الملخص
إنّ الخطاب التداولي، بوصفه - تقانة أدائية
توصل المتكلم بالمتلقي على نحو يحتمل أو يحتاج إلى
كثير من وسائل الانسجام كيما تتحقق فرادة هذه التقانة
في أداء موضوعاتها الخطابية لأن الاختلاف بين التركيب
والدلالة من جهة والتداولية من جهة أخرى إنما هو
كالتقابل بين النظام أو اللسان واستعمال هذا النظام ،
ولأن الأمر يحتاج إلى ممهدات نفسية واجتماعية وعرفية
كثيرة لابد من تحققها قبل التفكير أصلا في تحقيق الذهن
لتقبل تمثلات الدلالة الواردة عند المتكلم أو لدى
المتكلم له ، و لا يغيب عن ذهننا، جميعا، أن أي مفهوم
للخطاب أو لنقل ذلك الذي يمكن أن يتجاوز مفهومه
الإخباري لينتقل إلى بؤرة المقابلة في مباشرة الإنجاز
، نقول : إن ذلك ينبغي أن يتجاوز وسائط العرف المعتادة
كي يكسب المتلقي إيماضات شعرية كثيرة
لأن
لكلمة أو لكل
عبارة
عدة معاني مستعملة
فهي ليست نتيجة تنظيم النظام المعجمي بل نتيجة
مبدأ تداولي مطبق على القول يسهل عليه سرعة الاندماج
في كشف السياق الخطابي الذي تحتملها الرسالة اللغوية،
بوصفها انجازا فكريا ومعرفيا ضابطا.
إلقاء القول ..
المتكلم والمتكلم له :
ولأنّ كثيرا من الأفعال القولية المشاركة في صناعة
متوالية (الكفاءة والإنجاز) أو المتداولة بين اللسان
والاستعمال لا يكشف تلقيه ، بحسب صياغته
للمعنى أو بتبنيه
الانطلاق من معادلات السياق
، وإنما من
استجلاب بؤر ذاتية لواقعة القول ليس إلا، لذلك
فأن المبادئ
التداولية لا تعنى بالكفاءة اللسانية أي معرفة المتكلم
باشتغال لغته
بل تعنى بنظرية في الإنجاز تقول:
إن التداولية هي العلم بمجموعة من المعارف أو
القدرات على استعمال اللغة في مقامها
[1] معناه ، إن
الإنجازية التداولية ليس انقلابا فكريا بعيدا ينغرز في
صلب نظرية
التواصل التي تحتم إزالة أي معرقل بناء أو
دلالي تعترض عملية إيصال
الرسالة فحسب بل هي فكرة إفصاحية تعنى بوجه الاستعمال
الظاهري لدلالة اللغة
إنها ذاتية معلنة لمتكلم محتقن يحاول التنفيس
عن غائيته ومن ثم المشاركة في صناعة خطابها التداولي،
لذا فلابد للمتلقي أن يسهم بشكل فاعل في إثارة المتكلم
أو قراءته على نحو إيجابي كي يستولد في لسانه
تداعيات
لاستعمال هذه
اللغة وعلى نحو خاص يؤشر على انزياحه عن النظام في
تراتبه الإنشائي
[2]، أو لنقل ان
هذا التفاعل ينبغي أن يكون أولا إذا أردنا إنشاء علاقة
تواصل فاعلة بين المتلقي والمتكلم ، لذا أراد الشاعر
أديب كمال الدين أن يشهر ثيمة الحروف بوصفها قصائد
دالة على واقعة لسانية
والغائية
في ذلك عنده
شعرية معلنة، يقول أديب كمال الدين :
(وبدأت
الحروفُ عاريةً تماماً
ترقصُ وترقصُ وترقص
رقصةً وحشيّة
وأنا لا أعرف مَن أنا:
أأنا المصلوب في أورشليم الذي وشى به يهوذا؟
أم أنا المصلوب على جسرِ الكوفة
[3]
.
أن تبليغية التناص
/ أنا : المصلوب // أم أنا ألمصلوب
/ كانت ترسخ لنوع من الربط يجمع بين مكانين
بينهما كثير من التوحش : أورشليم = جسر الكوفة ، حدث
كل ذلك نتيجة تواصل لساني حدثته واسطة
الإنكار في
الاستفهام المغيب ، لذلك يكون هو الأساس أو الفيصل في
التقسيم بين وعيين مختلفين ، الاول ناف : أنا لا أعرف
من أنا ، والآخر ممنهج فكري يستدعي التواصل القرآني
مشهدا يلقي بظلاله على قصة يوسف عليه السلام : لماذا +
تركتهم وهو محول دلالي يحقق الربط على نحو فعال مع
خطاب الإنجاز في متواليات السرد الجانبي لقصة يوسف :
يلقونني في البئر// يمزّقون قميصي
قبل التمكن
من الإبلاغ عن فكرته المعرفية
الكبرى : وأنتَ تعرفُ أنّهم يكذبون :
لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟
لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟
لماذا تركتهم يكذبون،
وأنتَ تعرفُ أنّهم يكذبون؟
أعرفُ أنكَ كنتَ شيخاً جليلاً
وأنهم – وا خجلتاه- استغلّوا
ضعفكَ البشريّ
[4]
هذا مهم جدا إذ إن التواصل ، لا يحقق هذا الشيء إلا
بتهيئة المتلقي والإشادة بأهمية المرآة
(الذئب)
في عملية صناعة الذروة : إن الذئب كان أرحم من
أراجيفهم ،
لذلك كان الإنجاز عنده منهجا فكريا ذاتيا يظهر
كثيرا من الإنشاء : لم أقاوم + سحر لثغتها// ولم + لا
+ أنوثتها الطاغية ،
أو لنقل إنه أظهر انسجاما أدائيا فاعلا يشكل
البؤرة في غالبية تحريره لمهمة الإنجاز:
فسقطتُ في
البئر//
وصحتُ انتشلني، إذ تأتي لاحقة النداء المغرق في
تنكيريتها الواضحة = يا مَن كُتِبَ عليه ما قد كُتب ،
لتفصح عن صمت الحكي :
وأنّ الذئبَ كان أرحم من أراجيفهم.
لكنني كنتُ ضعيفاً.
أصدقكَ القول
لم أستطعْ أنْ أقاوم سحرَ لثغتها
ولا أنوثتها الطاغية
فسقطتُ في البئر
وصحتُ: انتشلْني
يا مَن كُتِبَ عليه ما قد كُتِب
من عذابٍ عجيب
[5]
إنه تشكيل شعري أو بناء أنموذج لوعي تداولي مقتدر
بإمكانه أن ينحرف بسهولة في ذاتية المتلقي ومن ثم
سحبه اختيارا
إلى بؤرة الاستعمال في الصناعة الكلامية كيما ينسجم مع
الغاية الدلالية لرؤية النص.
شعرية
الاستعارة :
مفهوم
الاستعارة لا
يبدو غريبا على التداول، لأن الخطاب التداولي
يعتكفه
كثير من خيال
النشاط الإنساني في إنتاجه وفي تكرار الاستعمال العرفي
لهذا الإنتاج وهو
يتميز بفيض من
الإيحاء و تراكم الدلالة فضلا عن طاقة في الإخبار
مهيمنة
[6]، لذلك فهي
تجتاح خطاطات الإيصال فتحرفها عن وجهتها أوعن جبهتها
الدلالية
نحو وجهة شعرية طافحة بالبلاغة حيث استمكنت الاستعارة
بواسطة لازمة العين بوصفها جارحة إنسانية مستفحلة نسبت
إلى غير العاقل
في مركب الإضافة: بؤبؤ الحزن، لذلك رفدت صورة
الاستفهام المغيب عن وعي الظاهر لاستعمال اللغة: هل//
سقطت دمعتك = من بؤبؤ الحزن //
+ حتى تراني
، بطاقة تعبيرية لا يستولدها إلا شاعر زاد عنده دفق
الحرف رقراقا حتى صار مرآة نفسية شاخصة تعكس ذات
الشاعر ورؤيته نحو الحياة والموت :
إنني أهوي إلى القاع.
فهل سقطتْ دمعتُك
من بؤبؤ الحزنِ حتّى تراني؟
أصدقكَ القول
إنني لم أعدْ بعد.
إنني أحلمُ أنْ أعودَ إليك
لأبكي على صدرِكَ الطيّب
[7]
فعندما يغلب شوق الإنسان حنين إلى أب يصارع تيه
المسافات ، نرى نفس الشاعر الذاهبة إلى الحزن سرعان ما
تتأرجح بين بعدين كلاهما واحد لدى المتلقي : أبي يا
أبي //
{أيها + البعيد // أيها + القريب : كهلال العيد }، أو
غالبا ما يكون منصرفا عنه في ايدولوجيات التشيبه إلى
سيمياء التمثيل البليغ في علامة (هلال العيد) بطرفيه
المتعادلين القريب والبعيد :
وأصيحُ
: أبي يا أبي
أيّها البعيد كهلالِ العيد
والقريب كهلالِ العيد
أريدُ أنْ أراك
لآخر مرّة
[8].
هذا أولا. أما ثانيا : فهذه كلها مؤسسات لبؤر الاتصال
لدى المتلقي، أوفي
ذاكرته اللغوية بوصفه معادلا عدديا لا يتكرر
سوى مرة واحدة : أريد أن أراك = لآخرة مرّة فإن
المتكلم يمكن أن يظهر وعيا مخالفا إزاء المتلقي إذا ما
استطاع
أن يهيئ تقانات بلاغية معينة لإشهاره اللساني .
فالأعراض اللسانية من سبّ وشتم قد تعتور بضاعة المتكلم
عنده : لكنهم / رابط استدراكي+ جملة / تفسير + يجيدون
فن الكذب /جملة السب
والشتم
ومن ثمّ غرائبية في الصناعة المنطقية عنده : لم
ـــــــ يسلم +حتى الذئب / رابط سببي تصعيدي
+ جملة التجاوز أو عقادة البناء أو ربما الخوض
في التجاوز على إمكانات المتلقي الفكرية في الاتصال
إلى حد بعيد يولد إنجازية من نوع خاص :
لكنّهم– كما تعرف- يجيدون فنَّ الكذب
ولم يسلمْ حتّى الذئب من أكاذيبهم.
لكنّهم صدقوا هذه المرّة
فأنتَ متّ بين يديّ
[9] .
هذه كلها تنويعات لخطاب واحد ، قد
تضافرت فيه
الفروق والوجوه
على نحو ملبس: {لم + تـقل } + { لم + أقل } + {
لم + نقل } و خطاطات تعبيرية بإمكانها أن تحدث انفراجا
في أية علاقة يكون التواصل
اللساني فيه
باردا، ولعل تكرار الروابط التداولية في (لم ولماذا
ولكن) فضلا عن قوة التوكيد الناتجة من تظافر توزيع
المورفيمات
المباشرة للقول على ألفوناتها المتنوعة وعلى
أساس سياقات قولية جاذبة تجعل المتلقي يكمن في سمت
الخطاب، كي يدفعه إلى أن يسهم بقراءة جديدة للرسالة
اللغوية في زمان ومكان محددين، وليست ببعيدة عن ذلك ،
استجابة المتلقي لبوادر الانفعال الذي يظهره النص
:
لم تقلْ شيئاً.
لم تقلْ أيَّ شيء.
لماذا لم تقلْ أيَّ شيء؟
لم أقلْ لكَ أيَّ شيء.
لماذا لم أقلْ لكَ أيَّ شيء؟
لم نقلْ أيَّ شيء.
لماذا لم نقلْ أيَّ شيء؟
[10].
ولا ريب فإن المتلقي في : أقول الحرف وأعني أصابعي ،
يمتلك هنا إمكانات ذاتية متفوقة جدا في تقبل أو رفض
المتكلم ، لما له من قدرة في توجيه دلالات الكلام ،
نحو قوله: كنت // طيّبا // ضعيفا
أو إنه قد يصرف
الدلالة إلى جهة واحدة فيها تشكيل جمالي راق هذه
الجمالية تكمن في استحداث متوالية خطابية للتشبيه تقرن
الكل بجزئه : { ك+ طيبتك (أنت) كلية = طيبة دمعتك ( هي
) جزئية } ، وهذه واحدة من قراءاته المتميزة على مستوى
الإفهام والمفاهمة، أو ربما لأن رسالة الخطاب الواردة
إليه لا تتمحور إلا على الجمالي في اشتغال ألفاظ
تستوفز النفس الإنسانية وتعمل على إثارة النوازع
الفاعلة في ذلك
[11] ، او لعل
اعتماد الطيبة وجها للشبه حسيا لا يقبله العرف هو
السبب فيما ذهبنا إليه
للمبادلة ،
وقد يكون متأتيا من الضم الحاصل
بين رابطي
الإنكار والتعجب :{ لماذا+ كنت طيّبا }، إذ إن
العنصر الاستخباري أعني الاستفهامي : ( لماذا )
بما فيه من تعجب يسكت المسكوت عنه في النسق ، ويحيل
المتوالية الخطابية للنداء المقصود : يا أبي
، إلى نص تداولي فاعل يكاد يتشظّى في نسقه إذا تسنّى
لنا أن نرجعه إلى واقعة الأبوة بوصفها واحدة من
مرجعياته الاجتماعية :
إذنْ،
لماذا تركتَهم هكذا
يرقصون طرباً من لذّةِ الحقدِ والانتقام؟
لماذا كنتَ ضعيفاً إلى درجةِ الوهم؟
لماذا كنتَ طيّباً
كطيبةِ دمعتِكَ الطاهرة؟
ولماذا أورثتني دمعتَكَ الطاهرة
يا أبي؟
[12].
لذلك لابد من إقامة أود علاقة تواصلية بين المتلقي أو
المتكلم في انجاز صورة شعرية لنوع من الخطاب خاص فيه
شئ كبير من ذاتية المتلقي وخصوصية المتكلم في ايماضات
لسانية تداولية، تظهر عقلانية التشكل اللساني إزاء
اضطراب وفوضى الاستعمال لإمكانات اللغة في التقبل
والشيوع .
المنوال النحوي :
ما نعنيه: إن العبرة
ليست في اختلاف الألفاظ، أو محاولة إكساب هذه
الألفاظ وظائف جديدة ، أو لنقل دلالات تعبير جديدة ،
إنما الأساس في توجيه هذه الألفاظ وتحميلها إمكانات
أداء نحوية خاصة ، منها ما تتمثل
في المقابلة بين وجهي الإضافة في الاستعمال
النصي : ناري // نار قلبي ، أو في المضاهاة بين مجارير
أفعال القول وحركة الضمير
العائد ومن ثم مَعادات الإحالة النصية فيها ، من نحو
قوله : { دمها + لوعتها + ضوضائها } أو ربما الموازنة
بين أساليب الطلب ذات الضجيج العالي
: {النهي = لا تقترب// الأمر= كن على حذر}:
لا تقتربْ من ناري!
من نارِ قلبي وسرّي،
فإنّي أخافُ عليكَ من النار:
من دمِها ولوعتِها وضوضائها،
فكنْ على حذرٍ
أيّهذا المُعذّب بالشوقِ والليلِ والأهلّة
[13].
وهذه طرائق تعبير لا يحسن استخدامها إلا إذا أردنا
تحقيق كسر شامل لأفق التعبير الشعري وأظن أن ما أراده
أديب كمال الدين كان قريبا من هذا حين وثّق بناءه
الشعري على هذا النحو، وكان قد صاغ أنماطه النحوية
بوحدات دلالية بنائية إن كانت أولية لكن في حملها
الوظيفي كانت ثنائيات كلية نصية: {في كل فجر// في كل
ليلة : الصلب // وما بعد الصلب : مما ترى // مما لا
ترى} هذه الثنائيات لأنها اقترنت بدلالة
المضارع
المستمر : أخاف عليك ، والخوف هنا معادل نصي جامع لكل
هذه الثنائيات فهي لأجل ذلك يمكن في أية لحظة أن تفجّر
السكون إلى مناورة ومواربة ومن ثم
فاعلية تشويقة تخترق بسهولة ذاتية المتلقي أو
لنقل تخترق ذاكرة المتبقي عنده ، فالمتكلم والمتكلم له
،عنصران خطابيان ، لا يظهر تحقيقهما انسجاما إلا إذا
استدعى خلوص أحدهما للآخر تهيئة ذهنية سابقة
[14]
:
أيّهذا الغريب الذي يجددُ غربته
بدمعتين اثنتين
في كلِّ فجرٍ
وفي كلِّ ليلة.
لا تقتربْ!
أخافُ عليكَ من الصلب
وما بعد الصلب.
أخافُ عليكَ ممّا ترى
ولا أخافُ عليكَ ممّا لا ترى
[15].
ولابأس حينها من اعتماد روابط حالية أو أدوات استفهام
تفسيرية عارضة مسندة إلى أفعال غلبتها صفات زمانية
محددة ، مثلا هنا تحيل الحدث من الحاضر إلى المستقبل {
كيف + سيسمّونك // كيف + يسمّون // كيف + سيقترحون
}وهو صيرورة نحوية تابعية رابطة وهذه واحدة أخرى من
قوانين
التداول متطلبة هنا لتدعيم المعنى بتماسك نصي يولده
تكرار الأداة كيف وبأنساقها النحوية، فالمعاني
النحوية
مطروقة والمنوال موثوقة جهاته لذلك لا يمكن للشاعر الا
أن يلج قريبا في
المجابهة مع أفعال القول وتحميل تابعية أدوات الربط
تراتبا سياقيا من اجل إشاعة قولته التداولية
[16]:
فكيف
سيُسمّونكَ حين تموت؟
كيف سيُسمّون حرفَكَ الإلهي:
أعني معجزةَ نونكَ وأسطورةّ نقطتك؟
وكيف سيقترحون تاريخَكَ الأرضي
وجغرافيتَكَ السماويّة؟
هل سيقيسونكَ بمساطرهم الغبيّة
وبمقولاتهم الجاحدة
[17].
التراتب الإنشائي :
يقتضي تحقق الاستجابة الإنجازية في الشعر إغراقا شبه
تام لمركبات التعبير في هيمنة سياقية سادرة يبني عليها
التداوليون إنشائيتهم المفرطة ، هذه الإنشائية
هي استعمال للغة في غير بابها المعجمي إنها سرد ذاتي
إفصاحي أساسه شفاهي مغلب على سرعة الإقناع
[18]، لننظر إلى
قوله : تضيع كما ضعتُ من قبلك ؟ ولعل القراءة المستوية
ما نعنيه القراءة العادية لا تفصح عن شيء ولكن لو
استطعنا أن نتوسّل قابلية التنغيم في أداء هذا المقطع
لكنا قد قلنا أن الهمزة مغيبة ، ولاريب فإن تغييب
الهمزة يمكن ان يعطي لإعجاز الدلالة قالبا إيقاعيا
مبهرا نتصوره سلسا في قولنا : (أ + تضيع ) والجميل في
استدراك السياق تنصيص المنوال النحوي على الإضراب في
فحوى فاعلية أم المعادلة ، ومن ثم الوقوف على حراك
المطابقة بين : {تضيع + كما + ضعت // يقيسونك +
بمحبتهم + القاسية }للتدليل
على مناورة الوجه المنطقي أو السببي في فحوى خطاب
التعليل : لتضيع ثانية + كما + ضعت
:
تضيع كما ضعتُ من قبلك؟
أم سيقيسونكَ بمحبّتهم القاسية
وبعشقهم المُزيّف
لتضيع ثانيةً كما ضعتُ من قبلك؟
لا تقتربْ!
أيّهذا الحُروفيّ الذي يقترحُ الحرفَ اسماً
لكلِّ شيء
[19].
ولا ننسى، أن إيقاع المعنى يستدعي تماهيا من نوع خاص
وهو ما جعل الشاعر يستعين بقوة الترابط في الأداة (
ثمّ + متعلقها ) التي تمنح المركب حيزا من تفاؤل ،هذا
النسق التعليقي بحاجة إلى سلسلة أخرى من روابط معرفية
توجه مرجعية النسق: من + النهر ـــــــــــــ إلى +
الصحراء // من + الصحراء ـــــــــــــ إلى البحر// من
+ البحرــــــــــــــ إلى + الموت ، إذن
هذه هي الدائرة الدلالية المغلقة فمنها ينبثق
الماء ومنها يتجلى البحر إلى موت قرانه النار، وعندما
ينتهي كل هذا الاضطراب إلى نهي دلالي صارم بقرينة
المتوالية : (لا) الناهية + تقترب وهي مرحلة
بناء أسلوبية أعلى بقليل من مرحلة الأمر بوصفه مرحلة
وسطى من مراحل تكون البنية العمقية والأمر ينشأ في
أصله من مرحلة ما بعد الإخبار التي تهيمن عليها
الإنشائيات التداولية تكون الخواطر قد اهتاجت
واجتاحت النفس نوبة حسرة قاتلة وواسطتها في
التضام خالفة ( اللام + قد ) اللتان تسبغان على الفعل
الماضي المسند إلى ضميره المتكلم : {لقد + احترقت+
قبلك + ألف مرّة } دلالتي التحقيق والتوكيد، إن مفعول
القول : قبلك + متعلقه التفسيري // ألف مرّة
، يمنحان المتواليد التداولية
قدرة خارقة
في تجاوز المعتاد السهل في الوصول إلى مران سياقي
وابتكار دلالي ينشط عناصر التداعي اللاواعية :
ثمّ يمضي من النهرِ إلى الصحراء
ومن الصحراء إلى البحر
ومن البحرِ إلى الموت،
أعني إلى النار
وهو يحملُ جثّته فوق ظهره.
لا تقتربْ!
فلقد احترقتُ قبلكَ ألفَ مرّة
وما ارعويت.
لا تقتربْ
[20]!
من خلال تكرير دواعي الطلب : أرجوك
وتمرين الذهن على الاندماج معها وتنمية المشاهد
في الصورة على نحو إيقاعي متزن :
أيها النار { لا تبقي ولا تذر }يوفر كثيرا من
قواعد الاتساق والتوازي في إنشاء
القصيدة :
{فلا تقتربْ // منها // أيّهذا البشر}، وهو أيضا، يمرن
الذهن على تقبل المشهد المتطور :
أرجوك
إنّها النار التي لا تُبقي ولا تذر
فلا تقتربْ منها أيّهذا البشر!
[21].
لنقل أنه
يموسق المعنى بحسب مَعاداته نفسية أوربما من تداخل
أنموذجاته المثال عنده ، فضلا عن أنظمة تعاقب عرفية
تجعل قابلية اللغة في الإنجاز أمرا واردا حينها يكون
المعنى والوظيفة في هذه الحالة شيئا واحدا
[22].
الانغمار في الوقائع الهامشية
:
لا ريب أن
القصيدة عند أديب كمال الدين نص دلالي مهلهل، توزيعاته
الفعلية متباعدة وأسلوبه يشتمل على قدر كبير من
تداعيات الاختلاف في استلزامه لتجلّيات المغايرة
والعرفانية الرافضتين للمهادنة : إنّي + أنا الحلّاج ،
ويقوي بناء هذا المنزع النفسي عنده تشكيل هامش لغوي
يجمع بين توكيدي المتكلم ونفسه : اسمك // اسمي// إلى
أن يندرج غائرا
في عرفان صوفي يبجلّ لديه فرادة الوعي المعرفي الذي
بات يحكم قصيدته الحروفية: وهمك// وهمي : صليبك //
صليبي ، وهو ما يجرّ المتكلم أحيانا إلى وسائل إقناع
قد تبدو للوهلة الأولى خارجة عن المألوف
:
إنّي أنا الحلاج
اسمُكَ اسمي
ولوعتُكَ لوعتي
ودمعتُكَ دمعتي
ووهمُكَ وهمي
وصليبُكَ صليبي
[23].
أو خارقة لأفق التوقع ، أو أن الذهن ربما لم يكن قد
اعتاد عليها ،ففي كل ذلك ، رياضة فكرية ، أو لنقل
مراجعة لقوى النفس من نوع خاص يحفز الذاكرة أو أن
إمكانات المشاكلة أو المشابهة لدى المتلقي.
سترقصُ، إذن، يا صديقي.
سيجتاحكَ الوهمُ أو الموج.
(حسناً الموجُ أجمل) .
وسترفعُ قدمكَ إلى الأعلى.
ستبتسم
ابتسامتكَ الجميلة بالشهوةِ والسخرية
وستضحكُ حقاً
[24].
وهو ما يحدد دوره الشعوري في الإفادة من خاصتي التداول
: الاتساق والانسجام التي تناور بينهما قوة التصديق
والتكذيب بين الأداتين ( كيف + هل ) وفيها إحالة إلى
يقينية
مقصودة غالبا ما يتسرب إليها الشك .{ ( كيف + السبيل /
متعلق + تفسير) وهي صغرى قياسا إلى كبراه : هل +
جملتها + تفسير: أن تروض البحر}، ولا ريب فإن تشكل
الإثارة الهامشية بدت لديه واقعة : ربّما + تذكّرت +
قُبْلة + من عسل لاسيما في تنويعه لاستعارة العسل ،
فقد كانت مبتكرة ولأنها
جاءت في
سياقها قائمة على الحكاية وغير راهنة بقرينة (ربما)
المائلة إلى التقليل والتشكيك إلا أنها بدت فاعلة على
مستوى الفعل الجانبي المحايث :
سترى أنكَ قد رأيتَ فجراً
وربّما تذكّرتَ قُبْلةً من عسل
وربّما صعدتَ إلى الماضي.
ستنظرُ إلى البحر:
إنّه
هائلٌ وغامضٌ ومخادع.
فكيف السبيل إلى ترويضه؟
هل يمكنُ لرقصةٍ ساحرة
أنْ تروّضَ البحر؟
[25].
والفعل المحايث مفهوم إن كان في أول تأسيسه هامشيا في
حضور الواقعة التداولية
له إلا أنه
يمكن أن يكون صورة أخرى لافتراض دلالي يوجه الألفاظ
بعيدا عن مراجعها المعجمية: (أو+ أن )+ تروّض + الموت
، معناه، استدعاء المعطى السياقي
في المركب
وهو لاحن عرفا لأن ما من فعل يمكنه أن يروّض الموت .
أو أنْ تروّضَ الموت؟!
(البحرُ أسهلُ من دونِ شك).
ستستديرُ الآن
لتقول:
ما لنا وللموتِ في هذه الساعة النادرة؟
(سحقاً، إذنْ، للموت!)
[26].
الروابط الإنشائية :
إن
إبراز مقومات التماسك النصي لأيّ بنية كلام يخرجها
الاستعمال إلى العلن بحاجة إلى استمكان روابط دلالية
تعين المتلقي وتتقاسم معه مؤلفات التوزيع المباشرة
لبؤر التواصل [27]،
وهي عناصر تشكيل هائلة تمنح جملة الإفصاح هذه بعدا
تنويريا يمكن أن أن تتشظي تنويعاته البيانية على عموم
مركبات الإنشاء . ولا غرابة أن تسهم هذه الخوالف
المعنوية أعني الروابط
بشكل مؤثر في إمضاء الدلالة إلى حيث الإفهام
والمفاهمة وهي أقصى حتمية قبولية متبادلة يستدعيها
إشهار الخطاب التداولي، أو على الأقل اختراع بدائل
لسانية مناسبة تفض الاشتباك الحاصل بين النفس
وتجلياتها العارضة في أي وقت ، عيانية كانت أم ذهنية
،
ويمكن النظر هنا في هذا النص إلى تنويعات مجلية
لإمكانات الرفض والقبول تكتنف بؤرة التأثير في
الرابط
الإنشائي النافي ( لا )
:
وستضحكُ حقاً
ليس من حلمِكَ الذي تناثرَ فوق البحر
ولا من جسدِكَ الذي لم يعدْ يصخب مثلما البحر
ولا من البحرِ الذي لا يستمع لموسيقاكَ الهائلة
فهو مشغول بعُريه الفادح منذ ألف عام.
ستسخرُ. ممن إذن؟
من الرقص؟
لا.
من الرمل؟
لا.
من الحُبّ؟
لا.
من الحظ؟
لا.
من الخوف؟
لا.
ستكررُ لا ولا ألف مرّة
[28].
ويقود الرابط ( لكن ) إلى إقامة علاقة منطقية بين
الجملتين الأولى والثانية في افتقدت الجملتان لأي مظهر
من مظاهر التعالق
[29]، غير أن
المتلقي هنا يلجأ إليها لمتابعة
فهم معضلات
الصورة العيانية : لكن + كما + ترى // عيانية ، ولان
النفس دائما تميل إلى انتزاع مؤكدات لبعض بؤر الكلام
الذي لا نعتاد عليها بسرعة : فإن المؤكدة + الرحلة /
متعلقها
تنتهيان بتحقيق معلن: قد + انتهت /بسرعة
بسبب من هذا ينحدر المتلقي إلى مستويات من
الأداء والمفاعلة، تجعله يمتلك قدرة أقل على متابعة
توصيفات متوالياته اللغوية .
لكنْ،
كما ترى،
فإنّ الرحلة
قد انتهتْ بسرعة
إلى ما ينبغي لها
أو إلى ما لا ينبغي لها.
ولا فرق!
[30].
ولكن مما يمكن أن يحذر منه هنا ،هو الإيغال في
القوانين القسرية لتمثيل الربط
بينها وبين
غيرها من الخوالف الثنائية في إدامة زخم الإقناع : لم
+ يعد ، فالمركب الدلالي هذا قد خرج من وظيفته
الترابطية لتذهب إلى وظيفة أخرى وإن كانت
إنشائية أيضا إلا أنها تحيل الجملة إلى زمن
مغاير تشترك معه في إيداع هذه الصورة الشعرية ، يقرّ
معه ثقل ورزانة الظرف البعدي المشتمل
( هناك ) والجميل في الأمر كله ، قفل الصورة
برائعة التسكين التنغيمي ( إذن ) ، كي يرشح حاضره
الضعيف الآني القصير إلى استمرار دائم ، لأن ذلك يقلل
كثيرا من تراكمات التفويت
على الذاكرة المتخمة
بالتمرد عند الشاعر : لم + تكن + هناك : آلهة
مما حدا بالنسق الرافض(لا) إلى أن يكرّر نفسه
وباحتمالية نصية قوية تمثلت بتظافر دلالات الرابط
النسقي المكرر( الواو) مع متعلقاتها المحظورة {:لا +
أنبياء // لا + مريدون // لا + مُهرّجون } :
لم تعدْ هناك شمسٌ، إذنْ،
فوق صقرك.
ولم يعدْ هناك صقرٌ، إذنْ،
فوق شمسك.
صقرُكَ حلّقَ عالياً عالياً
بعدما سقطتْ شمسُكَ في البحر
ولم تكنْ هناك
آلهةٌ لتستقبلها
ولا أنبياء
ولا مُريدون
ولا مُهرّجون!
[31].
ويحيل أديب كمال الدين المسكوت العقدي إلى وهم افتراضي
مصطنع في مشهد درامي حزين يسوده صوت النون بشكل متراكب
: في جهنم //
باسمين
= يرتعدون أو + في الجنة // واجمين = لا ينطقون ، كما
ينبغي أن لا ننسى أن صناعة التوازي في هذا المقطع كانت
متقنة جدا: يرتعدون + ينطقون علاوة على الترديد
البديعي الجامع بين قوليه: باسمين + واجمين
هذا التشكيل
المموسق غرائبي جدا ، لأنه يصور الموتى
على هذا
النحو المريع وهم يراجعون لوائح أسمائهم .
لكن لا فرق
عنده في
المقابلة بين الجنة والنار وهذا شعريا محبط جدا لكن
أظن أن التخيير هنا في دلالة (أو) هو الفيصل
في وعي
المتلقي لا ( الإباحة ) التي تجبر النص على أبدية غير
مستساغة أو خرافة لغوية رصينة يصعب التعامل معها على
نحو أدائي منفرد :
وفوقَ ساحلكَ الوهميّ
يرقبُ السفنَ وهي تغرق
أو تتيه في الأزرقِ اللانهائيّ
ويرقبُ الموتى وهم يراجعون
لوائحَ أسمائهم
في جهنّم باسمين يرتعدون
أو في الجنّةِ واجمين لا ينطقون
[32].
ما نريد أن نصل إليه ، هو أن الشاعر إذا
أراد
أن يحسن من استخدام أدواته
النظمية عليه أن يحسن الإفادة من سياقات
استخدامه للأدوات الرابطة في نصه ، فهي الأساس وعليها
كل المعول الدلالي ، مثلا الربط المنطقي بـ (كي) هنا
مسوغ
سببي لتعاقب النتيجة بعد إثارة المسبب ( فتحت = كي +
أجد ) وهذا النمط من المركبات يمتلك القدرة على إخراج
المعتاد من الكلام الموصوف، نقول إخراجه من إكراهات
العقل والمنطق، ونقله إلى فضاء الحركة والتجديد :
في الطفولة
فتحتُ يدَ الحرف
كي أجدَ قلمَ حبرٍ أخضر
فوجدتُ وردةَ دفلى ذابلة.
وفتحتُ يدَ النقطة
فوجدتُ دمعةَ عيدٍ قتيل
[33].
وهو فضاء دلالي متقد يحرر إرادة الإنسان في الإقناع
لدى كل من المتكلم والمتلقي بوصفهما منتجين فكريين
،يتقبل احدهما الآخر.
النمذجة الزمانية :
لعل ، ما يمكن أن يتداول على الإبلاغ اللساني، تلك
النمذجة القسرية لمفهوم الرابط الزماني (حين) فهو هنا
يقلب
دلالة الفعل ولا سيما المضارع
من زمنه الإفرادي إلى زمن مستمر ينشأ من
التعليق بين الرابط وفعله ، وبذلك سيكون الرابط محولا
توليديا يضفي على نص الإنشاء بؤرة دلالة ثرية: {حين +
يجلس الحرف // استعارة لاحنة + جملة الجواب ( لا+
تتكلم ) } بسبب ما يبديه الاتساع
النصي بين جملة الرابط وجملة جوابه
من اكتناز معرفي يستنطق الحرف ثيمة شعرية :{
وابكِ/ جملة الرابط
+ حين + يئن م الجواب } وهذا لا يتحقق وحده دون
تتداخل قوانين خطابية أخرى كالتصريح باستعارة غير
العاقل في الجلوس والأنين المسندين إلى الحرف وهذا
محول لساني يواكب
فضاء
الحركة بين زمن النص وحدثه
[34] :
حين يجلس الحرفُ قبالتك
لا تتكلمْ قبل أن يبدأ الكلام.
اصغِ إليه حين ينطق
وابكِ حين يئنّ
وقبّلْه في جبينه المضيء
حين يقبّلك
[35].
إنها
مجموع من الرغبات الكامنة في ذهن المتلقي تنتظر من
يرفع عنها الحجاب، أو هي رغبات مكتنزة يعلنها المتلقي
في دائرة واحدة من دوائر انسجامه :
وحين يشتعلُ الحرف
من الموتِ والحبّ
(وكثيراً ما يشتعلُ الحرف
من الموتِ والحبّ)
ضعْ إصبعكَ على شفتيكَ علامةَ السكوت
وابدأْ كتابةَ القصيدةِ فوق الماء!
[36].
لأنّ المعرفة الواعية التي تنطلق لتؤسس أبعادها
الفكرية تمنح للآخر بؤرة من الإقناع، تجعله يطلبها
لحظة ما يشاء لذلك
يرفع الشاعر يديه إلى السماء : بدعاء (لبيك) وهي خالفة
دلالية مهمة
يتصل جراها التركيب بمحول سياقي آخر مفسر يحاول
أن يخرج تأويله إلى دلالة مخالفة لدلالة الاستسلام
المتأتية من إلقاء القول في (لبيك) : {فعل قولي / أصرخ
+ لبيك + كيف + جملتها } بجذرها ودلالتها ، فضلا عن
تسخيره لوظيفة
(أبي تراب) العلامية من هالة وسيف إلى رفض يأتي خجولا
أول مرة حتى ينقلب إلى ضدية معلنة في وجه الإله : الله
أكبر، بوصفهما مؤلفين مهمين من مؤلفات الانجاز في
الخطاب التداولي، إن الاتصال
الروحي ثقافة
براغماتية مهمة، يستهدف أول ما يستهدف إثارة
الدوافع
النفسية للمتكلمين بمجموعة من المولدات التي تنغرز في
ذاتية ثقافة
التلقي
[37]:
ورأسي أشعث
أصرخ لبّيك،
كيف يُسْلَبُ قلبُ النبوّة؟
لبّيك،
كيف يُغْتَالُ بريقُ سيفِ أبي تراب؟
لبّيك،
كيف تناوشتْ سيوفُ الحثالة
ضياءَ الإله؟
الله أكبر!
[38].
ويستدعيها
إلى منطقة الاتساق بين الرسالة و مضمونها، أو بين
الموضوع ودلالته، ولنقل بين الثيمة وما تسفر عنه ،
وتلك هي غاية قنوات الاتصال كلها ، اللفظية منها
وغير اللفظية .
الاستلزام الخطابي
:
يبدو أن
الاستلزام الخطابي
واحد من قوانين الاقتضاء النصي الذي يسوغ للتعالق بين
أركان جملة الإنشاء وعلى نحو تداولي مهم ، إذ إن الحدث
الخطابي يستلزم لتحققه اقتضاء تحقق مسبب له أو ربما
نتيجة حاصلة ، فلبعض الأقوال خاصية استلزام أقوال أخرى
[39]. إن
إنجازية الرسالة تقتضي أول ما تقتضي ، تبعثر الدلالات
المشكلة لها ومن ثم الجمع
بين هذه المتواليات على أساس أولية الاستلزام ، فالقول
: {كيف + يرقص الأوغاد // كالقردة // يستلزم قوله :
فرحين حد الجنون } ، ولعل مسرب الاقتضاء يكمن في دلالة
/ فرحين / حد الجنون/ الذي يتسق في استلزامه الخطابي
مع رقص القردة .
وهذا وجه تواصلي مقبول .
كيف يرقصُ الأوغادُ كالقِرَدة
فرحين حدّ الجنون؟
كيف يُسْتَبدَلُ حلمُ الأمين
بحلمِ الغدر؟
بل كيف يُسْلبُ قلبُ الأمين
في كوفة الوعد. أيّ وعد
؟
[40].
أن الولوج في صناعة صور الاقتضاء
الدلالية
ينبغي أن
تشترك فيها أفعال الكلام مع كل الأقوال الإنشائية :
فقوله : لم نكن أذكياء // وهي مقولة إنشائية تستلزم
أفعالا كلامية متطابقة : أننا + نعرف // توصيف دلالي=
إن النخلة //توصيف دلالي ، ولا تصنع دلالة الاقتضاء
هنا إلا
بحسب الرابط السببي (إذن) ، تأويل الاستلزام
إننا
لايمكن أن نعرف إننا أذكياء إلا إذا عرفنا إن
النخلة رمز الله
في الاقتضاء .
لم نكنْ أذكياء، إذن،
رغم أننا نعرفُ بهدوءٍ لا يسبقُ العاصفة
أنّ النخلةَ رمز الله
بل هي فاتحة قصيدته الغامضة.
وهي صورة حرفه
وبوّابة نقطته
وبيت نبيّه
[41].
لأنّ الرسالة لا تحتمل واقعة اقتضاء واحدة
فحسب وإنما
هي وعي معرفي متجدد لذا فإن بعض أركان الاستلزام
قد يكون
مغيبا أو مسكوتا عنه لصالح النص
ويترك أمر تجليه للمتلقي حصرا : { أنتِ + معي
// اختفى الطريق = مقولة الاستلزام المغيبة ، تأويلها
: كيف سيكون حال الطريق وأنتِ لستِ معي } .
مثل
كلّ مرّة
اختفى الطريقُ إلى البيت
وأنتِ معي.
فماذا سأقول؟
بل ماذا سأفعل
والظلامُ يحيطُ بي من كلِّ صوب
كما يحيطُ الصبيةُ العابثون بمجنون؟
وكيف لي
وسط ليلٍ يستقبلني بحجارةٍ من سجّيل
أنْ أقودكِ ثانيةً
[42].
فالاقتضاء هنا لا يكون كاملا لكنه متجدد
يتنشط كثيرا بتداعيات المقال والمقام : آخر
الرقصة = آخر النبضة ، معناه ، إن تنشيط الاستلزام
استدعى مركبين مقابل مركب واحد للنتيجة : نزفت آخر
نبضة ـــــــــــ غفوت آخر الرقصة = مررت بين البطين
والأذين ، يعني : أن مرورها بين البطين والأذين ما كان
له أن يتم لولا نزفه لآخر قطرة ومن ثم إغفاءة
ــــــــــ إلى أبد الآبدين ، فمفهوم الاستبطان في
ظاهرة الاستلزام وقانونه الاقتضاء
خاضع كثيرا
لتأويلات العرف ومرجعيات المسكوت عنه وقد يتم
الإبلاغ عن
هذا المسكوت بطرق عقلانية وواعية :
ولكنّي غفوتُ في آخرِ الرقصة
بعدما نزفتُ آخرَ نبضةٍ في قلبي
وآخرَ قطرةٍ من دمي.
غفوتُ
فمررتِ بين البُطين وبين الأُذين
إلى أبدِ الآبدين
[43].
والاستلزام قد يكون خطاب نخبة يمارسه القلّة من
المبدعين، فهو في هذا المقطع ،
التقليل
يترادف كثيرا مع دلالة الشك في الرابط ( لعل ) الراسم
لوعي القلة : 1- تمسك بها ــــــــــ1- علّها تكون
المعين 2- علّها تعلمنا الرقص / وجه الاستلزام
التداولي : مثل الدراويش على باب بغداد ــــــــــ 4-
جملة الاقتضاء : كيف نجمع شظايا الشمس، وهو وعي معرفي
يمارس كثيرا من الضغط على أطراف الرسالة اللغوية بفعل
التكرار الحاصل لدلالة الرابط لعل .
قلتُ
له:
تمسّكْ بها واستعنْ!
علّها تكون المعين لنا
وسط زمجرةِ البحر،
علّها تعلّمنا كيف نرقص
ذاتَ يومٍ
مثل الدراويش على بابِ بغداد
أو علّها تعلّمنا
كيفَ نجمعُ شظايا الشمس
حين يصطادنا الموت
[44].
والاقتضاء هنا يميل إلى
إشاعة
نوع من التتابع في سياق نص الرابط (لذا) ، فضلا عن أنه
يأتي متقبلا على هذا النحو: 1- لأنني خرافة مقدسة 2-
وأنتِ خرافة نُزع منها: التاج والصولجان /
مفسرـــــــــــــ3- الحوار معك لا يجوز، من ضرورات
واقعة الاستلزام أن يمد جذوره إلى أفانين رحبة
من التأويل والتشكيل والتحليل فهذه معطيات نصية ، يجب
أن يظهر على
منوالها ، كثير من استعمالات المتكلم لفرادته في تقانة
الخطاب [45]:
قالت الشجرةُ الوحيدة،
الشجرة التي أزورها كلّ يوم
عند عشّ الطائر ونهاية النهر،
قالتْ: لأنني خرافةٌ مُقدّسة
وأنتَ خرافةٌ نُزِعَ منها التاجُ والصولجان
لذا فالحوارُ معكَ لا يجوز[46]
.
أو لنقل أن قدرة التواصل، وبلوغ الذروة في الإقناع ،
هنا يستلزم أحيانا بعض الرصانة في التشكل اللساني أو
تراتبا عمقيا
خاصا على مستوى تطور البنى ، علاوة على أن
ابتناء
الرابط السببي ( إذن ) لأشكال مختلفة من الاستعارات
المتممة لجمالية الاقتضاء هنا من نحو قوله : رأيت = 1-
لهيب النار 2- لمعان الذهب 3- شباك الحلم 4- دائرة
الرغبة5 - مثلث الجسد
6- جملة الاقتضاء : تهت ، وهو نمط
قد لا يبدو ، للمرّة الأولى سائغا ولأن تمثيل
خطاب التداول ليس بالأمر الهيّن على الشعراء لذلك
وجدنا الشاعر أديب كمال الدين قد أظهر في نصه مرانا
خاصا ومتطورا لأنه استطاع أن يخضع بناه
المعرفية للمنطق التداولي بسهولة متناهية مع كثير من
التأمل
ورهافة حادة
في التعامل مع إشعاعات الألفاظ وإيماضات الصورة:
إذن، تهتُ وأنا أنظرُ إليك،
ففيكِ رأيتُ لهيبَ النار
ولمعان الذهب
وشبّاكَ الحلم
ودائرةَ الرغبة
ومثلثَ الجسد
[47].
يعني، إن
الإبلاغ في الرسالة بحاجة إلى أفانين من التعجب في
الحجاج الفكري :{ أنت + اقترحت 1- للرفقة دمعة= ضحكة
2- للفرات عنوانا 3- للعيد فجرا = أرجوحة
ــــــ كيف + مت
} .
يعني أن موتك
ما كان له أن يحدث لأنك أنت من اقترحت الطيب عنوانا
عاما في العيد والفجر والضحكة . إن مثل هذه الأنساق
التقانية
قد تعين الشاعر في الوصول إلى دالته الغائية
إلا أن المداومة على تنميطها أو الاستعانة بقواعد
التنصيص الأخرى في التماسك والتتابع والربط
قد تكون
كفيلة بإيصال الرسالة الخطابية
في الإنجاز
على نحو أدق من
السلاسة والتيسير .
كيف متَّ
أنتَ الذي اقترحتَ للعيدِ فجراً وأرجوحة،
وللفراتِ عنوانه السعيد،
وللرفقةِ دمعةً وضحكة
[48].
ولابأس من استخدام إمكانات السيمياء
في الاستلزام
فـ (الرأس)
عند الشاعر هنا مرآة لذات صادمة : { رأسي = حُمِلَ +
فوق + الرماح // جمل الاستلزام : 1- من واقعة إلى
واقعة 2- من عطش إلى عطش 3- من بلد إلى بلد
ــــــــــــ جملة الاقتضاء: فهو شمسي = هو + مَن
سيذكرني + الرابط الشرطي + جملته / هلّ اسمي} فتحرير
تراتب نظام
الاقتضاء هذا فيه شيء كثير من العنت على المتلقي أو
على الصورة الذهنية حتى قبل تشكلها العلني لأن
دوائر التواصل قد لا تتسع لكل هذا الكم
الهائل من
الاتساع الدلالي
أو من التراكب الصوري المجحف ، وهو لا ريب سيطرح لدى
المتلقي العرفاني تساؤلات مهمة حول جدوى هذه التقانة
الموغلة في الحفر اللساني :
قال: اتركوه فهو شمسي.
هو مَن سيذكرني كلّما هلَّ اسمي.
وسيكتبُ عن رأسي وقد تناهبه الغبار
وحُمِلَ فوق الرماح
من بلدٍ إلى بلد
ومن عطشٍ إلى عطش
ومن واقعةٍ إلى واقعة
[49].
الخاتمة :
إن تطلب قيم شعرية تراود ظلال الإقناع في مبادلة
إنجازية أو مناورة نصية أساسها الاقتضاء ينبغي أن يكشف
في المحاججة عن غور دفين من
خطابات
تداولية مفارقة احتفلت بها
مجموعة : (
أقول الحرف وأعني أصابعي ) للشاعر أديب كمال الدين ،
فالباحث في هذه المجموعة سيذهل أيّما إذهال عندما يرى
أن لغة المجموعة تمتلك قدرا كبيرا من إمكنات التمظهر
القويم في منواله النحوي وقدرا لا بأس به من التنوع في
استثمار روابطه النصية وصيرورة مغايرة في اعتماده
أنظمة استلزام
تداولية توزعت على سياق مركبات الإنشاء وغيرها
من أفعال الكلام ، إن الخوض في تقانات الشاعر أديب
كمال الدين التداولية لا تتم إلا بمتابعات محايثة ،
تتشكل أو يتشكل على ضوئها بيان الإنجازية الأول في
الشعر العراقي الحديث ربما لقدرة فعل الحفر لديه أو
لما يتأتى له من
بوادره نفسية ومنازع معرفية
فضلا عن
اغترافه لمعين لا ينضب من تشوّفات صوفية ، و إيماضات
عرفانية
رافق كل ذلك تناسق لأنظمة كلية لسانية سعت إلى
إثارة الآخر
في إحساسات العرف أو هدفت إلى بعث الخراب في بعض
انزياحات النظام ، لنقل إن استخدامه لغائية مفرطة في
الحنين إلى موئل الهجرة الأولى : البحر والسفينة
وإنسانية مرجعيات الكون لديه وانتظام الوجود وإيقاع
لغته السردي كان
الملهم الأول له في تبنيه لتشكيل آلية إبلاغ خاصة
بخطابه التداولي .
المصادر والمراجع
[1]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ، أديب كمال الدين ، الدار
العربية للعلوم ناشرون ،
بيروت ، لبنان ، ط1 ، 2011 م
2- علم اللغة العام ، دوسوسير ، ترجمة : د. يوئيل يوسف
عزيز ، سلسلة آفاق عربية ، بغداد ،1985 م
3- القاموس الموسوعي للتداولية، جاك موشلر و آن ريبول
، ترجمة : مجموعة من الباحثين ، تونس ، دار سيناترا
،2010 م
4- اللسانيات وتحليل الخطاب ، د. رابح بو حوش ، عالم
الكتب الحديث ، جدارا للكتاب ، عمان ، الأردن ، ط1 ،
2007 م
5- اللسان العربي واشكالية التلقي ، حافظ اسماعيل
عليوي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ،لبنان
،2007 م
6- المصطلحات الأساسية في لسانيات النص،
د.نعمان بو قرة ،دار جدارا ، عمان ، الأردن ،
ط1 ، 2009 م
7- المصطلحات المفاتيح في اللسانيات ، ماري نوال غاري،
ترجمة: عبد القادر الشيباتي،الجزائر، ط1 ، 2007 م ،
8- النظرية الأدبية المعاصرة ، رامان سلدن ، ترجمة :
د. جابر عصفور ن دار قباء ، القاهرة ،1988 م
9- النظرية اللغوية العربية الحديثة ، د. جعفر دك
الباب، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق،1996 م
[1]
-
القاموس الموسوعي للتداولية، جاك موشلر و آن
ريبول ، ترجمة : مجموعة من الباحثين ، تونس ،
دار سيناترا ،2010 م ،ص29
[2]
- المصطلحات الأساسية في لسانيات النص،
د.نعمان بو قرة ،دار جدارا ، عمان ،
الأردن ، ط1 ، 2009 م ن ص36
[3]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،
أديب كمال الدين ، الدار العربية للعلوم
ناشرون ،
بيروت ، لبنان ، ط1 ، 2011 م ، ص 11
[4]
- مجموعة : أقول الحرف وأعني أصابعي ، ص 13
[5]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 14
[6]
- القاموس الموسوعي للتداولية ، ص34
[7]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ، ص 14
[8]
- المصدر نفسه والصفحة نفسها
[9]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ، ص15
[11]
- اللسان العربي واشكالية التلقي ، حافظ
اسماعيل عليوي، مركز دراسات الوحدة العربية،
بيروت ،لبنان ،2007 م، ص 126
[12]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ، ص16
[13]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 17
[14]
- المصطلحات المفاتيح في اللسانيات ، ماري
نوال غاري، ترجمة: عبد القادر
الشيباتي،الجزائر، ط1 ، 2007 م ، ص22
[15]-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 17
[16]
- المصطلحات الأساسية في لسانيات النص ، ص36
[17]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 18
[18]
-
اللسانيات وتحليل الخطاب ، د. رابح بو
حوش ، عالم الكتب الحديث ، جدارا للكتاب ،
عمان ، الأردن ، ط1 ، 2007 م ، ص102
[19]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص
18
[20]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 19
[21]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص19
[22]
- علم
اللغة العام ، دوسوسير ، ترجمة : د. يوئيل
يوسف عزيز ، سلسلة آفاق عربية ، بغداد ،1985 م
، ص183
[23]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 19
[24]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 20
[25]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 21
[26]
- المصدر نفسه والصفحة نفسها
[27]
- المصطلحات الأساسية في تحليل النص ، ص45
[28]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص
22
[29]
- المصطلحات المفاتيح في اللسانيات ، ص33
[30]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 24
[31]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 26
[32]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص
30
[33]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 32
[34]
- النظرية الأدبية المعاصرة ، رامان سلدن ،
ترجمة : د. جابر عصفور ن دار قباء ، القاهرة
،1988 م ن ص21
[35]
-أقول
الحرف وأعني أصابعي ،ص 34
[36]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص34
[37]
- المصطلحات الاساسية في لسانيات النص ، ص 93
[38]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 38
[39]
- القاموس الموسوعي للتداولية ، ص 28
[40]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 38
[41]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص40
[42]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 42
[43]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص43
[44]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 47-48
[45]
- النظرية اللغوية العربية الحديثة ، د. جعفر
دك الباب، منشورات اتحاد الكتاب العرب ،1996 م
، ص 230
[46]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 52
[47]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 56
[48]
-
أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 58
[49]
- أقول الحرف وأعني أصابعي ،ص 67-68
****************************************
نُشرت في جريدة الزمان
بتاريخ 4 آب - أغسطس
2015 العدد 5172
|