،
ويكشف عن جوهره في الكلمة، «أقول»، سر الشاعر الذي يذيب ما
يحيطه ويشعل ما يشبه اللهب يضيء ما حوله، ريثما يتأكد حضور
المتلقين، أقصد المتذوقين، الذين لا يرون في القصيدة شكلها، بل
ذاك الذي أنجزه الشاعر «دون دموع أو أصابع أو حروف».
القصيدة تهرب بعيدا في الرقص:
التلبّس بطقس إنتاج القصيدة، مناخ تُستدعى فيه الحروف، كي
تستمع عميقا إلى موسيقى الشاعر، وهو يعاين أمكنة العالم، ليجعل
تفاصيلها تشبه أمسية نغم تكنس فيها الحروف حزن العالم، ليس
معناه أنها سوف تنثر فرحا مكانه، قد تعيد أغنية الحزن نفسها،
لكنها سوف ترقص على شجن مبتهج، يعكس فرح العثور على اسم متجدد
للعالم والأشياء، إنه الرقص القديم الذي حرك الصحراء
بمفرداتها، كي تشي بفراغها وتتحول إلى فضاء مهول من النغم،
يتسرب متجددا إلى ذات الشاعر وهو يمنح هوية مختلفة للحروف:
« وأنا النقطة:
نبضُكَ الذي يولدُ كلّ يوم
في ثوبٍ جديد
ورقصٍ جديد
وعُري جديد
وموتٍ جديد
حيّرَ الأوّلين والآخِرين!
».
مسار القصيدة وجودي، تماما كما هي وجودية الشاعر، تتلمس
القصيدة كينونة تتحدى بها ثبات اللحظات، فتجدد من تمظهراتها في
مواجهة حقل الكلام، الذي تتغذى منه، ولهذا فالقصيدة لا تموت،
لأن الكلام المعبر عن الموت غير مستقر عند مستوى الثبات
النهائي، وهو ما قد يكشف الارتجال الشعري عند شعراء الرصيف
المقولي:
« وبدأت الحروفُ
عاريةً تماماً
ترقصُ وترقصُ وترقص
رقصةً وحشيّة».
لا تمتثل القصيدة لسكون لحظات الشاعر، إنها تلهو حين يكون
حازما، وتموت حين يكون حيا، تتعرى حين يتستر، وخلال لعبة
التبادل الكينوني، يبدو أن الشاعر وقصيدته، كما لو كانا في
حفلة رقص صاخبة، لأن فردانية الشاعر لا تتحقق إلا بمصاحبته
للكلمة الخالقة للمنتظم المقولي، حيث تتسلى الكلمة بسهو الشاعر
وغيابه في الموجودات، فتثير جنونه غير المعني بالحضور، حينها
لا يكترثان لشيء ويمارسان وحشيتهما بعنف وعمق.
يقود الشاعر أثر «الأصابع» ودينامية «الحرف» إلى حيث تسكن
الرقصة تاريخ المعنى في الحكاية، إلى حيث يسكن «زوربا» هوية
القفز على ألوان الغواية، فيكتب هوية المكان والزمن والحركة
بمعيار فتنة الرقص: «سترقصُ إذنْ يا صديقي»، هل كان قرار زوربا
بالرقص عفويا، أو كان مخططا له في رزنامة أنشطته الوجودية؟
يأتي زوربا معنيا بحضوره في فضاء مسكون به فقط، لهذا كانت
المشاركة في حفلة الرقصة الفردية تعبيرا عن تواصل الأثر
وتجاوزه إلى الآخر، لأن الحركة حملت هوية متجددة في الألم وفي
الفرح أيضا، لهذا كان العالم كله معنيا بأمثولة الرقصة في مشهد
عابر، كرّسه زوربا وأثث مشهديته الشعرية نيكوس كازنتزاكي:
"سيجتاحُكَ الوهمُ أو الموج.
(حسناً الموجُ أجمل).
وسترفعُ قدمَكَ إلى الأعلى.
ستبتسم.."
استدعاء زوربا، هو محاولة من الشاعر لاستدعاء طقوسية إنتاج
اللذة، لذة الحكاية حين جعلت من الفضاء لونا من ألوان الحركة،
امتد فيها الجسد الزُرْبَوِي، غير مكترث بوهم العالم أو بموجه.
«الوهم والموج» اللذان يخلقان الفراغ، والقصيدة ليست فراغا،
إنها فرح مأهول باليد وهي تترك أثرا في الفضاء، يستمر مغريا
«القدم» كي ترتفع عن الأرض، وتهبط، فتضرب التراب معلنة عن نوع
من التنبيه إلى ما يتركه الجسد من أثر في الفراغ، حينها يدرك
الجمهور، أن المعنى في الكلمة لا يكمن في رسمها، ولكن في صوت
وصدى يتركان أثرا: «رقصت عارياً كالسكّينِ وسطَ الظلام..»، ذلك
هو أثر القصيدة، التي تهرب بعيدا في الرقص، غير مبالية بمن
يرقبها، متعالية في قدم ترتفع عن الأرض وتشبه حد السكين، وهو
يلامس الجسد في مشهد طقوسي يستند إلى وحشية الألم ليخلق وردة
اللذة، ولم يكن ممكنا للشاعر أن ينتج هذه الطقس الراقص المنتج
للشعرية لو لم يكن محملا بمشهدية إبداعية من كربلاء تاريخية.
تعبيرية الجسد ودراما الفضح:
يمكن أن يكون الشعر فعالية مسرحية، والمسرحة هنا بمعنى الحركة،
إذ في المسرح تمنح تعبيرية الجسد معنى للمشهد، فكل الكلام على
الخشبة (أقول الحرف) إنما يؤول إلى (وأعني أصابعي):
«وكنتُ قربكَ ألبسُ قميصي
القميص الذي لبستهُ طوالَ عمري
حزناً عليك»
تنفلت هذه الكلمات في
شعرية طاغية من سجن القصيدة إلى فسحة المسرح، باعتبار المشهدية
الكربلائية، وتراتب الكلمات يكشف نوعا من الحركة، حركة حزينة
لكنها قوية، القميص المستمر في التاريخ، إنما هو مسار لحركة
جسد يتمثل الوعي التاريخي كمشهدية مصاحبة، وبالتالي يصبح الجسد
ناقلا للوعي بالتاريخ وللدراما الإنسانية:
«أم أنا طوطم أفريقي
خُلِقَ ليبتهجَ بقرعِ الطبول؟»
فالألم الأفريقي
مازالت تنتجه الرقصة الطوطمية، وطبول الوعي بأهمية الجسد في
استمرار إنتاج ذاكرة العبودية، فالجسد هوية تذكر في وعيها على
حافة الوجود تاريخية العبور فوق جسر المأساة، التي قد تتدثر
غشاء الملهاة، كما تترجمه الشابْلينية (شارلي شابلن) عندما تطل
علينا من شاشة العالم تمسك بالجسد وحركة مليئة بالضحك في
اهتزازها البندولي:
«
صباح الخير أيّها الضحك.
صباح الخير أيّتها القهقهة،
أيّتها
السخرية»
بهذه البداية تفتح
قصيدة «صباح الخير على طريقة شارلي شابلن» صباح العالم على
تعبيرية منفصلة تماما، عما يمكن أن تنتجه كلمة تعبير من وصف
حالة أو كتابة واقع، إنها هنا جسد يمثل سياقا فعاليا يختزن
حقيقة العالم وما تعتلج أعماقه به من مأساة/ملهاة:
«
صباح الخير أيّها الكائن الصغير:
بالقبّعةِ المُتحرّكةِ والعصا اللطيفة،
بالشواربِ الهتلريّةِ والمشيةِ المُسلّية
».
هو الشاعر حين يكتشف العالم من خلال الظلال التي تسكنه.
الشاعر، يسكن قصيدة فوق أحلام المشي المخبأ في عبث العالم،
بابتسامة وحركة بائسة تضحك على من يسيرون خلف أجسادهم كظل
للمتعة واغتيال الحلم وحرمان الأرض من دفء الشمس. الشاعر،
يتسلّى بهؤلاء كما تسلّى الحسين والحلاج وشابلن ببلاهات الظل،
الذي يسكن العالم وهم يضحكون عليه من علياء الألم، تماما كما
يستهزئ الشعر بنعومة الواقع الزائفة.
**********************************
- أقول الحرف وأعني أصابعي، شعر: أديب كمال الدين، منشورات
ضفاف، بيروت، لبنان 2018.
إضاءة في مجموعة
(أقول الحرف وأعني أصابعي)
النخلة والكتابة فوق الماء
د. نجمة إدريس
ناقدة وأكاديمية كويتية
في مجموعته: «أقول الحرف وأعني أصابعي»، وتحت عنوان «النخلة»
يكتب الشاعر أديب كمال الدين هذا النص:
لم نكنْ أذكياء بما ينبغي
لنقدّمَ ولاءنا المُطلق
إلى النخلة.
انشغلنا بأدويةِ ضغطِ الدم
ومُسكّناتِ الألم.
لم نكنْ أذكياء، إذن،
رغمَ أنّنا نعرفُ بهدوءٍ لا يسبقُ العاصفة
أنّ النخلةَ رمز الله
بل هي فاتحة قصيدته الغامضة.
وهي صورة حرفه
وبوّابة نقطته
وبيت نبيّه
وسكينة مريمه.
انشغلنا بأخبارِ الفيضان
وأسماءِ مدنِ الزلازل والنكبات
وأسعارِ العملاتِ وعُري النساء العجيب.
وحدّقنا كثيراً في تيجانِ الملوكِ الظَلَمة
وقصورِ شعرائهم السَّفَلَة.
كنّا أرضيين تماماً،
وا أسفاه،
ولم نرفعْ الرأس
لنرى النخلة
ببهائها السِّحريّ
ولطفِها الإلهيّ
وبركتِها الأموميّة
وحنانها الأخضر
ورطبِها الذهبيّ
إلّا في آخر لحظة!
يحتفي أديب كمال الدين بجوهر الشعر وماهيته الحقيقية التي تومض
من خلال الموقف الحياتي، ومن خلال المشاهدة والتأمل، ومن خلال
اللغة الأليفة الدانية التي تعبر عن هذا الموقف وتلك المشاهدة.
فليس في أسلوب الشاعر معاظلة أو التواء، أو تحايل بياني أو
بديعي في الصياغة، بقدر ما فيه من الانسيابية والصدق والإشراقة
اللطيفة.
وعليه فإنّ الشاعر يشتغل أكثر على المعنى الكلي الذي يسكن في
بنية النص ويتشكل عبر رحلة الكتابة. والشاعرية في نصوصه كامنة
في الإيحاءات العامة التي تطّرد بتؤدة أثناء فعل القراءة
وتترسخ لدى المتلقى وتجعله يلاحق تدفق النص واطراده إلى
منتهاه. ففي النهايات دائماً هناك لون من الوصول الأخير الذي
يشبع توق القارئ ويملأه بالغبطة والفهم.
وبسبب تلك التلقائية في التعامل مع شعرية الحياة، نجد الشاعر
يكرس مجموعته: «أقول الحرف وأعني أصابعي» بكاملها لقصيدة
النثر، حيث يصافح النص عصب الوجود في أكثر صياغاته طفولة
ووضوحاً. لكأنّ موسيقى الوزن بقصديتها الفاقعة تعوق تدفق
البراءة وتحاصر عري الحروف. والشاعر يريدها لغة برية، ضالة،
(خارجة عن القطيع) كما يعبّر. وقد كرّس الشاعر الكثير من
النصوص التي يعقد فيها حواراً مباشراً مع (الحروف) كجواهر
أولى، متمنياً عليها ألا تفقد بكارتها وبياضها. يقول في نص
«وصية حروفية»:
حينَ يجلسُ الحرفُ قبالتك
لا تتكلّمْ قبلَ أن يبدأ الكلام.
اصغِ إليه حينَ ينطق
وابكِ حينَ يئنّ
وقبّلْهُ في جبينه المُضيء
حينَ يقبّلك
في جبينكَ الذي أكلهُ التراب.
وحينَ يغنّي
قمْ فارقصْ
فسيكونُ الحرفُ نايك
بل سيكونُ طائركَ الأبْيَض
مُحلّقاً في السماءِ الزرقاء.
وحينَ يشتعلُ الحرف
من الموتِ والحُبّ
(وكثيراً ما يشتعلُ الحرف
من الموتِ والحُبّ)
ضعْ إصبعَكَ على شفتيكَ علامةَ السكوت
وابدأْ كتابةَ القصيدةِ فوقَ الماء!
ولعل الشاعر استطاع من خلال لغته النثرية أن يقنعنا بمدى شعرية
هذه النصوص، سواءً ببنائها الأسلوبي أو بصياغتها لقضايا
الإنسان وهو يحاور هشاشته وغربته ووحدته النفسية في عالم ملغز
وعصيّ، ومناوئ لأحلامه المشروعة.
ورغم المقاربة الشعرية التي تحتفي باللغة الطيعة الأليفة، إلا
أنها لم تخلُ من عمق المعنى ومن الحوارات الفكرية والنفسية
الموغلة في التفاصيل والمنعطفات. يستعين الشاعر على ذلك
بالتناص مع القصص الديني والشخصيات التراثية والأدبية المؤثرة
مثل نبي الله يوسف وجلجامش والحلاج وزوربا .
كذلك نقع على أمثلة
من الإسقاطات الذكية والانزياحات المدروسة فيما يتعامل معه من
مرجعيات التاريخ والتراث. يفتح الشاعر في الكثير من نصوصه فضاء
التواصل مع غيره من الشعراء والفنانين والمبدعين، يرثيهم أو
يفتقدهم أو يحاورهم، وكأنهم امتداد لذاته ولشجرة الذاكرة
والهمّ الجمعي.
*****************************************
- أقول الحرف وأعني
أصابعي:
شعر: أديب كمال الدين، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت،
لبنان2011.
قراءة في (أربعون قصيدة عن الحرف)
أديب كمال الدين شعرية الحلول في أيقونة الحرف
أسامة الشحماني
ناقد ومترجم عراقي مقيم في سويسرا
ما أن تتحد كشوف وتجليات الرؤيا الشعرية بالممارسة اللغوية
حتى يتحوّل
الخطاب الشعري الى نبوءة نصيِّة تنزعُ لتوثيق عروة الارتباط
بين المرئي واللامرئي، وتستمد وحيها من أعماق الحدس الإنساني،
ومن هنا يصبحُ الشعرُ مساحة تتناغمُ في داخلها مجموعة من
الممكنات الهادفة لإزالة حجب اللغة، ابتداءً من عملية
الاسترسال في تأملات سريِّة الحروف والكشف عن وجودها
الخيالي/الباطني، مروراً باستبطان معنى الحرف والتماهي مع
جوهره الأكبر من صورته، ثمَّ مساءلة الوجود الذهني للحروف
بالتحايث مع ما ذهبت إليه مدارج المتصوفة حين تعاملوا معها
بوصفها أوعية الوحي التي لا تفصح عن ذاتها لمن لا يسلك طريقها
ويجمع بين عوالمها المتباعدة، ولذا كان الحرف في اعتقادهم صورة
من صور التجلَّي*.
من هذه العلاقة الحوارية الرائية للحروف، باعتبارها فيضاً
مثخناً بالمعاني وليست مشهداً بصرياً وحسب، تنطلقُ تجربة
الشاعر الصوفيّ المبدع أديب كمال الدين في بحثها عن السفر
الروحي لإشراقات الحرف ووظائفه الايحائية. وقد نجح في خلق
نموذجٍ شعري له واقعه الداخلي الخاص الذي لا يشبه سواه في
المحيط الشعري العربي الحديث، ولاسيما في علاقات التناص
التفاعلية والتداخلية مع سنن وآفاق الحرف واتخاذها شاهداً
ومرآة تمَّحي على سطحها الفوارق بين الوجد الصوفي والإبداع
الشعري.
أديب كمال الدين قامة شعرية سامقة تنتمي لجيلٍ شعري مهم
ومتميز (جيل مابعد الستينيات) لا مراء في كونه قدَّم نخباً
شكَّل منجزها الابداعي حضوراً فاعلاً في ترسيخ قيم حداثة النص
الشعري في المدونة العراقية. ولكنه وعلى الرغم من كونه أحد
أبرز شعراء هذا الجيل، ممن اعتنوا بعوالم التجريب الشعري بحثاً
عن قيم المغايرة والاختلاف، إلا أنّه نأى بنفسه ودواوينه عن
مجمل إيقاعات وجدليات قضية التجييل وما رافقها أو أفضتْ إليه
من نزاع أو مناكدة. لقد تخطّتْ تجربته المؤسسة الثقافية
السلطوية وما لها من فخاخ مبتذلة، وابتعدت عن مسارات الاضطراب
السياسي لإنَّها لم تختفِ وراء أية جهة حزبية أو آيدلوجية، ولم
تجعل من الشعر وسيلة فظّة للنفعيِّات والتكسّب.
تكشف رحلة الشاعر كمال الدين مع نتاجه الغزير، الذي حافظ على
نكهته ومنهجه في مواسم شيوع الفوضى والزحام، عن مزاج شعري خاص
يتجلى بحضور مكثف لنهجه الحروفي، نهج جعله يتخلَّق رويداً
رويداً منذ مجموعته
الشعرية المهمة (تفاصيل /1976) ليبدو
فيما بعد فكرة مهيمنة تأخذ على عاتقها حراثة أرث تساؤلات
الانسان وقدم محنه الوجودية، وتحتدم داخل وحداتها ونسائجها
الشعرية أذرعُ الواقعي والمتخيَّل وصور صراعات الأضداد في
مساحة مركزها الإنسان/ مواضع ضعفه/ هشاشته وعطبه، بما يتيح
لتأويلات النصوص فرصة التمدد في مساحة اللامرئي والتماهى مع
مؤشرات وأساليب الصوفي في بناء أحواله ومواقفه.
الحروف بفيوضها المجازية وتجلياتها اللغزية هي مفتاح قراءة
ما تضمنه منجز الشاعر من خصوصيات فهي الفردوس الذي شيَّده
لنفسه، جعله ملاذاً لصمته العارف، وستاراً للحفاظ على كيانه
داخل أزمنة استعرت بالكراهية والقمع فحلَّ فيها الخراب. ولا
أحسبُ قارئاً يتصوَّر مخيلة شعرية حديثة طفحت بمتون رمزية
الحرف كمخيلة كمال الدين، حيث اتخّذ من سعة وانفتاح الإرث
الصوفي مرابطاً لتوثيق وبناء الحدث الشعري ولاسيما في الانجذاب
للوميض الروحاني للحرف، فقد بزغ في مجمل نصوصهِ كدلالة شاخصة
استهدفت ادخال المتلقي في شبكة علاقات ومشاريع معرفية لتأويل
أيقونة الحرف.
أيّها الحرف
في اللحظةِ التي ستدخلُ فيها إلى المسرح
عارياً كسمكةٍ في الماء،
سَتُفاجَأ بالحروفِ التي تحيطُ بك:
حروف مُرتزقةٍ وأوغاد،
حروف مجانين وأدعياء،
حروف مُتصوّفةٍ، عشّاقٍ وأنبياء.
(أربعون قصيدة عن الحرف، قصيدة: وصايا، ص 68)
تتخذ
الكتابة عند كمال الدين معنى رمزياً في محاولتها إضاءة مناطق
العتمة، وفي تعبيرها عن همٍ وقلقٍ وجودي عميق يسعى لإعادة
صياغة دور الواسطة بين خطابين متعاليين: شعري/فلسفي عبر
التنافذ والانصهار في مكونات الفكر الصوفي واستعارة ما له من
مواقف أو مدوّنات وقناديل اعتقادية متوهجة، وهذا ما يتضمنه
قوله: "أنا أكتب القصيدة بمقاسات الروح التي تعرف عمق الكلمة
ومسؤوليتها الإلهية والأخلاقية"1. ولذا يتسرَّب لنصه نوع من
المعرفة الاستكشافية الشفافة والخاصة في قوانينها وأقيستها،
وثمة أسباب ومكوِّنات بنيوية منحتها ميزة الخصوبة بالدلالات
والتجدد في حجم المفارقة والانزياح الشعري. ولعلَّ أهم هذه
الاسباب، وهي من الخصائص المائزة لنصوصه ولاسيما في مجموعة
(أربعون قصيدة عن الحرف)، بساطة السلوك اللغوي في اختيار
المفردة وفي تركيب الجُمل ومنطقها الإسنادي المتدفق ببنى
وأساليب رائقة تبتعد عن التعقيد أو التعاضل والغموض في التعبير
الشعري برغم ارتيادها لمناطق الغموض كخاصية في طبيعة التفكير
الشعري. ثمَّ الاختزال والتكثيف في استعمال الأنساق الرمزية،
التي وسَّعتْ من ميدان التجربة الشعرية وشيِّدتْ أكواناً جدلية
توترت داخلها تقابلات ثنائية ذات ثقل روحي/فلسفي أهمها:
ماهيِّة الوجود وشيئيَّته، وقد اتّجه بالمتلقي فيها نحو مهاوٍ
متخيَّلة ثاوية في البنى والدلالات.
يقدِّم كمال الدين في الأربعين قصيدة عن الحرف استراتيجية
شعرية توفر الاقتراب من تجربة موشومة بالاشتغال على إثراء
وتوليد الصور الرائية، المبتهجة عنوة ببهاء معاولِ
اللغة/الحروف وسلطتها المتنكرة لكل السلطات، صور تحلِّق في
أكوان وآفاق رحبة بحالة من فناء وجداني تختلج داخله مشاهد لا
موصوفية هذا الحرف:
حينَ أرادَ الحرفُ، ذات يومٍ، أن يلعب
جاءَ إليّ
فوجدني ضائعاً أكثر ممّا ينبغي
فتركني.
وذهبَ إلى حبيبتي
فوجدها أكثر بدائيّةً منه
وأكثر عُرياً منه
فتركها.
ثُمَّ ذهبَ إلى الله
فلم يستطعْ كشفَ سرِّ غموضه وجبروته.
ثُمَّ ذهبَ إلى النبيّ
فلم يستطعْ كشفَ سرِّ زهده وصمته.
ثُمَّ ذهبَ إلى الوليّ
فلم يستطعْ كشفَ سرِّ صومه
وصلاته وتسبيحه.
ثُمَّ ذهبَ إلى الصوفيّ
فلم يعجبه بحثه عن المجهول.
ثُمَّ ذهبَ إلى المجهول
فالتقى بالموتِ الذي ضربهُ على أمّ رأسه
ضربةً
واحدة
حوّلته إلى قطعةِ فحم.
جاءَ الأطفال
فكتبوا بها على الحائطِ أسماءهم.
وجاءَ العشاق
فكتبوا بها على الأشجارِ أحلامهم.
وجئتُ أنا
فأمسكتُ بالحرفِ المُتفحّم
وكتبتُ قصائدي السُود التي لا تكفُّ أبداً
عن الرقصِ والهذيان!
(تناص مع الحرف، ص 43)
ينهل النص السابق عناصر بناء هرمه الدلالي وصوره الشعرية
من عوالم مشدودة لأبعاد وانتماءات الخطاب الحواري الصوفي التي
تشف عن حسٍ فلسفي وتحاول منح مفردات مجردة مثل (الضياع،
البدائيِّة، العري، الجبروت، النبي، الصمت، المجهول، الحائط،
العشاق...) معان مختلفة عن معانيها الموروثة، تدفع المتلقي
للبحث عن سياقات إبداعية لكشف خلفية مقولة الحرف وكوامن قدرته
لأن يقود لكل هذا التعدد فيما يفضي إليه من حدوس وعلاقات. وقد
توخَّى الشاعر تطويع وتجسيم النوازع الصوفية في العلاقة مع
صورة الحرف ومقاماته لتحويله الى ملكوت رمزي تقف وراء بناه
المنظورة بنى وأسفار أخرى، قادت الأنا العارفة نحو معارج
التسامي لأنَّها الأنا الوحيدة المدركة لقيمة الحرف والقادرة
على استنطاقه بقصائد/حروف لا تكفّ عن الرقص.
لقد صاغت احتفالية الحرف وشعرياته في تجربة كمال الدين فرادة
من نوع خاص تمثّلت على مستويين أساسيين: يتجسد الأوَّل في
افتراض الحرف روحاً سحرية تجوس مسارب اللغة، وإشارة كبرى تختزل
جميع الاشارات وتنخرط للتنقيب في خلفية العلاقة الكامنة وراء
بعدين باطنيين الأوَّل للحرف بذاته والثاني للوجود برمته. أما
المستوى الثاني فيقع فيما خلقته ايحاءات الحرف وأطره التناصية
من تماس أو تجاور مع وظائف رمزية وطقوس تعبيرية يصفها قائلاً:
"للحرف طقوسه في روحي، إنَّه يولد لديَّ ولادات شتّى، مرّة
أراه صيحة غضب، ومرّة صيحة جمال، وثالثة صيحة من أجل الحرية
الضائعة، مرّة أتعرَّف عليه كطلسم عجيب لا يمكن الافصاح عن
أسراره، ومرّة أتأمله حتى أتيه تماماً، أذوب في انحناءات شكله
وأضيع في محتواه"2
في أعماقي
طائرٌ أبْيَض
يسقطُ مذبوحاً في أعماقِ المسرح.
وفي أعماقِ المسرح
صراخٌ وأنين وثيابٌ ممزَّقة
وفي أعماقِ الثيابِ المُمزَّقةِ حلم
وفي أعماقِ الحلمِ نهر
وفي أعماقِ النهرِ صَبيّ
وفي أعماقِ الصَّبيّ قلب
وفي أعماقِ القلبِ قصيدة
وفي أعماقِ القصيدةِ حرف
وفي أعماقِ الحرفِ نقطة
وفي أعماقِ النقطةِ مُتصوّف
وفي أعماقِ المُتصوّفِ إله:
إله ينظرُ إلى طائري المذبوح بعينين دامعتين.
(أعماق، ص 54)
يترك النص السابق مجالات تأويلية رحبة لتوليد دلالات افتراضية
للحرف حيث شكَّل نواة للبؤرة التخيلية، وأقام صوراً ذهنية
متراكمة أججّت تساؤلات شعرية متعددة الحوامل والمشارب. وخلَّفت
بنية تكرار المفردات فضلا عن المنطق النحوي للجمل رابطاً
دلالياً/إيقاعياً وثيقاً أسهم في تقوية وترسيخ التجليات
الرمزية لدائرة دلالة الذات العارفة. فقد تعالقت مكونات الذات
في النص بصورة تنبني أثناء تفسخها والعكس صحيح أيضاً، إذ بدأ
تشكيلها من عودة ضمير المتكلم في مفردة (أعماقي) وتتابع طبقات
المعنى بالحفاظ على لازمة شبه الجملة الخبرية يعقبها المبتدأ.
وقد تمحورت جميع تشظيات هذه الأعماق على مركز جذب واحد شدها
الى خلفية ذلك المطلق المتواري، والذي سيطر على كل دفقة من
دفقات الرؤيا الشعرية المتشاكلة في جزئيِّاتها فـ (الذات/طائرٌ
ذبيح، الطائر/مسرح، المسرح/ثياب، الثياب/حلم، الحلم/نهر،
النهر/صبي، الصبي/قلب، القلب/قصيدة، القصيدة/حرف، الحرف/نقطة،
النقطة/صوفي، الصوفي/إله، الإله عاجزاً يحدِّق بالطائر
الذبيح). وتجدر الإشارة هنا لما بدا على النص من طغيان لصيغة
الاسم إذ تكاد الاسطر الشعرية تخلو من الأفعال (فعلين فقط) مما
أبعد الصورة عن الحركية أو الاستمرار في الحدوث وجعلها أقرب
للاطلاقية والثبات الواقع خارج تأثير تبدلات الزمن.
لم يسع أديب كمال الدين لجعل النص الشعري مكاناً لاختزال
طوفانات الحروب وما تمخض عنها إلا بمقدار ملامستها لما يخبو من
دلالات ورؤى عنيت بفك شفرات الموت والخراب كذوات تحاصر الإنسان
والأشياء وتربك وجودهما. ومن هذه الأرضية تكرر هاجس الموت
بوظيفتيه التصويرية والأخرى العاطفية التأثيرية في مساحة واسعة
من مجموعته (أربعون قصيدة عن الحرف) وبمعان توقظ خزيناً خصيباً
مما ينساب في سياقات وأصول فكرة الموت بوجهيها، الرمزي
والحقيقي:
ستموت الآن.
أعرفُ، يا صديقي الحرف، أنّكَ ستموتُ الآن.
لم تعدْ نقطتُكَ الأنقى من ندى الوردة
تتحمّل كلَّ هذا العذاب
السِّحريّ
والكمائن وسطَ الظلام
والوحدة ذات السياط السبعة.
لم تعدْ، أيّها البسيط مثلي
والضائع مثلي
والساذج مثلي،
تتحمل وحشةَ هذه الرحلة التي لم نُهيّىءْ
لها أيَّ شيء
ولم يخبرنا أحد
عن مصائبها التي لا تنتهي.
انتظرنا - أنا وأنتَ - طويلاً سفينةَ نوح.
جاءَ نوح ومضى!
لوَّحنا له طويلاً
بأيدينا
وقمصاننا
وملابسنا
ودموعنا الحرّى.
لوَّحنا له بيُتمِنا الأبديّ
وبضياعنا الأزليّ.
لوَّحنا له بطفولتِنا العارية
وبشمسِنا الصغيرةِ التي تغيّرَ طعمها
وأصبحتْ بحجمِ ليمونةٍ ذابلة.
لوَّحنا له بكلّ شيء يُرى
وبكلّ شيء لا يُرى.
لم ينتبه الرجلُ إلينا
كانَ طيّباً ومُسالماً
ومهموماً بسفينته وابنه وطيوره.
وكنّا لا نطلبُ شيئاً سوى النجدة!
النجدة!
نعم، يا صديقي الحرف،
دعنا نصرخ الآن:
ال........ن............ج.............دة!
ربّما سيسمعنا ذلكَ الرجلُ الطيّب
أو مَن أرسله في مهمّته العجيبة.
دعنا نصرخ أيّها الحرفُ الطيّب
ربّما سينتبهُ لنا.
لا تمت الآن أرجوك!
(جاء نوح ومضى، ص 7)
تتحرَّك خيوط فكرة الموت في النص السابق باتجاه لا يخذل
التأويل المنحاز لسؤال الوجود والعدم لأنّها تلامس موضوعة
ترقّب الموت، وهي أداة مثالية للتعبير عن فكرة الانتظار وما
يحيط بها من شعائر لا تخلو من أصول أسطورية. إذ تنحسر الذات
المنتظِرة عن الظاهر وتبدأ بالتطلِّع لذلك الغائب/المنقذ (نوح
وتجلياته في الوعي الإنساني) بوصفه القادر على منح هذا الوجود
الموضوعي امتداداً أو وجوداً روحيِّاً أكبر وأعمق في معناه،
ولذا فمن الطبيعي استصراخه كي ينجد رمزيتنا/حروفنا.
بقي أن نشير الى أنَّ أسباباً متعددة دعت الكثير من الشعراء
على اختلاف اتجاهاتهم وأزمنتهم وأمكنتهم لمحاولة تمثل المدونة
الصوفية، ومنهم من نجح في الاقتراب منها، ولكن أديب كمال الدين
لم يقترب منها وحسب إنما لامسها بقوة وكان بارعاً في هضمها
وإعادة إنتاجها من منظور شعري حديث قدَّم عبره منجزاً له
صيرورته وخصائصه الداخلية الخلاقة وكأنه صورة واستبطان حي
لجوهر الذات العارفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هناك فرقة من الصوفية تعرف باسم الحروفيين، أي المشتغلين
بالحروف، مؤسسها فضل الدين الأسترآبادي، ومن أبرز اتباعه
الشاعر التركي نظامي. ومن بين ما يعتقد هؤلاء هو أنَّ للحرف
كينونته المستقلة التي تحيا وتسبِّح لله تعالى.
* أربعون قصيدة عن الحرف، شعر: أديب كمال الدين، دار أزمنة،
عمَّان، الأردن، ط1 ،2009.
1 ، 2 – حوار مع الشاعرأديب
كمال الدين، أجراه: محمد غازي الأخرس، مجلة (أوراق
ثقافية)، الأردن، ع 4 آذار 2001.
مجموعة (شجرة الحروف) للشاعر أديب
كمال الدين:
إنتاج الحروفية- إنتاج المعنى
زهير الجبوري
ناقد عراقي
تكمن عملية إنتاج الحروف في شعر أديب كمال الدين في آليات
منهجية، تضعنا في خانة الكشف عن دلالات مفتوحة ومتنوعة، وعلى
الرغم من وضوح تجربة هذا الشاعر في اشتغالاته السابقة إلا أن
المفارقة الجديدة التي حققها في مجموعته الشعرية (شجرة الحروف)
هي استناده على ثوابت متداخلة في عملية صياغة الجملة الشعرية،
وفي كوامن ذات خيوط رمزية تمتعت باشتغالات عديدة كالتناص،
وانزياح المعنى، واللغة المجازية المكثفة، وغيرها من التوصيلات
الأخرى.
ولعل اللعب في منطقة الحروف هو اللعب في الطاقة اللغوية التي
يمكن أن تتشكّل تحت ثوابت فنية معينة لتنتج لنا معنى، وكذلك
لتنتج لنا خطاباً معرفياً وجمالياً. إذ "ان طاقة الحروف هائلة،
واستيلاد هذه الطاقة وتشكيلها بحاجة إلى احتراف حروفي يفقه
أسرار هذه المهنة، ويولد منها إشعاعات تنبثق من النصوص لتصبّ
في الواقع، وهذا محكمها النهائي، وغايتها الفضلى". (كما يقول
د. حسن ناظم).
ولكن ثمّة تحوّلات شعرية في نصوص أديب كمال الدين، أعني في
اشتغاله الحروفي، كما بدا واضحاً في تجربته الأخيرة، إذ أنه
أعطى للحروف سمات وظيفية، سمات حرّكت المضمون من قولبته
النظرية والفلسفية إلى مضمون تنقيبي– إن صحّ التعبير-
بالاعتماد على اللعب باللغة وتشكلاتها الحروفية، وكذلك
بالاعتماد على رسم الصور الشعرية المكثّفة والأخذ ب
(تأطيريتها) وفق مزايا أسلوبية حديثة. وهذا دليل قدرة الشاعر
على خلق أساليب أخرى وطرحها تحت المهيمن الشعري، مما تشبّعت به
نصوص المجموعة الشعرية (شجرة الحروف). مثال على ذلك في النص
الشعري: (وصف)، حيث تنهض الحروفية الشعرية بآلية تناصية
للمقاطع الثلاثة المكتوبة:
- 1-
سقطتْ دمعةُ الشاعر على الورقة
فرأى فيها إخوةَ يوسف.
(شجرة
الحروف ص7 )
- 2-
هكذا في دمعةٍ واحدة
رأى الجبلَ ينهدّ هدّاً.
(شجرة
الحروف ص8 )
- 3-
هكذا في دمعةٍ واحدة
أضاءتْ له الدنيا جميعاً.
فاحتارَ الشاعرُ كيفَ يبدأُ، كيفَ يقول
ثُمَّ رأى أن يصفَ المشهدَ ليس إلّا!
(شجرة
الحروف ص9)
إنّ الانفتاح على رؤية الحرف في إنتاج معنى شعري بهذه
التناصيّة الواضحة، هو في حقيقة الأمر إحالة المهيمن الحروفي
في رسم مشاهد بصرية مقصودة. ف(سقوط دمعة الشاعر) "تدفع هذه
اللعبة البصرية إلى واجهة المعنى وتوهّماته"، (كما يقول الناقد
علي الفوّاز). بمعنى حضور المقاطع الشعرية هذه بتوصلاتها
الرؤيوية، انطوى على أرضيّة النص المقدّس بأسلوبية تناصيّة
طبقت على ذات الشاعر.
من جانب آخر لا ننسى، بأنّ الوظائف الأخرى التي اشتغلها الشاعر
أديب كمال الدين للحروف، كانت لوناً معتماً لجوانب فكرية وفنية
معاً، لكن الوظائف هذه كانت ولم تزل تقف بشكل متناظر مع –
النقطة- ليتشكّل المعنى المقصود وفق مقصدية مكتملة الجوانب.
فالحفر باللغة، وتوليده عن طريق ثنائية الحرف والنقطة، انطوى
على أبعاد مجازية مكثّفة بالدرجة الأساس، ركّز عليها الشاعر في
مناطق عديدة في اشتغاله الشعري:
ليسَ
هناك مِن شجرةٍ بهذا الاسم
أو بهذا المعنى.
ولذا أنبتُّ هيكلي العظميّ في الصحراء
وألبستهُ قبّعةَ الحلم
وحذاءَ طفولتي الأحمر
وعلّقتُ عليه
طيوراً ملوّنةً اتخذتْ شكلَ النون
ثُمَّ وضعتُ عليه
بيضةً صفراء كبيرة
اسمها النقطة!
(شجرة الحروف- ص42)
وفي
مقطع آخر:
فمددتُ يدي في قلبي مُرتبكاً
وأخرجتُ شجرةً صغيرةً جدّاً
مليئةً بالشَّمس
سمّيتُها شجرةَ الحروف!
(شجرة الحروف- ص 43 )
نلاحظ عملية استعادة الصورة المجازية الشعرية في تجربة أديب
كمال الدين التي اشتغل عليها في تجاربه السابقة، كيف تعيد
تشكّلاتها تحت هيمنة المشهد الحروفي ليقوم بفتح شفرات فنية
تنهض من خلال الصور هذه مع صياغات استعارية جديدة كما في
الجمل: (ولذا أنبتُّ هيكلي العظمي في الصحراء) و(بيضة صفراء
كبيرة اسمها النقطة) و( وأخرجتُ شجرةً صغيرةً جداً مليئةً
بالشمس/ سمّيتها شجرة الحروف)، إذ "لا تقيم الاستعارة علاقة
مشابهة بين مراجع الدلالة، لكن تقيم علاقة تطابق دلالي بين
محتويات التعابير". (تأويل الاستعارة: أمبرتو إيكو).
( استقراء الواقع حروفياً )
والشيء الملفت للنظر أيضاً، أن هناك تراكمات متوالية قد أقحمها
الشاعر داخل نصوصه الشعرية فاستثار من خلالها واقعية الحروف
والوظيفية التي يقوم بها من خلال الانفتاح على الواقعية
المباشرة بصياغات مختلفة، لكنها تعطي الدلالة ذاتها في إنتاج
المعنى. إذ قام الحرف بأدوار تربّصتْ بالفعل اليوميّ وفق
صياغات مدروسة، هذا يعني أنّ الحرف محكوم عليه بالانطلاق نحو
استقراء الواقع، فمهما أسس الاستقراء هذا فعلاً جمالياً/
شعرياً، في تجربة أديب كمال الدين في مجموعته (شجرة الحروف)،
إلا أن كينونة الجملة الشعرية قد تشظّتْ إلى اشتغالات موضوعية
عديدة لأفعال حسيّة وهاجسيّة، إذ نقرأ في النص الشعري:
(هبوط):
قالت
النقطة:
أيّها الحرف
إنّكَ بحر عجيب،
وملك مُطَارَد،
وساحر يأكلُ قلبه كلَّ شيء،
وطفل أضاعَ دربَه في الوديانِ السحيقة،
وإله رحيم لكنّ أتباعه القساة والقَتَلة،
وشاعر أعمى
مَهووس بالجنسِ والنارِ والموت.
سكتت النقطة.
فنزلتْ دمعتان من عيني الحرف.
(شجرة
الحروف ص 95)
وهكذا ركّزتْ نصوص هذه المجموعة على تأصيل الحرف من خلال وقوفه
كمهيمن مؤثر داخل مركزية الجمل الشعرية، الأمر الذي انعكس على
ذات الشاعر لتكون العملية متداخلة كمضمون واحد لإنتاج الصور
الشعرية التي ظهرت في أهم نصوص هذه المجموعة، بل شكّلت تميزاً
واضحاً عن باقي اشتغالاته الشعرية السابقة.
وحين ندرك ان الشعر (الناضج) هو التكامل اللغوي ذاته، فإنّ
العلاقة الأصيلة التي تجمعه مع (الواقع)، إنما تقوم على حركة
متناهية: حركة تخضع لمهيمنات (ذاتوية)، أي من ذات الشاعرـ
ليحقق فعله الإنتاجي/ الشعري. وهذا يعني، كذلك، وفي سياق
العلاقات التشكّلية، أن السياق الشعري يركّز على أدوات الشاعر
مع كلّ ما يعتمده على أرضية واقعية تحقق له إنتاجه الشعري.
هنا وفي تجربة الشاعر الحروفي أديب كمال الدين تتداخل اللغة
المتكاملة لتعطي حركةً أيقونيةً تقوم على استقراء المعنى
الشعري استقراءاً فعلياً وحركياً من خلال توظيف الحروف، لتصبح
الحروف في هذه المنطقة- تحديداً- أداةً لكشف ما تخفيه اللغة
ذاتها. وهذا ما أحال الوظيفة الواقعية المنتجة للحروف إلى
اللعب بقصيدة حساسة ودقيقة، فالمقطع الذي أمامنا (قالت النقطة:/ أيها
الحرف/ إنكَ
بحر عجيب)، إنما يظهر في فعالية اللغة التي تتجلّى في الأداء (
الموندرامي). وهو استقراء مقصود من قبل الشاعر وفقاً لقدرته
على امتلاك أداته الشعرية التي تحقق له اشتغالاته الموضوعية،
وأيضاً تكرّس له عمقه الشعري للحرف والتنقيب في حروفية الشعر.
******************
* شجرة الحروف، شعر: أديب كمال الدين، أزمنة للنشر والتوزيع ،
عمّان، الأردن 2007.
قراءة في ديوان شجرة الحروف للشاعر أديب كمال الدين:
اللاحروفية عند الحروفي
شاعر وناقد عراقي
في قراءتي لديوان الشاعر الحروفي أديب كمال الدين المعنون
(شجرة الحروف) حاولت أن أقرأ شيئا مختلفا عن المهيمنة الرئيسة
في الديوان، وهي الحروفية وما يتمحور حولها من جماليات في
مستوى الكتابة وما تلبسه من لبوسات في مستوياتها الدينية
والرمزية والصوفية وغيرها، وذلك لرغبتي في القراءة المختلفة،
ولقناعتي أن منجز الشاعر أديب كمال الدين سيُظلم لو قمنا
بتأطيره ضمن الحروفية فقط، خصوصا أن لديه استثمارات أخرى غير
الحروفية، وهي لا تقل قيمة عنها بل تضارعها من حيث الأهمية.
نصوص الشاعر أديب كمال الدين في واقعها أساطير معاصرة، يكتبها
الشاعر موظفا خبراته الحياتية والقرائية، وكي نفهمها ونقرب
وجهة نظرنا للقارئ لابد من تعريف الأسطورة التي هي حسب رولان
بارت عبارة عن كلام، وهو تعريف بنيوي كما هو معروف اعتمد في
وضعه بارت على ثنائية (لغة – كلام) التي قال بها فردينان دو
سوسير، والكلام بالرغم من كونه مدلولا لدال سابق أو يحيل عليه،
إلا أنه أيضا دال لمدلول ثان ٍ يأتي بعده محال عليه، وهو ما
وضحته خطاطة بارت المعروفة، وهي (أي الأسطورة) ذات وجه مرائي
تكشف شيئا أو عدة أشياء و تظهر ما يخالفها. إن الأسطورة تكتبها
السلطات الحاكمة وتوظفها توظيفا كاملا لمصلحتها مهمشة الناس
ومعلية من شأنها هي، وعناصر الأسطورة قد تكون واقعية وربما
حقيقية إلا أن هذه العناصر تستخدم لتحريف الحقيقة ومسخها
وأخيرا قلبها، أي إعادة صياغتها لتخدم ما تود وترغب أن تقوله
السلطات وما تؤمن به أو تريد من الناس أن يؤمنوا به على الأقل.
إنّ الشاعر هو من يكتب الأسطورة، ولن تعدم وجود شعراء يصيغون
عناصر الحدث الحقيقي لكتابة أسطورة تحتوي على عناصر الحقيقة
مفتتة وكأنها ليست هي، وتؤدي أيضا وظائف بعيدة عما كانت تؤديه
وهي خارج متنها الأسطوري، ففي النظم الدكتاتورية يكتب الشاعر
أساطيره لمصلحة السلطات الحاكمة ولمصلحته الخاصة أيضا، فتتحول
الهزائم ونكبات الشعوب إلى انتصارات واحتفالات لها بداية وليست
لها نهاية. إلا أن هنالك شعراء ومنهم الشاعر أديب كمال الدين
يكتبونها ضمن رؤية أخرى بعيدة عما تريده السلطات أو ضد رغبة
السلطات، أو أحيانا تدين السلطات، ومن هنا تكتسب شرعيتها
وقوتها بالرغم من أن الأسطورة ليس من واجبها أن تقول الحقيقة
حسب بارت. إن قراءتنا لنصوص هذا الديوان (اللا حروفية) حصرا،
ستتكئ على الرؤية أعلاه لغرض معرفة كيفية عمل عناصر الأسطورة
وكذلك استقراء العناصر اللا أسطورية فيها أيضا.
في نص (وصف) يستثمر الشاعر بعض عناصر المتون الدينية المقدسة
والمعروفة في بنائها، ولكون هذا المتون حافلة بكثير من الجرائم
ضد الأنبياء والقديسين وغيرهم، وجدنا الشاعر يحاول إعادة
وتوظيب هذه العناصر كتابيا ضمن رؤية شاملة ولكنها غير محايدة:
سقطتْ دمعةُ الشاعرِ على الورقة
إن بكاء الشاعر وسقوط دمعته يعني أنه منحاز لضحايا المتن
الديني، كما أن سقوطها على الورقة بدت وكأنها شاشة كبيرة رأى
فيها الشاعر أحداث التاريخ واضحة ومجسمة أمام عينيه:
فرأى فيها إخوةَ يُوسُف
وهم يمكرون ويكذبون،
ورأى دمَ الذئب
ورأى أباه شيخاً وحيداً يتمتم:
يا أسَفَى على يُوسُف، يا أسَفَى.
الملفوظ (رأى) يحيل إلى ملحمة جلجامش إلا أن بطلها (أي جلجامش)
رأى كل شيء، وقد صورته الملحمة بأنه بطل وإله (ثلثاه إله وثلثه
بشر)، أما النص هنا فهو يتحدث عن الشاعر بوصفه رائيا وقارئا
وواصفا، الشاعر(الكاتب) لا يلتزم بالتسلسل العمودي (الزماني)
للأحداث، فهو حين يبتدئ بيوسف يعود إلى الوراء ليتحدث عن نار
إبراهيم وهي حدثت قبل يوسف كما هو معروف:
ثُمَّ نظرَ مرّة أخرى
فرأى نارَ إبراهيم
ولكنه يستدرك حدثا آخر جاء بعد يوسف بكثير، وهذا يعني أن رؤى
الشاعر لا تمسكها الخطية الزمنية أي أنها لا زمنية ومنفلتة من
زمنيتها، وهو ما يؤكده المقطع التالي الذي يتحدث عن الصليب:
ورأى صليبَ المسيح،
ورأى الموتى ينهضون،
والعميان يتشبّثون
ببعضهم، يصرخون.
وهذا يعني أن عناصر المتن الديني مفتتة وغير منتمية لنصوصها،
وهي الآن باتت منتمية لنص الشاعر ومحكومة بزمن النص المكتوب،
وهو ما يؤكده المقطع التالي الخاص بالنبي موسى الذي ينتمي لزمن
سابق لزمن المسيح:
ثمَّ رأى موسى
يعبرُ بحراً من الرعب
في المقطع الثاني يؤكد الشاعرُ رؤيته، وتبقى دمعة الشاعر هي من
تكشف له الماضي، لكنها لا تغامر كي تستشرف الماضي بل تبقى ضمن
خيارها بوصفها رؤية وليست رؤيا، فهي رهينة الماضي مؤطرة بأحداث
دينية وتاريخية:
هكذا في دمعةٍ واحدة
رأى الجبلَ ينهدُّ هدّاً
وموسى يستغيثُ: أنا أوّلُ المؤمنين.
ثُمَّ رأى عَاداً وثَمُود
ورأى أصحابَ الأخدود.
تستمر رؤية الشاعر من خلال دمعته لتصل إلى أحداث تأريخية
دامية، كما أنه يشير إلى خيط خفي يربط ما بين بدر وما حدث
لاحقا للحسين في معركة الطف وكأنهما سبب ونتيجة:
ورأى صحارى محمّد وأصحابه عند بدر
ثُمَّ رأى رأسَ الحسين
يُحْمَلُ فوقَ الرماح
في المقطع الثالث من النص يعمق الشاعر الرؤية ذاتها ويكثفها،
وبالرغم من أنه لا يستقرئ حاضرا ولا يستشرف مستقبلا، لكنه لا
ينفي كون الحاضر والمستقبل هما نتاج أحداث الماضي، لذا فهو
يشير بدون مواربة إلى حقيقة مرعبة هي أن هذه الدورات الدموية
متكررة وتحدث في كل زمن وكأن الدمَ هو الوقود الأزلي لانبعاث
الحياة من الموت وليس أمام الكاتب سوى الوصف:
هكذا في دمعةٍ واحدة
أضاءتْ له الدنيا جميعاً.
فاحتارَ الشاعرُ كيفَ يبدأُ، كيفَ يقول
ثُمَّ رأى أن يصفَ المشهدَ ليس إلّا!
في نص آخر تحت عنوان (قصيدتي الأزلية) يستثمر الشاعر الأساطير
السابقة مبتدئا بأسطورة الطوفان العظيم ومركب نوح:
هكذا أُلقِيتُ في الطوفان.
إن الشاعر هنا يكتب أسطورته (قصيدته) وكأن الحياة سفر أزلي
متصل يبدأ بالطوفان لتنظيف الأرض من المارقين، ولأن نوح لم يكن
معنيا بإنقاذ الشعراء نجد أن الشاعر يتسلل إلى مركب نوح خلسة
بعد أن أعجزه صدود نوح عنه بعد أن صم أذنيه عن سماع صراخه ولم
يأبه لصيحاته وتوسلاته:
كنتُ أصرخ:
يا رجلاً صالحاً،
يا رجلاً مُبحراً إلى الله
خذني معك.
وإذ لم يأبه نوح لصيحتي
تسلّلتُ إلى المركبِ: المعجزة.
إن المركب الذي أنقذ الصالحين من الموت تحول إلى سجن للشاعر،
فقد نزل الجميع مباركين وفرحين إلا الشاعر، فقد كان قراره
بصعود السفينة قرارا فرديا ولكن النزول من السفينة (الجلجلة)
لم يكن بيده :
حتّى إذا هدأت العاصفة
وقيلَ يا أرض ابلعي ماءكِ،
هبطَ الكلُّ من سفينةِ نوح
فرحين مُبَارَكين
إلّاي
وإذا كان نوح (ع) قد صم أذنيه عن سماع صوت الشاعر في بدء
الطوفان ورفض اصطحابه، فالشيء ذاته حصل بعد توقف هطول الماء
وابتلاعه من قبل الأرض، بل إن نوح استنكر وجود الشاعر بالرغم
من اقراره بصلاح نوح ورسالته:
وثانيةً صرختُ بنوح:
يا رجلاً صالحاً،
يا رجلاً عادَ من طوفانه: الجلجلة.
قالَ نوح: مَن أنت؟
قلتُ: أنا الإنسان.
قالَ: مَن؟
قلتُ: أنا المؤمنُ الضّال.
قالَ: مَن؟
وتركني في المركبِ دهراً فدهراً
إن رحلة الشاعر رحلة خيالية تخترق الزمن، وهي رحلة فردية تقوده
فيه الأقدار ويواجه مصيره منفردا لا أحد يشاركه المصير وليس له
أتباع… ولا يوجد لديه حمامة أو غراب كي يخبراه فيما لو انحسر
الماء أم لم ينحسر. إن بقاء الشاعر في السفينة معناه أنه قد
بقي على فطرته ولم يتلوث بما كان يحصل خارج السفينة:
حتّى إذا غيّبَ الموتُ نوحاً،
تحرّكَ المركب
تحرّكَ بي وحدي
لأواجه طوفانَ عمري
في موجٍ كالجبال،
أنا الذي لا أعرفُ الملاحةَ والسباحة
وليسَ لديّ حمامة أو غُراب.
إن الشاعر أديب كمال الدين يتخذ من الأسطورة قناعا لرحلته
الزمنية وهي رحلة وجودية (انطولوجية) بامتياز حيث تنشطر
الأسطورة لديه إلى صورة ومرآة ولا تكاد تفرق بينهما فإن غابت
الصورة غابت المرآة وكأنهما متن وهامش ولكنهما متعادلان في
مستوى القيمة الرمزي. أي لا سيادة لأحدهما على الآخر، وهو هنا
يستثمر تقنية القناع بصورة متفرّدة وغير مسبوقة، إذ لا يتخذ من
شخصيات الأسطورة قناعا له بل يتخذ من متنها قناعا ليقول ما
يريد، ويغدو الحدث الأسطوري حدثا مركبا يضم الحدث الأصلي
والحدث النصي أي الذي كتبه في نصه وهو غير منظور، ويغدو نصه
مرآة محدّبة تضم وتجمع كلا الحدثين وكلا البطلين، أقصد بطل
الأسطورة والشاعر وكأنهما مرآة لبعضهما البعض.
ما يؤكد كلامنا أعلاه ما نقرأه في المقاطع الباقية من النص
ذاته حيث إن الحدث الأسطوري بقي متصلا ولم يحدث فيه أي قطع،
وهذا الاتصال يظهر بينا في ثنايا النص، فبعد أن انتهى الطوفان
استمرت الأسطورة بالنمو من خلال أحداث أساطير أخرى أو أحداث
دينية مقدسة، فالناس الصالحون الذين أنقذهم نوح
لم يتوانوا عن إضرام النار لرسول آخر هو إبراهيم، ومرة
أخرى يُلقى الشاعر وسط (الحدث) النار:
هكذا
أُلقيتُ
في النار:
بعدما أضرمَ النارَ أهلُ أور
لإبراهيم وألقوه فيها،
انتبهوا إليّ.
كنتُ أغرقُ في الدمعِ من أجله.
قالوا: إنّه من أتباعه فألقوه في النارِ أيضاً.
هكذا
أُلقيتُ
في النارِ أيضاً.
وهنا تتدخل السماء لإنقاذ إبراهيم لتكون عليه النار بردا
وسلاما، أما الشاعر فلا أحد ينقذه، وكأن الأرض والسماء
تعاقبانه أو تتواليان على عقابه، إن النار التي أُلقيَ فيها
الشاعر نار أزلية، وهي نار أخرى غير نار إبراهيم، بل هي نار من
الألم والحقد والحرمان، وإذا كانت هي كذلك فأنّى لرحلة محاطة
بثالوث الألم والحقد والحرمان أن تغدو بردا وسلاما؟
وإذ كانت النارُ على إبراهيم برداً وسلاماً
فإنّها لم تكنْ لي
سوى نار من الألمِ والحقدِ والحرمان
اشْتَعَلتْ،
ولم تزلْ تشتعل فيَّ
في كلّ يوم،
هكذا إلى يوم يُبعَثون!
في المقطع الثالث من القصيدة يستعير الشاعر متنا ثالثا من
الأسطورة بوصفها في وجه من وجوهها حدثا دينيا مقدسا، إن الزمن
النصي متغاير كالزمن الأسطوري ويلبس لبوسات متغيرة باختلاف
الزمن، وبعد أن كان زمن الطوفان زمنا هوائيا وزمن ابراهيم زمنا
ناريا، فإن الزمن الثالث كان زمنا مائيا وهو زمن البئر
(الظلمة):
هكذا
أُلقيتُ
في البئر:
ألقاني إخوتي
وعادوا إلى أبي عشاءً يبكون.
إن ظلمة البئر الذي أسقط فيه الشاعر ظلمة قاسية، يتحول فيها
الشاعر إلى هلام، حتى أن السيارة لا يمكنهم إنقاذه، فكيف يمكن
لهم أن ينقذوا هلاما، وما الذي يغريهم فيه كي ينقذوه إذ أنه لم
يكن غلاما ولم يكن جميلا، فتركوه وحيدا تنهشه الظلمة والخوف
والانتظار في سجنه المريع:
لكنّ السيّارة إذ وصلوا إلى البئر
ما قالوا: يا بشرى هذا غلام
بل قالوا: وا أسفاه هذا هُلام.
وتركوني في البئر
يمزّقني الظلامُ والخوفُ والانتظار.
في ختام هذا النص تبقى الأسطورة (أسطورة الشاعر) مفتوحة على
الاحتمالات كافة، وهي احتمالات قدرية قد تحدث أو لا تحدث
وتعتمد على الصدفة المحض، وحتى لو خرج الشاعر فخروجه سيكون
خروجا متأخرا بعد أن لحقت به خسائر فادحة:
ربّما سأخرجُ من البئرِ يوم يُبعَثون
أو ربّما يوم يُقالُ للأرضِ: ابلعي ماءكِ.
فأخرجُ من مركبِ نوح
أو من نارِ إبراهيم،
وقد أكلني الرعب
ولَفَظَني الموج
وأطفأت المأساةُ عيوني.
في نوع آخر من النصوص اللاحروفية نجد العلاقة بين الشاعر
وقصيدته علاقة مركبة فهي الشاهد والدليل على تورطه باقترافها،
فحينا يقدمها الشاعر بوصفها دليل رغبة مرتبكا لفاتنة تجلس في
جانبه:
أعطيتُ قصيدتي الجديدة
بأصابع الارتباكِ والرغبة
إلى الحسناءِ الجالسةِ بجانبي في الباص.
وقد تكون قصيدة الشاعر رسالة محبة ومودة للطفولة الجميلة، فهو
لما يزل بعد ذلك الطفل الأبدي الذي يجد في القصيدة لعبته
المحببة والأثيرة:
ثُمَّ أعطيتُ قصيدتي الجديدة
للطفلِ الذي يلعبُ في الحديقةِ العامّة.
قلتُ له: العبْ معها
ولكَ أن تصنعَ منها لُعَبَاً لا تنتهي
بألوان قوسِ قزحٍ لا حدّ لها.
القصيدة هدية الشاعر للطبيعة الحية والحرة والمتحركة والحالمة،
لذا فالشاعر حين يسلمها للنهر بمحبة طاغية فهي تمثل اعترافا
منه أن من شاركه في كتابة القصيدة هو النهر أيضا، فالقصيدة لم
تعد ابنة الشاعر فقط بل هي ابنة النهر أيضا:
ثمَّ أعطيتُ القصيدةَ للنهر
قلتُ له: خذها
إنها ابنتك أيضاً.
وإذا كان كل من المرأة والطفل والنهر لم يستجيبوا لهدية
الشاعر، فإن السلطة (الشرطي) هي مَن يخاف القصيدة، إذ كيف
لشرطي أن يقرأها ويخمن مضمونها الإنساني والكوني، إن الشرطي
(السلطة) يخاف القصيدة وبالتالي فهو يلاحقها:
وحدهُ الشرطيّ
اقتربَ منّي
وصاحَ بصوتٍ أجشّ:
* ماذا في يدك؟
قلتُ: قصيدةٌ جديدة.
إن الشرطي هو الذي اقترب من الشاعر خائفا ليسأل عما في يده،
ولم يهد له الشاعر قصيدته وهذا عكس ما حصل مع المرأة والطفل
والنهر. وبالطبع فالشرطي له طريقته المختلفة في قراءة القصيدة،
فهي بالنسبة إليه متهم يجب التحقيق معه واستخلاص المعلومات
منها تحت كرسي التعذيب، ولذا لم يتوان عن إدخالها الغرفة
الجهنمية:
فأخذَها منّي
ودخلَ غرفته السوداء،
دخلَ ليربطَ القصيدةَ إلى كرسيّ حديديّ
ويبدأ بجَلْدِها بسوطٍ طويل
وكما لاحظنا في أعلاه فالنص كان قد بُني دون الاتكاء على
الحروفية وهو مستلّ من الحياة المعاصرة وما يؤمن به الشاعر.
والشيء ذاته يمكن ملاحظته في نص: (القليل من التراب) الذي
يشعرن فيه حزمة طويلة من تفاصيل الحياة التي يختلط فيها ما هو
سياسي بما هو اجتماعي وثقافي:
سيبقى القليلُ من الأكاذيب،
وترّهاتِ مدائح الشعراءِ للملوكِ الظَلَمَة.
سيبقى القليلُ من مواعظ المُدرّسين المُرتشين والزوجات
الغبيّات،
والقليلُ من الأوامرِ الإداريّةِ بالتعيينِ والفصلِ والطرد،
والقليلُ من التقارير السرّيّة.
في المقطع الثاني ينتقل الشاعر إلى ما هو خاص ومرتبط بأحداث
الطفولة والصبا والبلوغ:
سيبقى القليلُ من ذكرياتِ الطفولة،
وصورِ العيدِ غيرِ السعيد،
وأحلامِ البلوغِ ورسائل الحُبِّ وصورِ العائلة.
ولكن كل ذلك سيبقى محض تراب فالأحداث تراب والذكريات تراب ولا
يتبقى في الآخر إلا القليل من التراب:
نعم،
كلُّ شيء سينقلبُ إلى تراب.
وسيبقى، أيضاً، القليلُ من التراب!
في نص آخر تحت عنوان (شجرة الثعابين) نقرأ استثمارا لمراحل
العمر الإنساني بدءا بالطفولة حيث نقرأ:
حينَ بدأتُ أحبو
ثُمَّ أخطو قليلاً قليلاً،
تسلّقتُ شجرةَ الطفولة
بعينين فرحتين
تتطلّعان إلى بهجةِ التفّاح
وفرحِ الموز.
إن السقوط من شجرة الطفولة يعني الوقوع في دائرة المراهقة حيث
اكتشاف الجسد والذات وتبلور الأنا:
استمرَّ سقوطي عاماً فعاماً
ولم أصل إلى الأرض.
كنتُ خفيفاً كما يقولُ الحلم،
كنتُ خفيفاً بما يكفي
لأسقطَ على شجرةٍ ثانية،
تُدعى: شجرة الحُبّ.
تسلّقتُها بعينين فرحتين
تتطلّعان إلى لذّةِ التفّاح،
لكن السقوط من شجرة الحب باتجاه شجرة الرغبة وقطف التفاح يعقبه
سقوط محتم وأخير هو السقوط على شجرة الموت، إذن هي رحلة وجودية
(انطولوجية) بامتياز:
لكن رغم مرور السنين
لم أصل إلى الأرض.
ربّما لأنّني كنتُ سعيداً كما تقولُ الدعابة،
ربّما لأنّني كنتُ سعيداً بما يكفي
لأسقط على شجرةٍ ثالثة
تُدعى: شجرة الموت.
في النص أعلاه يتشابك ما هو وجودي بما هو أسطوري، فجهنم
والتفاحة والثعبان، هي عناصر مهمة من أسطورة الخليقة وقصة آدم،
وهنا نلاحظ أن الشاعر يكثف رؤياه موضحا أن طريق الحياة هو ذاته
طريق الموت وشجرة الثعابين تضارع شجرة الخطيئة الأولى حيث
الخروج إلى المطلق الإنساني والدخول في الدائرة النصية
المغلقة، ولكن يبدو أن شجرة الموت تثير الضحك عند الشاعر
لكونها أعلى القمة الإنسانية ولكن هذا الضحك سيعقبه بكاء حتما:
هذي المرّة
كانَ الأمرُ خطيراً.
فشجرةُ الموتِ لا تحُبّ المزاح،
لا تحُبّ الطفولةَ ولا الحُبّ
لكنّها شجرة مُضحكة،
كانتْ طويلةً كجهنم
وساقها ملساء كجلدِ الأفاعي.
هنا نجد استثمارا للزمن الشخصي الآني فبعد أن استثمر الشاعر
الزمن الدايكروني (العمودي) للأسطورة نجده يستثمر زمنا آخر،
زمن مكثف ومركز وقصير في رحلة الإنسان الحياتية. أي نحن إزاء
زمنين، زمن الأسطورة وأبطالها وزمن الشاعر وأحداثه، وإذا كانت
الرحلة الأولى رحلة نصية مبثوثة في سائر النصوص المقدسة
ويحياها الشاعر بخياله، فالرحلة الأخرى رحلة حقيقية يعيشها
بأعصابه:
فشجرةُ الموت،
كما قيلَ لي،
مسكونة بالندم،
وقيلَ مسكونة بالملائكة،
وقيلَ بل بالأجراسِ السُّود،
وقيلَ بل بالثعابين،
في نص (الغريب) يستثمر الشاعر الحكائي والسحري في البناء
الشعري، وكما هو معروف فالغرائبية هي من تتحكم بالسحري عن طريق
الحكاية وهي غالبا ما تكسر أفق توقع القارئ مما يقود للدهشة
والمتعة والمغايرة:
توقّفَ الغريبُ، عند النبع، وقت الغروب،
توقّفَ ليشربَ وحصانه الماء،
فوجدَ عيناً بشرية
ويداً بشرية
وقناعاً من الذهب
وبيضةً من الذهب
وكتاباً كبيراً.
النبع هنا كان نبعا سحريا، عنده أعطيات يمكنه إعطاءها لمن يمر
قربه، هو ليس كمصباح علاء الدين ما أن يمسحه الغريب بكفه حتى
يخرج إليه الجني ملبيا طلباته، والشاعر(الغريب) لم يكن بحاجة
ليفعل ذلك معه، بل إن مجرد وصوله عند النبع وتأمله الطويل في
مائه كان كافيا كي يسأله النبع عما يمكنه أن يعطيه للشاعر وليس
ما يطلبه الشاعر منه:
أيّها الغريب
اخترْ شيئاً واحداً ولا تزدْ
واعلمْ أنّ العينَ ستجعلكَ ترى الغيب،
واليد ستصنعُ منكَ المحاربَ الشجاع،
والقناع سيجعلُ النسوة
في كلّ زمانٍ ومكان
يتسابقن للقياك،
والبيضة ستصنعُ منكَ أثرى الأثرياء،
والكتاب سيجعلكَ الحكيمَ الأعظم.
فعلا هي أعطيات باذخة، ولكنها غير مجدية للغريب المبتعد عن
وطنه، فهو لا يبحث عن القوة والفروسية فهو لا يريد أن يكون
بطلا ولا يريد قراءة الغيب ويصبح عرّافا، ولا يريد من النساء
كي يتراكضن خلفه، ولا يطمح بالثراء ولا الحكمة. إن الغريب
يبحث عمن يداوي روحه من سأمها، يبحث عن ترياق يعيد إلى روحه
البهجة لذا فهو يسأل النبع قائلا:
أيّها النبع،
هل عندكَ دواء للسأم؟
* قالَ النبع: لا.
وهل عندكَ دواء للغربة؟
* قالَ النبع: لا.
وهل عندكَ دواء للموت؟
* قالَ النبع: لا.
إن أسئلة الغريب للنبع، هي في واقعها روحية ووجودية كشفت لنا
عما يريده الغريب، وبالتالي أشعرت هذه الأسئلة النبع بلا
جدواه، وأشعرته بفقره وعدم قدرته في جلب السعادة للغريب، لذا
يشعر النبع بالخجل من نفسه ويذوي رويدا رويدا ويموت دون أن
يترك أثرا:
خجلَ النبعُ من كلامِ الغريب
وصارَ ماؤه يشحبُ شيئاً فشيئاً
حتّى أصبحَ،
بعد أربعين يوماً،
أثراً بعدَ عَين.
في نص(تحولات) تبدأ الشرارة الشعرية على شكل هاجس ينمو في
الداخل، لاكتشاف الأنا من خلال الآخر المكمل والمكافئ،
والقُبلة تمثل بداية في تلمس الشعور الإنساني النبيل والخالص،
القُبلة هي الباب لاستكناه ما في القلوب، من خلال حرارتها تعرف
ما في داخل قسيمك الإنساني الثاني:
حين قبّلتُكِ لأوّل مرّة،
نبتتْ في بطنكِ الجميلِ وردةٌ حمراء.
وحين قبّلتُكِ الثانية،
حلّقَ طائرٌ أبْيَض فوقَ جسدينا العاريين.
إن توالي القبل يقود إلى توالي الأحداث الإنسانية الملونة،
فالوردة الحمراء والطائر الأبيض هي أكثر من بشرى في عالم مجدب،
وهذا الجدب يمكن معالجته وتوظيبه وجعله أكثر حركية ونشاطا
وربما صخبا من خلال القُبل، القُبل تجعل عالم الشاعر مليء
بالرياح والرعود والصواعق:
وحين قبّلتُكِ الثالثة،
هاجتْ عاصفةٌ زرقاء.
وحين قبّلتُكِ الرابعة،
سقطتْ علينا صاعقةٌ لا شرقيّةٌ ولا غربيّة
وأحرقتْ جسدينا الفَرِحَين،
القُبلات تمثل جسرا بين الحياة والموت، فكما يكمل الرجل
المرأة، فإن الموت يكمل الحياة، وإذا كانت الوردة الحمراء رمزا
للعالم الحي، حيث الدم والجنس والرغبة، يكون الطائر الأبيض
رمزا للموت حيث يتفرق الروح عن الجسد لتشهق للعلى مثل طائر
أبيض تاركة الجسد الإنساني مسجى على الثرى:
فذهبتِ أنتِ وردة حمراء إلى الحياة
وذهبتُ أنا طائراً أبيض إلى الموت.
في ختام قراءتنا لهذا الديوان نود أن نشير إلى وجود نصوص أخرى
مبنية على اللاحروفية من مثل نصوص: (القبطان) و(رغبات) و(صبي)
و(أحجار) و(طيران) و(حيرة ملك) و(فؤوس)، وهي تنزع للتقنيات
السابقة ذاته، حيث السرد والتكثيف واستثمار الحكائي والأسطوري
بطريقة الغرائبي والسحري منطويا ومنبثا في داخله الكثير من
تفاصيل ما عاشه الشاعر في حياته سواء داخل الوطن (الزنزانة) أو
في خارج الوطن (المنفى) وكل منهما يقود إلى الآخر، وذاك ما
أنبأتنا به نصوص الشاعر
أديب كمال الدين بكل نبل ومحبة.
*******************************
شجرة الحروف، شعر: أديب كمال الدين،
دار أزمنة ، الأردن
2007.
قراءة في مجموعة (النقطة)؛
شعرية النقطة والحرف في شعر أديب كمال الدين
د. سعد التميمي
ناقد وأكاديمي عراقي
تشكّل النقطة والحرف بنية مؤسسة وفاعلة في التجربة الشعرية
للشاعر أديب كمال الدين. إذ استثمر اللغة من خلال عناصرها
الفردية، حتى امتدت مدة طويلة دون أن تستنفد دهشتها لما حملتها
من تساؤلات وجودية في عالم تتقاطع فيه الرؤى وتتلاشى الأحلام
في ظل العنف والظلم والحرب والاقصاء والقمع والتسلط بمقابل
التطلع للتسامح والعدالة والسلم والديمقراطية والحرية
والمشاركة، فالشاعر يفجّر الطاقة الكامنة للغة من خلال النقطة
والحرف وهما خط الشروع لحركة اللغة في فضاء الشعر الذي يطير
بجناح الخيال. ويعد هذا التوظيف تحولا في الخطاب الشعري لكمال
الدين الذي اشتغل على النقطة والحرف ليكونا جسرا يعبر من خلاله
الشاعر الى معان متنوعة تتفجر شعريتها من خلال الانزياحات التي
تنطلق من النقطة تارة والحرف تارة أخرى لتصبح هذه التجربة
متميزة لينفرد فيها الشاعر عن غيره من الشعراء. فاختياره
للحروف أداة للتعبير عن معانٍ وأفكار وموضوعات مختلفة اذ
يشحنها بطاقات دلالية وعاطفية فاعلة جعلتها قناة مؤثرة في
إيصال مشاعره وانفعالاته للمتلقي، وقد نجح الشاعر في جعل هذه
الحروف مفاتيح تفتح للمتلقي ما ينغلق من معان عبر تأويل
دلالاتها، فهو من خلال هذه الحروف يطارد المعنى ويحاول أن
يشكّله بالطريقة التي تضمن تجسيد الفكرة من جهة، وانجذاب
المتلقي والتفاعل مع النص من جهة أخرى، وما هذه الحروف إلّا
بصيص من الضوء ينير أمام المتلقي الطريق من أجل الوصول إلى
الغاية المتمثلة بالمعاني المتخفية إذ يتخذ الحرف صوراً
ورموزاً متعددة في قصائد الشاعر، فهو أغنية وبحر ونهار وامرأة
وقمر وليل، ومن هذا التعدد للدلالات يكتسب الحرف في قصائد
الشاعر أديب مقوماته الشعرية وجمالياته التعبيرية، والقارئ
لهذا الديوان يلاحظ بوضوح أن للشاعر رؤيته الخاصة الذاتية
للحرف وما يمتلكه من طاقات تعبيرية وشحنات عاطفية ويعكس ذلك
الصور التي أسسها الشاعر على الحرف وما تعكسه هذه الصور من
دلالات إيحائية ذات شحنات عاطفية عالية.
ومن هنا نستطيع أن نقول إن الشاعر أديب كمال الدين استطاع من
خلال هذه التجربة أن يجعل خطابه الشعري متميزاً عن الخطاب
السائد في الساحة الشعرية من خلال اتخاذ الحروف مركزاً للعملية
الشعرية واستنطاقها بغية الكشف عن دلالاتها، ومن ثم التأثير
وتحقيق فعل الاستجابة لدى المتلقي ولعل اختيار الشاعر النقطة
عنواناً لديوانه وورودها في ست قصائد من الديوان فضلاً عن
ورودها في معظم القصائد يأتي من اهتمامه بالحرف وذلك لأن
النقطة تمثل بداية الشـروع في رسم الحرف من جهة وعلامة تميز
العديد من الحروف من جهة أخرى، أي أنها تكشف عن دلالاتها ومن
هنا حاول الشاعر إسقاط جميع انفعالاته وعواطفه وخيباته وآماله
وحبه وحزنه وهزائمه وانتصاراته على الحرف محاولاً محاورته
للكشف عن معانيه التي تصور هموم الشاعر واهتماماته فالشاعر هو
النقطة، التي تعطي للحروف معانيها وهي المرآة التي تعكس صورة
العالم كما يراها الشاعر وهذا ما تعكسه قصيدته "محاولة في أنا
النقطة" التي يقول فيها :
أنا النقطة
أنا بريقُ سيفِ الأنزعِ البطين
أنا خرافةُ الثوراتِ وثورات الخرافة
أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى
أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض
أنا بقية مَن لا بقية له
أنا فرات قتيل ودجلة مُدجَّجة بالإثم
أنا ألِف جريح
ونون فتحتْ لبّها لمَن هبّ ودبّ.
فالنقطة هنا هي أول الخط وهي من تكشف الحقيقة وهي من تحيل الى
انكسارات الواقع وتناقضاته، والنقطة هي الشاعر والكشف عن
دلالاتها يعني الكشف عن هموم وتطلعات الشاعر وهذا ما يفعله في
الجملة الشعرية التي تلت أخباره عن نفسه بالنقطة والتي يتخذ
فيها المعنى صوراً مختلفة فهو– أي الشاعر– يخبر عن نفسه مرة
ببريق سيف الأنزع البطين في إشارة إلى (علي بن أبي طالب) في
إشارة إلى العدالة المفقودة التي يتطلع لتحقيقها، ومرة يخبر
عن نفسه بخرافة الثورات وثورات الخرافة في إشارة إلى دموية
الثورات التي لا تحقق للناس طموحاتهم وتبقى مجرد شعارات تردد
بين الحين والآخر. وتتوالى بعد ذلك الصور التي تقوم على التضاد
والتقابل لتعكس هموم الشاعر وإحساسه بالضياع وإصراره على
البقاء والتحدي، وهذا ما يعكسه قوله (أنا معنى اللا معنى وجدوى
اللا جدوى) إذ يحاول الشاعر أن يرسم حالة الحيرة والقلق
الوجودي بين الإحساس والخوف من الضياع الذي يلاحقه بين الحين
والآخر، اذ تؤججه معاناة الواقع بأشكالها المتعددة، وهذا ما
تجسده الصورة الشعرية التي يخبر فيها الشاعر عن نفسه نفسه
بالفرات القتيل مرة ودجلة المدججة بالإثم مرة أخرى. إذ يحاول
أن يسقط معاناته وآلامه على مفردات الطبيعة المتمثلة بـالفرات
ودجلة بل يتشظى الشاعر ليصبح صورة لجميع الذين يعانون من حوله
عندما يجعل من نفسه ألِفا جريحا، والجرح هنا رمز لجميع أشكال
الهزيمة والانكسار الذاتي، وهنا يستثمر الشاعر الحرف (الألِف)
ليرسم حجم المعاناة والجرح هنا يحيل الى أشكال الظلم المختلفة،
ويختم هذا المقطع من القصيدة بجملة شعرية يوظف الشاعر حرف
النون في تشكيل صورتها ليغدو حرف النون الذي يخبر به الشاعر عن
نفسه رمزاً للمدينة المنهزمة والمستباحة من قبل الجميع وهو هنا
يوظف شكل الحرف المعروف الثابت وغير القابل للتغيير.
وتتحول الحروف رمزا للقتلة والمتسلطين الذين يستبيحون الحقوق
والحريات فيهاجمهم مستثمرا علاقة النقطة بالحرف ليخاطب ما ترمز
إليه والمتمثل بكلام المنافقين الذين يتكلمون بلسان السلطة
ويلهثون وراء الشهوات غير عابئين بآلام البشر إذ يقول:
أنا النقطة
أنا مَن يهجوكم جميعاً
أيّتها الحروف الميّتة.
سأهجو نفاقَكم وسخفَكم،
سأهجو أكاذيبكم وترّهاتكم
وكفاحكم من أجلِ الأفخاذِ والسياطِ وكؤوسِ العرق.
آ...
ما أشدَّ حزني
ما أعمقَ دمعتي التي وسعتْ آلامَ البشر
ما أفدحَ خطيئتي: خطيئة المعرفة
ما أعظمَ زلزالي وخرابي الكبير،
أنا النقطة.
فالشاعر يعمد الى وظيفة النقطة التي تمتلك سر خلق الحرف ووضوح
دلالته فبدونها يتلاشى الحرف فالشاعر باخباره عن نفسه بالنقطة
أراد أن يقول إن الشعر هو من يشكّل الكون ويحن قراءته، فالصور
التي تتشكل من خلال وصف الحروف بالميتة وإضافة النفاق والسخف
والأكاذيب والترهات إلى هذه الحروف تعكس إسقاط الشاعر لما
يحمله من مشاعر وانفعالات على هذه الحروف. ولكي يجعل خطابه
أكثر تأثيراً وتميزاً، فأنه يحاول أن يزجّها في صور شعرية تقوم
على الانزياح والمفارقة لتشعّ بمعانٍ زاخرة تستثير المتلقي
وتؤثر فيه، ولأن إحساس الشاعر مختلف وكذلك حزنه دمعته وخطيئته
ومعرفته وزلزاله وخرابه فأنه يلجأ إلى أسلوب التعجب الذي يكرره
أربع مرات قبل أن يختم المقطع والقصيدة بالجملة التي بدأ بها
القصيدة (أنا النقطة) إذ يتعجب من شدة حزنه في إشارة إلى أطباق
الحزن بأسبابه المختلفة على الشاعر ويتعجب أيضاً من عمق دمعته
التي توازي شدة الحزن وتعبر عن حجم معاناة وآلام البشر التي
أحس بها وأراد التعبير عنها ويكرر التعجب من خطيئته التي تتمثل
بخطيئة المعرفة، معرفة كل ما يحيط به من تفاصيل يومية واقعية،
ولتصوير حجم خراب الروح وتداعيها فإنه يتعجب من عظم زلزاله
المتمثل بالانكسارات والهزائم التي عاشها ويعيشها ويتعجب أيضاً
من خرابه المتمثل بخراب الروح بكل ما تحمله من أمال وطموحات.
وتتوسع دائرة توظيف
الحروف للتعبير عن الأفكار التي تراود الشاعر في بعض القصائد
لتمثل الركيزة الأساسية التي يبني عليها القصيدة كما في
"محاولة في الموسيقى" و"محاولة في الحروف" التي يقول في مقطع
منها:
كلّ يومٍ أطلقُ عليكَ النارَ ولا تموت.
أشفقُ عليكَ لأنّكَ قويّ كالثورِ المُجنّح
ووحيد كمرآةِ أعمى
وغامض كرأسٍ مقطوع
ووحشيّ كدبّابةٍ تسحقُ طفلاً
وضائع كحرفٍ لا نقطة فيه
وساذج كأنكيدو
وخاسر ككلكامش.
أشفقُ عليكَ لأنّكَ تشبهني تماماً،
لأنّكَ أنا!
لم يعمد الشاعر في توظيف الحرف والنقطة في شعره بشكل اعتباطي
على سبيل التعمية بل أراد ان يفجر شعرية اللغة من خلالهما وكان
يرى بأن اللغة هي قناة الاتصال بينه وبين الواقع من جهة وبينه
وبين المتلقي من جهة أخرى، لذلك كانت الانزياحات واضحة الدلالة
ففي هذا المقطع تنشطر أنا الشاعر من خلال الحوار الذاتي فهو
يخاطب نفسه ويختار حرف الألف رمزا لأناه المنشطرة ويتخذ من
التشبيه مادة لتشكيل المعاني التي يصورها في هذا المقطع وتأتي
دينامية التشبيه من صور المشبه به الذي يكون في الغالب متضمناً
لشـيء من الطموح والابتكار وفي كل صورة من صور التشبيه يحاول
الشاعر أن يكشف جانباً من جوانب نفسه، ففي الجملة الشعرية
الأولى يصور الشاعر موت الروح كل يوم من خلال ما تتعرض له من
انكسارات ولا يموت الجسد وفي الصورة التشبيهية الأولى يشفق على
قوته فهي كالثور المجنح لأن هذه القوة جامدة لا تتحرك. وفي
صورة تشبيهية معبرة وجميلة يصف وحدته بمرآة الأعمى ويستمر في
وصف غموضه ووحشيته ليصل إلى ضياعه الذي يجسده من خلال صورة
الحرف الذي لا نقطة فيه، فهي المرشد والدليل الذي يزيل الضياع
عن الحروف ليجعلها مكشوفة ومعبرة عما تختزنه من معان يقصدها
الشاعر، ويلجأ الشاعر للتناص في تصوير سذاجته بأنكيدو الذي سقط
سريعا في الشهوة، عندما اغوته (شامات) خادمة كلكامش، ولقنته
دروس التمدن والخطايا لإسقاط شعبيته بين الحيوانات، ثم تصوير
خسارته بكلكامش الذي خسر صديقه أنكيدو، وفي آخر القصيدة يصرح
الشاعر بإشفاقه على نفسه لما يتعرض له من معاناة وآلام.
وفي الأخير فالشاعر أديب كمال الدين في هذه التجربة استطاع ان
يفجّر الطاقة الكامنة للغة في خطابه الشعري بأدوات وأفكار
ودلالات جعلته مميزاً في خطابه فضلا عن استمرارية هذه التجربة
دون ترهل وقد كان ذلك من خلال رؤيته الخاصة لهذه الأدوات
المتمثلة بالحروف.
********************
-
النقطة: شعر: أديب كمال الدين، المؤسسة العربية للدراسات
والنشر، بيروت، لبنان 2001.
الفصل الرابع
قراءات في قصائد
قراءة نقديّة
لوصايا أديب كمال الدين الشعريّة
في ( تسع وصايا لكتابة القصيدة)
أ.د. أحمد جار الله ياسين
ناقد وأكاديمي عراقي
يتناول نصّ أديب كمال الدين جوانب مهمة من طقوس كتابة القصيدة
وأسرارها الجمالية والفكرية في سياق من التوصيات الشعرية التي
غلب عليها ظاهرياً طابع التبسيط الفني
في الطرح والمقترحات، فضلاً
عن خضوعها لرؤية ساخرة ذات أبعاد رمزية شفافة فيما وراء تلك
المظاهر الفنية، وهذا ما يجعل ذلك التبسيط يمتاز بما يمكن أن
نسمّيه بالمخادعة الفنية التي تقرّب القارئ في القراءة الأولى
من منطقة الاستقبال السلس للمقترحات التي تبثّها الوصايا بنوع
من الاسترخاء، وتشجّعه على قبولها لكنها في الوقت نفسه تقترح
عليه سراً مناطق أخرى محمّلة بالأبعاد الدلالية المكثفة التي-
ربما- لو اقترب منها قارئ غير نخبوي لاستعصى عليه الدخول فيها،
ومن هنا فإنّ هذه الوصايا بهذين الخيارين الموجهين نحو منطقتين
للتلقي، يمكن
أرسالها إلى كل مَن يهتم بالشعر: قارئاً أو كاتباً أو ناقداً
أو غاوياً. مع توافر امكانية التفاوت في التلقي بين مَن يقف
عند حدود البساطة، ومَن يحاول الحفر فيما وراء هذا الحدود غير
مكتف بخديعة التبسيط الفني التي أوقفت المتلقي الأول عند
الطبقة الأولى من النص:
1.
القصيدة الطويلة مُملّة.
لا تكتبْها
إلّا إذا أردتَ أن تكتبَ عن الرحلةِ كلّها:
رحلة كلكامش مثلاً.
والقصيدة القصيرة تشبهُ عودَ الثقاب
فقرّبْ سيجارتَكَ منها
قبلَ أن تُشعلَ عودَ الثقاب.
التوصيف الأول يتناول القصيدة الطويلة التي يصفها بالمملة من
جهة عدم انسجامها– ربما– مع طابع الشعر الذي يميل إلى الايجاز
والاختصار ويبتعد عن سمات
الاسهاب والسرد والتفاصيل التي تتطلبها بنية القصيدة
الطويلة، لكن لأن النص ليس من مهامه بيان هذه التوصيفات
النقدية التي يمكن أن يقوم بها الناقد فإنه ينحرف بالسياق نحو
مثال مقترح للقصيدة الطويلة يتضمن الإشارة إلى رحلة كلكامش،
وهنا يمكن للقارئ العادي أن يتوقف تلقيه عند حدود الأخذ
بالمثال، لكن القارئ النخبوي يعلم أن اقتراح هذا المثال ليس
اعتباطيا لطوله الفني فحسب بل لأنه نص فني شعري رفيع لا يشعر
معه القارئ بالملل لاغتنائه بالخصائص الاسلوبية العالية
والمواقف المدهشة والأفكار العميقة والرموز وكلها خصائص تبعد
القارئ عن الشعور بفكرة الاستطالة في البناء. ثمّ يتحول النص
مباشرة إلى تناول القصيدة القصيرة عبر تشبيه فني جديد مستلّ من
الحياة اليومية، تكون فيه القصيدة (عود ثقاب) والرغبة بكتابتها
أشبه بـ (السيجارة) ولأنها نص قصير لا يحتمل الخطأ أو
الاسترسال أو أية ثغرة فنية فإن الاقتراب منه يشبه اقتراب
السيجارة من عود الثقاب فأما ستنجح محاولة الاقتراب أو تفشل.
والمعيار في ذلك هو القدرة على تحديد موعد الاقتراب
(الرغبة) من القصيدة القصيرة (عود الثقاب) حسب ما تتطلبه
الفكرة أو الموقف الشعوري لأن الشاعر إذا اقترب بعشوائية من
هذا النوع القصير فإنه قد يحترق سريعاً.
2.
القصائد السيّئة كالأصدقاء الحمقى.
حاولْ أن تلغيها مِن الذاكرة
قبلَ أن تُسطّرها على الورقة.
أما القصائد السيئة فنياً أو التي لم ترقَ إلى مستوى فني عال
فانها في الوصية مثل (الأصدقاء الحمقى) أي أنها لا تضيف شيئاً
إلى مسيرة الشاعر أو سيرته الابداعية وتشغل ذاكرته بما لا
يغنيها إبداعياً وفكرياً.
3.
إذا كتبتَ قصيدةً عن المطر
فاحذرْ أن تكتبها
ما لم تكنْ روحُكَ -
قبلَ جسدكَ -
قد تبلّلتْ بالمطر.
المطر يمثّل عالماً شعرياً خصباً في فضاء الأدب ولا يمكن أن
تجد شاعراً تكتمل شعرية رؤياه من دون أن يقع في غرام المطر،
لأن المطر شعري بذاته فهو انزياح غير عادي عن المناخ العادي
للسماء بشمسها الساطعة المألوفة التي تكاد تشبه النثر، ولا
يخلخل بنيتها الصافية سوى نزول المطر ومن ثم فإن المطر عند
الشعراء يرتبط بالجانب الروحي والشعوري من بنيتهم النفسية
الإبداعية التي تختلف عن البنية النفسية العادية،
وما البلل الذي يشير إليه النص هنا سوى هذا الارتباط
الذي أشرنا اليه بمرجعيته التي تؤكد إدراك الشاعر بوعي أو غير
وعي أن المطر هو شعر السماء بالمقارنة مع نثرها/ الشمس. ولذلك
الكتابة عن المطر تستدعي التماهي مع شعريته روحياً قبل التلاقي
معه ببلادة
جسدياً.
4.
لكلِّ قصيدةٍ شمسٌ.
(هل تعرفُ ذلك؟)
ولكلِّ قصيدةٍ منفى.
(هل تُصدّقُ ما أقول؟)
لذا دمدمْ قصيدةَ المنفى
وأنتَ في الوطن.
ودمدمْ قصيدةَ الوطن
وأنتَ في قطارِ الجنّةِ الذاهبِ إلى جَهنّم.
كل قصيدة هي عالم خاص بذاته لذلك لها شمسها
بمعنى أن لها من الفكر والأسلوب ما يضيء جوانبها
المعتمة ويسهم في نمو مكوناتها الفنية الأخرى ويأخذ بيد القارئ
نحو جمالياتها الساطعة ويمنحها عمرا فنيا أطول. ولكل قصيدة
أيضا ما تخفيه وتخبئه في ثناياها تماما كالمنفى الذي يخبئ
للقادم اليه كرها أو طواعية كثيرا من المفاجات والأسرار، لكن
إذا كان الرحيل إلى المنفى كرها وإجباريا وكان المنفى نفسيا
وليس واقعيا وأقرب للاغتراب في فضاء الوطن فإن البوح بأسرار
هذا المنفى غير مقبول علنا. والأجدر بالشاعر أن يدمدم
بمكنوناته النفسية حول ذلك الموضوع
بدل الجهر بها لأن الوطن الذي ينفي أبناءه نفسيا وهم
فيه ويزجّهم في متاهة الاغتراب النفسي رغم عدم مغادرتهم حدوده،
هو وطن مخيف يجبر الشعراء على الصمت أو الجهر لكن ليس
بلغة تصدح عاليا بل بلغة تدمدم قصيدتها احتجاجا فلا تسمعها سوى
الذات وكأنّ القصيدة هنا هي امتداد لقصيدة الخوف التي شاعت في
الأدب العربي بفضل إبداع السلطة السياسية في الترهيب والتخويف.
واذا كانت الدمدمة حلا وسطا بين الصمت والجهر فإنه حلّ قاسٍ
جدا لأن القصيدة التي لا يسمعها سوى شاعرها تذبل وتموت سريعا.
واذا سنحت الفرصة للكتابة عن الوطن وكانت الكتابة في المنفى-
الذي قد يمثّل جنّة بالقياس إلى ما في الوطن من معاناة أو
اضطهاد- فإن هذه
القصيدة كونها ستحمل هم الوطن البعيد لا يمكن أيضا الجهر بها
من شدة الاحساس بالخيبة أو الحزن أو إدراك أن الوطن الذي
نفارقه إلى المنافي كرها أو طواعية يبقى الأجمل في الذاكرة،
وحين يأتي مثل هذا الاحساس فإن المنفى سيكون جهنم أخرى قطارها
(الجنّة) أو قطارها فكرة العثور على الجنّة في المنفى بديلا عن
وطن أشبه بالجحيم. لكن المأساة تكون لحظة طغيان الشعور بالغربة
والحنين إلى الوطن على ما فيه من سلبيات وحينذاك سيكون المنفى
جحيماً آخر يغاير الفكرة التي حملها معه المنفي في قطار الرحيل
الذي تصور أنه القطار الذي سيقوده إلى الجنّة أو أنه الجنّة
نفسها التي كان يحلم بها.
5.
وبمناسبةِ ذكْرِ جَهنّم
فاكتبْ ما استطعتَ عن جَهنّم الأرض
لأنّها اتسعت الآن
وكادتْ تلتصقُ بجَهنّم السّماء.
ولعلّ الاحساس بجحيم الوطن والمنفى معا في لحظات معينة
هو الذي يؤسس للوصية الخامسة التي تحثّ الشاعر على
الكتابة عن جهنم الأرض التي يسودها الشر والفساد وسفك الدماء
ومن ثم فإنها أمست موضوعاً مثيراً للشاعر كي يدوّن شهادته عما
يدور في جهنّم الأرضية.
6.
إذا كنتَ تحبّ البحر
وتريد أن تكتبَ عنه،
فلا تأخذْ صورةً معه
وأنتَ ترتدي الملابسَ الرسميّة
كما يفعل المُغفّلون
بل اذهبْ إليه عارياً
تماماً كهابيل وقابيل.
أما الكتابة عن البحر بما يحمله من إرث رمزي هائل في الذاكرة
الشعرية العربية والعالمية فإنها موضوع آخر لا يمكنأان تغفل
عنه الوصايا وهي تقترح موضوعات للكتابة أمام الشعراء لكن
الكتابة عن البحر تستلزم التجرّد من النظر اليه برؤية عادية
تكتفي بالتقاط صورة للذاكرة معه بزي رسمي يشير إلى عادية تلك
الرؤية وسذاجتها وسطحيتها. إن الكتابة عن البحر تستدعي التجرّد
من (الملابس الرسمية) برمزيتها السابقة والذهاب اليه عارياً
والعودة إلى الفطرة الأولى للرؤية البشرية التي اندهشت حين رأت
البحر أول مرة ومن خلال أنموذجين للبشر الأول (هابيل وقابيل).
واستدعاء هذين الأنموذجين معا هنا ليس للغرض السابق فحسب بل هو
مقترح شعري غير مباشر لإمكانية التصالح بينهما من دون إعادة
إنتاج قصة الحسد والكراهية التي أدّت إلى مقتل احدهما في
المرجعية الدينية لقصتهما، فهي دعوة للتسامي فوق ما حدث وإعادة
تشكيل للمشهد النساني بين طرفين يمكنهما التصالح والتفاهم
والتشارك في التمتع بجماليات الكون ومنها البحر حتى لا تتسع
مستقبلاً مساحة جهنم الأرضية التي حذّر منها الشاعر في الوصية
الخامسة والتي بدأت لحظة قتل هابيل لقابيل واستمرّت حتى يومنا
وشوّهت جماليات الحياة: البحر/ المطر/ الوطن.
7.
الشّعراءُ المُؤدلَجون مُضحكون
لأنّهم يكتبون طوالَ العمرِ قصيدةً واحدة،
قصيدة تستعينُ بكلِّ الكناياتِ والاستعارات
لتثبتَ أنَّ الطغاة،
رغمَ كلّ أنهار الدمِ التي فَجّروها،
كانوا مُجرّد حمامات سلام.
الوصية السابعة ساخرة جداً تعرّي زيف الشعراء المؤدلجين الذين
يزورون الحقائق خدمة للطغاة وهنا يعلو صوت الشاعر ويكون أكثر
وضوحا في التحذير من الانجرار وراء مثل هؤلاء واتخاذهم
أنموذجاً وقدوةً
عند الشعراء المبتدئين والنقاد الانتهازيين. فالطغاة هم السبب
الرئيس دائما للخراب الذي يعاني منه الانسان- كما في الوصايا
السابقة- منفياً أو مغترباً أو مقتولاً.
8.
إذا كنتَ شاعراً فكنْ عاشقاً
حتّى تكتمل عندكَ قصيدةُ الجنون.
ولأن الجنون قريب جداً إلى عالم الشعر كونه منفلتاً من
اشتراطات الوعي والعقل فإن له قصيدة ايضا لا يمكن الوصول اليها
إلا بالرقي في معارج الجنون الشعري وأعلاها العشق الذي ينتشل
الذات من حدودها ليزجّها بشعرية في فضاء ذات أخرى تستقطبها
نفسيا وروحيا وعاطفيا وعبر طقوس تفوق حدود العقل والمنطق وتجعل
من حياة العاشق نفسها شعرية بذاتها لانزياحه فيها عن حدود
الحياة العادية. فتراه يتصرف بشعرية في القول والفعل وما
مجانين العشق الذين عرفناهم في التاريخ
سوى دليل على ذلك الأمر. ألم يقطع فان كوخ مثلاً
أذنه من أجل امرأة طلبتها منه؟ ألم يكن هذا السلوك
شعريا بذاته لأنه انزاح عن نثرية السلوك العادي؟
9.
المرآةُ تشبهُ المرأة
لكنَّ المرأة لا تشبهُ المرآة
إلّا إذا قبّلتَها.
هكذا هي القصيدة.
وفي النهاية فإن القصيدة تتطلب من الشاعر أن يصدّق ما يراه
قلبه لا ما تراه عينه. فالمرأة التي تظهر في المرآة هي التي
تستحق التقبيل وليست المرأة التي تقف أمام المرآة فهذه واقعية
يمكن لمسها والوصول إليها. فتبرد حرائق القصيدة سريعا وتهدأ
عاصفة الروح. أما المرأة التي تظهر في المرايا فإنها امرأة
تبقى بعيدة عن اللمس والوصول. وهي مَن يبقي الرغبة محتدمة
والروح عاصفة والقصيدة مكتظة بالحرائق ولا يمكن للشاعر إلا أن
يقبل بالحد الأدنى من التواصل معها عبر قُبْلة على زجاج
المرايا في
الواقع لكن
بطعم شفة في الخيال الشعري. فهكذا هي القصيدة توهمنا
بالوصول لكنها تبقى بعيدة حتى لو أنجزنا آلاف القصائد
والدواوين، ذلك أن الشعر لا يكتمل أبداً ولا ينتهي لأن مادته
الكلمات، الدوال. ولكل منا مدلولاته الخاصة بخبرته وتجربته
وتأويله. ولذلك تستمر إعادة إنتاج الكلمات/ الدوال/ القصيدة
إلى ما لا نهاية.
********************
- نشرت قصيدة "تسع وصايا لكتابة القصيدة" في
مجموعة:
"في
مرآة الحرف"، شعر: أديب كمال الدين،
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2016.
الوجه الثامن للذات الشاعرة
استنطاق نقدي لقصيدة أديب كمال الدين (مائدة الغرباء)
أ.د. أحمد جار الله ياسين
ناقد وأكاديمي عراقي
التقى الغرباءُ على المائدةِ: مائدة قلبي.
كانَ كبيرُهم مُعمّماً
والآخرُ زاهداً
والثالثُ شَهوانيّاً،
الرابعُ سكّيراً،
الخامسُ عارفاً بكلِّ شيء،
السادسُ هازئاً
والسابعُ ساحراً.
وبدلاً مِن الحديثِ المُمتع
في شؤونِ الطيرِ والنساءِ والموت،
تبادلَ الجميعُ الشتائمَ والسباب.
ثُمَّ اقترحَ أحدُهم إطلاقَ النار............
حتّى كدتُ أموت
أنا الثامن الأخرس!
في
قصيدة (مائدة الغرباء) للشاعر أديب كمال الدين المنشورة في
مجموعته (حاء) الصادرة ببيروت عن المؤسسة العربية والدراسات
والنشر، يضع مفهومُ (المائدة) في العنوان القارئ
أمام توقّعات معيّنة
تقوده استحضار
دلالات الإلفة والمودّة والحوار والتواصل الاجتماعي، وكلّها
يمكن أن تدور بين المجتمعين حتى لو كانوا (غرباء) كما جاء في
الجزء الثاني من التركيب الإضافي للعنوان، لاسيما أنّ المائدة
في متن النص
تنتسب لعضو بشري (قلبي) ذي أبعاد معنوية وعاطفية وإنسانية
سامية، حتى أنّ الشاعر نفسه يتساءل في منتصف النص متعجّباً من
غياب ما يفترض دورانه من كلام ممتع حول المائدة (في شؤون الطير
والنساء
والموت)، كما تجري الحال عادة حول الموائد الاجتماعية، وما
تساؤله إلّا لاستفزاز القارئ تدريجياً وتهيئته لغرابة ما سيحدث
حول المائدة. ويبعدها عن أبعادها السيميائية
التقليدية ويزيد تعجبه عندما يحلّ بدلاً من ذلك الكلام
الممتع الغائب (تبادلَ الجميعُ الشتائمَ والسباب) وتتطوّر
النزعة العدوانية للمجتمعين حول المائدة
من الجانب اللفظي إلى جانب آخر مادي أكثر قسوة ،عندما
يقترح أحدهم إطلاق النار. بمعنى أنه يفسح المجال أمام خيار
القتل المادي لطرف آخر، ويبدو أن النار كانت موجهة ضد الثامن
(الأخرس) بدليل مواجهته للموت (حتّى كدتُ أموت)، علما أن النص
لم يفصح عن وجود ثامن حينما ذكر أصناف المجتمعين في بداية
النص. وكأنّ النص كان يبيّت الرغبة بإقصاء الثامن عن السبعة
الآخرين لاختلافه في الموقف والفكرة معهم حتى لو كان حاضراً
مادياً معهم حول المائدة. فهم جميعاً غرباء بالنسبة له مادام
يختلف عنهم فكرياً، لكنه ربما الأقرب إلى ذات الشاعر، ومن ثم
فإنه ليس غريبا عنه وهذا ما سيفصح عنه التأويل النقدي لاحقاً.
وما دامت المائدة في فضاء القلب فإنها مائدة شعرية وذات خصوصية
نفسية وفكرية تماماً وليست واقعية ومِن ثمَّ فإن الوجوه
المجتمعة حولها بأصنافها المختلفة يمكن أن يكون كلّ واحد منها
ممثلاً لجانب من جوانب الشخصية الثامنة
(الأخرس) الذي يبدو أنّه يمثّل الوجه الشعري من الذات
النصية، لأنّ الشاعر تحدّث من خلاله بصيغة الأنا، ولأنه أيضاً
يبدو أكثر إنسانية من الآخرين (المعمّم/ الزاهد/ الشهواني/
السكّير/ العارف/ الهازئ/ الساحر) بحكم عدم مشاركته في السبّ
والشتم، وأيضا تعرّضه لمحاولة القتل. وهو بذلك الأقرب إلى كيان
الشاعر من الوجوه الأخرى.
وكأنّ النص يريد أن
يقول إن الشاعر بوصفه وجهاً من الوجوه المتعددة للذات داخل
الكيان الانساني الواحد يبقى الوجه الأكثر رقيّاً وصدقاً
وصفاءً حتى أنه يلجأ للصمت (أخرس) عندما تتصاعد الأصوات
العدائية للوجوه الأخرى تجاه العالم او أي طرف آخر في الوجود.
وتلك الوجوه هي أيضاً وجوه الحياة اليومية لكثير من الناس
مجتمعة أو منفردة في دواخلهم وانعكاس ذلك في مواقفهم، وما
(الخرس) إلّا موقف شعري آخر للذات بوجهها الشاعر كونها تخلّت
عن الأداة الرئيسة المعبّرة عن وجودها الشعري وأعني به اللسان
الذي خلد إلى الصمت وتخلّى عن الكلمات ربما احتجاجاً على فضاء
العدوانية الذي روّج له المجتمعون وربما تنزيهاً للذات الشاعرة
عن المشاركة بفعاليات السبّ والشتم التي تطوّرت إلى الدعوة
للقتل. وهذا ما لا يتناسب والصورة الشفافة المرهفة للشاعر كما
تتصوّرها المخيلة البشرية عادة.
والمفارقة أن
ممن يجتمع حول المائدة مَن (هو) يفترض أن يكون موقفه مماثلاً
لموقف الشاعر في الاقل لأنه (معمّم) بكل ما لهذه الصورة من
بُعد ديني وروحي ومثله الزاهد أيضاً والعارف، فكلّهم أقرب
للنضج في الوعي والفكر مما يمنعهم من الولوج في فضاء العدوانية
بهذا الشكل المتسارع في الاجتماع حول المائدة. بينما الوجوه
الأخرى فإنها يمكن أن تقع في خطيئة السبّ والشتم والقتل لغياب
وعيها (السكّير) أو غَلَبة شهوتها على العقل (الشهواني) أو عدم
جدّيتها (الهازئ) أو مكرها (الساحر)
.
ربما لهذا كلّه أمست هذه الوجوه تحت صفة الغرباء كونها غريبة
عن ذاته أو طارئة عليه. وتحدّث عنها الشاعر بصيغة الجمع الغائب
(هم) ولم يتحدّث بصوت الأنا الحاضر إلّا عند كلامه نيابة عن
الأخرس الذي كان ثامنهم حول المائدة لكنه لم يكن منهم في
المواقف التي اتخذوها. لهذا يبدو (الخرس) هنا شعرياً كونه لم
يمنع الشاعر من الإدلاء بشهادته عما حدّث حول مائدة القلب
وتدوين الشهادة بصيغة قصيدة مكتوبة يمكن أن تؤرّخ للانحدار
الأخلاقي الذي وصلت اليه الذوات الاجتماعية في مواقفها على
الرغم من رقي منزلة كثير منها اعتبارياً كما في شخصيات الزاهد
والمعمّم والعارف. هذا إذا أخذنا فكرة المائدة كفضاء رمزي
للمجتمع خارج إطار الذات الشاعرة. أما إذا أخذنا فكرة المائدة
كفضاء للذات الشاعرة وما يعتمل فيها من صراع بين وجوهها
الإنسانية الأخرى فإنّ ذلك يؤرّخ لمدى الصراع الكبير المحتدم
داخل هذه الذات وانتصار الوجه الشعري لديها في النهاية كونه
الوجه الأكثر صدقاً وتضحيةً ونقاءً وبراءةً. حيث رفضَ الاشتراك
في ما دار حول المائدة، بل كاد يموت بمجانيّة نتيجة العبث الذي
وصلت اليه عملية الصراع الداخلي بين الوجوه الأخرى التي علا
صوتها وأسكت الشعر وأخرسه مؤقتاً.
***********************
- نُشرت قصيدة (مائدة
الغرباء)، في مجموعة (حاء) للشاعر أديب كمال الدين، المؤسسة
العربية والدراسات والنشر، بيروت، لبنان، 2002 ص 69.
(شجرة الثعابين) للشاعر أديب كمال الدين
هجنة النص: قراءة في قصة الخلق الرمزية
د. صالح هويدي
ناقد وأكاديمي عراقي
1.
حينَ بدأتُ أحبو
ثُمَّ أخطو قليلاً قليلاً،
تسلّقتُ شجرةَ الطفولة
بعينين فرحتين
تتطلّعان إلى بهجةِ التفّاح
وفرحِ الموز.
كنتُ أصعدُ وأصعد
ودعواتُ جدّتي
تدفعني أعلى فأعلى.
لكن، على حينِ غرّةٍ، ماتتْ جدّتي.
فسقطتُ، وا أسفاه، من شجرةِ الطفولة.
2.
استمرَّ سقوطي عاماً فعاماً
ولم أصل إلى الأرض.
كنتُ خفيفاً كما يقولُ الحلم،
كنتُ خفيفاً بما يكفي
لأسقطَ على شجرةٍ ثانية،
تُدعى: شجرة الحُبّ.
تسلّقتُها بعينين فرحتين
تتطلّعان إلى لذّةِ التفّاح،
فالتفّاح فاكهة الحُبّ كما تقولُ الأسطورة.
لكن، على حين غرّة،
ضاعتْ حبيبتي
وقبلاتُ حبيبتي
ومواعيدُ حبيبتي.
فسقطتُ، وا حسرتاه، من شجرةِ الحُبّ.
3.
كنتُ أتوّقع أن يكونَ سقوطي مُدوّياً
لأنّ شجرةَ الحُبّ عالية كالجنّة
لكن رغم مرور السنين
لم أصل إلى الأرض.
ربّما لأنّني كنتُ سعيداً كما تقولُ الدعابة،
ربّما لأنّني كنتُ سعيداً بما يكفي
لأسقط على شجرةٍ ثالثة
تُدعى: شجرة الموت.
4.
هذي المرّة
كانَ الأمرُ خطيراً.
فشجرةُ الموتِ لا تحُبّ المزاح،
لا تحُبّ الطفولةَ ولا الحُبّ
لكنّها شجرة مُضحكة،
كانتْ طويلةً كجهنم
وساقها ملساء كجلدِ الأفاعي.
وليسَ هناكَ في الأعالي
من ثمرٍ مُلوّن
أتطلّعُ إليه بعينين فرحتين
وقلبٍ ساذج.
فشجرةُ الموت،
كما قيلَ لي،
مسكونة بالندم،
وقيلَ مسكونة بالملائكة،
وقيلَ بل بالأجراسِ السُّود،
وقيلَ بل بالثعابين،
وقيل...
لكن من المُؤكّد
أنّني أتسلّقُها كلّ يوم
منذ سنين طويلة
وأنا في طريقي إلى الندم
أو إلى الملائكة
أو إلى الأجراسِ السُّود
أو إلى الثعابين.
(شجرة الثعابين- شعر: أديب كمال الدين)
مدخل:
ينتمي الشاعر العراقي أديب كمال الدين، المقيم منذ سنوات في
أستراليا، إلى ما عُرف تجوّزاً في المشهد الشعري العراقي بجيل
السبعينيات. وللشاعر منجز شعري كبير.(1)
لكن ما ميّز منجز الشاعر العراقي بين مجايليه والمشهد الشعري
العربي عامة أنه توفّر على ثيمة موضوعية، اتخذها منطلقاً
لتجربته، ومهاداً راح يؤثث شعره على هديها، حتى استغرق جلّ
شعره؛ لتصبح هذه الموضوعة علامة على منجزه وعنواناً دالاً على
الشاعر، وأقصد بها تجربة انشغاله بالحرف، وتسخير جلّ منجزه
للتعبير عن معطياته، سواء بالاتكاء على التجربة الصوفية أو
باستكمال مدياتها والاجتهاد في البحث عن آفاق جديدة معاصرة
فيها.
لقد
عرفنا الحروفية في منجز بعض التشكيليين العراقيين والعرب
المعاصرين والقدماء، لكن الاشتغال على الحروفية في المشهد
الشعري العربي المعاصر يظل يمثل ظاهرة نادرة وميداناً طريفاً.
وإذا كان لصدور أيّ مبدع عن رؤية جاهزة أو موضوعة محددة سلفاً،
وجهان على الدوام، أحدهما لصالح المبدع، والآخر في غير صالحه،
فإن انشغال الدارسين بالموضوعة الحروفية لدى الشاعر، وتركيزهم
عليها تركيزاً ندر أن تخطّى عتباتها، صرف النظر عن المعطيات
الأخرى في تجربة الشاعر، وحرم القارئ من فرصة تعرف ملامح
الشعرية، وطرائق تشكلها، وأدوات بنائها، وهي كثيرة، وتستحق
عناية النقاد والدارسين. وهو ما نأمل في أن نوليه ما نستطيع من
عناية.
لا ريب في أن اشتغال الشاعر أديب كمال الدين على ثيمة شديدة
الخصوصية هي الحروفية، مدة تزيد على أربعة عقود قد أكسبته ميزة
بين شعراء جيله، بل والشعراء العرب المعاصرين له. ومع أن
الاشتغال قد قاد الشاعر إلى ضروب من التقنيات والأساليب في
معالجة رؤياه عبر نهج الحروفية من خلل دواوين عدة، مقلّباً
ومتأملاً ومجترجاً
نصوصه لإبلاغ رؤياه والتعبير عن عما يود إيصاله، فإن رهن
الشاعر والمبدع عامة إبداعه لاتجاه أو ثيمة أمر لا يخلو من
مخاطر دفع الشاعر إلى الدوران في آفاق محدودةـ فضلاً عن تضييق
الفرصة على قارئه الذي يفقد كثيراً من أفق توقعه المفتوح
دوماً. وهو ما كان الشاعر على وعي به، حين لم يشأ أن يغلق أفق
نصه تماماً على النهج الحروفي الذي استغرق معظم تجربته، مبقياً
الباب موارباً على تجارب نصوصية حاولت التعبير عن رؤياه
وعوالمه ومشاعره وخبراته؛ الشخصية أو العامة التي بدت على قدر
من الغنى والطرافة المغلّفة بالألم والمعاناة.
وإذا كان معظم النقاد والدارسين الذين تناولوا شعر الشاعر قد
اختاروا النفاذ إلى عالمه الذي شكل طقسه المميز، فإننا آثرنا
أن نتناول الجانب الآخر الذي لم يحظ
بالاهتمام
الكافي. وهنا لا بد لي من التنويه بأن عالم الشاعر أديب
كمال الدين عالم
مترامي
الأبعاد، متعدد المستويات والتجارب والتقنيات التي تمتد مما هو
واقعي ورمزي إلى ما هو فانتازي وتعبيري وتجريبي. وهو عالم
يمتلك حضوره وخصوصيته، من خلال علامات تطرد، ورموز وثيمات ما
تني تتردد مؤكدة بعدها الدلالي، ومعبرة عن خصب تجربته.
ولعل قارىء شعر الشاعر لن يعدم وعياً بحضور رموز البحر والطير
والشجر والبئر والدم، جنباً إلى جنب مع تردد ثيمات المرأة
والحب والموت والحرب والغربة والغدر، حضوراً واضحاً يؤطر معجمه
الشعري، جاعلاً منها بنية ذات نسق دلالي ومتوالية تعبيرية ذات
هوية دالة. وإذا كان تتبع هذه الدوال والعلامات واستكناه
معادلاتها في عوالم الشاعر، وصولاً إلى إضاءة ممكناتها، أمراً
يحتاج إلى وقفة طويلة، نأمل في أن نعود إليها يوماً، فإننا
سنكتفي هنا بالوقوف على نص شعري واحد، ليكون نموذجنا التطبيقي
المعبر عما نريده. والنموذج الذي نختاره هنا هو قصيدة "شجرة
الثعابين" من مجموعة الشاعر "شجرة الحروف"*.
البنية المشهدية:
ينهض النص على بنية شعرية مكونة من أربع مقاطع ينجح في تجسيدها
عن طريق تكثيف المعطيات البصرية وتقديمها في شكل مشاهد حية
مقنعة. المشاهد الثلاثة التي يقدمها النص هي: مشهد "شجرة
الطفولة"، والمشهد الثاني هو: مشهد "شجرة الحب"، أما المشهد
الثالث فهو مشهد "شجرة الموت". لكن اللافت في المشاهد الثلاثة
أن أحدها ينضوي تحت مقطعين اثنين
(الثاني والثالث)، على نحو يبدو فيه المقطع الثالث وكأنه
يستعيد دورس الكورس في العرض المسرحي.
هجنة النص:
يجنح النص نحو الإفادة الواضحة من معطيات فن السرد، مستعيناً
بعدد من العناصر السردية التي تجعل من بنيته مزيجاً من
المعطيات الشعرية والسردية في آن معاً. فثمة استخدام لأسلوب
الراوي المتماهي بمرويه في تقديم الشاعر للمشاهد المشار إليها
عبر ضمير المتكلم، فضلاً عن توظيف أساليب سردية مختلفة في
التعبير عن تجربته من مثل: العرض، والتلخيص، والحذف، والوصف
والتكرار، والانتقال بين الأزمنة، إلى جانب توظيف المعطيات
المشتركة بين الجنسين الأدبيين؛ من رمز وتخييل وأسطرة
وفانتازيا ومعطيات حلمية.
وعموماً فإنّ النص مقدم من خلال لغة تجمع بين السرد والإخبار
أو التعليق. أما توظيف الشاعر للزمن في نصه. فعلى الرغم من
استخدام ضمير المتكلم للشخصية واتخاذ السرد آلية لاسترجاع
الوقائع التي مرت بها في الماضي، فإن طريقة عرض النص لهذا
الماضي جاء– بحكم تأثره بمعطيات السرد- جامعاً معطيات زمني
الماضي والحاضر، من دون طغيان لأحدهما على الآخر. وهي وسيلة
سردية معروفة، تهدف إلى تحيين الزمن مع مجريات النص والحضور
فيه.
تفكيك المقطع الأول:
يطل علينا المقطع الأول بمشهد الشجرة الأولى "شجرة الطفولة"
عبر زمن المضي على طريقة السرد الشفاهي القديم، يتبعه زمن
الحاضر، ليعود مجدداً إلى زمن المضي، بنوعيه التام وغير التام
(الناقص)، ليعود من جديد إلى زمن الحضور، متخذاً بذلك شكل نسق
تناوبي بين الزمنين. وهو نسق يهيمن على جميع المقاطع على نحو
لافت، ودونما طغيان لأحدهما على الآخر.
يُلحظ على هذا المشهد أيضاً الحركة البطيئة للزمن، تلك التي
توحي بها الأفعال
(أحبو/ أخطو/ تسلّقت..) وكأنها تحكي قصة نمو الكائن البشري.
وإذا نظرنا إلى السطور الشعرية الثلاثة، فسنلاحظ أن الشاعر قد
مارس في السطر الثالث نوعاً من الحذف بدافع الوصول إلى مبتغاه،
وذلك حين انتقل بنا نقلة زمنية كبيرة من (الحبو) و (الخطو) إلى
تسلق الشجرة. كما نلحظ على المشهد غلبة سمات الفرح والانتشاء
الظاهرة في العينين الفرحتين والتطلع البهيج.
ولا شك في أن انتقال الشاعر إلى صيغة التكرار في السطرين
السابع والتاسع إنما أريد له توكيد الأفعال الدالة على مشاعر
التشجيع المصاحب للطفولة عادة، فضلاً عما يمنحه من تعميق للخطة
المشهدية (السينمائية) للحدث:
كنتُ
أصعدُ وأصعد
تدفعني أعلى فأعلى.
ولعلنا نلحظ المباهج التي يشيعها النص هنا وقد جاءت متفقة
والطبيعة الطفولية النازعة نحو التعلق بأكثر من بهجة، والفرح
بأكثر من ثمرة؛ حيث لا تمحور حول هدف بعينه أو الاكتفاء بفاكهة
بذاتها:
بعينين فرحتين
تتطلّعان إلى بهجةِ التفّاح
وفرحِ الموز.
اللافت في الحركة الثانية للنص هو حضور الجدّة الذي يكتسب
بعداً دلالياً يستند إلى الإرث الروحي والتقاليد التي تمدّ
الطفل بنسغ الدعوات والمؤازرة لخطواته، ما يحولها إلى رصيد
رمزي للاندفاع والمضي نحو الأعالي، كاشفاً عن نسغ التقاليد
الروحية الداعمة لاستمرار الحياة الشابة، وسعيها نحو طموحاتها
ومباهجها:
" كنتُ أصعدُ وأصعد
ودعواتُ جدّتي
تدفعني أعلى فأعلى".
ولعل ما يؤكد هذا المعنى ذلك الحدث الذي ينتهي به المقطع
الأول، وأقصد به حدث السقوط المفاجىء للشاب من على شجرة الحبّ
إثر موت الجدّة المفاجىء:
"لكنْ، على
حين غرّةٍ، ماتتْ جدّتي
فسقطتُ، وا أسفاه، من شجرةِ الطفولة".
واضح هنا أن المقطع الذي يحكي فيه الطفل عن بدايات اعتماده على
نفسه حبوا ومشياً وتسلّقاً وسقوطاً من على جسد الشجرة، لم يكن
هدفه التعبير عن التدريب على التسلق الواقعي (المادي) للشجرة
أو السقوط منها لاحقاً، بقدر ما كان يهدف إلى التعبير عن جرح
الطفولة الأليم للشخصية، والإحساس الفادح بفقد هذه الطفولة
لحظة موت الجدّة التي كانت نسغ الحياة الحقيقي لهذه الطفولة.
تفكيك المقطع الثاني:
في المقطع الثاني الذي يدخل بنا الطفل معه إلى مرحلة جديدة من
مراحل حياته وخبرته، تتجرّد السطور الأربعة من هذا المقطع
لتتابع حدث السقوط الذي انتهى به المقطع السابق مستخدمة الفعل
الماضي بنوعيه (التام والناقص). بل لعل الطريف في توظيف فعل
المضي هنا أنه جاء ليدل على زمن الحضور والاستمرار أكثر من
دلالته على زمنه النحوي الذي يدل عليه تركيبه، إذ يحدثنا
التركيب في شكليه (المثبت والمنفي)عن استمرار فعل السقوط حتى
لحظة الرواية:
"استمرَّ سقوطي عاماً فعاماً
ولم أصلْ إلى الأرض".
ولا ريب في أن الإخبار باستمرار حدث السقوط من أعلى، مع وقف
التنفيذ؛ أي من دون وصول إلى الأرض لسنوات، إنما يتخذ من
معطيات آلية الحلم وسيلة فنية، مستبدلاً التخييل بالواقع.
أما النقلة الثانية فهي تلك التي يخبرنا الراوي من حلالها
بتحقيق السقوط أخيراً، ولكن ليس على الأرض، بل على شجرة، اسمها
"شجرة الحبّ".
إن المفارقة التي يكشف عنها النص هنا، إنما تتمثل في تلك
الدعابة المجانبة لحقائق الطبيعة الفيزيائية وقانون الجاذبية،
إذ يقرر الراوي أن خفّته كانت السبب في جعله يقع على هذه
الشجرة وليس ثقل الجسد كما هو ثابت علمياً، متكئاً في تسويغ
هذا المنطق غير الواقعي على آلية الحلم أيضاً:
"كنتُ خفيفاً كما يقولُ الحلم،
كنتُ خفيفاً بما يكفي
لأسقط على شجرةٍ ثانية،
تُدعى: شجرة الحبّ".
نقف في المقطع الجديد على بعض المظاهر السابقة التي واجهتنا في
المقطع السابق، وأبرزها: (تسلّق الشجرة) و(مشاعر الفرح)
و(فاكهة التفّاح)، ما يجعل من هذا المقطع، أي مقطع "شجرة الحب"
امتداداً لمقطع "شجرة الطفولة" تسلّقاً وفرحاً، ورغبة في
الوصول إلى فاكهة التفاح، على الرغم من تخصيصها هنا أسطورياً
بكونها (فاكهة الحبّ). ولا شك في أن التفّاحة كانت مادة مشتركة
في العديد من الأساطير العالمية والمعتقدات الدينية (2)؛
السماوية والأرضية المرتبطة بالحب فيها مع الحب والجنس. لكن
مما له دلالته المعبرة هنا تلك المشاعر التي حملها المقطع
الجديد إلى جانب مشاعر الفرح السابقة، وخلا منها المقطع الأول،
وأقصد بها مشاعر الالتذاذ بالتفّاح. فلقد أراد النص التركيز
على مشاعر الفرح البريء بالتفّاح لدى الطفل في مرحلته الأولى،
في حين ذهب إلى تعميق الإحساس باللذة لدى الشاب في مرحلته
الجديدة؛ مرحلة التضج الملائمة لمرحلة الحب وطقوسها:
"تسلّقتُها بعينين فرحتين
تتطلّعان إلى لذّةِ التفّاح
فالتفّاح فاكهة الحبّ كما تقولُ الأسطورة".
وكما قام المقطع الأول على بنية المفاجأة، تواجهنا المفاجأة
غير المقصودة في المقطع الجديد في شكل يفقد فيه الراوي حبيبته
هذه المرّة، وما تحمله من ذكريات وتفاصيل علاقة حميمة، على
النحو الذي فقد فيه جدّته في المقطع السابق.
وكما تسبب فقدانه جدّته، في سقوطه من شجرة الطفولة، انتقاله
إلى مرحلة النضج، فقد تسبب فقده حبيبته في سقوطه من شجرة الحبّ
وإضاعته إياه:
" لكنْ، على حين غرّة،
ضاعتْ حبيبتي
وقبلاتُ حبيبتي
ومواعيدُ حبيبتي
فسقطتُ، وا حسرتاه، من شجرةِ الحبّ".
لا ريب في أن ربط التفّاحة بالحبّ إنما يحيل هنا إلى حواء
الحبيبة والتفّاحة التي يمكن أن يتداخل معها حدث الخروج من
الجنة، المعبر عنه هنا بالسقوط من الشجرة، عبر معادل رمزي يوحي
بالموروث الديني على نحو مجازي.
تفكيك المقطع الثالث:
لعل مما يكسب المقطع الثالث خصوصية، أنه مقطع يخلو من وجود حدث
جديد يمكن أن يضاف إلى الأحداث السابقة، إذ يبدو أنه محض
امتداد خطي، اكتفى بالتعليق على مجريات المقطع السابق ووصف
مشاعر الراوي، ما يجمد الحدث ويوقف الحركة الدرامية في النص.
فالراوي يخبرنا في هذا المقطع أنه توقع أن يكون سقوطه مدوياً،
بسبب من علّو شجرة الحبّ، لكنه بخلاف ما توقعه لم يصل إلى
الأرض، برغم مرور سنوات على سقوطه:
" كنتُ أتوقّع أن يكونَ سقوطي مدوّياً
لأنّ شجرةَ الحبّ عالية كالجنّة.
لكنْ رغم مرور السنين
لم أصلْ إلى الأرض".
وكما استخدم الشاعر الدعابة في مقطعه السابق يعود في هذا
المقطع إلى استثمارها أيضاً، وذلك حين يعزو سقوطه على الشجرة
الثالثة إلى كونه كان سعيداً بما يكفي للسقوط على الشجرة
الجديدة. وهي دعابة تنطوي على مفارقة متأتية من كون اكتمال
سعادته قد أدت به إلى السقوط على شجرة هي "شجرة الموت". ولعله
أراد أن يقول: إن خاتمة السعادة واكتمالها لا بد من أن يقود
إلى نهاية كهذه.
" ربّما
لأنني كنتُ سعيداً كما تقولُ الدعابة،
ربّما لأنني كنتُ سعيداً بما يكفي
لأسقط على شجرةٍ ثالثة
تُدعى شجرة الموت".
وهكذا يتضح أن دور المقطع الثالث هذا، فضلاً عن التعليق
والتعبير عن المشاعر بما سبق أن حدث، هو أن يكون حلقة تربط ما
سبق بما سيقع من أحداث، إذ يخبرنا أول مرة أن السقوط قد تحقق،
وأنه قد استوى على شجرة الموت التي سيختص بها المقطع الرابع
والأخير.
تفكيك المقطع الرابع:
يبدو المقطع الرابع مختلفا عن سواه من المقاطع الثلاثة السابقة
عليه، سواء من حيث مظاهره وتفاصيله المتصلة به والروايات
المنسوجة حوله، أو من حيث مشاعر الراوي منه. فخلافاً للمقاطع
السابقة التي لا يبدو أن للراوي خبرة أو تصوراً مسبقاً عنها،
يبدو هذا الراوي لنا وقد اختزن عقله أفكاراً وتصورات قبلية
كافية عن طبيعة الشجرة التي انتهى إليها. فها هو ينبئنا منذ
السطر الأول لهذا المقطع أن الأمر ليس كما السابق، فهو خطير
هذه المرّة ولا يحتمل المزاح. ثم يبدأ ببيان أوجه الاختلاف.
فهو يقرر أن هذه الشجرة لا تحب شجرة الطفولة ولا شجرة الحبّ.
وهذا يعني أننا بإزاء مشاعر من الكراهية لدى هذه الشجرة لم
نألفها في الشجرتين السابقتين، فضلاً عن كونها شجرة مضحكة.
فإذا ما أردنا معرفة لم كانت هذه الشجرة مضحكة، فإننا سنجد
جواب الراوي يأتينا من خلال أسلوب الدعابة الذي ألفناه من قبل،
وبطريقة لا
تخلو من مفارقة، إذ يرى أن الشجرة طويلة، وأنها في
طولها أشبه ما تكون بجهنّم. وهو قياس يفارق المألوف ويتيح
لمعطيات الحواس التبادل فيما بينها، أي بين ما هو مادي عياني
ومنظور وصورة متخيلة غير عيانية. ولا يخفى علينا هنا ملاحظة
الدقة التي التزم بها الشاعر في التوظيف اللغوي واستخدامه
الصفات على نحو بالغ الدلالة. ففي الوقت التي توصف شجرة الموت
بالطويلة إلى حد الإضحاك وجدنا النص يخلع على شجرة الحّب
السابقة صفة مختلفة أخرى، على الرغم من مشاركتها الشجرة الأخرى
في صفة الطول، إذ وصفت شجرة الحبّ السابقة بالقول إنها شجرة
عالية. وفي صفة العلو حمولة نفسية إيجابية، فيها من التعاطف
والانبهار أكثر من الوصف الخارجي المحايد. يُضاف إلى ذلك كشفه
عن صفة أخرى يخلعها على الشجرة لا تخلو من إيحاء بالكراهية
والعدائية، تلك هي وصف ساقها بالملاسة التي تذكر بجلود
الأفاعي، وربطها بجهنّم في مقابل ربط شجرة الحب بالجنّة كما
مرّ بنا.
ولا تبدو الملاسة كريهة لأنها تذكر بجلد الأفاعي حسب، بل لأن
هذه الملاسة ستكون عائقاً دون تسلق الشخصية الشجرة، كما حدث مع
الشجرتين السابقتين مثلاً. وهو ما يفقدها هوية الشجر، فضلاً عن
مباهجها التي يسعى الطفل أو الشاب لاحقاً إليها.
لكن أمر اختلاف شجرة الموت عن الشجرتين السابقتين لا يقف عند
هذا الحد، بل يتجاوزه إلى عدد من المظاهر الأخرى المنفّرة،
فليس في أعالي الشجرة ثمر ملوّن يدعوه إلى الفرح بالوصول إليه
أو التطلّع بقلب ساذج إليه. ومن هنا نستطيع أن نستشعر انطفاء
الفرحة في قلب الشخصية، إلى جانب ما ذكرنا من تشبيه الشجرة
الأخيرة بجهنّم.
لقد بدا الراوي مشوش الذهن ومختزنا عدداً من الروايات حول هذه
الشجرة التي يفصح عما استقر في ذهنه منها، من خلال أسلوب
التكرار، لما سمعه وتناهى إليه بصيغة الفعل المبني للمجهول هذه
المرة، حيث تكثر الأقاويل، وتتعدد تعدداً يجعله يلجأ إلى أسلوب
الحذف الدال على كثرتها:
" فشجرةُ الموت،
كما قيلَ لي،
مسكونة بالندم،
وقيلَ مسكونة بالملائكة،
وقيلَ بل بالأجراسِ السُّود،
وقيلَ بل بالثعابين،
وقيل..".
ولا يبدو من خلال طبيعة المظاهر المحيطة بهذه الشجرة أنها شجرة
كسابقتيها، إذ كل شيء فيها منفّر وكريه. فهي مسكونة بالندم
تارة أو بالملائكة أخرى، أو بالأجراس السود، أو بالثعابين، أو
بأشياء أخرى أمسك الراوي عن ذكرها، معتمداً طريقة الحذف:
"وقيل..".
ولا ريب في أن نظرة إلى تلك الأوصاف التي ساقها لنا الراوي
تدلل لنا على أنها جزء من المعطيات والتصورات التي كونتها
المعتقدات الشعبية عن الموت، وما يرافقه من صور يعود اللاوعي
لنبشها في لون من الميكانيزم الدفاعي عن الحياة، في مقابل
الموت والذهاب إليه، مقارنة بطول شجرة الحب وشجرة الموت من حيث
الدلالة اللغوية.
ولا يخلو من دلالة أن آخر وصف للشجرة هو وصفها في رواية من
الروايات أنها مسكونة بالثعابين. وهو الوصف الذي يمسك الراوي
عن تقديم وصف آخر بعده، مكتفياً بالحذف على طريقة "وقيل..".
وهذا الوصف الأخير هو ما ترشح في وعي الراوي وفرض على الشاعر
اختياره عنواناً للقصيدة" شجرة الثعابين".. الصورة الأكثر
تعبيراً عن مشاعر الشخصية إزاء هذه الشجرة.
عند هذا الحد يكون المقطع الرابع قد أشرف على الانتهاء منتظراً
الحركة الأخيرة التي يحاول اختصارها وعبور كمها واختلافاتها
بعبارة "وقيل.."، إذ يلجأ الراوي إلى ما يشبه الرغبة في تجاوز
التشويش وعدم اليقين بهذه الروايات إلى حيث ما يراه محسوماً
لديه:
" لكنْ
من المؤكّد
أنّني أتسلّقها كلّ يوم
منذ سنين طويلة
وأنا في طريقي إلى الندم
أو إلى الملائكة
أو إلى الأجراس السود
أو إلى الثعابين".
لقد جاءت الرواية الأخيرة للشخصية لتعيد الأمور إلى نصابها بعد
أن ازدادت الشخصية حكمة وأدركت حقيقة الأمور، واتضح لها أن
الدورات التي مرّت بها والرحلات التي شملت الأشجار السابقة
ليست سوى حلقات في سلسلة زمنية واحدة غير منفصلة عن الحلقة
التي انتهت بشجرة الموت. وهي حقيقة تقود إلى الاعتقاد اليقيني
الوحيد الذي تكشف للشخصية، وهو أن الحقيقة المؤكدة هي تلك
المتمثلة في أنه كان يتسلّق هذه الشجرة الكريهة يومياً على مدى
سنين مضت، وسيظل يمضي في تسلّقها، سواء أكان سيمضي مع هذه
الشجرة إلى الندم أو إلى الملائكة أو إلى الأجراس السود أو إلى
الثعابين؛ فلم يعد في الأمر فرق ما دامت النهايات تقود إلى
الطريق المحتم.
وإذا نظرنا إلى مدى المقاطع الأربعة من حيث زمن القراءة لدى
المتلقي (الطول) فسنجد أن المقطعين الأول والثاني متقاربان في
الطول، وأن المقطع الثالث أقصر منهما، بحكم كونه لا يكشف عن
بنية متطورة جديدة، بقدر ما يبدو وكأنه وسيلة ربط وتعليق على
الأحداث. أما المقطع الرابع فواضح أنه المقطع الأطول بين مقاطع
القصيدة. وهو الذي سيستأثر بالضوء وبالتفاصيل.
عتبة النص:
لقد بدأنا مقاربتنا بالقول إننا سنخرج عن الفضاء المألوف
للشاعر، ونحن على علم بأن عنوان القصيدة "شجرة الثعابين" يتصل
بعنوان المجموعة "شجرة الحروف"، فضلاً عن عشرات الأشجار التي
حفلت بها نصوص الشاعر، ما يجعل عزل نصوصه الحرة عن أجوائه
الحروفية أمراً لا يخلو من صعوبة في الأقل على مستوى الرؤية
الكليّة.
إلى جانب ما تبتعثه صورة الثعابين من تصورات وقصص دينية
وأسطورية تخرج من عالم اللاوعي الفردي أو الجمعي للشخصية التي
روت لنا من خلل بوحها بضمير المتكلم رحلتها الرمزية من الطفولة
إلى الموت، فضلاً عما تحمله الشجرة في هذا النص من حمولة
تراثية ومن دلالات أسطورية ودينية، إلى جانب الأسطورة
السيميولوجية التي اجترحها النص لتقديم رؤية شعرية ذات تقنيات
سردية. لقد استطاع النص، في بنيته المجازية وما توافر له من
عناصر فنية- رمزية وتخييلية- أن يكون نصاً أليجورياً يتجاوز
التجربة الفردية، ليعبر عن قصة الخليقة في رحلتها بدءاً
وانتهاء.
الإحالات:
(1). وصل منجز الشاعر أديب كمال الدين إلى ثلاثين مجموعة
شعرية، فضلاً عن ثمانية عشر كتابا نقديا عن تجربته، وضم أحدها
(الحروفي) عشرات الدراسات التي كتبها عنه نقاد عرب وعراقيون.
·
أديب كمال الدين: شجرة الحروف، شعر، ط1، دار أزمنة، عمان-
الأردن، 2007.
(2). ثمة أسطورة إفريقية غانية تعود إلى أزمنة قديمة تتحدث عن
هبوط رجل وامرأة من السماء، ثم أرسل إليهم الإله بعد زمن
ثعبانا بنى له بيتاً في النهر حتى وصل إلى الرجال والنساء
الذين كانوا يتعايشون مع بعض من دون اتصال جنسي أو فكرة عن
الحمل والولادة. وحين سألهم الثعبان عما إذا كان لديهم أطفال
وردوا عليهم بالنفي، طلب منهم الاصفاف أزواجاً ووجوههم إلى
بعض، ثم رش على بطونهم الماء مع قراءة طقوسية، طالباً منهم
العودة إلى منازلهم وممارسة عملية المضاجعة. وهكذا تعلم هؤلاء
طريقة الجماع وإنجاب
الأطفال
الأوائل في الكون. ينظر أحمد محمود القاسم، مفهوم الجنس
المقدّس والأديان، موقع
الحوار المتمدن، العدد: 2216 - 2008 / 3 / 10.
الانتهاك النصّي وبناء الزمن الشعري الجديد
في نصّ (الغراب والحمامة) للشاعر أديب كمال الدين
أ. د. غزلان هاشمي
ناقدة وأكاديمية جزائرية
حينما استلمتُ ديوان الأستاذ الشاعر المبدع أديب كمال الدين
والموسوم بـ "الحرف والغراب"، احترت كيف أقارب نصوصه المختلفة
ومن أيّ زاوية تكون مقاربتها، لاسيما والنصوص تتميز بالتكثيف
والرمزية مما يجعلها موضعا للتعددية الاحتمالية، لذلك ارتأيت
وبعد هذه الحيرة أن أقدّم قراءة تأويلية لنص من نصوص الديوان
والموسوم بـ"الغراب والحمامة" نظرا لتقاطع عنوانه مع عنوان
الديوان في لفظة "الغراب"، علّي أقع على قصدية الشاعر ومجمل
فكرته التي يود طرحها في هذا الديوان.
يثير العنوان تساؤلات تأويلية عدّة نظرا لالتباساته
والاحتمالية التي تسيّج تموضعه الاصطلاحي، فالغراب بعيدا عن
ذاكرة النص يحيل إلى معنى الشؤم والخطيئة والهلاك والانتهاك،
إذ يستحضر سياقا انتقائيا من زمن البدء حينما تمت فيه استباحة
الدماء تحديا للإرادة الإلهية وسلطة الرقيب الديني، يقول
تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ
آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن
أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ
لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ
(27)
لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ
بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
(28)
إِنِّي أُرِيدُ أَن
تَبُوءَ بِإِثـْـمِي وَإِثـْـمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَه فَأَصْبَحَ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (30)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ
كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ
سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)".'المائدة'
يتحول الغراب إلى قطعة ذاكراتية تهدد صفاء الهوية اللغوية،
وذلك التموضع الساكن في اختلاق مثالي والذي تؤطر وجوده معيارية
ثابتة ومستقرة، فالغراب مزعزع لكل انتقائية قيمية ترسم للحياة
حدودها المفترضة تحققا، وقد يتحول إلى شعور ثقيل بالندم وبحث
عن طريقة لمواراة انتهاك اللغة وتصحيح مسارها في وعي النص/
الجماعة، لكن رغم ذلك لا يتحرر الفعل من الإثمية حيث تبقى تلك
النصوص المحايثة التي تطفو على الاعتبارات الأصلية بعد قتل
النص البدئي تأويلات آثمة تثير حول نفسها إشكالات التحقق
الفعلي وتساؤلات تخريب المعنى وخلخلة الهوية.
ولربما عنوان الديوان يدل على ما قلته، إذ الحرف الذي يحمل
أسرار الحقيقة وتفسيرات الكون والبدء
في اعتباراته الأصيلة
قبل أن تغيره الاختراقات التأويلية يقف الغراب في
موضعية مساوية له (والحديث عن أول ما خلق الله وهو القلم مذكور
في تفاسير القرآن للآية الأولى من سورة القلم)، إذ يتبعه مهددا
اعتباراته بحقائق لغوية وصياغات مغايرة. لكن التساؤل المطروح
هنا: إذا كان الشاعر يعتبر أن العملية الإبداعية
تبدأ بالحرف/ سر البدء وتنتهي بالغراب/ انتهاك اللغة/
التأويل، فلماذا يبدأ في نصه "الغراب والحمامة" بالانتهاك
الآثم للغة لينتهي بالحمامة/ البدء/ السلام؟
حسبما ما نرى فإنّ الشاعر يجد أن اللغة يتم انتهاكها لتتجرد من
تموضعاتها الأصيلة، حيث يحمل المتلقي شؤم الخرق وتهديم
المرتكزات النصية، ومعه شعور بالذنب نظرا لتغييبه الاعتبارات
الأولية في سبيل تحقيق سطوة الذات/القارئ أو سلطة المنجز
التأويلي، ليتمّ لمّ شتات الاعتبارات والبحث عن حياة نصية
ثانية، وذلك بعد تحقق مسافة سلام بين القارئ والنص المنجز، إذ
الحمامة تستحضر حكاية الطوفان لتكون رمزا لنجاة بقايا النص
الأول بعد القضاء على آثار التفكيك الآثم للمرتكزات القبلية،
ومن هنا تشي الحمامة بالحياة الثانية/ البدء الثاني إذ يحصل
فيها المتلقي على سكينة المنجز بعد حيرة الاحتمالية.
حينَ طارَ الغرابُ ولم يرجعْ
صرخَ الناسُ وسطَ سفينةِ نوح مرعوبين.
وحدي – وقد كنتُ طفلاً صغيراً-
رأيتُ جناحَ الغراب،
أعني رأيتُ سوادَ الجناح،
فرميتُ الغرابَ بحجر.
هل أصبتُه؟
لا أدري.
هل أصبتُ منه مَقْتَلاً؟
لا أدري.
لماذا كنتُ وحدي الذي رأى
سوادَ الغراب
ولم يره الناس؟
لا أدري.
يصور الشاعر زمن البوح متحررا من اختراقاته، إذ يحاول تشكيل
نفسه من جديد باحثا عن تمثّل شعري يقف في مسافة فارقة بين
الأصل/ البدء والخرق/ الانتهاك، فالاعتبارات الأصيلة تقف
بقاياها على تخوم الذاكرة/ السفينة، باحثة عن تموضع بديل بعد
تهديم كل المرتكزات القبلية، وتستبدل ذاكرة النص الحمامة/ زمن
البدء الثاني بالغراب، حيث التعبير الآثم يعلم القارئ كيف يخفي
دليل انتهاكه ويذكره في الوقت ذاته بتلك القراءات التأويلية
الآثمة، ومن هنا يتم تغييب عملية طمس فعل الانتهاك "حين طارَ
الغرابُ ولم يرجع"، لتصبح عبارة عن متعاليات نصية تلوح في شكل
مدرك مذبذب التمثل"جناح الغراب، سواد الجناح"، حيث تحاول بقايا
الاعتبارات الأصيلة "الطفل الصغير" والذي يشي بزمن البدء
الثاني أو النص المحايث تطهير التشكل الشعري الجديد من كل شعور
بالذنب لازم فعل الخرق "فرميتُ الغرابَ بحجر"، حيث تبقى
المساءلات المرفقة بالدهشة والحيرة تُسيّج زمن النص الثاني حول
شبهة تمثله بالرغم من تغييبها في وعي النص الأصلي "لماذا كنتُ
وحدي الذي رأى سوادَ الغراب ولم يره الناس؟ لا أدري".
حينَ عادت الحمامةُ بغصنِ الزيتون
صرخَ الناسُ وسط السفينةِ فرحين.
لكنَّ الغراب سرعان ما عاد
ليصيحَ بي بصوتٍ أجشّ:
أيّهذا الشقيّ لِمَ رميتني بالحجر؟
اقترب الغرابُ منّي
وضربني على عيني
فظهرت الحروفُ على جبيني
عنيفةً، مليئةً بالغموضِ والأسرار.
ثُمَّ نقرَ جمجمتي
فانبثقَ الدمُ عنيفاً كشلال.
وتعود الحمامة/ البدء الثاني بأمل التمكين لمستقر النص "غصن
الزيتون"، حاملة وعدا بانتهاء طوفان تخريب المعنى والغضب من
وثنية المعايير القبلية وسطوتها، حيث تطفو الاعتبارات الأصيلة
على سطح النص باحثة عن حضور نصي جديد بعد الانتقائية التي خضعت
لها "صرخَ الناسُ وسطَ السفينةِ فرحين"، ورغم ذلك يعاود
الغراب/ انتهاك اللغة الظهور من جديد مهددا زمن البوح برغبة
التقويض "لكنّ الغراب سرعان ما عاد"، إذ يهاجم مرتكزاته ويضرب
مركزيته من أجل حجب الرؤية وطمس اعتباراته ليبقى النص في
إثميته وتضليلاته حاملا شؤم الخرق، "اقترب الغرابُ منّي وضربني
على عيني"، من هنا يظهر سر البدء "الحروف" عنيف التمثل في قدر
العملية الإبداعية أو في متنبئاتها المستقبلية "فظهرت الحروف
على جبيني عنيفة"، حيث تبقى مسيّجة بالغموض والأسرار"مليئة
بالغموضِ والأسرار"، مانحة لحظتها إلى المتلقي الذي ينطلق من
بقايا المكونات النصية القبلية ومن آثار الانتهاك والخرق ليبدأ
لحظته من جديد.
نزلَ الناسُ من السفينةِ فرحين مسرورين،
يتقدّمهم نوح الوقور
وهو يتأمّلُ في هولِ ما قد جرى.
حاولتُ أنْ أوقفَ
شلّالَ الدمِ الذي غطّى رأسي ووجهي.
فاقتربت الحمامةُ منّي
ووضعتْ على رأسي حفنةَ رماد:
حفنةً صغيرة،
مليئةً بالغموضِ والأسرار.
ويقف النص ببعض اعتباراته الأصيلة على مستقره الثاني بعد تحرره
من شعوره الآثم بالخرق وتطهير ذاكرته "نزلَ الناسُ من السفينةِ
فرحين مسرورين"، حيث نبوءة التحقق والتمكين "نوح الوقور" تتقدم
التمثلات الشعرية مهيئة مسارها الإبداعي المستقبلي، إذ النبوءة
تتحقق بعد التأسيس للحظة الإبداع من زمن الدهشة- دهشة التأويل-
"يتأمل في هول ما قد جرى". ويحاول النص إيقاف عملية الخرق
والانتهاك من أجل استعادة استقراره "حاولت أن أوقفَ شلّالَ
الدمِ الذي غطّى رأسي ووجهي"، حيث يقترب منه زمن السكينة/
الحمامة مانحة إياه
روح التمثل المتجدد والمتوالدات النصية الاحتمالية
المسيجة بالغموض واللاتحديد والتي تكتمل لحظتها بعد المرور على
الوجع وفعل احتراق الكون الشعري الأول:
هكذا أنا على هذه الحال
منذ ألف ألف عام:
الغرابُ ينقرُ جمجمتي
فينبثقُ الدمُ عنيفاً كشلّال.
والحمامةُ تضعُ فوق جمجمتي،
دون جدوى،
حفنةَ رماد!
ما الذي تنتهي به نبوءة النص والتمكين الإبداعي حسب رؤية
الكاتب؟
في هذا المقطع يوضح الشاعر كيف أن العملية الإبداعية تسير وفق
مسار ثنائي التركيب: خطيئة الانتهاك/ زمن السكينة، حيث يبقى
فعل الهدم والاختراق ملازما لحظة المستقبل "الغرابُ ينقرُ
جمجمتي فينبثقُ الدمُ عنيفا"، ليرمم السلام أو زمن السكينة هذا
الهدم بالمتوالدات النصية المختلفة والمتجددة علّه يعثر على
مكتمل النص زمن المستقبل إلّا أن الاحتمالية تظل تهدد مستقره
وتقوض اعتباراته في كل مرّة "والحمامةُ تضعُ فوقَ جمجمتي دون
جدوى حفنةَ رماد".
****************************
- "الغراب والحمامة" إحدى قصائد مجموعة (الحرف والغراب) للشاعر
أديب كمال الدين، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت - لبنان
2013.
في حضرة المعنى: من الانتهاك إلى التأثيث
قراءة في قصيدة (أنا وأبي والمعنى) لأديب كمال الدين
أ. د. غزلان هاشمي
ناقدة وأكاديمية جزائرية
سقطَ الساحرُ من مائدةِ السحرِ على الأرضْ.
فتمزّق صوتُ الماءِ بكفّيه. بكى، واهتزَّ كما يهتزُّ الطائر
حين تُمرّر سكين الذبحِ على الرقبة.
الأرضُ تكرّرُ لعبتَها. ما كنتُ أكون. الغيمُ يجيءُ ويذهبُ
والفجرُ يطرّزُ حرفَ الدهرِ فلا معنى أبداً. أختبئُ اليومَ
كطفلٍ،
أرنو للفجرِ، أقرّرُ أنْ أبعث كلماتي حتّى يعتدل العالم، يذهب
سيف الظالمِ في الظلماتِ. فما أحلى الكلمات! وما أسخفها!
سقطَ الساحرُ. كانتْ امرأةُ الساقين الفاتنتين تهدهد...
لا معنى لإعادةِ مشهدِ حبٍّ مكرورٍ ملتهبٍ، لا معنى.
المرأةُ واقفةٌ خلف الشبّاك وخلف المكتب، خلف زجاج الباص
وما مِن شيء ينقذها. سقطَ الساحرُ من مائدةِ الفعلِ، فعضَّ
يدي، قالَ: سأقتصُّ من الظالمِ. هدّدني بعيون الجمرِ، تقدّم
من دائرةِ السيفِ وأطلقَ جمْعَ طيورٍ ملأتْ جوَّ الغرفةِ
بالهذيانْ.
أكتشفُ اللحظة أنّ الساحرَ مسحورٌ، أنّ الساحر يبكي كالطفل..
نظرَ الساحرُ لي، قالَ: بأنّي الطفل.
فتعجّبتُ من القول
ونظرتُ إلى لغةِ الفجرِ فكانتْ سوداءْ.
قامَ الساحرُ بالرقصِ، اختطَّ لنا أرضاً تكفي لكلينا، قالَ:
هنا
نرقصُ- واختطَّ بجانبها أرضاً أصغر- وهنا سنموت.
علينا بالرقصِ لأنّ المرأة شيء باطل
والطفل كذلك، والسيف قويّ، والمعنى مكتنزٌ في الرقص
فارقصْ!
أخبرتُ الساحرَ أنّي أعمى لا أعرف إلّا خيطاً من ذاكرةِ
الفجرِ وأخفي في كفّي وشماً لامرأةٍ عاريةٍ ماتتْ منذ سنين.
غضبَ الساحرُ من كلماتي وافرنقعَ منّي، قالَ بأنّي كذّابٌ
خَرِفٌ. أخذَ الساحرُ بالرقصِ، فهبَّ إلى الساحةِ مدفوعاً
بسهامٍ
ورموزٍ زرق وشموسٍ حمر. واهتزّتْ ذاكرةُ الغرفةِ حتّى غضب
الغيمُ وأمطرت اللحظةُ وقتاً مدفوعاً باللاشيء. افرنقعَ غيمُ
شتاءِ
الروح. اشتدَّ المطرُ البريُّ. نظرتُ إلى ما حولي علّي أتلمّسُ
شيئاً: الغرفةُ فارغةٌ كالموتِ. الساحرُ مشغولٌ بالرقصِ.
الطائرُ
في جوّ الأسطورةِ ينمو. هبّتْ ريحٌ طيّبةٌ فتذكّرتُ المرأة
تأتي،
تأخذني لفراشِ الحُبّ تؤدّبُ أوجاعي، وتذكّرتُ الطفلَ يحلّقُ
في النهرِ، تذكّرتُ السيفَ رجالاً ما عرفوا إلّا
الكذب الأسْوَد
وعوانس من سخفٍ وخيوطٍ من لحمٍ ودمٍ. فصرختُ: أبي..
هلَّ أبي كهلالِ العيدِ بطيرِ النورسِ مؤتلقاً. واشتدَّ المطرُ
البرّيُّ.
افرنقعت الغيمةُ واهتزَّ جدارُ الغرفةِ ثوباً في الريح.
الساحرُ
يلعبُ، لم يتعبْ من رقصته، وخيوطُ العرقِ المصبوب على
الجسدِ العاري هبطتْ. كنتُ أحسّ بأنّي أُقْتَلُ هذا اليوم
وأنّي
سأغادرُ ساحةَ رقصِ الساحرِ مُتجهاً بهدوءٍ نحو القبر المرسوم
على الأرضِ. المطرُ قويّاً يشتدُّ. الغيمةُ تعصفُ تعصفُ تعصفُ.
جاءَ أبي، هبطَ الساعة من سقفِ العالمِ. كانَ أبي يتألّقُ
شمساً للفجرْ.
صرخَ الساحرُ في وجهي: ارقصْ. قلتُ بأنّي أعمى.
ضحكَ الساحرُ، قهقه ثُمَّ ارتجفَ الساحرُ حين تألّقَ وجهُ أبي
في
الغرفة. أمسكَ بالعين الجرداء فأحياها. أمسكَ بالأذنِ الجرداء
فأسمعها، أمسكَ بي. اشتدَّ المطرُ فخفتُ على ثوبِ أبي الأبيض
أن يتّسخَ. وقالَ أبي: لا تحزنْ إنّكَ في عيني. فبكيتُ، نظرتُ،
رأيتُ الفجرَ لأوّل مَرّةْ.
ووقعتُ على كفِّ أبي لأقبّلها. والغيمةُ تعصفُ عصفاً.
وبدا أنّ الأرضَ ستغرقُ. قالَ أبي: لا تحزنْ هذا
مطرُ الفقراءِ،
انظرْ. فنظرتُ العشبَ بقامةِ طفل!
تهجس نصوص الشاعر العراقي أديب كمال الدين بسؤال المعنى
وتوالداته، وتنشغل بالفجوة التي تشكلها حيرة الانتظار وصدمة
الكمون في نقطة الاحتمال، ففي قصيدته "أنا وأبي والمعنى"
تتجاور الممكنات في لعبة انتقائية مضللة وفق مسار يوهم الجمع
والمثول في راهنية واحدة، إذ تقف الذات "أنا" على تخوم
الاستبدال بين مواضعات تأسيسية، "أبي" تمثل سلطة الانبثاق
الأولي، ومواضعات تكميلية تنشغل باستكمال النص وفق منطق التمدد
والمحايثة والتعدد "المعنى":
سقطَ الساحرُ من مائدةِ السحرِ على الأرضْ.
فتمزّق صوتُ الماءِ بكفّيه. بكى، واهتزَّ كما يهتزُّ الطائر
حين تُمرّر سكين الذبحِ على الرقبة.
الأرضُ تكرّرُ لعبتَها. ما كنتُ أكون. الغيمُ يجيءُ ويذهبُ
والفجرُ يطرّزُ حرفَ الدهرِ فلا معنى أبداً. أختبئُ اليومَ
كطفلٍ،
أرنو للفجرِ، أقرّرُ أنْ أبعث كلماتي حتّى يعتدل العالم، يذهب
سيف الظالمِ في الظلماتِ. فما أحلى الكلمات! وما أسخفها!
...ص 135
(المجلد الأول
للأعمال الشعرية الكاملة).
يتصدّع المعنى المركزي/ السلطة بعد أن كان يمارس تضليلاته
ويفرض تعاليه وانبثاقه الأحادي على المتلقين، إذ يسقط على
أرضية خطيئة الاستثناء ويفقد اصطفائيته لينفلق عبر مسارات
الإيهام فاسحا المجال للاحتمالية كي تعبر إلى ضفة الاعتراف
بعيدا عن يقينية الماضي وقدسية اختلاقاته، إلا أن هذا الانفصال
يظل مسكونا بالوجع لاقترابه من لحظة افتداء حرية القراءة
والتأويل، ولأن الإنجازية في راهن النص/الواقع مرهونة بسؤال
الاصطفاء، يظل المعنى المتولد في كل مرّة وعبر نصياته المختلفة
في محاولة لاحتلال مركز المثول وإمساك سلطة اليقين مكررا لعبة
الاستثناء واحتكار الحقيقة "ما كنتُ أكون"، إلا أن حركية النص
واعتباراته المنشغلة بالظهور والتواري تعد بإنجازية نصية أخرى،
خاصة حينما تلامس زمن التملص من السكون "الفجر"، وهذه
الإنجازية ملتحفة بالغموض "فلا معنى أبدا"، إذ تشي بالتشتت
والانفلات من سلطة المركز/ الأب، كما أنها تتوعد المثول في زمن
المستقبل "كطفل" حتى تحقق اعتدال النص من خلال انبثاقاته
وحوارياته، وتحرره من استبداد المعنى المركزي "يذهب سيفُ
الظالمِ في الظلمات" ومن أحكامه المضللة التي تقف على تخوم
اليقين، من خلال زعزعة يقينية التصنيف وخلخلة مواضعاتها
القبلية بالجمع بينها، مراعاة لمقتضيات القراءة ومزاجيتها "فما
أحلى الكلمات وما أسخفها !".
سقطَ الساحرُ. كانتْ امرأةُ الساقين الفاتنتين تهدهد...
لا معنى لإعادةِ مشهدِ حبٍّ مكرورٍ ملتهبٍ، لا معنى.
المرأةُ واقفةٌ خلف الشبّاك وخلف المكتب، خلف زجاج الباص
وما مِن شيء ينقذها. سقطَ الساحرُ من مائدةِ الفعلِ، فعضَّ
يدي، قالَ: سأقتصُّ من الظالمِ. هدّدني بعيون الجمرِ، تقدّم
من دائرةِ السيفِ وأطلقَ جمْعَ طيورٍ ملأتْ جوَّ الغرفةِ
بالهذيانْ.
ومع سقوط المعنى المركزي/ سلطة اليقين/ الساحر ينكشف التوالد
النصي من خلال عملية إغواء القارئ للاقتراب من زمن المحاورة
ومغامرة النبش "امرأة الساقين الفاتنتين"، إلا أن شهوة
الانتظار تتوارى خلف روتينية الخواء "لا معنى"، حينما تصطدم
الذات بثبوتية النص واستغلاقه، إذ يظل الإغواء ماثلا في تخوم
الحيرة "خلف الشباك ـ خلف المكتب ـ خلف زجاج الباص"، ويظل النص
مستغلقا يأبى الاقتراب "المرأة
واقفة خلف الشباك وخلف المكتب، خلف زجاج الباص"، ولأنّ الخلفية
توجس وترقب، فإن المعنى المركزي/ السلطة/ الساحر وبعد تحلل
فاعليته واضمحلالها يهدد زمن التمثل المنفلت من المعيارية
بالإقصاء، ويهدد القارئ القلق بخلخلة مسلماته بعد أن حاول
اختراق يقينياته "سأقتصّ من الظالم"، ليطلب منه في صيغة حضور
أن يبقى رهن الخوف والريبة من أجل إطلاق جميع الاحتمالات
النصية المنبنية على زمن المحايثة "وأطلقَ جمعَ طيورٍ ملأتْ
جوّ الغرفةِ بالهذيان".
أكتشفُ اللحظة أنّ الساحرَ مسحورٌ، أنّ الساحر يبكي كالطفل..
نظرَ الساحرُ لي، قالَ: بأنّي الطفل.
فتعجّبتُ من القول
ونظرتُ إلى لغةِ الفجرِ فكانتْ سوداءْ.
قامَ الساحرُ بالرقصِ، اختطَّ لنا أرضاً تكفي لكلينا، قالَ:
هنا
نرقصُ- واختطَّ بجانبها أرضاً أصغر- وهنا سنموت.
علينا بالرقصِ لأنّ المرأة شيء باطل
والطفل كذلك، والسيف قويّ، والمعنى مكتنزٌ في الرقص
فارقصْ!
لمّا يحل زمن المكاشفة يصبح المعنى المركزي/ سلطة اليقين/
الساحر رهين الإغواء، إذ يتحرر من سلطة الفعل/ الإغواء ليتحول
إلى واحد من المفاعيل النصية المحكوم عليها بالاحتمالية
والجزئية في إطار المتعدد في الزمن القادم "أكتشفُ اللحظة أنّ
السّاحرَ مسحور"، ومن ثمة تتلاشى مركزيته وينبئ عن تقويض راهنه
حتى يتشكل من جديد في حضرة حضور مشبع بالتجدد والانبثاق "نظرَ
السّاحرُ لي قال: بأنّي الطفل"، إذ مع زمن الدهشة تلتحف
البدايات المؤجلة بالغموض "ونظرتُ إلى لغةِ الفجرِ فكانتْ
سوداء"، ليتوسّع المعنى بعد شطحات ممارسة من قبل المتلقي على
هامش البوح، حيث يعيد الخوض في المسافات المعتمة والتي تحكم
على كل اعتباراته القبلية بالموت والاضمحلال في سبيل نصية
جديدة "وهنا سنموت"، ويقف على تخوم المشابهة والزيف ليعثر على
لحظته في ثنايا الهامش/ الرقص....
أخبرتُ الساحرَ أنّي أعمى لا أعرف إلّا خيطاً من ذاكرةِ
الفجرِ وأخفي في كفّي وشماً لامرأةٍ عاريةٍ ماتتْ منذ سنين.
غضبَ الساحرُ من كلماتي وافرنقعَ منّي، قالَ بأنّي كذّابٌ
خَرِفٌ. أخذَ الساحرُ بالرقصِ، فهبَّ إلى الساحةِ مدفوعاً
بسهامٍ
ورموزٍ زرق وشموسٍ حمر. واهتزّتْ ذاكرةُ الغرفةِ حتّى غضب
الغيمُ وأمطرت اللحظةُ وقتاً مدفوعاً باللاشيء. افرنقعَ غيمُ
شتاءِ
الروح. اشتدَّ المطرُ البريُّ. نظرتُ إلى ما حولي علّي أتلمّسُ
شيئاً: الغرفةُ فارغةٌ كالموتِ. الساحرُ مشغولٌ بالرقصِ.
الطائرُ
في جوّ الأسطورةِ ينمو. هبّتْ ريحٌ طيّبةٌ فتذكّرتُ المرأة
تأتي،
تأخذني لفراشِ الحُبّ تؤدّبُ أوجاعي، وتذكّرتُ الطفلَ يحلّقُ
في النهرِ، تذكّرتُ السيفَ رجالاً ما عرفوا إلّا
الكذب الأسْوَد
وعوانس من سخفٍ وخيوطٍ من لحمٍ ودمٍ. فصرختُ: أبي..
تتوارى المركزية حينما تواجهها صيغة الإخبار/ المثول في راهن
النص، حيث تنفلت الرؤية لتواجه الذات امتدادا استرجاعيا يقف
على تماس من حقيقته/ في الهامش "خيطا من ذاكرة الفجر"، ويخفي
في قراءاته الاحتمالية وتنبؤاته إمكانا متجرّدا من أوهام
التمثل، لكنه غير متحقق في مستقبل النص، إذ يظل في مقدرته
الاستيعابية بعيدا عن سلطة التشكل ملتحفا الدهشة والاستحالة "وأخفي
في كفّي وشماً لامرأةٍ عاريةٍ ماتت منذ سنين"، ويحاول المعنى
المركزي استرجاع سلطته من خلال إغواء المتلقي "أخذ الساحرُ
بالرقص فهبّ إلى الساحةِ مدفوعاً بسهامٍ وأغانٍ زرقٍ وشموسٍ
حمر"، فتتخلخل اعتباراته القبلية منتجة راهنية نصية ملتحفة
بالدهشة والاستغراب والحيرة والعدم "وأمطرت اللحظةُ وقتاً
مدفوعاً باللاشيء".
وتتلاشى الاعتبارات القبلية بعد أن تصل النص إمداداته القرائية
"المطر البريّ"، فتنتج الدهشة واقعا نصيّا مغايرا متجرّدا من
كل زمنية نصية قبلية "الغرفة فارغة كالموت"، ومنشغلا بطقوسية
التمثل الانبعاثي الملتحف بالتشفير والتعالي "في جو الأسطورة
ينمو"، إذ الاسترجاعية تتأسس على فعل الانتهاك "الطفل ـ
السيف.."، لتظل المغايرة تلتحف جزءا من المشابهات في مسافة
البوح المؤجل حتى وإن ادعت الخرق "فصرختُ: أبي..".
يمكن القول في خاتمة هذه القراءة المختصرة أن المعنى المركزي/
الأب ينفلت من حضرة الغياب وعتمة الانتظار، وليعد برسو التأويل
على ساحل النصية أو بالاقتراب من تماساته والوقوف على صخرة
الفرح.
*****************
- نُشرت قصيدة (أنا وأبي والمعنى)
في محموعة أخبار
المعنى، المجلد الأول من الأعمال الشعرية الكاملة، أديب كمال
الدين، منشورات
ضفاف، بيروت، ص 135.
بِنْية التّكرار في قصيدة (ديوانِ المقابلات)
للشاعر أديب كمال الدين
د. حسن محمد سعيد
ناقد وأكاديمي عراقي
·
المقدّمة
يتناول البحث قصيدة: (ديوان المقابلات) للشاعر أديب
كمال الدين والتي نشرها في المجلد الأول من أعماله الشعرية
الكاملة عبر تسليط الضوء على بنية التكرار بمستوياتها وأنماطها
المختلفة استناداً إلى حضورها الفعلي في النصوص الشعرية
للديوان المدروس، ويحاول البحث رصد تجلّيات التكرار الصوتيّة
وإسهامها المباشر بمدّ النص بالدلالة.
يهدف البحث إلى الإجابة على السؤالين الآتيين: هل تعدّ
بنية التكرار بنية واعية مقصودة في تشكيلاتها الصوتيّة
المختلفة داخل النص الشعري؟ وما مدى ارتباط الحالة النفسيّة
للشاعر باستعمال بنية التكرار كوسيلة للكشف عن مكامن التجربة
الشعرية التي يعيشها الشاعر؟
تقوم خطّة البحث على تمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة، أمّا
التمهيد فقد أشرنا فيه إلى مفهوم التكرار وإلى وظيفته استناداً
إلى مفهومه، وأمّا المبحث الأوّل فقد حمل عنوان التكرار
الاستهلالي؛ إذ رصد مستويات هذا التكرار في
قصيدة
(ديوان
المقابلات)، بينما حمل المبحث الثاني عنوان تكرار اللازمة فرصد
اللازمة الصوتيّة المكرّرة، ليأتي المبحث الثالث بعنوان
التكرار التراكمي الذي تجسّدت فيه وحدات صوتيّة عدّة بمستويات
مختلفة، وضمّت الخاتمة أبرز نتائج البحث.
·
التمهيد: التّكرار بين المفهوم والوظيفة
تُعَدُّ بنية التكرار مِن البنى الصوتية الأكثر تجلّياً
في النص الشعري على مستوى الإيقاع الداخلي، فهي بنية منتظمة
لها قوانين خاصّة ووظائف شعريّة متعدّدة، قلّ نظيرها في
العناصر الداخليّة الأخرى التي ليس لها معيار ثابت يحدِّدُها،
وقد عرّفه ابن الأثير بقوله: "دلالة اللفظِ على المعنى
مردَّداً" (د.ت :3/3) أمّا الشريف الجرجاني فقد اكتفى بجعله
"عبارة عن الإتيان بشيء مرّةً بعد أخرى" (2007: 64) والتكرار
في أيسر صورهِ هو "أنْ يأتي المتكلِّم بلفظ ثمّ يعيدهُ بعينهِ
سواءٌ أكان اللفظ متّفق المعنى أو مختلفـاً ، أو يأتي بمعنى
ثمّ يعيده – وهذا مِن شرط اتفاق المعنى الأوّل والثاني- فإن
كان متّحِدَ الألفاظ والمعاني فالفائدة في إثباتهِ تأكيد ذلك
الأمر وتقريره في النفس وكذلك إذا كان المعنى متّحداً، وإن كان
اللفظان متّفقين والمعنى مختلفاً، فالفائدة في الإتيان بهِ
الدلالة على المعنيين المختلفين"
(مطلوب، 1989: 1/370)
إلاّ أنّ دخول التكرار في اللغة الشعرية تجعل قدرته "تتجاوز
هذه الفائدة، إذ يعمل على إنتاج فوائد جديدة داخل كيان العمل
الفنّي"
(عبيد، 2001 : 183)
عبر "الإتيان بعناصر متماثلة في مواضع مختلفة من العمل الفنّي،
والتكرار هو أساس الإيقاع بجميع صورهِ، فنجده في الموسيقى
بطبيعة الحال، كما نجده أساسا لنظرية القافية في الشعر، وسر
نجاح الكثير من المحسنات البديعية"
(وهبة؛ المهندس، 1984: 117–118)
وكما أنّ لهُ أهميّة في تركيز المعنى وتأكيده فهو على
الصعيد الشعري "يمنح النص نوعاً من الموسيقى العذبة المنسجمة
مع انفعالات الشاعر في هدوئهِ أو غضبهِ أو فرحه أو حزنه"
(أبو العدّوس، 2007: 264؛ السعدني، 1987: 30)
ليخلق انسجاماً بين البعدين الإيقاعي والدّلالي للقصيدة
وليؤدّي بعد ذلك دوراً عضوياً متكاملاً يمكن أن يرجع بشكل مجمل
"إلى وظيفتين متعالقتين :
1- وظيفة دلالية:
لأنه كأساس أسلوبي يرتبط بالدلالة النصية إذ يعمل على تجميع
العناصر والوحدات الدّالة في شبكة متماثلة .
2- وظيفة نفسية"
(كنّوني، 1997: 123)
ترتبط بالفكرة المتسلِّطة على الشاعر مِن جهة وبذات الشاعر من
جهة أخرى
(الملائكة، 1967: 242–243)
من هنا يتّضح دور التكرار في إظهار "حجم الطاقات الانفعالية
والتأثيرية للمبدع ودورها في إثارة انفعالات المتلقّي... إذ
يعبّر عن أحاسيس المبدع وانفعالاته ويوحي بأهميّة الوحدات
المكرّرة ومدى سيطرتها على فكر المبدع وانفعالاته وهذا يكشف
عمق ارتباط التكرار بالجانبين الفكري والنفسي، وتداخل الشعور
واللا شعور عند المرسل وبذلك يكون نسيج البنى التكرارية في
النص يحتوي على عناصر مكرّرة من الشعور واللا شعور، وتكون
الذات المبدعة كامنة في تلك العناصر المكرّرة" (كلاب، 2015،
مج23، ع1: 72) فالتكرار على هذا الأساس "يخضع للقوانين الخفيّة
التي تتحكم في العبارة وأحدُها قانون التوازن ، ففي كل عبارة
طبيعيّة نوع من التوازن الدقيق الخفي الذي ينبغي أن يحافظ
عليهِ الشاعر في الحالات كلِّها. إنّ للعبارة الموزونة كياناً
ومركز ثقل وأطرافاً ، وهي تخضع لنوع من الهندسة اللفظية
الدقيقة التي لا بدّ للشاعر أن يعيَها وهو يُدخل التكرار على
بعض مناطقها" (الملائكة، 1967: 243-244) بما يحقّق التحاماً مع
أجزاء القصيدة وتشكّلها العام مِن دون حدوث أي خرق أو قطع في
ترابط انتظامهِا وتسلسلهِ المنطقي والشعوري و " لغة التكرار
تظلّ باعثاً نفسيّا يهيّئه بنغمة تأخذ السامعين بموسيقاها،
وتعلّق الشعراء بهذا الضرب من فنون الكلام لأمر يحسّه الشاعر
في ترجيع ذات اللفظ، وما يؤدّيه هذا الترجيع من تناغم الجرس،
وتقويته، تثير في ذاته تشوّقاً واستعذاباً أو ضرباً من الحنين
والتأسّي" (هلال، 1980: 239) وهذا التكرار "يقع من الشاعر
لأصغر وحدة صوتيّة هي الفونيم كما يقع لأكبر وحدة وهي الجملة
أو الشطر، وهو في الشعر الجيّد له أهداف عدّة منها إحداث الأثر
الموسيقي وتوكيد الألفاظ والمعاني" (السيّد، 1986 :291).
إنّ
التركيز الذي يمنحه التكرار للدوال المكرّرة يدل على أهميتها
إذ "يُعنَى بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها... فالتكرار
يسلّط الضوء على نقطة حسّاسة في العبارة ويكشف عن اهتمام
المتكلّم بها وهو بهذا المعنى ذو دلالة نفسية قيّمة تفيد
الناقد الادبي الذي يدرس الأثر ويحلّل نفسيّة كاتبه"
(الملائكة، 1987: 276) إذ يعمد الشعراء إلى توظيف التكرار
توظيفا واعيا مقصودا الأمر الذي يستلزم تحليل بنيته باعتماد
الناحية الكمية والناحية الكيفية و"التزاوج بينهما يؤدّي إلى
الإمساك بالناتج الدلالي في مستوياته المختلفة" (عبدالمطّلب،
1995: 382) وقد أسهمت بنية التكرار في تشكيل نصوص عدة للشاعر
أديب كمال الدين لا سيّما
قصيدة (ديوان المقابلات) التي نحن بصدد دراستها
وتحليلها، ويمكن حصر التكرار فيه في ثلاثة أنماط هي
(التكرار الاستهلالي، وتكرار اللازمة، والتكرار التراكمي).
1.
التكرار الاستهلالي:
يتحقّق هذا النمط من التكرار في مستهل النص أو المقطع
الشعري ويكون بتكرار كلمة أو تركيب بصيغ متشابهة أو مختلفة في
مساحات زمنية متساوية أو متباينة متتابعة أو متباعدة لغرض
الوصول إلى دلالة معيّنة تستند إلى الإيقاع الذي يمنحه هذا
التكرار للمقطع أو النص (الملائكة، 1967: 231؛ كلاب، 2015،
مج23، ع1:
18) كالذي نجده في
مقطع المقابلة الثالثة (أغنيتان) للشاعر أديب كمال
الدين*
من قصيدة "ديوان المقابلات" التي
تتوزّع على ثلاث مقابلات (كمال الدين، 2015: 1/271):
آهِ عادَ السُّنونو لأعشاشهِ ضاحكاً كالنسيمِ العليلْ
آهِ عادتْ طيورُ البحارِ البعيدة
والذِّئاب الغريبة
آهِ عادت خُطى العاشقِ العاشقة
والسنين المريرة،
والمغنِّي العجوز
آهِ عادت خطى كلِّ شيء، ولكنَّني
لم أعُدْ منذُ مليونِ عامٍ وحيداً
أشيبَ الرأسِ مكتهلاً بالعذاب، إذنْ
فلأغنِّ بصوتٍ خفيضٍ لأسأل
كلَّ شيءٍ يمرّ:
هل تراني أعود؟ لماذا؟ لمَن؟
يتركّز التكرار الاستهلالي في عنصرين صوتيين متتابعين
هما (آهِ عادَ) يتكرّران أربع مرّات في بداية الأسطر الأول
والثاني والرابع والسابع، وما يفسّر هذا التقارب والتباعد
التكراري بين السطرين الأوّل والثاني والسطرين الرابع والسابع
هو اضطراب الحالة النفسية للشاعر وعدم استقرارها ممّا دفعه إلى
الإصرار على توظيف عناصر صوتية أكثر من مرة، وقد قامت البنية
التركيبية للتكرار على اسم فعل مضارع (آهِ) بمعنى أتوجّع
(الأنطاكي، 1988: 208) وفعل ماضٍ (عاد) ثم تعمّقت بنية التكرار
بزيادة وحدة صوتية أخرى (خطى) في البيتين الرابع والسابع ويمكن
إيضاح تدرّج التكرار الاستهلالي بالشكل الآتي:
إنّ التدرّج الحاصل في بنية التكرار يشير إلى تدرّج
حالة الاضطراب النفسي عند الشاعر إذ يبدأ بالوحدتين الصوتيتين
(آهِ + عادَ) فيسند الفعل إلى فاعل مذكّر (السنونو) ثم يسند
الفعل إلى فاعل مؤنّث مجازي/جمع تكسير (طيور) بعد إلحاق تاء
التأنيث الساكنة به التي تستقر بدورها متّصلةً بالفعل ثلاث
مرّات متتالية فضلاً عن إسناد الفعل في المرتين الثالثة
والرابعة إلى فاعل واحد/وحدة صوتية واحدة (خُطى).
إنّ ما يفسّر التكرار الاستهلالي الذي دلّ على
الاستهلال مرّتين الأولى أنه ورد منذ السطر الأول في النص،
والثانية أنه ورد في مستهل الأسطر جميعا، هو أنّه تمَّ بوعيٍ
تامٍّ من ذاتِ الشاعر يدلّ على عمق الأثر الذي تركته هذه
التجربة الشعرية التي يحاول التعبير عنها، فذات الشاعر تتوجّع
من عودة كلٍّ من (السنونو، طيور البحار البعيدة، خطى العاشق،
خطى كلِّ شيء) فضلا عن عودة (الذئاب الغريبة) و(السنين
المريرة، المغنّي العجوز) ففي هذهِ الدوال يمكن أن نلمحَ
تكراراً ضمنيّاً نوضحه بالآتي:
الذئاب الغريبة
السنين المريرة
المغنِّي العجوز
في هذا الرصد يتّضح التأزّم الذي هيمن على نفس الشاعر وأدّى به
إلى خلق هذا النمط التكراري العميق، وما يبرهن على ذلك أيضاً
هو إنهاء بنية التكرار هذه بتكرار اشتقاقيّ للجذر اللغوي نفسه
للفعل (عاد) إذ يأتي مكرّراً بصيغة المضارع إلّا أنّه مسبوق
بحرف نفي يختصّ بالمضارع فينفيه ويجزمه ويقلب زمنه إلى المضي
(السّامرّائي، 2007: 4/162) فيأتي التكرار الاشتقاقي بهيئة (لم
أعدْ) بمثابة النتيجة الختامية لحالة الإثبات التي أسّس لها
التكرار في البداية والتي انتهت بالنفي، فالأشياء كلها عادت من
حول الشاعر إلى أماكنها إلّا هو ظلَّ بعيداً مغترباً والاغتراب
هنا نفسي أيضا بدلالة الانزياح التركيبي في (لم أعد منذ مليون
عامٍ وحيداً) فالشاعر يوظّف عنصر المبالغة في هذا التركيب
اللساني، ثم يختتم النص بتكرار استفهامي في السطر الأخير (هل
تراني أعود؟..).
إنّ بنية التكرار كانت بمثابة محور النص، فقد سيّرت
النص وأنشأت بنيته الدلالية منذ سطره الأوّل حتى سطره الأخير،
من خلال التدرّج الذي مرّ به الفعل (عاد) من إثبات ومضي إلى
نفي المضارع ثمّ إلى استفهام، فضلاً عن التأكيد على التوجّع
الذي تمثّل بالوحدة الصوتية (آهِ) فإنّ انتهاء الصيغة بالكسر
يشي باستمرارية التأوّه والتوجّع الملازم للشاعر والملتصق
بقلبه ونفسه.
2.
تكرار اللازمة:
يقوم هذا النمط من التكرار على اختيار تركيب شعري أو
سطر شعري أو بيت شعري ليشكّل بؤرة النص ومحورا رئيسا تدور حوله
القصيدة إذ "يتكرّر هذا السطر أو الجملة بين فترة وأخرى على
شكل فواصل تخضع في طولها وقصرها إلى طبيعة تجربة القصيدة من
جهة، وإلى درجة تأثير اللازمة في بنية القصيدة من جهة أخرى،
وقد تتعدّد وظائف هذا التكرار حسب الحاجة إليها وحسب قدرتها
على الأداء والتأثير. يمكن أن يأتي تكرار اللازمة على نمطين:
الأوّل هو اللازمة القبلية، والثاني هو اللازمة البعدية"
(عبيد، 2001: 204) أمّا اللازمة القبلية فتأتي في بداية
القصيدة وتتكرّر في بدايات مقاطعها وأما اللازمة البعدية
فتتكرّر في نهايات مقاطع القصيدة، ويمكن ملاحظة اللازمة
القبلية في
المقطع المعنون
"مقابلة أولى (الصوت والصَّدى)" (كمال الدين، 2015:
1/266-267):
أ-
الصوت
في الليلِ الأسود
يتحدَّثُ هذا القلبُ الغامض
بحديثٍ غامض
عن مدنٍ وشوارعَ مرَّت كقطارٍ مزدحمٍ مهمومْ،
عن أصواتٍ ضاعتْ
ونساءٍ يبكينَ الظِّلَّ وأحجارَ الظِّلّْ.
*
في الليلِ الأسود
يتحدَّثُ هذا القلبُ الغامضُ عن حرفٍ
غطَّى عينيهِ بقبَّعةِ الحُلمِ البيضاءْ،
عن حرفٍ ممتلئٍ بأنينِ الماءْ،
عن حرفٍ محترقٍ مجنون.
*
في الليلِ الأسود
يتحدَّثُ هذا القلبُ الغامض
عن أنهارٍ تأتي أو ترحلُ ضاحكةً
بثيابِ الفجرِ، جبالٍ غطَّتْ هامتَها بغيومِ الثلجْ،
وطيورٍ قد طارت هاربةً من وقعِ خطى الصيّادين.
*
في الليلِ الأسود
يتحدَّثُ هذا القلبُ الغامض
كي ينسى شيئاً أو يتذكَّرَ شيئاً
لينام.
تكرّرت اللازمة :
في الليلِ الأسود
يتحدَّثُ هذا القلبُ الغامض ..
أربع مرّات في مطالع مقاطع النصّ الأربعة كلِّها، الأمر الذي
جعلها محور النص الذي تنبني عليه البنى التركيبية والدلالية
وتستمد حضورها منه، فالشاعر يقصد هذا النمط التكراري لأنّه
مهتم بإبراز حالتين متلازمتين هما:
-الزمان
- الوحدة
فالظرفية الزمانية
تحقّقها حرف الجر (في) أوّلا واسم الزمان (الليل) ثانياً، وفي
التوصيف المتشكّل في (الليل الأسود) كناية عن الظلمة البصرية
التي يفرضها الليل على الشاعر كونهُ وحيداً، فالسواد يشي
بدلالة الظلمة تارة والوحدة تارة ثانية، وما يؤكّد ذلك هو
الحدث الكلامي المتحقّق في الجملة الفعليّة (يتحدّثُ هذا القلب
الغامض) فبعد مكوث الليل بظلمته وسكونه وعزلة الشاعر تبدأ
أحاديث القلب عبر استحضار الأمكنة والناس والأشياء بماضيها
وحاضرها بدوالٍّ من قبيل (مدن، شوارع، قطار، أصوات، نساء، حرف،
أنهار، جبال، طيور).
إنّ نفسيّة الشاعر التي تعاني الوحدة المكانية
والاغتراب النفسي تفرض هذا النمط التكراري على مدار النص،
فالشاعر يتّخذ من اللازمة التكرارية هذه وسيلة لبثِّ همومه
واسترجاع ماضيه واستحضار واقعه الأليم ليخلص من ذلك كلّه إلى
تصريح مباشر في المقطع الأخير الذي يترجم فيه حالته النفسية
وشرعيّة توظيف بنية التكرار بطريقة تدلّ على المبالغة، فيقول
بعد تكرار اللازمة مختتما النص:
في الليلِ الأسود
يتحدَّثُ هذا القلبُ الغامض
كي ينسى شيئاً أو يتذكَّرَ شيئاً
لينام.
فسهر الشاعر في الليل المظلم وحيدا وحديث قلبه الغامض إنّما هو
لينسيه ألماً أو ليذكّره بفرح ليتمكّن بعد ذلك من النوم الذي
لا يأتي بسهولة، و"لعلّ الارتكان إلى عنصر الغرابة في انتقاء
الألفاظ والعبارات كفيل باكتمال عمليّة الإثارة" (خوشناو،
2013، مج20، ع9: 166) التي ينشدها الشاعر عبر التزامه بهذا
النمط التكراري لكونه آكدَ وأجدَى في التعبير عن مكامن نفسه
ومشاعره.
3.
التكرار التراكمي:
يتحدّد هذا النمط من التكرار عبر خضوع لغة النص إلى
تكرار مجموعة من المفردات تكرارا غير منتظم لا يخضع لضابط
معيّن غير وظيفة كلّ تكرار وأثره في صياغة مستوى إيقاعي ودلالي
محدّد ودرجة اتساقه وتفاعله مع التكرارات الأخرى المتراكمة في
النص بخطوط تتباين في طولها وقصرها (عبيد، 2001: 209) كما في
المقطع المعنون "مقابلة ثانية (ملاحظتان عن الأشجار)" (كمال
الدين، 2015: 268-269):
كانت أشجاري في الشمس
وأنا أتفيَّأُ ظلَّ الرّاحةِ تحت مياسمِها
فرحاً فالظِّلُّ ودودٌ والشّمسُ الذهبيّة..
تهدي قسطاً من ضوءٍ يحوي
شيئاً من فرحي الأسطوريّ،
جسدي النائم في كرسيٍّ من ذاكرةِ الأشجارْ.
*
هبَّتْ عاصفةٌ زرقاء.
أغمضتُ عيوني:
أتغادرني الأشجارْ؟
الجذرُ الأسودُ يربطها برنينِ الأرض!
أأغادرُها؟
وتجيْ العاصفةُ الزرقاء فيبكي قلبُ الأشجارِ بصمتٍ، لكنَّ
الأغصانْ
لا تملكُ أن تخفي شيئاً فتضجُّ جميعاً. أغمضتُ عيوني:
ستظلُّ هنا الأشجارْ
تحملُ أحرفَها، خفْقَ الكونِ النائمِ فيها..
إذ مَنْ يقدرُ أنْ ينزعَ منها حرفاً أو حرفينْ
لتصيرَ (شجاراً) أو (شاراً)؟
تحتَ الأشجارْ
ثملاً من شدّةِ حزني صرتُ أُغنّي:
يا قلبي، يا لغةَ الأشجارْ
يا أشجاري، يا لغةَ القلبْ.
تتراكم التكرارات في النص وتتنوّع الوحدات الصوتيّة المكرّرة
عبر انتشارِها المكثّف لتشغل مساحة النص بكامله، إلّا أنّ
الوحدات الصوتية المكرّرة تتفاوت بنسبة حضورها إذ تكرّرت
الوحدة الصوتيّة (الأشجار) ثماني مرّات في القصيدة بينما
تكرّرت لفظة (حرف) في حالة الإفراد والتثنية والجمع ثلاث
مرّات، وتكرّر كلٌّ من (الشمس، ظلّ، فرح، تغادر، القلب، لغة)
مرّتين فضلا عن تكرار التركيبين اللغويين (عاصفة زرقاء، أغمضتُ
عيوني) مرّتين أيضا، كما يمكن رصد تكرار لوحدات صوتيّة صغرى من
قبيل (يا النداء، وهمزة الاستفهام) إذ تكرّرت (يا) النداء أربع
مرّات وتكرّرت (أ) الاستفهام مرّتين.
إنّ تراكم البنى الصوتية وتنوّع وحداتها المكرّرة يشير
إلى تراكم التجربة الشعرية وانعكاساتها العميقة في نفس الشاعر
إذ خلق بنية تكرارية ذات مستويات عدة إلّا أنّ محور البنية
التكرارية الذي يمكن عدّه محور النص بكامله يتمثّل في الوحدة
الصوتية الأبرز (الأشجار) التي تكرّرت ثماني مرّات فضلا عن
تكرارها في عتبة العنوان (ملاحظتان عن الأشجار) وتكرار معظم
حروفها في الدّالين (شجار، شار).
يمكن رصد مستويات التكرار وتنوّع البنية الاشتقاقية
الواحدة للصيغ المكرّرة من خلال الجدول الآتي:
تتجلّى من مستويات التكرار التراكمي الخمسة هيمنة التكرار على
البنى الأسلوبية للنص فالبنية الصوتية والتركيبية تتداخل
وتتكامل لتنتج بنية النص الدلالية.
إنّ محور النص المتركّز في (الأشجار) يمنح النص دلالة
المكان الذي يتمسّك فيه الشاعر فيرجو بقاءها –الأشجار- يتفيّأ
تحت ظلّها ويخشى أن تغادره بفعل العواصف التي قد تقلعها، وهو
يستمد منها حروفه وشعره، ويبالغ في إظهار تعلّقه بها ليصل إلى
أقصى درجات التعلّق عندما يوظّف النداء ويوحّد بينها وبين قلبه
من خلال التقابل الصوتي والدلالي:
يا قلبي، يا لغةَ الأشجارْ
يا أشجاري، يا لغةَ القلبْ.
فقلبه هو ذاته لغة الأشجار، وأشجاره ما هي إلّا لغة قلبه.
·
نتائج البحث:
توصّل البحث إلى مجموعة من النتائج نجملها بالآتي:
·
ترتبط بنية التكرار لدى الشاعر بالحالة النفسية التي تستلزم
تجربة شعريّةً ما، فهو يتّخذ من التكرار وسيلة صوتيّة مؤثّرة
عبر إيحاءاتها في البنية الدلالية التي يسعى إلى تحقيقها.
·
تجلّى التكرار في مستويات مختلفة أسهمت بشكل مباشر في خلق بنى
أسلوبية خاصّة في النص، كونه آكد وأدل على البنى العميقة
المتّصلة بقلب الشاعر من البنى الأسلوبية الأخرى.
·
تبيّن أنّ بنية التكرار لدى الشاعر بنية واعية لا سيّما
التكرار الاستهلالي وتكرار اللازمة اللذينِ فرضا حضوراً فاعلاً
في التحكّم في البنى الصوتيّة والتركيبية للنص فمنحا النص
دلالته الكليّة.
·
تجلّى التكرار التراكمي كأكثر التكرارات توظيفا للوحدات
الصوتية المتنوّعة إلّا أنّه يقيم تركيزه على وحدة صوتية
محدّدة يجعل منها محور النص.
الأغنية الشعرية بوصفها هوية إنسانية
قراءة في قصيدة (أغنية إلى الإنسان) للشاعر أديب كمال الدين
د. محمد جواد علي
ناقد وأكاديمي عراقي
الشاعر أديب كمال الدين من الشعراء الذين سخّروا شعرهم كي
يتحوّل إلى أغنية إنسانية كبرى تغمر الإنسان أينما كان بالمحبة
والسلام والفرح، وله تجربة واسعة وعميقة وأصيلة امتدت على عقود
قدم فيها تجربة مميزة وخاصة ونوعية. وحين نقارب قصيدته
الموسومة بـ (أغنية إلى الإنسان) نشعر من الوهلة الأولى أن هذه
القصيدة/الأغنية مكتوبة للبشر جميعا، إنها أغنية إنسانية تشمل
البشر جميعاً في صورة كلية مطلقة تجمع البشرية كلها في كلماتها
وإيقاعها ومشروعها الإنساني العميق، وتسبح في فضاء من الحرية
التي تتمناها القصيدة للبشر أجمعين، لذا نجد أن لغة القصيدة
وصورها وتراكيبها ودلالاتها ورموزها تحتشد في مسار شعري واحد
لتكون هذه الأغنية الشعرية (أغنية إلى الإنسان).
القصيدة مكوّنة من ثلاث مقاطع شعرية، كل مقطع يتحدث عن حكاية
شعرية لها علاقة بالأغنية الموجّهة إلى الإنسان، فالمقطع الأول
عبارة عن حكاية موجّهة من الذات الشاعرة إلى آخر مُخاطَب هو
الإنسان أينما كان:
هذه أغنية أعددتُها لكَ،
أغنية بسيطة جدّاً
وقصيرة جدّاً.
أغنية تتحدّثُ
بشوقٍ كبيرٍ عن الحاءِ والباء،
وتُحاولُ
بإصرارٍ كبير
أن ترسمَ لها جَناحين
وعشّاً في آخر المطاف،
عشّاً يكفي لبيضةِ طائرٍ مَنفيّ
لا اسمَ له ولا عنوان.
المقطع يحكي حكاية الأغنية التي أعدّها الشاعر من أجل أن تكون
وسيلة لجمع البشر تحت رايتها، وحكايتها (أغنية تتحدث بشوق كبير
عن الحاء والباء)، هذان الحرفان اللذان يمثّلان كلمة (حب)
وبوسعهما لمّ شمل العالم بأسره على الوئام والمصالحة والسلام
والتسامح والعيش تحت مظلّة واحدة، وتتحوّل أغنية الحب هذه إلى
طائر يحمل سرّ هذين الحرفين ويطوف بهما أرجاء الكون (وتحاولُ
بإصرارٍ كبير أن ترسمَ لها جناحين وعشّاً في آخر المطاف)، إذ
إن الطائر كي يعيش هو بحاجة إلى جناحين وعشّ.
ولا شك في أنه إصرار المحبة والسلام بين الشعوب بمختلف ألوانها
وأعراقها وجنسياتها وأديانها وقومياتها، ويصف هذا العش الذي
يلم طائر الحب بين جوانحه بأنه عش خاص (عشّاً يكفي لبيضةِ
طائرٍ منفيّ لا اسمَ له ولا عنوان)، وهذا الطائر المنفي (وحالة
النفي هنا لا تعني المكان فحسب بل تعني الموقف أيضاً) الذي
كوّن له عشّا صغيرا يأويه هو طائر محلّق في أجواء الكون، طائر
إنساني بلا اسم ولا عنوان، فهو يحمل كل الأسماء وله كل
العناوين، تعبيرا عن عالميته وانفتاحه على كل المساحات.
المقطع الشعري غاية في البساطة التعبيرية وكأنه يريد أن يجعل
من الشعر حالة من البساطة تشبه بساطة الحب، يتسم بالهدوء
اللغوي والصوري والدلالي، ويرمي إلى توصيل فكرة الحب بين البشر
في أبسط تعبير وأرق عبارة.
المقطع الثاني يوسّع من حدود الحوار والنقاش بين الذات الشاعرة
(الراوي) والآخر
المُخاطَب، وهذا الآخر هو آخر عام مفتوح على الآفاق بلا حدود
ولا حسابات ولا تمييز، ولا شكّ في أن الفضاء الصوفي ظاهر وبارز
في هذه المحاكاة الشعرية التي تقوم على استثارة الضمير البشري
الداخلي، وتحفيزه للمساعدة في تحويل هذه الكلمات البسيطة إلى
أغنية صوفية يغنّيها البشر جميعاً:
أفترضُ أنّكَ ستساعدني
على الاستماعِ لها
أو ترديدِ كلماتِها البسيطةِ مَعي.
ربّما ستضعُ لها ما يُشبهُ الإيقاع
إن كانَ قلبُكَ ينبضُ بشيء مِن اللطف
وليسَ مَخلوقاً مِن الخشبِ أو الحجر.
وربّما ستقومُ فترقصُ على إيقاعِها
إن كانَ قلبُكَ قد عَرَفَ الحرمان
واكتوى بنارِ الهجران.
هذا المقطع يشكل صورة شعرية حوارية بين الذات الشاعرة والآخر
المُفترَض المُستحضَر من قلب الشعور والعاطفة الإنسانية. إذ
يتوجه الراوي الشعري لهذه الحكاية الشعرية إلى الآخر ويخاطبه
بلهجة أخوية تقوم على افتراض المساعدة لفعل الإصغاء أو الغناء
معاً (أفترضُ أنك ستساعدني على الاستماع لها أو ترديد كلماتها
البسيطة معي.) وربما الأكثر من هذا التحول من مستمع ومردد إلى
صانع للّحن (ربما ستضعُ لها ما يشبه الإيقاع)، والإيقاع هنا هو
الصوت الخفي المطلوب للرقص.
لكن الراوي الشعري يضع لذلك شرطا إنسانيا جماليا لا يمكن
التغافل عنه أو تنحيته هو: (إن كان قلبك ينبضُ بشيء من اللطف
وليس مخلوقاً من الخشب أو الحجر). وفي مرحلة ثالثة يتحول وضع
الإيقاع وإنتاج اللحن إلى حالة الرقص، وهي حالة صوفية يبلغ
فيها الصوفي أعلى مراحل الاندماج مع الكلام الذي يتحول بين
يديه إلى أغنية إنسانية خلّابة ساحرة بالغة التأثير (وربّما
ستقوم فترقص على إيقاعها إن كانَ قلبكَ قد عرفَ الحرمان واكتوى
بنارِ الهجران)، بمعنى أن الحالة الشعرية الصوفية مرّت بثلاث
مراحل هي الإصغاء وترديد الأغنية، ثمّ وضع اللحن والتماهي معه،
وأخيرا الرقص على إيقاعه، في سياق تشكيلي يرتفع بأغنية الحب
إلى أعلى مصاف الإنسانية.
المقطع الثالث والأخير من مقاطع القصيدة يقدم فيه الراوي
الشعري دروسا في فلسفة الرقص وشروطه وقضاياه، فهو ليس رقصا
عبثيا لا يخضع لشبكة اعتبارات ومواضعات إنسانية لا يمكن
تجاوزها من أجل بلوغ صحة الرقص:
لكنْ لا ترقصْ رقصةَ القرَدَة
ولا رقصةَ الذئاب
فذلكَ يُفسدُ النّصَّ حتماً.
ارقصْ مثلي رقصةَ المُتصوّفة
أو رقصةَ الأيتامِ في الملجأ يومَ العيد
أو ارقصْ رقصةَ الغرقى
إن كنتَ بساقٍ واحدة.
أمّا إذا كنتَ تكرهُ
كلَّ شيء حتّى نَفْسك
فَلا ترقصْ على الإطلاق،
اكتفِ بوحشيّتِكَ المُستترة
ولا تحاولْ نَشْرَها على الحبال
حتّى لو استطعتَ أن ترقصَ
رقصةَ المحكومِ عليهِ بالإعدام!
فالإشارة الأولى التي يقدمها الراوي الشعري للآخر المصغي للدرس
الشعري الإنساني الصوفي (درس الحب) هي إشارة تعليمية بالغة
الأهمية (لكن لا ترقص رقصة القردة ولا رقصة الذئاب فذلك يفسدُ
النصّ حتماً). فالنص هو الحب والحب هو النص، وحين ينفي الراوي
الشعري رقصتي القردة والذئب فإنه يدعو بالمقابل إلى رقصات أخرى
منهجها صوفي إنساني، الرقصة الأولى: (ارقص مثلي رقصة
المتصوّفة) وهي رقصة لها قوانينها وأعرافها وتقاليدها ومناهجها
في الحركة والغناء والفعل، والرقصة الثانية: (أو رقصة الأيتام
في الملجأ يوم العيد) وهي ذات طابع إنساني مشحون بالعاطفة،
والرقصة الثالثة: (أو ارقص رقصة الغرقى إن كنتَ بساق واحدة)،
وهذه الرقصات الثلاث هي رقصات الحياة والحب والإنسانية التي
تعبر عن الجوهر الإنساني الصافي والنقي.
ثم يواصل المقطع الثالث من القصيدة حواره المجدي بين الراوي
الشعري والآخر في سياق توجّه خطاب الراوي نحو هذا الآخر
المُفترَض، فالإنسان لدى الراوي الشعري يجب أن يعرف رقصة الحب
هذه كي يكون إنسانا جديرا بحلم هذه الأمانة، لذا فإنه يواصل
درس الحب في تعاليمه المكتنزة بالمعرفة، ويحاور الآخر عن مدى
ما يحمل في أعماقه من حب، ومن دون هذا الحب فإن الآخر يقع في
الطرف الثاني من الحياة حيث الكره وعدم إجادة الرقص (إما إذا
كنتَ تكره كلَّ شيء حتّى نفسك فلا ترقصْ على الإطلاق)، بمعنى
أن كره الآخرين يبلغ بالكاره كره نفسه أيضاً.
فالكره هو الشعور المضاد للحب الذي لا يليق به الرقص الصوفي
المعبر عن جدوى الحب، وحين يكون هذا الآخر ساقطا في بؤرة الكره
وبعيدا عن المحبة فهو بالضرورة ملتفّ على وحشيته المستترة كما
يصفها الراوي الشعري، إذ يخاطبه في هذه الحالة بقوله: (اكتفِ
بوحشيتكَ المستترة ولا تحاولْ نشرَها على الحبال حتّى لو
استطعتَ أن ترقصَ رقصةَ المحكومِ عليه بالإعدام!)، ورقصة
المحكوم بالإعدام هنا هي رقصة الكره المعبرة عن وحشية تخترق
الحس الإنساني في أرفع حالاته.
*******************
- نُشرت قصيدة (أغنية إلى الإنسان) في مجموعة الشاعر أديب كمال
الدين: (في مرآة الحرف)، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، 2016 ، ص
11- 13.
الفصل الخامس
مقالات عن المجاميع الإنكليزية
قراءة في مجموعة الشاعر
أديب كمال الدين:
"حياتي، حياتي!"
My life, my life
عن الحروف والنقاط، الكلمات، اللغة والحياة
الدكتورة آن ماري سمث
Anne-Marie Smith
ناقدة وكاتبة أسترالية- فرنسية
في مجموعة أديب كمال الدين الشعرية الصادرة في فرنسا عام 2017
بعنوان (الحرف وقطرات الحبّ)-
وهي مختارات شعرية ترجمها إلى الفرنسية الدكتور ناجح جغام-
يختصر المترجم في تقديمه للمجموعة الظروفَ المأساوية لمبدعٍ
منفيّ مثل أديب كمال الدين مُتسائلا:
ما
الذي يمكن أن تفعله لمواجهة
عُنف
التاريخ؟
ماذا
يبقى
عندما
يُفقَدُ
كلّ
شيء،
ويتراكمُ
الُحطام
أكثر فأكثر،
عندما
يُصبح
مهدُ
الإنسانية
شبيهاً
بقبر،
وضوء قذيفة ينفجر فوق قذيفة،
عندما
تكون
بلاد
ما
بين
النهرين
خراباً؟
يجيب: اللغة، اللغة العنيدة، تبقى. ويضيف مناقشاً: لأن اللغة
وُلِدتْ من الحياة فهي تملك دوراً ضرورياً وصحياً للحفاظ على
الحياة نفسها. فنحن نعرف أنّه إضافة إلى كينونتها الإبداعية
الجمالية، فإنّ اللغة
بإمكانها أن تعمل أداةً لتأكيد البقاء.
(سأشعلُ
حرفاً من حرفٍ
حتّى أبقى مُبصراً طوالَ حياتي).
"قصيدتي تسبح وتضحك"
* صراع العقل المُتسائل
إنّ عنونة أديب لمجموعته
تحدّد
لنا رحلةَ بحثٍ، وتعطينا إشارةً بالإحساس الوجودي لأديب كمال
الدين. إذن، هل سَيُغفر لنا
إذا
سألنا: أيكون عنوان كتاب "حياتي، حياتي!" طبقاً لأديب، هو
السؤال؟
إنّ العديد من الثيمات والصراعات في شعر أديب قد تمّ الاحساس
بها حين شاركت الشخصية الأساسية، بشكل مباشر، في طقوس حقيقية
أصيلة.
(إذا كتبتَ قصيدةً عن المطر
فاحذرْ أن تكتبها
ما لم تكنْ روحُكَ -
قبلَ جسدكَ -
قد تبلّلتْ بالمطر.)
"تلك هي القصيدة"
ستعاني روح الشاعر من ألم شديد وعذاب مبرّح. أديب يتحدث عن
سلسلة من الأسئلة التي يجب أن يواجهها كلّ ليلة:
(علاماتُ الاستفهامِ كثيرة
أراها تتراقصُ فوق الرؤوس كلّ ليلة.
فأتوقفُ عن الكتابة...)
"رقصة مزيّفة"
وهذا يذكّرنا بالبحث عن المعنى أو الحقيقة في وجود الإنسان،
وهو مبدأ من مبادئ الفلسفة الوجودية لألبير كامو.
* مُعْضلة المنفى
على الرغم من اعتقادنا أنّ مقارنة الوطن بالمنفى هي مقارنة
قاطعة في اختلافها، حين قارن أديب الجنّة بجهنّم، كما أشار
أدناه:
(لذا دمدمْ قصيدةَ
المنفى
وأنتَ في الوطن.
ودمدمْ قصيدةَ الوطن
وأنتَ في قطارِ الجنّةِ الذاهبِ إلى جَهنّم.)
" تلك هي القصيدة"
فإنّ من الممكن، كذلك، أن نواجه تأويلاً مختلفاً للوطن كمكان
امتلأ بخُدَعٍ لا نهاية لها والتي يمكن للمنفى أن يملأها بمزيد
من الخدع، ممّا يجعل القارئ حائراً فيما إذا كانت الإقامة في
المنفى زائفة
مثل البقاء في الوطن.
(المنفى خُدْعةٌ إضافيّة
من خُدَعِ الوطنِ التي لا تنتهي.)
" أُغْرِقُ ذاكرتي في الماء"
* صراع اللغة المجازية والذاكرة
تعمل صور أديب الشعرية كأغلفة، فبغضّ النظر عن مدى ذكاء
الاستعارة، بغضّ النظر عن مدى رقّة الإخفاء،
فهي- أي الصور- لا تسمح للواقع بالظهور بشكل كامل. إنه يشير
إلى الأقنعة المسرحية للطبيعة الشكسبيرية وإلى الأمثلة الشائعة
للإخفاء بواسطة
التراب، اللغة المجازية وتشكّلها:
(التماثيلُ أشدُّ كذباً من صانعيها.
التماثيلُ أشدُّ كذباً
من وجوهِ طغاتِها وملوكِها.)
"رقصة سرية"
قصيدة أخرى تشير، أيضاً، إلى أن الذاكرة يمكن لها، كذلك، أن
تخلق متاعب خطرة للعقل البشري.
(حرفي يصارعُ العمى كي يراكِ
أو يرى رمادَ ذكراكِ.)
"
شبح قصيدتكِ الأخيرة"
* قسوة الحقيقة
ما مِن حل وسط يطلقه صوتُ أديب. فحقيقة الحياة يجب أن تبقى
ظاهرة للعيان. وغالباً ما يستخدم متحدثو اللغة الإنكليزية
الأصليون العبارة الاصطلاحية: "الحقيقة العارية"، مع ذلك فأديب
هنا يمنحنا تأويلاً حرفياً للحقيقة العارية ككيان لا يمكننا أن
نراه إلّا عندما نكون عاريين أو مكشوفين.
(كانَ عارياً تماماً
بوجهٍ غَطّاه التُراب.)
" الموتى يرقصون عند الباب"
(الموتُ لا يحبُّ إلّا العُراة!)
"رقصة مزيّفة"
يتمّ
تحصيل
الحقيقة عن طريق
كشف أيّة صور مزيفة أو
مخادعة، عن طرق التخلص
من
أيّة استعارات مادية متداخلة: المطر، الماء، الضياء، النار،
والتي قد تخفي طبيعة الواقع الشخصي. فأنتَ لا يمكنك أن تخفي
الحقيقة بإحدى الصور، لأنّ الحقيقة هي توكيد لا يقبل الجدل،
يُوصَف، بطريقة سلبية، من خلال استخدام أضداده الكاذبة.
(يفاجئُ المطرُ ذاكرتي دائماً
بأكاذيبه الجميلة
فأستقبلهُ فرحاً بدموعي.)
"رقصة مزيّفة"
كذلك تأخذ الحقيقة شكلَ البيان الشخصي الذي لا يتوقف لتعبير
ذاتيّ متكرر:
(جلسَ حرفي في منتصفِ الليلِ عارياً أمامَ المرآة
وبدأَ يكتبُ مرثيّتي عبرَ الساعات
والأيّام والسنين.)
"قطعة ذهب"
* حُبّ اللغة والكلمات والحروف
تصلنا الحقيقة عبر اللغة. اُكْتُشِفت الحقيقةُ عبر مشاهدة
الأجساد العارية كلّها، لنساء عاريات، وللموتى الذين طُلِبَ
منهم أن يكونوا عراة حين يواجهون الآخرين.
ولتأكيد الحقيقة، نستخدمُ اللغة التي تعطي كلّ حرف من الأبجدية
طبيعةً مقدّسةً تجعل الكلمات والتعبير سلاحاً للصدق، اللغة
التي تتيح للشاعر أن يكون هو نفسه مجنوناً ومتحرراً، وغالباً
من خلال نساء يمنحنه مرآةً ليرى أعماق روحه.
(أن تعيشَ مِن دونِ نقطة
يعني أنّكَ تعيش مِن دونِ حرف.
وأن تعيشَ مِن دونِ حرف
يعني أنّكَ تعيش مِن دونِ مرآة.)
"مرآة حروفيّة"
إنّ البقاء على قيد الحياة يعتمد على قدرة الشاعر على مواجهة
نفسه من خلال النساء والكلمات وانعكاس ذلك ذاتياً بشكل حاسم.
(في المنفى ليسَ هناك مِن مرآةٍ لترى نَفْسَك
ولذا صارَ الشّاعرُ يَتَمرأى في حرفه ليلَ نهار.)
" أُغْرِقُ ذاكرتي في الماء"
(القصيدة،
أعني
الجملة،
أعني
الكلمة،
بحروفها
التسعة
عصيّة
على
الولادة
ما دامت
عصيّة
على
الوصول
إلى
نَفْسِها
في
آخر
المطاف!)
"قصيدة بلا عنوان"
شيء واحد يمكننا أن نكون متأكدين منه هو أنّ الشاعر الذي يزدري
لغةَ الحبِّ سيدفع الثمن جنوناً ليتحدّث لنا بلغة الحبّ. مثلما
نسمع ذلك في القصيدة الأساسية لهذا الكتاب:
(إذا كنتَ شاعراً فكنْ عاشقاً
حتّى تكتمل عندكَ قصيدةُ الجنون.)
"تلك هي القصيدة"
*****************************
-"حياتي، حياتي!"-
My life, my life!
شعر: أديب كمال الدين، منشورات
ومطبعة فيوجي فيلم، أديلايد، أستراليا 2021.
ممتع، غريب، مدهش!
قراءة في مجموعة أديب كمال الدين (ثمّة خطأ)
Something Wrong
د. آن ماري سمث
الدكتورة آن ماري سمث
Anne-Marie Smith
ناقدة وكاتبة أسترالية- فرنسية
نال أديب
كمال الدين شهرةً كأحد الشعراء المبدعين من خلال قصائده التي
نُشِرتْ في أرقى المجلات الأسترالية الأدبية من أمثال: (Southerly)
و(Meanjin)
وأنطولوجيات مثل: أفضل القصائد الأسترالية 2007 – منشورات (Black
Inc Press)
وأفضل القصائد الأسترالية 2012. في عام 2009 نشر أديب كمال
الدين مجموعته الشعرية الأولى بالإنكليزية: (أبوّة) - منشورات
(Seaview).
وفي صفحة الكاتب الشخصية يظهر أديب وقد أصدر الكثير من
المجاميع الشعرية بالعربية والإنكليزية منذ عام 1976، كما
تُرجِمتْ أعماله إلى العديد من اللغات.
(ثمّة خطأ)
Something Wrong
هي مجموعة أديب كمال الدين الثانية باللغة الإنكليزية. وتتضمّن
قصائدها الأربعون شعرَه الذي كتبه في سدني وأديلايد، حيث
يتمحور شعره على الوحدة والموت والحب. وتستمر هذه المجموعة
الجديدة في استكشاف الحالة الإنسانية. إنّ اهتمام أديب بهذه
القضايا الكونيّة يوصله إلى البحث العميق عن الحكمة. فهو
يجذبنا من خلال صوره الشعرية التامّة في شموليتها، واستخدامه
الأنيق والبسيط والإضماري في بعض الأحيان للعبارات. نحن نرى
بعضَ التشابه في المواضيع مع استخداماته الأسلوبية الأولى
للجرس الملازم والتكرار من مقطع إلى آخر. هذه العبارات
المتكررة تعطي، أيضاً، تأثير اللازمة.
لم أجد الطائرَ العملاق،
لم أجدْ حتّى اسمَ الطائر،
لم أجد الجمهور،
لم أجدْ حتّى
ذلك الصبيّ الذي هو أنا.
(قصيدة: صبيّ)
إنّ تأثير
المحاكاة هذا يبلّغ الأسلوبيّة الغنائيّة لبعض قصائد أديب كمال
الدين، كما ظهرت، كذلك، في إحدى قصائد مجموعته: (أبوّة):
فما الذي سأقولهُ الليلةً لأطفالي؟
فما الذي سأقولهُ الليلةَ لقلبي؟
فما الذي سأقولهُ الليلةَ لحرفي ونقطتي؟
(قصيدة: سرقة)
إنّ فكرتنا عن
أسلوبية الشاعر تتحرّر من المفاهيم الأصليّة والإبداعيّة
من خلال بعض
صور الأنسنة الحاذقة. فبعد القصيدة الأولى، حيث أغنية
أحد السحرة تفضي إلى رقصة تؤديها جثث يعتذر اليها الساحر في
آخر المطاف، لن يأخذ الأمر وقتاً طويلاً لصوتٍ داخليّ– ربّما
يُدعى الكناية– ليعلن:"ثمّة خطأ"، كي يحذّرنا من تحدّيات
وجودنا! هناك
اختلافات دلاليّة يمكن أن نجدها في بعض الصور الشعرية. فقصائد
أديب الجديدة ربّما تحتوي قدراً أقلّ من الغموض (قياساً إلى
قصيدة "ثنائية" وعدّة قصائد في مجموعة "أبوّة" تلك التي تبدأ
بكلمة "محاولة في..."). ربّما هذا يعود إلى تمثيل أكثر عمقاً
للحالة الإنسانية. مع ذلك فإنّ المرء يمكن أن يقول إنّ الظلام
والخوف والعاطفة والوحدة تبقى موضوعات عميقة الصلة بأيّة قصيدة
من قصائده.
يرينا هذا الشاعر أنّ المفاهيم الكونية التي تؤثر علينا جميعاً
ليست مفاهيم محددة ثقافياً بشكل صارم. فنحن ندرك التجارب
العاطفية العامة التي يناقشها. صور شعرية يمكن أن تكمن في
أبعاد مختلفة وتشير إلى تنوّع الأجناس والأكوان:
تريدُ الشمسُ أن تسهرَ الليلة
في نادي الكواكبِ والنجوم
لكنّها تخاف أنْ تتأخر
ولا تشرق غداً في موعدها المحدّد.
(قصيدة: رغبات)
فنحن
نشاركه في بطولته كراوٍ وفي تجربته اليوميّة المعاشة أعلى
وأسفل، ولكننا نفعل ذلك دائماً في خطّ أبديّ ومن منظور عالميّ
النطاق. بطريقة مخادعة تنقلنا الكلمات البسيطة إلى أحاسيس
الحياة المعقَّدة التي تجرّبها الكائنات البشرية:
أنتِ تشبهينَ البحر
لاشكّ في ذلك!
لكنْ أيّ معنى يختفي خلفَ ذلك البحر؟
خلفَ تلك الزرقة العجيبة التي تبدأ
لكي لا تنتهي
أو تنتهي كي تبدأ من جديد.
(قصيدة: هو أزرق
وأنتِ زرقاء)
إنّ
الطبيعة التساؤلية لشعر أديب هي أيضاً لا شكّ فيها:
أيّ شبّاك هذا؟...
هذا هو السؤال الذي ظلَّ
يعذّبه لسنين وسنين
منذ أنْ عادَ من البحر!
(قصيدة: سؤال)
يستخدم
أديب كمال الدين السؤال كوسيلة أدبية. ينثر سانت إكزوبري، على
سبيل المثال، روايته (الأمير الصغير) بالأسئلة البريئة. هذ
الحفر من أجل المعنى يدحض القيم السطحية لما هو مُعْلَن.
وربّما ذلك ما يمّكنهما، كذلك، من استخدام صفة السذاجة التي
يعزوها أديب جزئياً إلى الطبيعة البشرية.
أيّها البسيط مثلي
والضائع مثلي
والساذج مثلي.
(قصيدة: جاء نوح ومضى)
إنّ قضايا
الانتماء والاغتراب وتأثيراتهما تظهر في المقدمة. فهذه القصائد
تعمّق إدراك القرّاء بالاختلاف. وهي كذلك تؤكّد الحاجة إلى
معنى ما للانتماء أينما كنّا أو أردنا أن نكون.
في البلدِ البعيد
أجلسُ في مقهى مظلمٍ مُنعزل
لأستحضرَ صورتَكِ التي دفنتُها
بيديّ
قبل أربعين عاماً.
(قصيدة: اعتذار)
نبحث مع أديب
كمال الدين في مدى مِن العواطف والموت والخيانة. فنتبع الشاعر
في حياته أو حلمه. قليل منّا أحسّ، في حياته، أنّه قد توجّب
عليه الاعتذار بقوّة بالغة إلى الجُثث.
لكنّه حينَ عزفَ الموت
ذُهِلَ على الفور،
إذ أحاطتْ به مئاتُ الجُثث
من كلِّ جانب
وبدأتْ ترقصُ رقصةَ العذابِ الكبرى.
ارتبكَ الموسيقيّ
بل أصابه الفزع،
ودمعتْ عيناه
بل أجهشَ في البكاء
وأخذَ يعتذرُ بحرارةٍ إلى الجُثث.
(قصيدة: ساحر)
إن بعض
الذكريات يمكن أن تظهر فجأةً. هل شعرتَ، في أيّ وقتٍ مضى،
بالعجز عن الحركة أو بالخدر وسط بيئة ضائعة؟
إلهي
وحدي كنتُ الحيّ الباقي،
الحيّ الشاهد على ما حدث،
أعني الحيّ الذي يكتبُ هذه الحروف
بقلمه المرتبكِ حدّ اللعنة
والذي يتوقّفُ كلّ دقيقة
ليتأكّد مِن أنَّ أصابعه لم تزلْ
تستطيع الكتابة!
قصيدة: لماذا)
نحن كذلك
نصل إلى الإعجاب بجمال أو انسجام علامة ما فوق ورقة ما، أو شكل
حرفيّ أو صوتيّ لكلمة ما.
حينَ يجلسُ الحرفُ قبالتكَ
لا تتكلمْ قبلَ أن يبدأ الكلام....
وحينَ يغنّي
قمْ فارقصْ
فسيكونُ الحرفُ نايك
بل سيكونُ طائركَ الأبيض
محلّقاً في السماءِ الزرقاء.
(قصيدة: وصيّة حروفيّة)
دُرِسَ
منجزُ أديب نقدياً في العالم وكان شعره موضوعاً لعدد كبير من
البحوث. والشروح تتعاقب حول تفسيره للحرف: الحرف العربي
المكتوب والمطبوع وأهمية ذلك في الكتابة العربية. نحن قرأنا
للمرّة الأولى عن هذا الموضوع باللغة الإنكليزية. وهو يشرح،
كما في قصيدته: (شجرة الحروف)، ارتباط الحروف بالنقاط وكيف
يمكن أن يؤثر ذلك على الصوت والشكل جاعلاً حرف ال(ج) صوتأ
وشكلاً أكثر قسوةً من حرف ال(ن).
... جيماً مليئةً بالطلاسم...
...ونوناً مليئةً بآهاتِ العشق....
ونقطةً قيل إنها نقطة العارفين.
(قصيدة: شجرة الحروف)
في
القصيدة ذاتها، عندما يستخدم أديب كلمة مثل "الشجرة"، فنحن
ننال بشكل تدريجيّ تبصرةً إلى داخل مرجعية الشجرة وحقيقتها
لنكتشف أنّ أنسنتها إنْ هي إلّا الشاعر نفْسه الذي نقرأ
كلماته:
حينَ تدحرجَ رأسي على الشاطئ
وسطَ صهيلِ الغُرباءِ المنفيين،
بزغتْ من دمي المتناثرِ على الأرض
شجرةٌ مليئةٌ بالنورِ والسرور.
أتراها شجرة الحروف؟
(قصيدة: شجرة الحروف)
وكما
رأينا في البدء مفهوما تجريدياً للخطأ، ليس فقط تمّتْ أنسنته
بل تحوّل إلى بطل للرواية أو إلى عدو أو إلى ما يشبه الصديق
اعتماداً إلى كيفية رغبتك في تأويله.
ثمّة خطأ في السرير...
وفي المفاجأةِ التي تنتظرُ السرير
في آخرِ المطاف.
(قصيدة: ثمّة خطأ)
الخطأ
يصبح رفيقاً، ولا يبقى سهل الاستفزاز مستعدّاً للمشاجرة بل
يصبح شخصاً سويّاً ندركه تماماً ونستطيع أن نمشي بجانبه. ورغم
الأزمنة المظلمة، فإنّ عواطف البطل تطفح بالأمل، ولو أن ذلك في
حياة أخرى كما في القصيدة الأخيرة من المجموعة.
في حياتي القادمة
سأقرأُ الكثير
من قصائد الشعراء الذين لم يولدوا بعد
علّي أحيط
بأسبابِ الحياة
إلى الأبد.
(قصيدة: اعتذار)
استقرّت
في عقلي بضع أسطر من قصيدة: (ممتع،
غريب، مدهش!)- القصيدة
الوجودية والظريفة- مركزاً لهذه المجموعة الشعريّة:
* الله شمس تتكلمُ في قلبك؟
- نعم
* ذلك غريب!
(قصيدة:
ممتع، غريب، مدهش!)
لقد
أخبرَ سانت أوكزوبري، المعروف بإيمانه بالاستجابات العاطفية
كحلٍّ للمشاكل، قرّاءه في روايته: (البطل الصغير): "العينان لا
تبصران ولذا توجّب على الإنسان أن يرى بقلبه". وحين نقترب من
مجموعة: (ثمّة خطأ) فلماذا لا نعانق هذه المجموعة المعبِّرة
حقاً بالقلب، وأودّ أن أضيف، بالروح!
****************************
* المقدمة التي
كتبتها د. آن ماري سمث لمجموعة الشاعر أديب كمال الدين: (ثمّة
خطأ)
Something
Wrong
التي صدرت عن دار
Salmat
بولاية جنوب أستراليا عام 2012، والتي ترجم الشاعر قصائدها إلى
الإنكليزية. وقد اُخْتِيرت القصيدة الرئيسية فيها (ثمّة خطأ)
واحدة من أفضل القصائد الأسترالية ونُشرت في انطولوجيا خاصة
صدرت عام 2012 أعدّها الشاعر الأسترالي الشهير جون ترانتر.
أديب كمال الدين: من بلاد الرافدين إلى أستراليا
الشاعر هو الشاعر
شاكر حسن راضي
ناقد ومترجم وأكاديمي عراقي
إنّ قراءة قصائد أديب كمال الدين التي احتوتها مجموعته: ثمّة
خطأ
Something Wrong
الصادرة باللغة الإنكليزية في أستراليا عن دار
Salmat
، تذكّرني بحقيقة أني أتعامل مع شاعر مستمر في التقدم نحو
تحقيق وإنجاز وظيفة الشعر، آخذين في الاعتبار خلفيته
الرافدينية التي تثري لغتة وصوره واختياره لمفرداته وخطابه
الشعري.
ورغم أنّ أديب كمال الدين يستلهم تجربته من تراث شعري عريق
أغنى مسيرته، إلّا أنه يبقى متفرّداً في الإفادة من الموروث
الشعري والفلسفي في كتابة قصائده، وهذا هو المصدر الذي يحرّك
الحياة فيه وفينا كقرّاء. ولأنّ المادة التي نعتمد عليها في
كتابة القصائد هي ذات المادة التي تدخل في لغة كتابة الوصايا،
وشهادات الوفاة والدساتير وإعلانات الحب الأبدي بين بشر
حقيقيين إلا أنّ "خرق الأحكام التي تنظم اللغة غير الشعرية
وإعادة كتابتها يعد أكثر من مجرد انغماس أو متعة" كما يقول
الناقد ريتشارد برادفورد
في كتابه:
Poetry, The Ultimate Guide
(2010، ص41).
وبذلك يوفر الشعر وسيلة من وسائل التعبير التي يبدو التفرّد
فيها ممكن التحقيق. ويتم ذلك من خلال "توفير عامل مساعد على
التفاعل بين شبكات مستقلة من التقاليد التي تشمل التقاليد
الشعرية الذاتية وتلك التي يشترك فيها الشعر مع اللغة غير
الشعرية" (المصدر نفسه).
ولو طبقنا هذه المفاهيم على تجربة أديب كمال الدين الشعرية،
سنكتشف أنه نجح في استخدام لغة بسيطة ولكنها رمزية في نقل
رسالة تجربته العميقة التي تستند إلى ثقافة بابلية قديمة
(ملاحظة: لا ننسى أن أديب كمال الدين من مواليد مدينة بابل)
تسللتْ إلى الكتب المقدسة وشكّلتْ معتقدات مقدسة في تاريخ
وضمير البشرية. لكن قارئ ديوانه "ثمّة خطأ" يجد أن الشاعر جسّد
نظرية جاكوبسن في الوظيفة الشعرية التي يقول فيها إنّ هذه
الوظيفة "تعكس مبدأ التكافؤ من محور الانتقاء انتقالاً إلى
محور الدمج" (مقتبس في كتاب برادفورد، ص 42)، وذلك عن طريق
إغلاق الفجوة بين اللغة والواقع. فالشاعر ينتقي الكلمات ليس
وفقاً لإحساس بالواجب تجاه إطار مرجعي خارجي، بل إن الشاعر
يصبح مولعاً ومهووساً باللامنطق الذي يكشف عن نفسه في كل
قصائده تقريباً، حيث تلغي العلاقة بين الصور والأفكار أيّ
مسؤولية عن مفاهيم النظام أو العقل التي تسود خارج عالم
القصيدة:
ثمّة خطأ في السَّرير
وفي الطائرِ الذي حلّقَ فوقَ السَّرير
وفي القصيدةِ التي كُتِبَتْ
لتصفَ مباهجَ السَّرير
وفي المفاجأةِ التي تنتظرُ السَّرير
في آخر المطاف.
هناك خطأ في كل شيء من حولنا وفينا، ومع ذلك نواصل الحياة بكل
دروبها ومساراتها وكأننا لا نرى ذلك الخطأ الصريح والجلي. هذه
رؤية شاعر خبر الحروب عبر التاريخ وليس حرب السنوات الثمان بين
إيران والعراق أو الحرب الأمريكية على العراق. فهو يعيدنا
دائماً إلى الحالة الإنسانية وذلك الإحساس بالاغتراب والخوف في
قصيدته "جاء نوح ومضى":
لم تعدْ أيّها البسيط مثلي
والضائع مثلي
والسّاذج مثلي،
تتحمل وحشةَ هذه الرحلة التي لم نُهيئْ
لها أيَّ شيء
ولم يخبرنا أحد
عن مصائبها التي لا تنتهي.
انتظرنا – أنا وأنتَ – طويلاً سفينةَ نوح.
جاء نوح ومضى!
ويعكس بذلك الإحساس بالمنفى والمأزق الوجودي الذي شكّل حياتنا
وحياة أسلافنا من السومريين، يمثلهم في ذلك بحث جلجامش عن
الخلود ومعاناته في مواجهة كارثة الضياع وغموض الموت والمصير.
تلك هي صرخة "النجدة" التي ينهي بها أديب القصيدة دون أن يفقد
الأمل!
هذه مواضيع كونية يتعامل معها الشاعر سواء كان عراقياً أم
أسترالياً، ومثله مثل أي شاعر كوني آخر، يغوص أديب كمال الدين
في أعماق الوضع البشري ليخبرنا عن صدى المد والجزر الذي سمعه
الشاعر الإنجليزي ماثيو أرنولد في قصيدته الشهيرة "شاطئ دوفر"،
وربما يكون شاعر يوناني قديم قد سمع قبله بآلاف السنين تلك
الأصوات التي توحي بالوحشة والغربة ذاتها. ويتكرر هذا الموضوع
أو الثيمة الأزلية في كل بيت تقريباً من أبيات قصائده، حتى أن
ولعه وافتتانه "بالحروف" قد تحوّل إلى حالة من "الهوس" أو
الرغبة المتجددة التي لا بد من إشباعها ولكن دون جدوى:
حينَ يجلسُ الحرفُ قبالتك
لا تتكلمْ قبلَ أن يبدأ الكلام.
اصغِ إليه حين ينطق
وابكِ حين يئنّ
وقبّلْه في جبينه المضيء ...
وحين يشتعلُ الحرف ...
ضعْ إصبعكَ على شفتيكَ علامةَ السكوت
وابدأْ كتابةَ القصيدةِ فوقَ الماء.
قصيدة "وصيّة حروفيّة".
هنا تكمن قدسية التجربة الصوفية التي قد تكشف عن شيء لا يستطيع
الآخرون تمييزه. ويميز الشاعر في ترحاله الأزلي وغربته
المتواصلة، مثل بقية المتصوفة، الحقيقة بأن الإنسان مخلوق كُتب
عليه أن يواجه المصير المحتوم:
الشراعُ وسطَ السفينة.
السفينةُ وسطَ البحر.
البحرُ وسطَ قلبي،
قلبي الذي يغرقُ شيئاً فشيئاً
في حلمهِ الهادئ العنيف.
*
السفينة تمضي بجسدينا
أنا وأنت ...
والبحرُ يمضي بنا عاريين.
إلى أين؟
أصرخ: يا إلهي، إلى أين؟
قصيدة "إلى أين"
ما قد يستوقف القارئ هنا ليس حالة الهلع التي تنتاب الشاعر
والإنسان من السفر إلى المجهول بل وجود الآخر معه ("أنا وأنت")
التي تذكّرنا بذات الضميرين "أنا وأنت" اللذين استخدمهما ت. س.
اليوت في قصيدته "أغنية حب جيه الفريد بروفروك". فضمير المخاطب
هنا "أنت" قد يكون كونياً يشملنا جميعاً نحن الذين نتقاسم ذات
التجربة ولو في بيئات مختلفة، في بابل أو "بلاد الكنغر" حيث
يعيش الشاعر الآن. إننا نواجه "ثمّة خطأ" أو نتذوق "قطرات
الحب" أو يبهرنا "الساحر" بطريقة أو بأخرى.
وقد يجد القارئ الغربي أو الناطق بلغة أخرى غرابة في صور
وتعابير أديب كمال الدين، وذلك أمر صحيح لأنّ الشاعر ينطلق في
مشاعره وصوره وكلماته من ثقافة أخرى وعالم آخر خضعت فيه الحياة
والإنسان لإرادة المستبد، الذي يرى نفسه إلهاً يقرر مصير
الناس. وقد يرى البعض أنّ الشعراء العرب قد يبالغون عندما
يتحدثون في شعرهم عن صلاحيات وسلطات ضباط الشرطة الذين يصادرون
كلماتنا وقصائدنا ورواياتنا وحتى أحلامنا. يكشف أديب عن الشرطي
"الخفي" الذي يكمن في داخل كل واحد منا في قصيدته "قصيدتي
الجديدة":
* ماذا في يدك؟
قلتُ: قصيدة جديدة.
* فماذا تقولُ فيها؟
قلتُ: أقرأْها لتتعرّفَ إلى سرّها ومعناها.
لكنّ القصيدة تأبى أن تكشف عن سرها، السر الأزلي للشعراء.
وفي قصيدة "أعماق" يؤكد أديب كمال الدين على التوجه الصوفي
الذي يميّز شعره، معتمداً على ذات البنية التي تقوم على تكرار
يشكل لازمة القصيدة:
نهر ==<
قلب == قصيدة == حرف == نقطة ==<
صوفيّ == الله، الذي ينظر إلى "طائره الذبيح" بعيون دامعة. وفي
"القليل من التراب" يلخص الشاعر الوضع البشري في صورة التراب،
لا شيء سيبقى سوى قليل من التراب، أو "حفنة من تراب" كما
استخدمها اليوت ليظهر الخوف من النهاية المأساوية "سأريك الخوف
في حفنة من تراب".
إنها عبثية الوجود التي حدثتنا عنها الكتب والأساطير والحكايات
والمسرحيات. وحتى صرخات عشاق كرة القدم ومصارعة الثيران ستنتهي
إلى تراب وكذلك الذكريات والقصائد ودموع اللاجئين والمراكب
الصدئة. نعم كل شيء إلى تراب، "ومن التراب وإليه". هذه هي
خلاصة المصير البشري التي ترعب الشاعر كما أرعبت الذين من
قبله.
إلا أنّ أديب كمال الدين ينقلنا من حالة التشاؤم إلى ما يمكن
تسميته "بالتشاؤم المرح" من خلال استخدام حوار يقوم على هذا
التجاور الغريب في قصيدة: "ممتع، غريب، مدهش". وهي قصيدة مدهشة
بحد ذاتها، تكشف عن لون البحر كما يراه الشاعر "سفن ونساء"،
وعن لون الحرية "خبز وملح"، وعن سر كتابة الشعر، الذي يتطلب
بكاءً وتأملاً وحلماً وهلوسةً ورقصاً واحتضاراً.
هذا هو منهج كل الشعراء الصوفيين الذين يذوون في عالم الكلمات
والجمال الأخّاذ للخالق والمخلوق، يشربون من نبيذ الطبيعة
ويتحدون مع الكون ومبدعه: الله، "لأن الله في قلبي شمس تتكلم"
وهذا هو جوهر الشعر والإيمان.
وبذلك ينقل أديب كمال الدين رسالة أبدية مفادها أن الشاعر
كالسمكة، لا يستطيع العيش خارج الماء، نبع الوجود. وهذا أمر
غريب ومدهش.
في هذا الديوان يقدمنا كمال الدين إلى عالم يجمع فيه بين
الثيمات الوجودية والصوفية، ويعرّفنا بذلك "الموت اللذيذ"،
تجاور غريب قد يجده بعض القراء قديماً ومهجوراً بسبب طغيان
ثورة تقنية المعلومات والاتصالات التي حرمتنا من متعة طقوس
قراءة الشعر والإصغاء إليه. هذا الإحساس بالانتماء إلى عائلة
كونية هو الذي يدفع شاعرا مثل أديب كمال الدين إلى السعي في
الوصول إلى القرّاء في كل الدنيا من أجل العمل على إصلاح
كوكبنا الآيل إلى الدمار والمبتلى بالحروب والكوارث والمخاوف
النووية والنزعة الاستهلاكية المادية والاغتراب. ولكن شجرة
الحروف، كما يقول أديب، ستبقى، رغم كل الكوارث والمآسي، مضاءة
بالنور والفرح.
********************************************
-
أديب كمال الدين، ثمّة خطأ:
Something Wrong.
دار
Salmat،
أديلايد، أستراليا 2012.
-
Richard Bradford, Poetry, The Ultimate Guide, Macmillan,
2010.
إحساس بالسحريّ:
إضاءة في مجموعة (ثمّة خطأ)
Something Wrong
للشاعر أديب كمال
الدين
د. هِثر تايلر جونسن
Dr. Heather Taylor Johnson
ناقدة وأكاديمية أسترالية- أمريكية
1.
في
النقاش المتداول حاليّاً فإنّ التعدديّة الثقافيّة للشعر
الأستراليّ تبدو مسألة جديرة بالمراجعة. إذ ينبغي على الشعر
المكتوب في يومنا هذا أن يعكس حياتنا المتخطّية للحدود
القوميّة وهمومنا المُعَولَمة إضافة إلى اختلافات سكاننا
العرقية. ولكنْ من المحزن أن لا يعكس التقاليد الشعرية التي
جئنا بها كمهاجرين أو أبناء مهاجرين إلى حياتنا الأدبية.
في
المجموعة الجديدة: (ثمّة خطأ) لأديب كمال الدين- وهي مجموعته
الثانية المكتوبة بالإنكليزية، وقد أصدر 14 مجموعةً شعريةً
ككل*- فإنّ الشاعر العراقيّ-الأستراليّ يجلب لنا رومانسيةً غير
معهودة في الشعر الإستراليّ المكتوب في يومنا هذا. أُذكّر نفسي
بمقولة الناقد الأدبي الكبير إ. أ. ريشاردز الذي قال: "إنّ
الشعر هو الوسيلة الأمثل للفوضى الغالبة". أنا أعتقد أنّ ذلك
هو الحافز لكتابة (ثمّة خطأ). ففي هذه المجموعة عُرِضتْ علينا
كوارث العالم، التي هي بكلمة أخرى الوضع البشري.
يرى أديب
كمال الدين بعمقٍ ترابطَ الإنسان إلى الطفل إلى الطائر إلى
العناصر- وهذا ما أفضّله شخصياً- إلى الحرف. هكذا فإنّ أحزان
ومباهج وألغاز عالمنا هي شبيهة بأحزانه ومباهجه وألغازه هو، أي
الشاعر. فنراه حاملاً ثقلا مساوياً، معطياً معنى لفوضانا-
بعظمتها المتأصّلة- من خلال فضائه الشخصيّ الخاص به. هذه
القصائد
المكتوبة عن الحب والموت والقبول هي مواضيع كبيرة بحيث من
الممكن تخطئتها في أحايين كثيرة كحافزٍ عاديّ بسبب عظمتها
المتأصّلة.
يسبر
الشاعر هذه المواضيع النظرية عبر احساس سحريّ دائريّ ممهداً
الطريق إلى تركيب يدعم تطوّراً استداريّاً. هكذا فإنْ بدأنا مع
طائر أبيض فنحن غالباً ما سننتهي مع طائر أبيض: فالعالم منطقيّ
بشكل مطلق (رغم فوضاه) وهو لذلك مثلما ينبغي أن يكون. تبعاً
لهذه الإضاءة فإنّ التكرار يبدو طبيعياً ومرغوباً به كما في
القصيدة ذات العنوان المذهل (ثمّة خطأ):
ثمّة خطأ في السرير
وفي الطائرِ الذي حلّقَ فوق السرير
وفي القصيدةِ
التي كُتِبَتْ
لتصفَ مباهج السرير
وفي المفاجأةِ التي تنتظرُ السرير
في آخرِ المطاف.
2.
يتنقل
"السرير" ما بين الفاعل والمفعول به. إنه يأخذ شكلَ شيءٍ لا
حياة فيه ثمّ في السطر الأخير من القصيدة، يأخذ، على ما يبدو،
شكلَ الشيء فوق الطبيعي. إنّه مجرد سرير. إنه الرغبة. إنه
الجنس وهو هلاك مُحتَمل.
ليس
سرّاً أنّ التكرار قد أصبح أسلوباً غريباً في ثقافتنا. فقط
التقطْ أيَّ أنطولوجيا حديثة الصدور واحصِ عدد القصائد التي
تجسّد هذه الوسيلة وعندما تقرأ منجز أديب كمال الدين سوف
تتساءل لماذا. الذي قد حدث إذن بشكل واضح لدرجة الألم هو أنّ
خسارة عميقة قد تمّت، وتلك الخسارة هي فقدان القصيدة
الغنائيّة. هل هناك بساطة فعليّة تخيفنا في القصيدة الغنائيّة؟
(رغم أنني أعترف أنني وجدت نفسي أعيد قراءة المقاطع التي تنتهي
بعلامات التعجب كما لو أنها قد انتهت بالنقاط. ربّما يكون ذلك
شيئاً مؤذياً إلى كمال الدين والثقافة الشعرية التي يقترحها
لكنّه يساعد على استرضاء مداركي الغربيّة).
(ثمّة
خطأ) مجموعة شعرية سوف تترك أثراً في أيّ عالَم تُقرأ فيه،
لكنّها مجموعة شعرية جديرة بالقراءة خصوصاً في أستراليا. فهي
ليست فقط ترينا كم ذهبنا بعيداً في إنتاج معنى الشعر ووسائله،
بل مثل اختبار لمدى تطور حضارتنا يمكن أن يجعلنا، ربّما،
راغبين في طبيعة أصيلة لم تُلمس، وهي– أي (ثمّة خطأ) – تذكّرنا
كذلك بالمكان الذي جئنا منه. وذلك أمر قيّم.
**************************
- د. هِثر تايلر جونسن
Dr. Heather Taylor Johnson
ناقدة وشاعرة أسترالية-أمريكية وأستاذة لمادة الشعر في جامعة
فلندرز بولاية جنوب أستراليا. وهذه ترجمة للمقالة التي نشرتها
الناقدة في مجلة
Rochford Street Review
بتاريخ 12 نوفمبر- تشرين الثاني
2012 كما قرأتها
الناقدة كذلك في
حفل توقيع مجموعة الشاعر أديب كمال الدين: (ثمّة خطأ) الذي
أُقيم في اتحاد كتّاب جنوب أستراليا في 12 أكتوبر– تشرين أول
2012 بتقديم ومشاركة الناقدة الأسترالية- الفرنسية د. آن ماري
سمث
Dr.
Anne-Marie Smith
- ثمّة خطأ
Something Wrong
شعر: أديب كمال الدين– دار
Salmat
-
أستراليا 2012.
*
ملاحظة من مُعد الكتاب:
بلغ عدد مجاميع الشاعر ثلاثين مجموعة بالعربية والإنكليزية،
والتي نشرها بالإنكليزية هي ثلاث مجاميع:
أبوّة
Fatherhood،
ثمّة خطأ
Something Wrong
، حياتي، حياتي
.My life, my life !
الفصل السادس
آراء متفرقة
توطئة لتغيير جذري في الأساليب ينفي أديب كمال الدين أن في
البدء كانت الكلمة، ويؤكّد الحرف. ليس حرفنا الذي أصابه
الانكسار وإنما تحدّي حروفياته للواقع برموزها وعرائسها
وأحلامها وتصوّفها وأساطيرها. هذا الحرف/ الجُزَيء اتّسع فصار
كلمةً، جملةً، نصّاً، كائناً حيّاً. جريء يريد أن يبتدع
الواقع/ المثال. فللنون حياة خاصة ونقطة مشعة وللباء والحاء
وكلّ الحروف. إنّه يبني الشعر حرفاً بسماتٍ وأشكالٍ ومعانٍ
وقدرات على التكامل. إنّه يكوّن العالم الشعري جزءاً جزءاً،
يبدأ بالتميّز ولا يتنكّب عنه، وبين الحبّ ولا جدواه وبين
الحياة ونقيضها تنثلم الحروف والكلمات والقصائد وتتهاوى
العوالم. ولكن يبقى الشعر، الشعر الرائع وما أقلّه، ومن هذا
القليل قصائد لأديب لا تتطلّع إلى حكم ولكن تفرضه، ولا إلى
قيمة ولكن تتجاوزها. قصائد منه، ومن شعراء، طوقتهم العقود، بعد
الروّاد، تبقى تزودنا بأمل الشعر مزهواً باستقبال كلّ الأزمنة
الآتية.
أ. د. جلال الخيّاط
(الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين
الشعريّة) إعداد وتقديم: د. مقداد رحيم، المؤسسة العربية
للدراسات والنشر، بيروت 2007
ص 361.
***
النصّ الشعري الذي بدأت به، وانتهت إليه، خبرة الشاعر أديب
كمال الدين نصّ يقوم على ما عُرف بالحروفية. وقد كُتب عن هذه
الخبرة الشيء الكثير، وأُضفيت دلالات جمّة على رمزيتها، وما
هذا الاختلاف في تأويلها سوى علامة على غنى النصّ الشعري
والخبرة التي تقوم دعامة لها. وضعت الحروفيةُ الشاعرَ خارج
السرب، سرب جيله السبعيني المهموم بالحداثة الشعرية على
الطريقة الأدونيسية، فسلك بذلك درباً خاصاً، غامر في استكشافه
وحده، وانتهى إلى هذه الغابة المتشابكة من الرموز الحروفية،
والسرد المشوّق، والبناء المحكم للنصّ. الحروف التي يطلقها
أديب كمال الدين تعبر عن حيوات كاملة، وذوات فريدة، وعوالم
نابعة من التخييل المبدع. الحروف احتجاج على عوالم الظلم،
والضياع، والحرب، وهي خيّرة وشريرة، حيّة وميّتة، بل هي ألغاز
ومفاتيح لفكّ المستغلق من هذه الألغاز نفسها. الحروف أيضاً
انسجام وتنافر، إنها التناقض المطلق. وهي، من جهة أخرى، أدوات،
ووسائل، وغايات، استعملها الشاعر ليحاول استبيان غموض العالم
الداخلي، وغرابة العالم الخارجي، من دون أن يقرر بلوغه الفهم
الأخير لكلّ شيء، فكلّ شيء يبقى مفتوحاً ومنفتحاً على المزيد
من استعمال هذه الأدوات في البحث الروحي. ومن هنا تكون الحروف
وجوهاً للشاعر نفسه، فهو أيضاً ذات فريدة، وتخييلي مبدع،
ومحتجّ على عوالم الظلم، والضياع، والحرب، وهو حيّ وميّت، إنه
التناقض المطلق أيضاً. نصوص الحروفية عالم رحبٌ وممتع، والسرد
الذي يغلّفها يتماهى بها ولا يعود إطاراً خارجياً، بل يتحول
السرد إلى مكوّن أساسي للشعرية الحروفية. إنها نصوص تناجي
الغيب والواقع، فتبقى معلّقة بينهما، تعيش حالة المابين، ومعها
يجد القارئ نفسَه سابحاً في أحلام يقظة، ونهارات غائمة، وسلام
مزيّف، وهدوء يسبق العاصفة: وتلك هي شيمة الحروف المتحوّلة،
والشاعر الذي يحاول ترتيبها ترتيباً جديداً كلَّ مرّة.
د. حسن ناظم
(الحروفي:
33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعريّة)، إعداد
وتقديم: مقداد رحيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت
2007.
***
في العمل الإبداعي الكبير أكثر من مجرى سري يحفره المبدع في
وجدان قارئه،
وكلما كان هذا العمل موجزاً أو مكثفاً زاد القارئ به إغراء
ودهشة، وهذا شأننا مع تجربة الشاعر أديب كمال
الدين، الذي يشارك بفاعلية في تأسيس المنجز الشعري الأحدث
والأجد بلغة لا تستعجم، وفي إطار أبعد ما يكون
عن الشكلانية المحكومة بالإبهار الخاوي.
أ. د. عبد العزيز المقالح
(حلم الخسارات الجميلة واليأس النبيل)، صحيفة الحياة، لندن 5
آب 2005.
***
من الجليّ أنّ الشّاعر الحروفيّ أديب كمال الدين لا يفقد الخيط
النّاظم بين الماهيّة اللغويّة للحرف باعتباره "رابطة"،
والاستعمال المجازيّ للحرف بمعنى "الألم المعنويّ والأدبيّ"،
لكنّه يصهر تلك المعاني الرّمزيّة المتوارَثة بالبعد الصّوفيّ
التّجريديّ، دون أن يغفل عن مركزيّة الأنا في العمليّة
الإبداعيّة، ولا عن معاناة الذّات المتقلّبة على لظى المعرفة،
بين كائن التّشكيل وممكن التّأويل.
د. حياة الخياري
(أضفْ نوناً: قراءة في "نون"
أديب كمال الدين)،
تأليف:
د. حياة الخياري،
الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان
2012 ، ص 15.
***
الشاعر أديب كمال الدين من الشعراء الأفذاذ الذي جمع شعره
إشارات عدّة متباينة وخلّاقة. فعلا صيته وعلا ذكره خلال
سبعينات القرن العشرين. والقارئ لشعره يقف على مخزون من
التجارب الشعورية والخبرات البشرية التي خاضها الشاعر طوال
حياته عاين فيها آلام الإنسان الفردية والجماعية المصرّح بها
والمضمرة، مما ولّد في نفسه طاقةً لدرء الألم بالألم. فاختار
لنفسه أن يرمز لهذه الآلام
بتعابير فنية مخصوصة كالتناصّات والتكرار والألوان.
د. خولة ميسي
(تفاعل الكتابة مع الألم في شعر أديب كمال الدين)،
مجلة أبوليوس المجلد 9 العدد 1 جانفي - كانون الثاني 2022.
***
تُعدّ التجربة الشعرية لدى الشاعر أديب كمال الدين ثورة حروفية
شعرية تعكس صوراً مدهشة غاية في التماسك الشعري والإبداع
النصّيّ.
أ. د. كريمة نوماس المدني
(أسلوبيّة التشكيل الشعريّ المعاصر عند أديب كمال الدين)،
تأليف:
أ. د. كريمة نوماس المدني، منشورات أمل الجديدة، دمشق، سورية
2021.
***
أديب كمال الدين شاعر عراقي ينتمي لآخر الأجيال الشعرية التي
أسست للشعرية العراقية الجديدة. وُلِد في بابل عام 1953 ويعيش
اليوم بعيداً عن وطنه في أستراليا. عضو في اتحاديّ كتّاب
العراق وأستراليا. يُضاف لكونه شاعراً، فهو مترجم مختصّ
بالآداب الإنكليزية. أمّا شعره فقد حظي بمتابعة واهتمام نقدي
كبيرين، كما تمّت ترجمته لعدة لغات حيّة كالإنكليزية والفرنسية
والفارسية والأوردية والإيطالية والإسبانية. ومن بين الخطوط
المهمة لفهم العملية الشعرية لدى أديب كمال الدين وأجيال تالية
هي تلك التي تتراوح ما بين مفردتي الوطن والمهجر. الخروج
الكبير والهرب من الوطن ومن ثم إيجاد أرض جديدة ومحاولة الفهم
والتأقلم والتجاوب، خلقت في الشاعر العراقي ردّ فعل يدخل في
الشعرية أيضاً من خلال رفده بمواضيع وصور ولغة جديدة غير
مألوفة.
د. عبد الهادي سعدون
(دموع كلكامش وقصائد أخرى) (بالاسبانية)، شعر: أديب كمال
الدين، ترجمة وتقديم: د. عبد الهادي سعدون وجوزيب غريغوري، دار
لاستورا، مدريد، إسبانيا 2017.
***
يمكن لأديب كمال الدين أن يرفع اسمه من أيّ عمل شعري يكتبه
لنعرف أنه يعود إليه، وهذا الرهان الصعب على نحت بصمات أصابع
خاصة، في عالم يموج بآلاف الشعراء، استطاع أن يحققه الشاعر
بدأب الصابرين الطويل.
هادي الربيعي
(ماذا عن خصوصية الأفق الشعري؟) جريدة الزمان،
لندن 23 حزيران 2001
***
الشاعر أديب كمال
الدين حرف وصوت للواقع الذي يعيش فيه ويتنفس أحلامه وأحزانه
وأفراحه، ويبلور فيه كل المعتقدات والاتجاهات المسيطرة عليه،
في معركة حقيقية ضد الاستبداد والقهر. إنه شاعر عاش بالحرية،
وعاش للحرية ولا تكتمل إنسانية الإنسان ما لم تكتمل حريته، وفق
ما تقرّه الحروفية التي يؤمن الشاعر بها.
أ. د. نعيمة سعدية
(دلالات
لفظ الحرف وسياقات استعماله في شعر أديب كمال الدين)، مجلة
(حقول) المحكمة التي يصدرها النادي الأدبي بالرياض العدد 16
لسنة 2023.
***
إنّ تكرار شاعرنا
أديب كمال الدين عباراته الشعرية يؤكد موقفه الحجاجي بازاء ما
يقوله، وهو يضمنه في مقولية السرديّة ليضفي عليها طابعاً
جدلياً قائماً على ذكر الحجج ودحضها بحجج أخرى مرتبطة بنتائج
تشي بخلاصة تجربة الشاعر.
د. رحاب لفته الدهلكي ود. بيداء عبد الرحمن
(بنية الخطاب الحجاجي
في ديوان "في مرآة الحرف" للشاعر أديب كمال الدين)،
بحث مشارك في المؤتمر الدولي السابع للغة العربية، الإمارات،
دبي، نيسان 2018.
***
كل كتابة
جيدة هي اختراق، هي إزاحة عن مركز وسياق وتقاليد، وتخطي عتبة
إلى منطقة بكر، وقارة وجودية لم يسبق لأحد ولوجها. ولقد أراد
أديب كمال الدين، بطريقته الخاصة، أن يحقق هذا مطلاً على مديات
الإبداع من نافذة الحرف، لتصبح قصائده تجربة ذات ملمح صوفي
عرفاني بطاقة شعرية خلاقة.. وصحيح أنه ليس الوحيد الذي فعل
ذلك، من بين الشعراء، لكن فرادة تلك التجربة وسعتها والتي غطّت
معظم مساحة منجزه أسّست لمشروع إبداعي ثري ومميّز.. فما كتبه
ليس كشوفات مجردة في عالم الحرف، أو تقليداً مفتعلاً لبعض نصوص
المتصوفة التي جعلت من الحروف مفاتيح لفك ألغاز الخلق، وإنما
مغامرة دخول على صهوة الحروف إلى متون العالم واستجلاء قوة
الحروف وجمالياتها في علاقتها بالكائن والماوراء والزمان
والمكان والجسد والروح والحرية والحب والموت.
سعد محمد رحيم
أنْ
تكتب بمحبّة ، مقدمة كتاب صباح الأنباري (إشكالية الغياب في
حروفيّة أديب كمال الدين)، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2014
***
بعد رحلة كتابي في مجلدات الشاعر يمكننا أن نسمّي الشاعر أديب
كمال الدين بالشاعر الحواري أو الاستفهامي أو التساؤلي لكثرة
ما ورد منها في مجلداته، فهو المتسائل والمجيب بلا منازع.
د. فاطمة العيداني
(دلالات الاستفهام في شعر أديب كمال الدين)، تأليف: د.
فاطمة العيداني،
منشورات دار الدراويش، المانيا 2022 ،
ص 151.
***
استطاع الشاعر أديب كمال الدين أن يعوّض ما يخيّل إلينا أنّ
القصيدة النثريّة قد فقدته أي الوزن، من خلال ثراء المفردات،
والجمل، والتعابير، والتراكيب التي اتّسمت به نصوصه، فضلا عن
التوازيات، والمقابلات، والطباق التي تشكل جميعها إيقاعا
داخليّا للقصائد.
أ. د.
نجلاء أحمد نجاحي
(التناص مع القصص القرآني في شعر أديب كمال الدين)، تأليف: أ.
د. فاضل عبود التميمي وأ. د. نجلاء أحمد نجاحي، منشورات
الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق 2021، ص 107.
***
إنّ شعر أديب كمال الدين حقّا شعر الفقدان؛ إنه صرخة شاهد على
الفترة التاريخية الرهيبة، لكنّه ليس شهادة فقط، إذ أنّه
يتشكّل حسب نفسٍ خاص ويشكِّل تنديداً بالشرّ ويتواصل نحو تأسيس
أرض مُستقلَّةٍ لا تتوقّف عن الاتِّساع وهي تُبنَى بطريقةٍ لا
نهائيّةٍ لا يمسّها سوء، متينة كخلق، سِرُّها الحرف، وحدة
تأسيسية للكتابة وقدرة تتجاوز كل قوّة.
د. ناجح جغام
(الحرف وقطرات الحُبّ)، شعر: أديب كمال الدين، ترجمها إلى
الفرنسية وقدّم لها: د. ناجح جغام، دار جناح للنشر، فرنسا،
2017.
***
شكّل
الانزياح في أسلوب الاستعارة حيزاً مهماً في شعر أديب كمال
الدين، فأظهر عنايته واهتمامه به، إذ نال الأسلوب الاستعاري
أعلى مراتب الجمال والإبداع في شعره، فهو لون وفن خيالي مبالغ
فيه؛ لأنه يسوق فكر المتلقي إلى آفاق الخيال فيُؤنْسِن
الطبيعة، ويُنطق الجماد، ويُحرّك الساكن، ويبثّ الحياة في ما
لا حياة له.
د. مها يوسف الصافي
( تشكيل
الصورة وانزياحها في شعر أديب كمال الدين) مجلة كلية التربية
للعلوم الإنسانية، جامعة ذي قار، (العراق) 2016.
***
الكتابة عن أديب كمال الدين، الشاعر غزير الانتاج، عميق
الرؤية، باذخ اللغة، هي كتابة عن تجربة خطّت لنفسها مساراً
متميّزاً، دأب شاعرها لجعلها لا تشبه أيّة تجربة أخرى ضمن
تجارب الجيل الذي ينتمي إليه، وهو جيل السبعينيات العراقي الذي
تميّز بصخبه وجلبته وعطائه المشاكس وفتحه لآفاق مهمة في
الذائقة الشعرية الجديدة. إن أديب كمال الدين بقي يراقب المشهد
عن بُعد، رغم انهماكه فيه، وظل حذراً في إطلاق نموذجه الخاص،
لكنه تمسّك بمنطقة أداء متميّزة خاصة، ابتعد فيها عن أقرانه،
من أجل تحقيق تفرّده المنشود الذي حققه بشكل واضح بعد أن كرّس
مشروعه الشعري الذاتي من خلال منطقة اشتغاله التي وضعت
مرتكزاتها التعبيريّة والفنيّة وفق منظور فلسفي شعري متداخل
أساسه الحرف والنقطة، وصيرورتهما وتحوّلات الشعر من خلال العزف
على الوتر الحسّاس في أسرارهما، حدّ أن يؤسس الشاعر علاقات
الأشياء وتداخلاتها من خلال الربط الشعري بين الحرف والنقطة
وعلاقة الأشياء اليومية بهما. كما أنّه ، ووفق هذه المعادلة-
التي تحمل من الصعوبة والتعقيد والسريّة ما يكفي- يلجأ إلى
الجملة السهلة الواضحة المألوفة وإلى بناء النصّ بناءً هندسياً
منسجماً، ذا أفق حكائي، يجعله قريباً من المتلقي مهما كان
مستواه المعرفي، ومهما كانت ذائقته، وهو فخّ جماليّ آسر، يضعه
الشاعر لقارئه كي يأخذ بيده إلى عوالمه العميقة.
منذر عبد الحر
(أداء متقن وتفرّد في التجربة) جريدة الدستور، بغداد، العراق،
العدد 3022 - 3 آذار- مارس 2014
***
قصائد
الشاعر العربي الكبير المقيم في أستراليا أديب كمال الدين لا
يجدر بك أن تقرأها مرّة واحدة، بل مرّتين أو ثلاثاً حتى تفصح
لك عن مكنونها وقد تبخل عليك فلا تفصح إلّا عن القليل من
أسرارها ولو أعدت قراءتها مرّات ومرّات.
محمد محمد السنباطي
(انكسرت المرآة فتدفّق البحر!) جريدة الوطن الجزائري 20 تموز-
يوليو 2015.
***
كشف التحليل الفني والقراءة النقدية في شعر أديب كمال الدين عن
مستويات من الأداء اللغوي فعبّر عن تجربته الحروفيّة ضمن
مستويات التنوّع التشكيلي للحرف العربي، بقدرة فنية عالية عن
ماهية الحرف العربي بوصفه الوسيلة التعبيرية الأدائية في نصوصه
الشعريّة، فهو له الوسيلة والغاية معا. إذ رأى في الحرف رمزاً
تعبيريّاً يشاركه همومه في ظروف تجسدّت في ذات الشاعر، فالحرف
شخص (يتكلّم، وينتقد، ويحبّ، ويلهو، ويلعب، ويكره، ويحقد،
ويبكي) يملك الحركات والأفعال الإنسانية كلها.
د. إبراهيم خزعل العبيدي
(التشكيل الاستعاريّ في شعر أديب كمال الدين)، تأليف: إبراهيم
خزعل العبيدي، المركز الثقافي للطباعة والنشر، بابل، العراق
2017، ص 218.
***
أديب كمال الدين شاعر متوحّد مع جميع المحتفلين بالإنسان، وهو
في الوقت ذاته صوت ضاجّ بالغربة والنأي بالنفس خارج أسربة
الضلالة. يسلك طريقاً آخر لم تسلكه أقدام القطعان الناعقة،
يبكي وحده ويضحك وحده ويغنّي وحده، حتى صار حرفه كرسيه الوثير
وكلماته قراطيس الألم ولمعان سيف الروح البتّار الذي يشقّ
عباءات الرحيل وصهيل الليل في خلوات الشاعر.
حميد المختار
(الحروفي: قراءة في المجلّد الثاني للأعمال الشعرية الكاملة)،
جريدة الصباح البغدادية 26 آذار 2017.
***
خطاب التفوّه عند الشاعر أديب
کمال الدين صيرورة تداولية تستثمر حوار النص الشعري في إنشاء
مغامرة سياقية يتشكّل على ضوئها بيان الإنجازية الأولى
للمتكلّم من حيث اعتماده أنظمة لسانية مغايرة تخترق آفاق
التوقع عند المتلقّي.
أ. د.
هاني آل يونس
(التداولية
الحوارية: تأويل خطاب المتكلّم في شعر أديب كمال الدين)،
تأليف: أ. د. هاني آل يونس، دار دجلة، عمّان، الأردن 2016،
ص 11.
***
حظيت تجربة الشاعر العراقي الكبير أديب كمال الدين المقيم في
أستراليا بدراسات أكاديمية رصينة لنيل شهادتي الماجستير
والدكتوراه في جامعات مرموقة في العراق، والجزائر، ولبنان،
والمغرب، ومصر، وتونس، وإيران، والهند.
وقد وصل عددها إلى
ما يقارب الخمسين رسالة ماجستير ودكتوراه.
علي جبار عطية
(رساتل أكاديمية عن الشاعر الكبير أديب كمال الدين)، جريدة
أوروك التي تصدرها وزارة الثقافة ببغداد
***
بهذا الاستخدام الحُروفي للكتابة الشعرية السالف والحادث
نشهد ميلاد تجربة كتابية مختلفة في الشعر العربي المعاصر مَرّت
ببدايات التجريب الأولى وتلبّسها في الأثناء خطر التكرار. إلّا
أنها سُرعان ما أفضت بعديد من متراكماتها وتقلّبات أحوالها في
المكان السالف والأمكنة الحادثة إلى إبْدال كبير، كالحُروفية
العربية في الرسم تُؤسس لأسلوب كوني مختلف في التعبير. فأثبتَ
أديب كمال الدين بمُجمل دواوينه أنّ الحروفية العربية في الشعر
إمكان للتحقق أيضاً، رغم الاختلاف الخصوصي القائم بين علامية
الرسم وعلامية الكتابة الشعرية في مستوى جمالية التمثل
والأداء. هنا تنكشف، بما لا يدع مجالاً للشك، إضافة أديب كمال
الدين لراهن الشعر العربي.
أ. د. مصطفى الكيلاني
(حروفية الشعر من التجريب إلى حادث التجربة) جريدة الزمان،
لندن 5 آذار–
مارس 2007.
***
أفصحت نصوص أديب كمال الدين أنّ الحلم تقانةٌ قصديةٌ واعيةٌ
لاستشراف الزمن وتأويله بما يناسب حالة الشاعر في لحظة ما.
هيفاء جواد السهلاني
(شعرية الفضاء عند أديب كمال الدين: قراءة تأويلية) تأليف:
هيفاء جواد السهلاني، دار أبجد، العراق 2023، ص 311.
***
إنَّ الخطاب الحروفيّ في تجربة الشاعر أديب كمال الدين، لا
يُستبْصَر بقراءةٍ واحدةٍ، ولا تأويلٍ واحدٍ؛ لأنّ رهانه
الشّعريّ على طاقة الحرف لم يكن رهاناً ظاهريّاً، وإنّما كان
رهاناً على روح الحرف، وطاقته، وأطيافه، وإشاراته، وعرفانيّته،
لتكون تجربته الحروفيّة، على هذا النحو، تجربة في الوجود،
هدفها البحث عن الأعماق في الذّات الإنسانيّة.
عدنان لكناوي
(الحرف
والنقطة في شعر أديب كمال الدين)، تأليف:
عدنان لكناوي،
دار الدراويش، المانيا 2022، ص 200.
***
يدهشنا الشاعر أديب كمال الدين على الدوام، بنشاطه المتواصل
على استنطاق الحروف وفكّ مغاليقها وقراءة شفراتها واستدلاله
بمعانيها ومراميها وغناها المعرفي في بناء اللغة والفكروالعلم،
مبعثراً إياها على بياض الورقة كما اللآلئ المتناثرة، ليعيد
صياغتها على هيئة
قصائد بالقلائد وحلي من الكلمات تشعّ، مؤكداً امتيازه الخاص في
كتابة شعرية متفردة
اتخذت من الحروفية والهيام الصوفي
والابتهال الروحي مرجعاً ومنطلقاً وغاية لكتابة قصيدة مغايرة
لها نكهة الشعر الحقيقي
الذي يلامس الوجدان بصدق وعفوية.
صلاح زنكنة
(المنحى السردي في "شجرة الحروف") صحيفة الصباح، بغداد،
العراق، 24 تشرين الثاني- نوفمبر 2007
***
أديب كمال الدين
ابن الحرية، ابن الحياة التي أنجبته حرّاً طليقاً، يكره القيود
والعبودية، ويسعى إلى الخلق والإبداع في كل لحظة، فلماذا إذن
يرضى على نفسه أن يرسف في القيود التي تمنعه من تحقيق غاياته،
وتأمين العيش الحرّ الكريم له؟ ليتعمّق المكان مع الزمان في
كلّ واحد، ويصبحا معا رمزاً لذلك التماهي والاختزال الذي يدمجه
الشاعر في كلّ واحد، من خلال إطلاق صرخته في الحياة، في كلّ
مكان، وندائه للحرية، فهو ابنها، وهو طفلها المجنون، وسيبقى
باحثاً عنها حتى نهاية عمره.
عبد المجيد محمد خلف
(فتنة الحب الأبدي)، جريدة الصباح، بغداد 17 حزيران 2020.
***
بعد أن أتيح لي الإطلاع على الأعمال الكاملة للشاعر العراقي
الكبير أديب كمال الدين، بتُّ على يقين تام أن الحرف كائن
خرافي يمتلك سطوة جبار ممكن أن تسحر شاعراً ليعشقه إلى حد
الجنون. الحرف نفسه تعلّق بأديب وذاب في كيانه، وتعشق بكينونته
فأصبح الحرف أديباً وأصبح أديب حرفاً، ومُحِيت الحدود وتاهت
المسافات، ليولد نبع صاف رقراق عذب يجري يتيماً في صحراء التيه
يبحث عن المفقودين الذين أنهكهم العطش، ليسقيهم شربة قصيدة
ونبض حكمة وبعض بقايا الروح، وقليلا من غبار وطن.
صالح الطائي
(أديب كمال الدين حرف غرّد في منفى) جريدة كل الأخبار (العراق)
17 آذار 2016.
***
أديب كمال الدين
شاعر
ذو تجربة عميقة وغنية قائمة على المكابدة الحقيقية، ومعانقة
الهم الإنساني. وقد أقام هذه التجربة على الإخلاص لفنه، وتطوير
أدواته وتحولاتها- منذ بواكيره الأولى- من قصيدة التفعيلة إلى
قصيدة النثر، واستطاع عبر هذا المخاض الطويل مع الكتابة أن
يؤسس منطقة خاصة به، منطقة تسمى (الحرف والنقطة)، إذ أُطلق
عليه الشاعر الحروفي أو شاعر الحروفية الجديدة، وهي منطقة لا
يمكن لأي شاعر آخر تقليدها أو استنساخها، وإن الاستدلال إلى
منتجها يتأتى من خلال فضاءاتها اللصيقة بالحرف، وما يفضي إليه
عالم الحرف من تنوّع وابتكار.
عبد الأمير خليل مراد
(فضاءات
السياق الدلالي عند أديب كمال الدين)، ملحق أوراق، جريدة المدى
3 نيسان 2016.
***
عند الوقوف على النص الشعري عند الشاعر أديب كمال الدين نرى
نزوع الشاعر
نحو التركيب والتحول والمفاجأة، فضلا عن الشيء ونقيضه ما يخلع
على نصه صفة الجدلية والأخذ والرد حتى أنّ شخصياته نفسها مركبة
تحمل في دواخلها نقائضها، إذ تعلن عن وجه وتخفي وجهاً آخر، ما
يجعلها على قدر من الكثافة الرمزية على مستوى الرؤية، وإلى حد
الشعور بإستقلالها، لتبدو الرؤية غير مكتملة او ذات احتمالات
رؤيوية متعددة تتميز بالغرابة والغموض والعجائبية.
د. أناهيد ناجي فيصل
(البنية الاليغوريا في شعر أديب كمال الدين: ديوان (أقول الحرف
وأعني أصابعي)،
مجلة
جامعة ذي قار، المجلد 13 العدد 3 لستة 2018.
***
إنّي على يقين مِن أنّ الصوت الشعري المؤثر للشاعر أديب كمال
الدين سيستمر ليأخذ صداه عند القرّاء حول العالم.
جود أكولينا:
(شاعرة وناقدة أسترالية) Jude
Aquilina
(قراءة في شعر أديب كمال الدين: ظلال الظلام) جريدة الزمان، 29
نيسان 2009.
***
الحرف هنا شخصية مركزية فاعلة لها ما يميّزها من الأفعال،
والأقوال، والسلوك، والغايات، ولا يتوانى في خوض صراعه بغية
الوصول إلى الحقيقة تحت أيّ مسمّى لهذه الشخصية فهو العاشق
والمعشوق، والقاتل والمقتول، والرافض والمرفوض، والطفل والكهل،
والصوت والصمت، والذكرى والنسيان، والشاعر والمعربد والمشرّد
والصعلوك والساحر والمشعوذ و.. و.. إلخ من المسمّيات التي لا
يمكن عدّها في قصائد أديب كمال الدين.
صباح الأنباري
(إشكاليّة الغياب في حروفيّة أديب كمال الدين)، صباح الأنباري،
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2014 ، ص 82 و 83
***
للحرية في جوهر قصيدة أديب كمال الدين هامش واسع من التفاؤل
يكاد القارئ العادي لا يشعر به. فهو، أي الشاعر، لا يسرف مثل
الآخرين في سرد مواجع الواقع ومخاوفه وإن اقترب من ذلك الواقع
الذي يصعب الفرار من انعكاساته، فإنّ روح الأمل تظل نابضة حيّة
ويظل الحلم حاضراً بما يكفي، ليس بالتمسك بالحياة وحسب، وإنما
للوعي بأهمية تجاور ردود فعل المرحلة الصعبة ودائماً تكون
الكلمة الضوء والدليل.
د. نعيم عموري
(موتيف الحياة والموت
في شعر أديب کمال الدين)،
مجلة اللغة العربية وآدابها، جامعة طهران، السنة 10 العدد 4-
2015 ، ص 587 - 601
***
كما بات معروفا، فأديب كمال الدين هو الشاعر أو الملك الحروفي
الذي وَجَد في حروف اللغة العربية وفي النقطة كثافة وغزارة
أسرارٍ ومكامنَ شعرية هائلة وفائضة، ينهل منها سعيدا بِسعة
ووفرة المعاني، غيرَ مأسور بالنمطيّة والتكرار. فليس ثمة من
استنزاف للحرف والنقطة ينتهي إلى موت الخصوصية، بل تنويع
وتجديد رؤيوي وخلاق للحياة الجمالية. ويكاد يكون أديب الشاعر
الوحيد، الآن، الذي أبدل فلسفة الشعراء بالانشغال بالذات
والموضوع في إهابها الجدلي؛ بالانشغال بالحرف والنقطة في
فائضها وفضفاضها الشعري والصوفي والجمالي والأسطوري والغرائبي
والوجودي العميق. فكان التماهي حاضرا، في مثل هذه الخصوصية،
أمام القارئ الذي لم يستطع التمييز بين شكل الذات والموضوع
لفصلهما.
نصر جميل شعث
(النهل من أسرار الحروف العربية) صحيفة القدس العربي، لندن 3
أيلول– سبتمبر 2007
***
شكّل الشاعر أديب كمال الدين فضاءَه الشعري
بلغة تشكيلية دينامكية
اعتمدت على حركة الأشياء وطاقة
الاتصال بينها فهو يقترب
كل الاقتراب من الإمساك بكلّ ما هو عابر وزائل في لحظته
الشعرية ويعيد إنتاجه من جديد، بلغة مزج فيها الظل والضوء،
والصوت والصدى، الصورة وانعكاس صورتها في القصيدة وفي ذات
المتلقّي.
ناظم ناصر القريشي
(ابتكار لغة الضوء والمرايا)،
جريدة الصباح البغدادية 4 تشرين أول 2016
***
لا يُذكر اسم الشاعر أديب كمال الدين إلا وذُكِرت معه الحروف
التي أصبحت لقبه وبصمته الخاصة في المشهد الشعري العراقي
والعربي على حد سواء. ولم يكن ذلك وليد الصدفة ولم يتكرر
عشوائياً في منجزه الشعري بل كان مشروعا (حروفياً) جاداً وضعنا
أمام تجربة فريدة من نوعها من حيث الوسيلة التعبيرية عن ثيمة
النص الشعري الذي يؤول رؤاه من خلال (الحرف) الذي لم يكن وسيلة
الوصول إلى الغاية بل كان الوسيلة والغاية معا.
رشا فاضل
(مملكة أديب كمال الدين "الحروفية": هوية وبصمة) مجلة عود
الند العدد 40 لسنة 2009.
***
في
بعض قصائده يورد أديب كمال الدين أكثر من رمز تاريخي، ويُلاحظ
أنه يستدعي رموزاً من عصور مختلفة، ويصبّها جميعاً في بوتقة
واحدة، وتكون النتيجة قصيدة "عصرية" يتكشف فيها الماضي كله،
وتختلط همومنا القديمة بمآسينا الجديدة.
د. ديانا رحيل
(الذاكرة: ملاذ الروح ووجعها)، جريدة الدستور
الأردنية 10 نيسان 2015.
***
أديب كمال الدين شاعر مثابر ومتحمس لموضوعته الشعرية التي
يحاول أغناءها دائما. ومنذ مفردات تجربته التي بدأها بمجموعته
الشعرية الأولى (تفاصيل) الصادرة عام1976 نلاحظ تنبهه المبكر
للقصدية التي تحكم بناء التجربة الشعرية لديه. وهذا مابدا
واضحاً في مجموعته الثانية (ديوان عربي) الصادرة عام 1981 حيث
اشتغل على تقديم تجربة جديدة تفيد من الكيفية التي تجمع فيها
الدواوين الشعرية العربية على أساس موضوعاتها. أما في مجموعتيه
اللاحقتين (جيم)1989 و(نون) 1993، فقد توجّه الشاعر إلى
الاعتناء بمفردة دقيقة جداً في مشغله الشعري. حيث تركّز
اهتمامه على مسألة الحرف وإدامة تفعيله في القول الشعري
مستنداً بذلك إلى جذور صوفية-سيميائية تارة وشكلية-جمالية تارة
أخرى.
أ. د. أحمد الشيخ
(معنى المعنى في "أخبار المعنى") جريدة الجمهورية، بغداد،
العراق 16 نيسان 1996
***
يتحوّل الصوف في تشكيلات الشاعر أديب كمال الدين الصوفيّة إلى
حرير موصلي أصيل، حرير تاريخي حداثي يظلّ يشفُّ حتى يتلاشى
المنظور ليتفتح المدلول ويفوح، فهو نصّ يمتلك القدرة على بلورة
رؤى الشاعر لذاته وكينونته وللذات العلية والكون والوجود من
حوله، مبدعاً في التصوير بالإشارة المستندة إلى الترميز
والتجريد معاً، ولارتكاز التجربة الشعريّة على موهبة ومعرفية
عميقة، عرفانية جمالية وفلسفية فإن التشكيل سيظلّ ينهل من
منابع ثرّة ذات مستويات متعددة مما يجعلها بحاجة لقراءة
تأويلية ذات مستويات وآفاق مفتوحة هي الأخرى، فبدون المعرفة
المعمّقة وامتلاك أدوات الكشف الذوقي والجمالي لا يمكن
للمتلقّي أن يمتلك مفاتيح النصّ ولا العثور على مزاياه الخاصة.
إنّ صوفيّة أديب كمال الدين المبدعة شعرياً هي صوفيّة التحضّر
بأخلاق ملوكية حسب أبي حيان التوحيدي، وهي دعوة لرقي التهذيب
والسمو بالإنسان نحو المقامات الراقية مادام موجوداً للاختبار.
أ. د. بشرى البستاني
(المبدع أديب كمال الدين والشعريّة المبهِرة)، جريدة بلادي
اليوم، 4 شباط 2014.
***
في
أغلب
قصائد
الشاعر أديب
يكون
الحوار
بين
الحرف
والنقطة
وكذلك
يجعل
من
البنية
الحوارية
بنية
سردية
يلعب
الشاعر
فيها
دور
الراوي
أو
السارد
المصاحب
الذي
يسمح
للشخصيات
بأن
تدلي
بدلوها
وتعبرعن
آرائها
في
حرية
تامة
لتقدم
الرؤية
الشعرية.
وقد
سجّل
حضور
الحرف
والنقطة
القسم
الأكبر
في
صراع
الشخصيات
المتمثّلة
في
صوت
الشاعر
في
كل
قصيدة
من
قصائده.
سمير عبد الرحيم أغا
(جماليات
التشكيل
اللونيّ
في
شعر
أديب
كمال
الدين)،
سمير
عبد
الرحيم
أغا،
جامعة
ديالى،
ديالى،
العراق
2017
، ص 187
***
التحمت روح الشاعر العراقي أديب كمال الدين بالحروف إلى الحد
الذي زخر بها شعره، وفاضت بها لغته فيضاً صوفياً نورانياً
التحم بالحياة والموت والعالم الآخر والماء والنار والدم
والضياء، كما فاضت بجرح الإنسان في صراعه مع الذات.
د. منال البستاني
(محنة الشاعر، محنة الإنسان)، جريدة العالم 16 تشرين الثاني
2015.
***
إذا كان الشعر في أبسط تعاريفه هو التعبير عن مشاعر الشاعر،
فإنّ معناه يختلف عند الشاعر أديب كمال الدين، إنّه في تصوره
لحظة من البوح الروحي والتعبير العرفاني الذي يمزج بين جمالية
الصورة وعمق الفكرة.
محمد يوب
(تقاطعات الشعريّة والصوفيّة في ديوان: مواقف الألِف)، مجلة
طنجة الأدبية 11 نيسان 2012.
***
تمثل الرؤية الصوفية لجوهر الأشياء مرتكزا مهما ودالا من
مرتكزات تجربة أديب كمال الدين، إذ أنه يستبطن من خلال تلك
الرؤية علاقة الروح بالجسد، وعلاقة كل منهما بالواقع الصادم
الذي ينضح على الروح بغربته وينضح على الجسد بقسوته، ما يضيف
أبعادا معرفية أخرى إلى النص الشعري.
أشرف قاسم
(الوطن والعاشق المغترب في تجربة أديب كمال الدين)، جريدة
القدس العربي 17 آب - أغسطس 2018
***
تقنية أديب كمال الدين هي تقنية تحويل الألم إلى أنشودة تحتفي
بالإنسان وترتقي ببشريته أقصى ما يكون متجاوزةً
ثقافة اختلاف الألسن والحدود والأعراق إلى الكونية.
أحمد الشيخاوي
(أديب كمال الدين أمام مرآة الحرف: تدفّق معاني الألم في
شعريّة السيرة الذاتية)، جريدة الزمان 18 كانون الثاني 2016.
***
إنّ الذائقة الشعريّة في قصيدة كمال الدين قد وجدت لنفسها
مكاناً خاصاً بها عند قرّاء كثيرين وعند نقّاد عرب متميزين
كتبوا عن تجارب ودواوين الشاعر بإسهاب ضمن دراسات عديدة. وهذا
لعمري ما يميز هذه التجربة الشعريّة المتميزة ويعطيها زخماً من
أجل الاستمرار والتفوق والتأثير، لأنّ قصيدة شاعرنا، بصفة
عامة، تمتلك شكلاً مرناً واهتماماً بمواضيع إنسانية وحضارية
وبحثاً عن أهمية التفاصيل في كلّ قضية أو مشكلة.
عزيز العرباوي
(الموت كقضية إنسانية
في "أقول الحرف وأعني أصابعي")، مجلة رؤى الليبية العدد 21
لعام 2016.
***
تسعى الأنا الشعريّة عند أديب كمال الدين إلى توحّد مع الحرف
والنقطة، لذا تمّ أنسنة الحروف وتشخيصها، فغدت منطلقةً،
معبّرةً عن مقتضى الحال. كأنّ الذات في مقام الرائي، فامتدّ
الارتعاش لِلُحمة القصيدة. هنا يمكن الحديث عن وحدة عضويّة في
كل قصيدة: السطر يفضي بك للآخر دون فكاك. وبالتالي فشعريّة
النص تتولّد من كُلّيته.
عبد الغني فوزي
(ضربات شعريّة للطغاة)، مجلة تراث- الإمارات،1 ديسمبر- كانون
أول 2017.
***
لقد اعتمد شاعرنا أديب كمال الدين الحرفَ لقول ما عجز عن قوله
الشعراء جميعاً.
فيصل عبد الحسن
(الحرف لقول ما عجز عن قوله الشعراء جميعاً!)، جريدة أخبار
الخليج 15 كانون الثاني 2011.
الشاعر في سطور
أديب
كمال الدين شاعر، ومترجم، وصحفي من العراق مقيم حالياً في
أستراليا. ولد عام 1953. تخرّج من كلية الإدارة والاقتصاد-
جامعة بغداد 1976. كما حصل على بكالوريوس أدب انكليزي من كلية
اللغات- جامعة بغداد 1999، وعلى دبلوم الترجمة الفوريّة من
المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا 2005.
أصدر 30 مجموعة شعريّة بالعربيّة والإنكليزيّة،
منذ مشواره الشعري الذي بدأه مع مجموعته الأولى: "تفاصيل"
1976، نذكر منها "نون"، "النقطة"، "شجرة الحروف"، "الحرف
والغراب"، "مواقف الألف"، "في مرآة الحرف"، "حرف من ماء"، وفي
الإنكليزية صدرت له مجاميعه: " أبوّة"، " ثمّة خطأ"، " حياتي،
حياتي!".
كما أصدر المجلّدات
السبعة من أعماله الشعرية الكاملة، بالإضافة إلى مختارات شعرية
صدرت بعنوان (مختارات حروفية). وفيها يظهر جليّاً تفرّده
الشعري باستخدامه الحرف العربي ملاذاً روحياً وفنيّاً.
تُرجمتْ أعماله إلى
العديد من اللغات كالإيطالية والإنكليزية والفارسية والأوردية
والإسبانية والفرنسية والكردية. نال جائزة الإبداع عام 1999 في
العراق. واخْتِيرَتْ قصائده ضمن أفضل القصائد الأستراليّة
المكتوبة بالإنكليزيّة عاميّ 2007 و2012 على التوالي.
صدر 18 كتاباً نقديّاً عن تجربته الشعريّة، مع عدد كبير من
الدراسات النقدية والمقالات، كما نُوقشت الكثير من رسائل
الماجستير والدكتوراه التي تناولت أعماله الشعريّة وأسلوبيته
الحروفيّة الصوفيّة في العراق والجزائر
ولبنان
والمغرب وتونس ومصر وإيران والهند.
صدرت له المجاميع الشعرية الآتية:
-
تفاصيل،
مطبعة الغري الحديثة
، النجف، العراق 1976
.
-
ديوان عربيّ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق 1981
.
-
جيم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق 1989.
-
نون، دار الجاحظ ، بغداد، العراق 1993.
-
أخبار المعنى، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق
1996.
-
النقطة (الطبعة الأولى)، مكتب د. أحمد الشيخ ، باب المعظّم،
بغداد، العراق 1999.
-
النقطة (الطبعة الثانية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
بيروت، لبنان 2001.
-
حاء ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان 2002.
-
ما
قبل
الحرف
..
ما
بعد
النقطة،
دار
أزمنة
للنشر
والتوزيع،
عمّان، الأردن
2006.
-
شجرة الحروف،
دار أزمنة للنشر والتوزيع،
عمّان، الأردن
2007.
-
أبوّة
Fatherhood
،
(بالإنكليزية)
دار سيفيو،
أديلايد،
أستراليا
2009.
-
أربعون قصيدة عن الحرف،
دار أزمنة للنشر والتوزيع،
عمّان،
الأردن
2009.
-
أربعون قصيدة عن الحرف،
Quaranta poesie sulla lettera
(بالإيطالية: ترجمة: د. أسماء غريب)، منشورات نووفا إيبسا
إيديتوره ، إيطاليا 2011.
-
أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت،
لبنان 2011.
-
مواقف الألف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2012.
-
ثمّة خطأ
Something Wrong
،
(بالإنكليزية)
دار ومطبعة
Salmat
،
أديلايد، أستراليا
2012.
-
الحرف والغراب، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان 2013.
-
تناص مع الموت:
متن در متن موت
(بالأورديّة:
ترجمة:
اقتدار جاويد)،
دار كلاسيك،
لاهور،
باكستان
2013.
-
إشارات الألف، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2014.
-
الأعمال الشعرية الكاملة:
المجلّد الأوّل،
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2015
-
رقصة الحرف الأخيرة،
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2015.
-
في مرآة الحرف،
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2016.
-
الأعمال الشعرية الكاملة:
المجلّد الثاني،
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2016
- الحرف وقطرات الحب
La Lettre et les gouttes de l'amour
(بالفرنسية: ترجمة وتقديم: د. ناجح جغام) دار جناح،
فرنسا 2017.
- حرف من ماء، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2017.
- دموع كلكامش وقصائد أخرى
Lagrimas
de Gilgamesh Y
Otros Poemas(بالإسبانية:
ترجمة: جوزيب غريغوري، مراجعة وتقديم د. عبد الهادي سعدون)،
دار لاستورا، مدريد، إسبانيا 2017.
- الأعمال
الشعرية الكاملة: المجلّد الثالث، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2018.
- الأعمال
الشعرية الكاملة: المجلّد الرابع، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2018.
- الأعمال
الشعرية الكاملة: المجلّد الخامس، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2019.
- الأعمال
الشعرية الكاملة: المجلّد السادس، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان
2020.
- حياتي، حياتي
My life, my life!(بالإنكليزية)،
دار ومطبعة فيوجي فلم، أديلايد، أستراليا 2021.
- مواقف الألف: مواضع ألف (بالفارسية: ترجمة: د. نعيم عموري)،
منشورات قهوة، الأهواز، إيران 2022.
- الحرف والغراب: حرف وكلاغ (بالفارسية: ترجمة: د. نعيم
عموري)، منشورات قهوة، الأهواز، إيران 2022.
-
الأعمال
الشعرية الكاملة: المجلّد السابع، منشورات ضفاف ومنشورات
الاختلاف، بيروت، لبنان 2024.
-
الأعمال
الشعرية الكاملة: مختارات حروفيّة، منشورات ضفاف
ومنشورات الاختلاف،
بيروت، لبنان 2024.
موقعه الشخصي:
www.adeebk.com
معد ومقدم الكتاب في سطور
أ. د. علي هاشم طلاب الزيرجاوي
- أستاذ الشعر العربي الحديث ونقده في كلية التربية للعلوم
الإنسانية، قسم اللغة العربية، جامعة ذي قار حاليا،
وفي كلية التربية للعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية، جامعة
المثنى سابقا.
ـ أستاذ الدراسات العليا لمرحلتي الماجستير والدكتوراه.
ـ عمل مقرراً للدراسات العليا لمدة خمس سنوات في جامعة المثنى،
كلية التربية للعلوم الإنسانية.
ـ وعمل عضوا في لجنة الاعتماد المؤسسي
بالأمر جامعي
5145 في 17/9 / 2020
ـ وعمل عضوا في لجان فحص عمل استمارات التصنيف الوطني
بالأمر جامعي
3093 في 30/4 / 2019
الشهادات الحاصل عليها والجهة المانحة :
- البكالوريوس :
كلية التربية،
جامعة البصرة.
- الماجستير : كلية الآداب، جامعة القادسية،
عنوان الرسالة : محمد بن عمار الأندلسي حياته وشعره.
- دكتوراه : كلية التربية للعلوم الإنسانية ، جامعة بابل،
عنوان الأطروحة: خطاب الآخر في الشعر العراقي السبعيني.
البحوث والمناقشات العلمية :
- نشر 25 بحثاً
في الأدب الحديث ونقده في
المجلات الأكاديمية المحكمة.
- ناقش ثمانين رسالة ماجستير ودكتوراه في جامعات المثنى، بابل،
كربلاء، ذي قار، البصرة، بغداد، واسط.
- قام بتقييم عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه .
المؤلفات الأدبية والنقدية:
- خطاب الآخر في الشعر العراقي السبعيني التلقي والتأويل، دار
صادر ـ لبنان،
2015.
- مملكة الحرف: أربعون ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين
الشعريّة، دار
|
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة