بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف الألِف
شعر
أديب كمال الدين
الدار العربية للعلوم ناشرون،
بيروت، لبنان، ط 1، 2012
الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد
الرابع
منشورات
ضفاف، بيروت، لبنان ، 2018
الترقيم
حسب طبعة
المجلد الرابع
لوحة الغلاف للطبعة الأولى
الفنان علي رشيد
المحتويات
مُفتَتَح 17
موقف الألِف 18
موقف الخطأ 23
موقف الرَّحيل 24
موقف المهد 25
موقف الظلام
27
موقف الوحشة 28
موقف الصبر 30
موقف الشَّوق 32
موقف الاسم
34
موقف
الحرف
36
موقف الحيرة
38
موقف الغُربة
40
موقف
النُّون 42
موقف الكلام
44
موقف الجسد
45
موقف الرُّوح
47
موقف الحلم
48
موقف نُوح 50
موقف إبراهيم 52
موقف يعقوب 54
موقف الخضِر 56
موقف عيسى 58
موقف المُصطفى 60
موقف عليّ 62
موقف كربلاء 64
موقف دُعاء كُمَيْل 66
موقف الخوف 67
موقف العزّة
69
موقف الأين
71
موقف الكتابة
72
موقف الباب 73
موقف المطر 77
موقف الماء 78
موقف الغرق
80
موقف النهر
81
موقف الطائر
82
موقف السَّجدة
83
موقف الأنا 84
موقف البياض 85
موقف كلّ يوم
86
موقف السِّجن 87
موقف الحاجب
88
موقف الندم
90
موقف الدَّمعة 91
موقف الطاغية
92
موقف الأوّل والآخِر
94
موقف الذهب 96
موقف قسوة القلب
97
موقف السَّلام 98
موقف الحجاب 100
موقف البيت
101
موقف الحمد
103
موقف الدائرة
104
موقف الجَنّة 105
بسم الله الرحمن الرحيم
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ
مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا
شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ
يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ
لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ
عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ
لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ
لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ)
سورة النور - الآية 35
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ
يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ
وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ
الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)
سورة يُوسُف - الآية 84
مُفتَتَح
اقتَبسَتُ مِن النِّفَّريّ جُملةَ
البَدْء
ومِن دمي جُملةَ المُنتهى.
وما بين الجُملتين
بعينين دامعتين
وقلبٍ يشبهُ شجرةَ الأمل
كتبتُ كتاباً في مدحِ ملكِ
الملوك،
ذاك الذي يقولُ للشيء كُنْ فيكون،
سَمّيتُه: لوعة عابرِ سبيل.
ثُمَّ عُدتُ فَسمّيتُه:
نقطة شوقٍ وحرف أنين.
ثُمَّ تأمّلتُ سبعين مَرّة
في سنّارةِ السِّنين،
تأمّلتُ مثل صيّاد
اصطادَ سمكةً في بطنِها ليرة ذهب،
لأُسمّيه: مواقف الألِف
في اقتفاءِ أثرِ التائبين
والتائهين والعاشقين.
موقف الألِف
1.
أوقَفَني في موقفِ الألِف
وقال: الألِفُ حبيبي.
إن تقدّمتَ حرفاً،
وأنتَ حرفٌ،
تقدّمتُ منكَ أبجديةً
وقدتُكَ إلى أبجديةٍ من نور.
وقال: سَيُسمّونكَ "الحُروفيّ".
فَتَبصّرْ،
فالليلُ طويلٌ والراقصون كُثر،
وهم أهلُ الدُّنيا وأنتَ مِن
أهلي.
فكيفَ سيكون بَصَرُك؟
وكيفَ ستكون بَصيرتُك؟
وكيفَ ستختار نجمَك،
وأنتَ لستَ ممَّن يقرأ الشَّمس
أو طالعَ الشَّمس
ولا بالذي يقتفي أثرَ القافلة
بحثاً عن الذهب،
ولا بالذي يقودُ الشِّراعَ في
البحر
بحثاً عن الجزيرةِ المفقودة؟
فكيفَ ستختار نجمَك؟
أعرفُ أنّكَ ستقول: "الغريب".
لكنّ هذا لا يُجيب.
وستقول: "المَنفيّ" أو "المَحروم"
أو "الضائع"
أو "المُمتَحن" أو "المُشتاق" أو
"السَّجّاد"
أو "المَنسيّ" أو "المُتضرّع" أو
"المُنوّن"
أو "المُتصوّف" أو "الزاهد" أو
"العارف".
وكلّ هذا لا يحيط.
هو يشيرُ إلى الجزءِ، وأنتَ في
الجزءِ أجزاء.
وهو يشيرُ إلى المعنى،
وأنتَ في المعنى قلب.
وهو يشيرُ إلى القلب،
وأنتَ في القلبِ طفل.
وهو يشيرُ إلى الطفل،
وأنتَ في الطفلِ حلم.
وهو يشيرُ إلى الحلم،
وأنتَ في الحلمِ نهر.
فَتَبصّرْ،
كيفَ سأسقيكَ من أنهارٍ من عَسلٍ
مُصفّى،
أنهارٍ لذّة للشاربين
لا فيها لغوٌ ولا تأثيم؟
وكيفَ ستجلس في مقعَدِ صدْقٍ عندَ
مليكٍ مُقتدر؟
كيفَ وقد قالَ مَن قال:
يا ليتَ قَومي يعلمون.
فكيفَ سيعلم بكَ قومُك
وهم يجهلون نجمَك؟
وكيفَ تبصرُ ويبصرون،
وأنتَ الذي يتقاذفكَ الليلُ جمراً
والنهارُ ثلجاً
والفجرُ صلاةً
والظهرُ ارتباكاً
والغروبُ بحراً
والعصرُ بكاء؟
2.
ثُمَّ انتبهَ إلى دمعتي وقال:
ستصعدُ يا عبدي درجاً،
كلّ درجةٍ بألف،
وكلّ ألفٍ بمائة،
وكلّ مائةٍ بكفّ،
وستحتار أيّها أقرب.
ولكنّ الوقت ليسَ وقت تأمّل،
فاقرأْ واصعدْ.
وفي كلِّ صعود
قل اللهمَّ
مالكَ المُلْكِ تُؤتي المُلْكَ
مَن تَشاء
وتنزِعُ المُلْكَ ممَّن تَشاء.
ثُمَّ قلْ:
اللهمَّ أنقذْني من قسوةِ الصحراء
وقرّبْني من فجرِها.
وأنقذْني من غدرِ البحر
وقرّبْني من زرقته.
وأنقذْني من الفتنة
وعلّمْني سرَّها
حتّى ألبسه خاتماً.
وأنقذْني من الشِّراع
واجعلْه أبيضَ كقلبي.
وأنقذْني من السَّواد
واجعلْ لي هيبته وخطاه.
وأنقذْني من الثرثرة
فلا أنطقُ إلّا رمزاً.
وأنقذْني من الهمسِ وأعطني شفتَه.
وأنقذْني من صعودِ القلبِ إلى
الحنجرة.
ومن صعودِ الكفّ
حتّى كأنّها تلمسُ الغيم
وهي تستغيث
ولا مغيث لها سواي،
ومن صيحةِ الضَّعْف
حتّى أن لا سامع لها إلّا أنا،
أنا الذي أقرب إليكَ من حبلِ
الوريد.
وقل اللهمَّ إنّي عَاشقٌ وَمُحبّ،
مُحبٌّ ومفتون،
مفتونٌ تتقاذفه الدروبُ والبلدانُ
والسِّنين.
خلقتَني فكنتُ لكَ باب سؤال،
وبيت كلمة،
وشبّاك سرّ.
فاجعلْني من العابرين إلى شمسِك،
شمسكَ التي تبدأُ بالياء وتنتهي
بالسِّين.
إذْ ما كنتُ يا مَن يقولُ للشيء
كنْ فيكون
ما كنتُ إلّا حرفاً،
ما كنتُ إلّا ألِفاً
مَصيري إلى التُراب
إذ خلقتني من طين.
موقف الخطأ
أوقَفَني في موقفِ الخطأ
وقال: أنتَ خطأٌ يتكرّر.
كلّما انتهى إلى الحقّ
عادَ فوراً إلى الخطأ.
ما أن تُشْفَى مِن خطأ يا عبدي
حتّى يتدارككَ خطأٌ أكثرُ قسوة
وأكثرُ رماداً.
كيفَ يحدثُ هذا ودمعتُكَ لا
تفارقُ عينَك؟
كيفَ يحدثُ هذا وشمسي تُحيطُ
بقلبِك؟
كيفَ وقد عبرتَ سبعاً من لُغاتِ
الجَمر،
وسبعاً من معارك الكَفَرةِ
الفَجَرة،
وسبعاً من بوّاباتِ مدنِ
السُّفهاء،
وسبعاً من تُفّاحاتِ حَوّاء،
وسبعاً من سكاكين صويحباتِ يوسف؟
موقف الرَّحيل
أوقَفَني في موقفِ الرَّحيل
وقال: من رحلةٍ إلى رحلة
ستقضي العمرَ يا عبدي.
فإن ودّعتَ ضياءً
فسترى ضياءً آخر.
وإن انقلبتْ بكَ السَّفينة
فستنقذكَ سفينةٌ أخرى.
وإن غرقَ البحرُ فيك،
وكثيراً ما سيغرقُ البحرُ فيك،
فسينجيكَ شاطئٌ من الجمر
أو شاطئٌ من الفجرِ أو المجهول.
وإن أكلكَ الذئب
فقميصُكَ حَيّ،
بدمِه الحَيّ،
إلى يوم يُبعَثون.
موقف المَهد
أوقَفَني في موقفِ المَهد
وقال: وضعتُكَ، إذ خلقتُكَ، في
المَهد.
وكانَ مَهدُكَ على الماء
يتنقّلُ من نهرٍ إلى نهر
ومن بحرٍ إلى بحر،
والشَّمسُ تحيطُ به
ثُمَّ تغربُ إلى سوادٍ عظيم
والنَّجمُ يحيط ُبه
ثُمَّ يغرقُ فيه شيئاً فشيئاً،
وأنتَ في المَهد
تنظرُ وتبكي: إلى أين؟
وقلبُكَ فارغٌ كفؤادِ أمّ موسى.
ثُمَّ تكبرُ وتشيخُ وتهرم
وأنتَ في المَهد تنظرُ وتتأمّل
لتتساءلَ أو لتصرخَ: إلى أين؟
وقلبُكَ فارغٌ كقلبِ يعقوب
حينَ لم يعدْ إليه من يوسف
غير القميص المُلطّخ بالدمِ
والأكاذيب.
ثُمَّ تصمتُ دهراً فدهراً،
فإذا كلمةُ أين
قد تكسّرتْ وتبعثرتْ فوقَ الماء
ولم تبقَ منها سوى نقطة النُّون.
موقف الظلام
أوقَفَني في موقفِ الظلام
وقال: الظلامُ يحيطُ بك
مِن كلِّ صوبٍ يا عبدي.
فَعَلامَ الهرب؟
وَعَلامَ التعب؟
إن تصوّرتَ أنَّ للجسدِ شمساً
أو أنَّ للحلمِ أَلَقاً
أو أنَّ للذهبِ روحاً
فأنتَ مِن الواهمين.
أنا شمسُك
أنا شمسُ قلبِك
أنا شمسُ قلبِ حرفك
أنا نقطتُكَ التي هي مركز الكون،
نقطتُكَ السابحةُ في ظلامٍ عظيم.
موقف الوحشة
أوقَفَني في موقفِ الوحشة
وقال: الوحشةُ داءٌ قديم.
فما بلغَ مبلغكَ منه يا عبدي؟
قلتُ: الواو سقتْني السُّمّ
والحاءُ أجهزتْ عليَّ بالسيف،
فخرجتُ من الحفلة
متنكّراً بهيئةِ عابرِ سبيل.
قالَ: سأزيلُ الوحشةَ عن قلبِك
وإن كانتْ بحجمِ جبلِ أُحد.
ادخلْ إلى الحفلةِ ثانيةً،
يا عابرَ السبيل،
وذكّر النَّاس
فالنَّاس سُكارى
وما هم بسُكارى.
ذكّرْهم بقافي وقرآني،
بزلزلتي وسُبحاني.
ذكّرْهم فالنَّاسُ غرقى
والناجون قلّةٌ وقليل.
وأنتَ من الناجين
وإن أبحرتَ على خشبةٍ من طين.
فستنجيكَ بِاسمي الذي تدعوني به
حينَ تحاصرُكَ الدَّمعة
وتتلبّسُكَ الدَّمعة
فتصيرُ كلّكَ دمعة.
فتعرف أن لا ملجأ منّي
إلّا إليّ
وتعرف أن اسمي
هو الحَيّ الباقي،
والكلُّ فناءٌ مُطلق،
أن اسمي هو الحَيّ القَيّوم.
موقف الصبر
أوقَفَني في موقفِ الصبر
وقالَ: الصبرُ امتحانٌ عظيم.
فماذا ستفعلُ يا عبدي؟
أعرفُ أنّ كلماتكَ سترتبك
وينهار معناها
مثل جبلٍ من الثلج
وستدمع عيناكَ مثل طفل ضائع
في السُّوق.
أين منكَ إرادة يوسف الصّدّيق؟
وأين منكَ حلم يعقوب
وقد ابيضّتْ عيناه من الحُزْنِ
فهو كَظيم؟
وأين منكَ، قبل هذا، صبر نوح
وإبراهيم وأيّوب؟
وأين منكَ صبر مَنْ أرسلتُه رحمةً
للعالمين؟
وأين منكَ صبر الأوّلين:
صبر عليّ والحُسين؟
أين وأين وأين؟
أين وقد أنفقتَ حياتَكَ
في عاصفةٍ تتلوها عاصفةٌ،
وفي نارٍ تتلوها نار،
وفي طوفان يتبعهُ طوفان،
وفي أُحُد تتبعُها أُحُد،
وفي كربلاء تلدُ كربلاء جديدة،
وفي منفى يتبعهُ منفى:
منفى أبعد مِن السَّماء
وأقرب مِن حَبلِ الوريد؟
موقف الشَّوق
أوقفني في موقفِ الشَّوق
وقال: أحَسِبتَ أنّكَ اشتقتَ
إليَّ وحدك
وبكيتَ دمعاً ثقيلاً
وكتبتَ حرفاً وكلمةً وقصيدةً
وكتاباً؟
أراكَ، إنّي أراك
في حيرتِكَ تتردّد
وفي سؤالِكَ تنهار
وفي غربتِكَ تتشظّى
وفي يومكَ المرّ
تغربُ ثُمَّ تشرق
ثُمَّ تحترقُ ثُمَّ تغرق
ثُمَّ تزّلزلُ ثُمَّ تنجو
ثُمَّ تطفو ثُمَّ تنام
ثُمَّ تموتُ ثُمَّ تحيا
لترتّلَ القرآنَ ترتيلا.
أراكَ، إنّي أراك
في شوقِكَ العارمِ المستجير
يوماً بعدَ يوم
وفصلاً بعدَ فصل
وعمراً بعدَ عمر،
فأتجلّى لكَ في كلِّ حرفٍ
من حروفِ القرآنِ يا عبدي.
موقف الاسم
أوقَفَني في موقفِ الاسم
وقالَ: ما اسمكَ يا عبدي؟
قلتُ: النُّقطة.
قالَ: بل الحرف والنُّقطة جزءٌ
منه.
ثُمَّ قال: ما اسمك؟
قلتُ: الحرف.
قالَ: بل الحُروفيّ والحرف جزءٌ
منه.
ثُمَّ قالَ: ما اسمك؟
قلتُ: الحُروفيّ.
قالَ: بل الصُّوفيّ والحُروفيّ
جزءٌ منه.
ثُمَّ قالَ: ما اسمك؟
قلتُ: الصُّوفيّ.
قالَ: بل العارف والصُّوفيّ جزءٌ
منه.
قلتُ: أنا العارف،
فَلَكَ الحمد ملء السَّماوات
والأرض.
وبكيتُ على السّجّادةِ الخضراء
حتّى اخضلّتْ روحي.
قال: ما لكَ تبكي كلّما خاطبتُك
حتّى تخضّل روحُك؟
قلتُ: أغثْني ثُمَّ أغثنْي.
قال: إنَّ لكَ عندي وِرْداً مِن
نور:
سبحانَ الله
والحَمدُ لله
ولا إلهَ إلّا الله
واللهُ أكبر.
فإن صادفَكَ ذئبٌ بشريٌّ أو ذئبٌ
كَلْبيّ
فاقرأْه بوجهِه
فسيهرب منك
يجرّ هزيمتَه جَرّاً.
خُذْ هذا السِّرَّ مِنّي
جوهرةً تتلألأُ مِن عَرشي
حتّى تصلَ إلى مثواكَ بأقصى
الأرض.
موقف الحرف
أوقَفَني في موقفِ الحرف
وقالَ: الحرفُ حرفي والنُّقطةُ
نقطتي.
فكيفَ لكَ أن تفهمَ سرَّ خُلودي
وأنتَ الذي يحملُ الموت
في نبضةِ القلب؟
وكيفَ لكَ أن تتجلّى في ملكوتي
وأنتَ الذي يبكي على جرعةِ ماءٍ
ورغيفِ خبز؟
وقالَ: الحرفُ حرفي
ستجدهُ في كهيعص
وألم وطه ويس وق ون.
فكيفَ لكَ أن تتقبّلَ سرَّ
السِّرّ
وأنتَ الذي تتقاذفُه المنون
ليضيع في البحارِ والبلدان
وفي سناّرةِ السِّنين؟
هل حمّلتُكَ ما لا تطيق
وأنا الرَّحيم يا عبدي؟
النُّونُ كانتْ نقطتي
فلا تكنْ كصاحبِ النُّون
إذ تدراكتُهُ وهو ما بين الخيط
الأبْيَض
من الخيطِ الأسْوَدِ من الموت.
بل كُنْ ك(يس)
كُنْ ك(طه)
إذ أسريتُ به
وقلتُ له في حضرةِ العرشِ:
صِفْني.
فقالَ: إلهي.........
وبكى مِن هيبتي وَجَمالي
وبكى مِن عِزّتي ورحمتي وجلالي.
فخشعتْ لصدقه السَّماواتُ والأرض
وأشرقتْ لنبضِ قلبه شمسُ عرشي.
موقف الحيرة
أوقَفَني في موقفِ الحيرة
وقال: خلقتُكَ يا عبدي وأنا أعرفُ
حيرتَك.
حيرتكَ أكبر من البحر
وأقسى من الصحراء،
أبعد من الغيم
وأقرب من القُرب.
فكيفَ ستنجو منها
وأنتَ كلّما صُمتَ
ظهرَ لكَ العسلُ شَهيّاً
فارتبكتَ؟
وكلّما تَرمّزتَ
ظهرَ لكَ المَخفيُّ جَليّاً
فأعلنتَ؟
لِمَ لا تكتفي بالصومِ إلى الأبد؟
ولِمَ لا تلبس ثوبَ الحرمان
وهو ثوبكَ منذ الأزل؟
الحيرةُ ستأكلكَ أكلاً جَمّاً.
وستضيعُ وأنا أنظرُ إلى حيرتِك
وهي تحيطُ بكَ من الجهاتِ الأربع،
فَتَمسّكْ وَتَنسّكْ وَتَماسَكْ!
فإنّي أخافُ عليكَ من غدرِ البحر
ومن عاصفةِ الصحراء
ومن ضياعِ الغيم
ومن حَبلِ الوريد.
وهل هنالك خوفٌ أعمق من حَبلِ
الوريد؟
موقف الغُربة
أوقَفَني في موقفِ الغُربة
وقال: الغُربةُ تبدأُ من الرُّوح
فحذارِ من غُربةِ الرُّوحِ يا
عبدي.
ثُمَّ تنتقلُ إلى القلب
فحذارِ من غُربةِ القلب
ثُمَّ إلى اللسان
ثُمَّ إلى الأصابع
ثُمَّ إلى الجسد.
وقال: الغُربةُ غُربة الليل
أسلخُ منه النهار.
ثُمَّ غُربة النهار
لولا الشَّمس
وهي تجري لمُستقرٍ لها.
ثُمَّ غُربة النُّجوم
لولا مواقع النُّجوم.
ثُمَّ غُربة نُوح والفُلْكِ
المَشحون
ثُمَّ غُربة صالح في ثَمُود
وغُربة موسى وعيسى.
وقبلهما غُربة يوسف ويعقوب
ثُمَّ غُربة مَن أرسلتُه رحمةً
للعالمين
ثُمَّ غُربة رأس الحُسين.
وقال: مَن عَبَدَني نجا مِن
الغُربة.
ومَن أحَبّني قهرَ الغُربة.
ومَن عشقني كانت الغُربةُ عنده
نَسْياً مَنسيّاً.
موقف النُّون
أوقَفَني في موقفِ النُّون
وقال: اعلمْ أنَّ النُّونَ هي
السَّفينة
والنُّقطة نقطة ذي النُّون يا
عبدي.
واعلمْ أنَّ النُّونَ هي المرأة
والنُّقطة هي المَسرّة.
واعلمْ أنَّ النُّونَ هي الدُّنيا
والنُّقطة هي الشَّمس.
ثُمَّ قال: إنّ مَن عرفَ النُّونَ
فقد أبصر.
ومَن أبصرَ خفّفَ الوطء
وعرفَ أنَّ الكلّ إلى القبرِ
يَسعى،
فَتَحضّرَ للميعاد
قبلَ أن يأزف الميعاد.
ثُمَّ علمَ أنَّ كلّ نعيمٍ
منقلب ذات يومٍ إلى رماد،
فَتَمسّكَ بالقاف.
ثُمَّ علمَ أنّ مَن يعرف القاف
سَيلقى مِحَناً لا تُحصى،
أهونها الغربة، فَتَستَّرَ.
ثُمَّ علمَ أنَّ كلّ مُتَسَتِّر
يحملُ قَدَرَه
مكتوباً ما بين عينيه الدامعتين.
ثُمَّ علمَ أنَّ كلّ دمعةٍ هي
سجدة،
وكلّ سجدةٍ هي طائر سعد،
وكلّ طائر سعدٍ هو نون.
موقف الكلام
أوقَفَني في موقفِ الكلام
وقال: إنّك لتتكلّم بكلامٍ غريب
فلا تُفهَم ولا يُستجابُ لك.
كلامكَ الغريب لا يفهمه أحدٌ سواي
ولا يفهمه إلّا مَن كانَ غريباً
مثلك.
فعلامَ تكلّم النَّاسَ إذن؟
كلّم الغرباءَ ليفهموا الإشارة
ولنْ يعطوكَ شيئاً
لأنّهم لا يملكون شيئاً من
العِبارة.
وكلّمْني فسأسمعك
وأعطيكَ حينَ أشاء
ما أشاء
لا ما تشاء يا عبدي.
موقف الجسد
أوقَفَني في موقفِ الجسد
وقال: يا عبدي
ما خلقتُ شيئاً أوسع من الجسد
ولا أضيق منه.
فهو أوسع من البحر
وأضيق من القبر،
أكبر من الجبل
وأعمق من الزلزال.
هو لغةُ الإنسان
وآثاره التي لا تنتهي على الرمل.
هو عشقُه وحبُّه وموتُه المؤجَّل.
هو عذابُه اليوميّ وشغْلُه
المؤبَّد.
هو كأسُه وخمرتُه،
رغيفُه ولحمُ طيره،
عسلُه وسمُّه،
حرفُه ونقطتُه.
يا عبدي
مَن روّضَ الجسد
فقد حِيزَتْ له الدُّنيا
بحذافيرها.
ومَن أطلقَ عنانَ الجسد
كانَ كالجَملِ الذي يموتُ عطشاً
والماء محمول على ظهرِه العطشان.
موقف الرُّوح
أوقَفَني في موقفِ الرُّوح
وقال: هوذا سرّكَ الأعظم يا عبدي.
فأنتَ لن ترى الرُّوحَ حتّى تموت
والرُّوح لن تراك.
لكنّكَ ستتخيّلُ الرُّوحَ وردةً
تارةً
ونهراً تارةً أخرى.
وتتصوّرها حلماً تارةً
ووهْماً تارةً أخرى.
وتناديها ملاكاً تارةً
وشيطاناً تارةً أخرى.
وترسمُها سواداً خالصاً تارةً
ووميضاً ساطعاً تارةً أخرى.
وتكتبُها لاماً تارةً
وهاءً تارةً أخرى.
والرُّوح هي كأسي
والكأس لي وحدي
لا شريكَ لي في جَلْسَتي ولا
سرِّي.
موقف الحلم
أوقَفَني في موقفِ الحلم
وقال: يا عبدي حلمُكَ يشبهُ أرضاً
تشقّقتْ من العطش.
فإذا أنزلنا عليها الماء
اهتزّتْ وَرَبتْ
لتنبتَ عُشباً وفاكهةً وطيراً
ثُمَّ إذا توقّفَ المطر
عادتْ إلى عطشِها القديم.
هذا هو حلمُك:
حاءٌ محكومةٌ بالفناء
من قبل ومن بعد.
فكيفَ الخروجُ إلى الباء
ليكون حلمُكَ حُبّاً؟
بل كيفَ الخروجُ إلى اللامِ
والميم
ليكون الحلمُ حلماً؟
حاؤكَ أرضٌ محكومةٌ بالعطش
وسماءٌ محكومةٌ بكثرةِ الغيم.
فلا الأرضُ عرفت المطر
إلّا كما عرفَ نوح سفينتَه.
ولا السَّماءُ عرفت الشَّمس
إلّا بعد أن أُغْرِقت الأرضُ
بالطوفان.
موقف نُوح
أوقَفَني في موقفِ نُوح
وقال: يا عبدي
أرأيتَ إلى صَبرِ نُوح،
وعذابِ نُوح،
ومحنةِ نُوح،
وسفينةِ نُوح؟
أرأيتَ وقد قامَ بالقومِ ألفَ سنة
إلّا خمسين عاماً
وهو يذكّرهم بآياتي
فما يزدادُ القومُ إلّا كُفْراً
وطغيانا.
ثُمَّ قال: ربّي إنّي مَظلومٌ
فانتصرْ.
فأوحيتُ إليه أن أصنع الفُلْك
واحمل في سفينتِكَ مِن كلِّ
زَوْجَين اثنين
ومَن آمنَ وما آمَن مَعهُ إلّا
قَليل.
فاذا أزفت الآزفةُ وفارَ التنّور
فستجري سفينتُكَ في مَوجٍ
كالجِبال.
ثُمَّ قلتُ: يا سَمَاءُ أقْلِعِي
فغِيضَ الماء
واستوتْ على الجُودِيّ
وقيلَ بُعْداً للقومِ الظالِمين.
ثُمَّ إنّ نوحاً قال: "ابني!"
وقد عَقّ ابنُهُ ربَّه وأباه.
فقلتُ: إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِح
فكانَ من المُغْرَقين.
أرأيتَ كيفَ حملَ نُوح الأمانة
وَصَبرَ وكانَ صبره كجبلِ أُحد
وعبرَ الطوفان
والنَّاس غرقى
في يومٍ كأنّه يوم القيامة؟
موقف إبراهيم
أوقَفَني في موقفِ إبراهيم
وقال: يا عبدي أرأيتَ إلى خليلي
إبراهيم
وكيفَ انتقلتْ به الدُّنيا
من واقعةِ السؤالِ إلى واقعةِ
الخَلْق،
ومن واقعةِ الخَلْقِ إلى واقعةِ
النَّار،
ومن واقعةِ النَّارِ إلى واقعةِ
هاجر،
ومن واقعةِ هاجر إلى واقعةِ
العطش،
ومن واقعةِ العطشِ إلى واقعةِ
زمزم،
ومن واقعةِ زمزم إلى واقعةِ
إسماعيل،
ومن واقعةِ إسماعيل إلى واقعةِ
البيتِ العتيق؟
وهو في كلِّ ما رأى
كانَ سُؤالاً ثابتَ الجنانِ لا
يُبارى.
قلتُ: ألمْ تؤمن؟ قال: بلى
ولكن ليطمئِنَّ قلبي.
فكانَ شاهداً على الخَلْقِ
والخليقة
وعنواناً من الصبر،
من جمرةِ الصبر،
على واقعةِ الحقيقة.
موقف يعقوب
أوقَفَني في موقفِ يعقوب
وقال: يا عبدي
أرأيتَ إلى صبرِ يعقوب،
صبر تهدُّ له الجبال هَدّاً،
صبر صَيّرَ يعقوبَ دمعةً
بحجمِ نبيّ،
وألماً بحجمِ نبيّ،
وأَسَفاً بحجمِ نبيّ.
فأكرمتُه بعد هذا العناء العظيم
فكانَ بحقٍّ نبيّاً،
وابناً لنبيّ،
وأباً لنبيّ.
كانَ يعقوب من العارفين:
أن لا ملجأ منّي إلّا إليّ.
ولذا ما عرفَ اليأسُ درباً إلى
قلبه،
وما عرفَ الغضبُ حرفاً إلى لسانه.
ما عرفَ إلّا الدَّمع
رسالةَ شوقٍ عظيم
أرسلَها ويرسلُها إليّ
كلّ فجرٍ وليلة
حتّى ابيضَّتْ عيناهُ من الحُزْنِ
فهو كظِيم.
موقف الخضِر
أوقَفَني في موقفِ الخضِر
وقال: يا عبدي
أرأيتَ كيفَ أغرقَ الخضِرُ
السَّفينة؟
أرأيتَ كيفَ قتلَ الغلام؟
وكيفَ أقامَ الجدار؟
بالخضِر وبأمثال الخضِر
أعيدُ صياغةَ كوني،
وأرتّبُ ساعاتِ يومي،
وأداولُ الأيامَ بين النَّاس،
وأداولُ النَّاسَ بين الأيام،
وأداولُ النَّاسَ بين الأبواب.
فأخرجهم بالحقِّ من بابِ العزّ
إلى بابِ الذُّلّ،
فالعزّةُ لي وحدي.
وأخرجُهم بالحقِّ من بابِ الغنى
إلى بابِ الفقر،
فأنا الغنيّ وأنتم الفقراء.
ثُمَّ أخرجهم من بابِ القوّة
إلى بابِ الضَّعْف،
ومن بابِ الضَّعْف إلى بابِ
الهلاك
ثُمَّ أدفعهم دفعاً حتّى باب
الموت.
أدفعهم جميعاً فأنا الحَيّ
الباقي،
لأرجعهم إلى بابي
فُرادى كما خلقتُهم أوّلَ مَرّة.
أرأيتَ إلى سِرِّي؟
أرأيتَ إلى عَظَمةِ سِرِّي؟
موقف عيسى
أوقَفَني في موقفِ عيسى
وقال: يا عبدي
أرأيتَ إلى مَن كلّمَ النَّاس
في المهدِ صَبيّاً.
أرأيتَ إليه وهو يقول:
سلامٌ عليَّ يومَ ولِدتُ
ويومَ أموتُ
ويومَ أُبعَثُ حيّاً.
أرأيتَ إليه
وهو الذي أحيا الموتى
بإذني،
وأبرأ الأكمهَ والأبرصَ بإذني،
فأنزلتُ إليه مائدةً من السَّماء
لتكون عيداً له ولأتباعه
المخلصين.
أنزلتُ إليه
وهو الذي حملتْ به مريم
ليكون مَحبّةً للعالمين.
ذلك عيسى القائل:
إلهي تعلمُ ما بنَفْسِي
ولا أعلمُ ما بنَفْسِك
إنّكَ أنتَ عَلّامُ الغُيوب.
موقف المُصطفى
أوقَفَني في موقفِ المُصطفى
وقال: أرأيتَ إلى مَن رأى
مِن آياتِ ربّهِ الكبرى؟
أرأيت إلى مَن أرسلتُه رحمةً
للعالمين،
وختمتُ به الأنبياءَ كلّهم
والمُرسَلين،
وجعلتُ له الأرضَ طهوراً
ومَسْجِداً،
وجمعتُ على مائدته
قدحَ الصبرِ إلى قدحِ النصر،
وماعونَ المحبّةِ إلى ماعونِ
العِلْم،
وشرابَ الشفاعةِ إلى شرابِ
الكوثر؟
أرأيت كيفَ أسريتُ به
إلى حضرتي الكبرى
مِن سماءٍ إلى أُخرى،
فرأى مِن النُّورِ ما رأى،
فكانَ قابَ قوسين أو أدنى؟
ثُمَّ قلتُ له: صفْني يا مُحمّد،
صفْني يا حبيبي،
صفْني أيّهذا المُصطفى.
قالَ: سبحانَ الله.
قلتُ: نعم.
قالَ: والحمدُ لله.
قلتُ: نعم.
قالَ: ولا إلهَ إلّا الله.
قلتُ: نعم.
قالَ: واللهُ أكبر.
فجعلتُ الشَّمسَ تجري في وجهه
وفي صلواته الخمس.
وجعلتُ اسمَه مقروناً بِاسمي،
وشهادتَه بشهادتي،
ومحبّتَه بمحبّتي
إلى يوم يُبْعَثون،
يوم لا يَنفعُ مَالٌ ولا بنون
إلّا مَن أتاني بقلبٍ سليم.
موقف عليّ
أوقَفَني في موقفِ عليّ
وقال: يا عبدي
هذا رَجلٌ مِن خَاصّتي.
أعطيتُه مِن العِلْمِ باباً،
ومِن الزُّهدِ مِحراباً،
ومِن الشّجاعةِ سَيفاً،
ومِن البلاغةِ نَهْجاً،
ومِن الحقِّ حاءً وقافا.
فارتبكَ كثيرٌ مِن الخَلْقِ فيه
ارتباكا،
وقاموا إليه بالسيف
جَمْعاً وفُرادى،
في حربٍ تتلوها حرب،
وفي معركةٍ تتلوها معركةٌ،
وعليّ فيها يحملُ رايتي الخضراء
مِن الفجرِ إلى الليل
حتّى إذا هبطَ الليل
قامَ إلى السُّجودِ قياما،
وعيناه تفيضان بالدمع
حتّى مطلعِ الفجر.
موقف كربلاء
أوقَفَني في موقفِ كربلاء
وقالَ لي:
يا عبدي
امشِ خلفَ الرماح
امشِ خلفَ رأس أبيك
المحمولِ على الرماح.
أنتَ الناجي الوحيد
وسطَ نساء يبكين بدموعٍ ثِقال
والجندُ يرقصون طرباً رقصةَ
الذهب،
وروحُكَ ترقصُ معهم
رقصةَ العطشِ والرُّعبِ والتعب.
أنتَ الناجي الوحيد
بين جَمْعٍ عجيب
تحدّقُ مذهولاً في زرقةِ الكون
وتستنجدُ بكلماتي التامّات
لأنظر إلى محنتِكَ التي بدأتْ في
كربلاء
وانتهتْ إلى كربلاءات.
تصيحُ: أغثْني، إلهي، أغثْني.
فأقول:
كم تمنّيتَ أن يكونَ رأسُكَ
فوقَ الرماح
وليس رأس أبيك.
كم تمنّيتَ أن تستبدلَ ألماً بدم،
وذلّةَ الأصفاد
بشموخِ الرمح
والملائكة حافيّن بالرأس.
كم تمنيّتَ
يا مَن سأنصرهُ إلى أبد الآبدين
يا مَن سيقضي السِّنين
ساجداً وسطَ بحرِ الأنين.
كم تمنيّتَ كم!
موقف دُعاء كُمَيْل
أوقفني في موقفِ دُعاء كُمَيْل
وقال: سمعتُكَ تنوحُ بدُعاء
كُمَيْل.
تنوحُ بدمعٍ كدمعِ يعقوب
وهو يُقبّلُ في ساعةِ البئر
قميصَ الدَّمِ والأكاذيب،
ثُمَّ تزيدُ عليه بدمعٍ كدمعِ
الحُسين
وهو يُقبّلُ في ساعةِ الموت
جبينَ عبد الله الرضيع الشهيد.
سمعتُكَ يا عبدي
يا صاحبَ الغُربَتَين.
سمعتُكَ ويكفي أنّي سمعتُك.
*****************
هو كُمَيْل بن
زياد النخعي صاحب الدعاء
المشهور:"دعاء كُمَيْل". وقد
أخذه عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه
السَّلام.
موقف الخوف
أوقَفَني في موقفِ الخوف
وقال: يا عبدي خلقتُ الإنسان
والخوفُ أقربُ إليه من حَبلِ
الوريد.
فإن بلغَ قلبُه الحنجرة
أو انزلقَ الحرفُ من تحته
أو تكسّرت الشَّمسُ قدّامه
أو اسودَّ السيفُ فوقَ رقبته
أو تجمّعَ القَتَلةُ على بابه
أو بابِ أيامه،
خاف
فمدَّ إليّ في سرعةِ البرقِ كفّاً
ثُمَّ ذراعاً
ثُمَّ قلباً
ثُمَّ روحاً
فتلقّفتُه برحمتي
وطمأنتُه بسكينتي.
يا عبدي
مَنْ عرفني فقد عرفَ الطمأنينة.
ومَنْ عرفَ الطمأنينةَ عرفَ
السَّكِينة.
ومَنْ عرفَ السَّكِينةَ عرفَ
الوقار.
ومَنْ عرفَ الوقار
كانَ اسمي بين شفتيه بلسماً
وفي قلبه نوراً
لا يأتيه الباطلُ أبداً
حتّى لو انهدّتْ مِن حوله الجبال.
موقف العِزّة
أوقَفَني في موقفِ العِزّة
وقال: أنا العزيز يا عبدي
والعِزّةُ لي وحدي.
فمَنْ نازعني فيها
ألبستُه تاجاً من الذُّلّ
وألقيتُ عليه ثوباً مِن الهوان.
وقال: إنّ أكبرَ اسمٍ لك
هو عبد الله
وأصغرَ اسمٍ لك
هو عبد الله.
وبين الاسمين
ستقيمُ في العبوديّةِ إلى ما شئتُ
وترزخُ في اللاشيئيّة إلى ما
شئتُ.
فلا تتركْ نفسَكَ لتقع في الغيّ
وتنفخ فيها سورةَ العظمةِ وآيةَ
الوهم.
أنا الذي نفختُ في جسدِك
حرفَ الرُّوحِ وسرَّ النُّقطة
فكنتَ سماءً
وكنتَ أرضاً،
كنتَ نوراً
وكنتَ ظلاماً،
كنتَ حلماً
وكنتَ بشراً.
فإن شئتُ أرسلتُ إليك
مَن يقبض هذا السِّرّ في رمشةِ
عين
لتعود إلى أصلكِ في رمشةِ عين،
لتعود نَسْياً مَنسِيّاً.
موقف الأين
أوقفني في موقفِ الأين
وقال: إلى أين ستأخذُكَ الأين:
أإلى قبرٍ تسعى إليه
أم إلى قبرٍ يسعى إليك
أم إلى قبرٍ يسعى بك؟
أما مِن أين أبصرتَ بها
وأبصرتْ بك
لتخفّفَ عنكَ غلواءَ الظُّلْمَة؟
أما مِن أين
تغسلُ فيها قميصَ الخوف
ورداءَ الهمِّ وثيابَ الغُربة؟
أما مِن أين تأخذُ بيدِكَ إليّ،
إلى عرشي
لتبادلَ جمراً تقبضُ عليه أصابعُك
بكأسٍ ثَملتْ أبداً مِن سِرّي؟
أما مِن أين يا عبدي؟
موقف الكتابة
أوقَفَني في موقفِ الكتابة
وقال: يا عبدي
كلُّ كتابةٍ لا تَتَبسملُ بِاسمي،
ولا تُشيرُ إلى جَنّتي وجَهنّمي،
ولا تَحضُّ على مَحبّتي،
وعلى شُرْبِ كأسِ مَحبّتي،
إنّما هي كتابة العابثين.
موقف الباب
أوقَفَني في موقفِ الباب
وقال: البابُ أبوابٌ يا عبدي.
هناكَ بابٌ للفجر،
وبابٌ للمغرب.
ثُمَّ بابٌ للدمعة،
والصرخة،
والسكّين.
ثُمَّ باب السؤال،
والمُحَال.
ثُمَّ باب الخَمرة.
ثُمَّ باب التوبة.
ثُمَّ باب الجوع،
والفقر،
والحرب.
ثُمَّ باب الموت.
ثُمَّ باب الحِساب،
فالمَسرّة،
فالحبيب.
ثُمَّ باب النجاة.
ثُمَّ باب السَّكِينة.
ثُمَّ باب السَّلام.
ثُمَّ باب الشَّوق.
ثُمَّ باب الانتظار.
ثُمَّ باب السَّأم،
فالعدم،
فالعبث،
فالهلاك.
ثُمَّ باب الصبر.
ثُمَّ باب الجَزع
والهلع،
والمرض،
والحاجة.
ثُمَّ باب التيه
فالجنون.
ثُمَّ باب الزمان
فالغيبة.
ثُمَّ باب السُّلطان
والامتحان
والنسيان.
ثُمَّ باب العِرفان.
ثُمَّ باب النُّقطة.
ثُمَّ باب الحرف.
وما دمتَ قد اخترتَ بابَ الحرف
فسيقودكَ إلى أبوابي جميعاً.
فالحرفُ خُلِقَ من بابِ الشَّوق
فانتهى إلى بابِ الحبيب.
ثُمَّ انتهى إلى بابِ الدَّمعة
ثُمَّ إلى بابِ الخمرة
ثُمَّ دخلَ في بابِ الهلاك
وهو يحسبُه بابَ النجاة.
وإذ زلزلتُ الأرضَ به،
خوفاً عليه وَحُبّاً به،
طرقَ بابَ الجزع
ثُمَّ بابَ الهلع
ثُمَّ بابَ العِرفان
عِبْرَ باب السَّكِينة،
وهو لا يعرف أن لا سَكِينة
إلّا مِنّي وبي.
فإن تركتُه تلقّفتْه السِّكّينُ
فذبحتْه
أو تلقّفَه السؤالُ فَزلْزلَه
أو تلقّفَه السَّأمُ فألقاهُ في
أسفل سافلين.
موقف المطر
أوقَفَني في موقفِ المطر
وقال: رأيتُكَ في شتاءِ البلادِ
البعيدة
مُبلّلاً بالمطر،
مُبلّلاً بالضياع،
مُبلّلاً بسؤالِ التيهِ والبردِ
والنفي.
رأيتُ كفّين تتكلّمان،
ويدين تتضرّعان،
وعينين من لوعةٍ تبكيان،
وقلباً يكادُ يلامسُ من الشَّوقِ
عرشي،
وحرفاً يصرخُ مُستنجداً بقافي
وسرِّي.
رأيتُكَ فزدتُ عليكَ المطر
وزدتُ
وزدتُ
حتّى كأنّكَ أصبحتَ يا عبدي
قطرةً من مطر.
موقف الماء
أوقَفَني في موقفِ الماء
وقال: قِفْ على الماء.
فقد جعلتُ من الماءِ كلَّ شيءٍ
حَيّ.
فَوقفتُ.
ثُمَّ قال: امشِ. فمشيتُ.
مشيتُ حتّى الخطوة الثانية
وفي الثالثةِ غرقتُ.
فمدَّ لي يداً من نور
ثُمَّ قال: امشِ. فمشيتُ
حتّى وصلتُ السادسةَ ارتبكتُ
وفي السابعةِ سقطتُ
حتّى هلكتُ أو كدتُ.
فَمَدَّ لي يداً من قاف
وقال: امشِ. فمشيتُ.
وفي الخطوةِ الثلاثين
غرقتُ وطافَ جسدي فوقَ الماء.
فقال: انجُ. فنجوتُ.
وفي الخطوةِ الأربعين زُلزِلتُ
حتّى عبرَ جسدي بحرَ الظلمات
قِطَعاً قِطَعاً.
وصارتْ كلُّ واحدةٍ فوقَ جزيرة
فدعاهنّ فجئن
على هيئةِ طائر
ثُمَّ على هيئةِ طفل
ثُمَّ على هيئةِ إنسان.
ثُمَّ فتحَ لي باباً وسطَ الماء
وقال هذا باب النجاة.
فانزعْ عنكَ كلَّ حرفٍ إلّا حرفي
وكلَّ نقطةٍ إلّا نقطة نوني.
واخرجْ فإنّكَ عُريان
خُلِق السَّاعةَ كي يمشي فوقَ
الماء.
لن تغرق بعد الآن.
فافرحْ لأنّي جعلتُ الماء
يتبعُ خطواتكَ أنت
ويمشي بإشارةِ قلبِكَ أنت،
قلبك الذي هو قلب الماء.
موقف الغرق
أوقَفَني في موقفِ الغرق
وقال: يا عبدي
كيفَ تنجو مِن الغرق
والبحرُ قد غرقَ فيك؟
موقف النهر
أوقَفَني في موقفِ النهر
وقال: نهرُكَ ماءٌ عنوانُه القيلُ
والقال
وسبعةُ أحرفٍ من حروفِ المُحال.
فلا أنتَ أصغيتَ إلى النهر
حينَ كنتَ جريحاً مهووساً
بجرحِكَ النازفِ على صفحةِ الماء،
ولا النهر أصغى إليك.
فقد توهّمكَ النهرُ،
على عادةِ الأنهارِ، صيّاداً.
ولم تكنْ.
ثُمَّ توهّمكَ سنّارةً.
ولم تكنْ.
ثُمَّ توهّمكَ سمكةً.
ولم تكنْ.
ثُمَّ توهّمكَ وهماً.
ولم تكنْ يا عبدي.
موقف الطائر
أوقَفَني في موقفِ الطائر
وقال: قلبُكَ قلبُ طائر.
ويداكَ جناحا طائر.
وعيناكَ في قلقِهما
وتقلّبِهما ذاتَ اليمين وذاتَ
الشمال
عينا طائر.
وحلمُكَ حلمُ طائر.
وشوقُكَ إذ يمتدُّ من الشَّجرةِ
إلى الغيمة
ومن الغيمةِ إلى البحر
هو شوقُ طائر.
ورحلتُكَ في هذه الدُّنيا رحلةُ
طائر.
ما ينقصكَ: ريشتان
وخفقةُ جناح
كي تطيرَ إلى الموت
يا عبدي.
موقف السَّجدة
أوقَفَني في موقفِ السَّجدة
وقال: اسجدْ يا عبدي.
فسجودُكَ رحمةٌ لجسدِك
ومفتاحٌ لدمعتِك.
سجودُكَ يطلقُ طائرَ الهمِّ
من صدرِك
لتعرفَ أنّ الطمأنينةَ عندي
باب من أبوابِ الجنّة.
موقف الأنا
أوقَفَني في موقفِ الأنا
وقال: يا عبدي كم أذلّتْكَ الأنا!
أناكَ هي ثقبُ روحِك
وأناكَ هي ثقبُ جهنّم في جسدِك.
هي مَن يُفسد فيكَ ما خلقتُه
في أحسن تقويم
لتردّه في سرعةِ البرقِ إلى أسفل
سافلين.
موقف البياض
أوقفني في موقفِ البياض
وقال: أدهشكَ البياضُ يا عبدي
أم أدهشكَ الحرمان؟
أدهشكَ المشهد
أم أدهشكَ اللون؟
أدهشكَ الدفء
أم أدهشكَ الإصبع؟
أدهشكَ الدَّمع
فكنتَ على سجّادتي تبكي؟
أم أدهشكَ المصير:
أنتَ كريشةٍ تطير؟
موقف كلّ يوم
أوقَفَني في موقفِ كلِّ يوم.
وقال: يا عبدي
أتعرفُ هذا الموقف؟
قلتُ: لا.
قال: هذا موقفُ النسيان،
وهو موقفُ كلِّ يوم،
ولولاه لكنتَ مِن الهالكين.
موقف السِّجن
أوقَفَني في موقفِ السِّجن
وقال: يا عبدي دنياكَ سجن.
فمِن سجنِ الشَّهوةِ إلى سجنِ
الفتنة،
ومِن سجنِ الشِّرْكِ إلى سجنِ
اللعنَة،
ومِن سجنِ الرغيفِ إلى سجنِ
الماء،
ومِن سجنِ الفقرِ إلى سجنِ
الدينار،
ومِن سجنِ الخوفِ إلى سجنِ الأمل،
ومِن سجنِ الحلمِ إلى سجنِ
السُّلطان،
ومِن سجنِ الانتظارِ إلى سجنِ
العبث،
ومِن سجنِ الحرفِ إلى سجنِ
النُّقطة.
يا عبدي
حَرّرْ نفْسَكَ بمحبّتي.
فلا حُريّة لكَ إلّا معي.
لا حُريّة لكَ إلّا في مملكةِ
العارفين
الذين نسوا كلَّ شيء إلّاي.
موقف الحاجب
أوقَفَني في موقفِ الحاجب
وقال: ما أسعدكَ اليومَ يا عبدي،
لا حاجب اليومَ لك
عن نوري وظلِّي.
دمعتُكَ ستقودكَ إليّ
وهي تغسلُ غربتَكَ وَيُتمَك
وتطلقُ طيورَ سعْدِك.
دمعتُكَ ستكشفُ لكَ عن لوعتِك
وتطهّرُكَ من عنكبوتِ ذنبِك
وأبابيل خوفِكَ وطلاسم دهرك.
دمعتُكَ ستكتبُ لك
شِعْراً بابه لي،
وممرّه لي،
وعنوانه لي،
ومدائنه لي،
ومواقفه لي.
وخلاصته: أنّكَ قد عَرفت،
ولم تعدْ جاهلاً أو ضائعاً
حتّى صارَ اسمُكَ العارف بي:
أنا عنوان سرّك.
موقف الندم
أوقَفَني في موقفِ الندم
وقال: يا عبدي
كم شربتَ من كأسِ الندم
وكم ستشرب.
حياتُكَ ندمٌ فَتَبصّرْ.
امسكْها وقدْها.
لا تتركْها تمسك بكَ لتقودك.
فإن فَعَلتْ قادتْكَ إلى بئرِ
الندم
وألقتْكَ فيها،
ولن تخرجَ منها
حتّى يلجَ الجَملُ في سَمِّ
الخِيَاط.
موقف الدَّمعة
أوقَفَني في موقفِ الدَّمعة
وقال: كم بكيتَ! وكم ستبكي!
فأنا خلقتُكَ من طين يا عبدي.
وكانت دمعتُكَ هي التي امتزجتْ
بالترابِ ليكون
طينا
أو سؤالاً جارحاً
أو ضياعاً خالصاً وعذاباً مُهينا.
نعم، فحينَ وُلِدتَ بكيتَ
وحينَ ارتبكتَ،
وكم ارتبكتَ، بكيت.
وحينَ ضعتَ، وكم ضعتَ، بكيت.
وحينَ استوحشتَ أو ظُلِمتَ أو
مَرضتَ بكيت.
أمِن دمعةٍ خَلَقتُكَ أم مِن طين؟
موقف الطاغية
أوقَفَني في موقفِ الطاغية
وقال: تاجُ الطاغيةِ من ذهبٍ يا
عبدي
وعرشُه من ذهب.
مائدتُه من ذهب،
ملاعقُه من ذهب،
خواتمُه من ذهب
وأصابعُه من ذهب.
فإذا جاءَ يومي الموعود،
ولكلِّ طاغيةٍ أعددتُ يوماً
موعوداً،
زلزلتُ به الأرضَ التي كانتْ
لا تطيقُ خُطاه
فانقلبَ تاجُه،
في رمشةِ عينٍ، إلى رماد
وعرشُه إلى رماد
ومائدتُه إلى رماد
وملاعقُه إلى رماد
وخواتمُه إلى رماد
وأصابعُه إلى رمادٍ ودم.
موقف الأوّل والآخِر
أوقَفَني في موقفِ الأوّل والآخِر
وقال: يا عبدي
أولئكَ الذين يبيعونني
ما أجرأهم على الحَقّ!
أمِن أجلِ حفنة دراهم أو دنانير
يبيعون إلهاً هو الأوّل والآخِر
والظاهِر والباطِن
وهو الحَيّ القَيّوم،
إلهاً تتجلّى إشاراتُ عظمته
في كلِّ آن،
إلهاً وسعتْ رحمتُه السَّماواتِ
والأرض،
إلهاً يستغيثون به
ما أن تبلغ قلوبُهم الحناجر،
مُتشبّثين بِاسمه
كما يتشبّثُ الغريقُ بخشبة
أو كما يتشبّثُ الرضيعُ بأُمّه؟
ما أجرأهم على الحَقّ!
أمِن أجلِ دنيا فانية
وأيامٍ أكثر فناءً
يستبدلون إلههم
كما يستبدلون ثيابَهم؟
موقف الذهب
أوقَفَني في موقفِ الذهب
وقال: هذا هو الذهب بين يديك.
فهل سحرَكَ منظرُه أم أَلَقُه
أم أدهشتْكَ نعومتُه وغواياتُه؟
هل تذكّرتَ مَشهدَ المتقاتلين مِن
أجله،
البائعين كلّ شيء مِن أجلِ رنينه؟
هل تذكّرتَ كيفَ خالطه الدَّم
وأحاطتْ به السّكاكين مِن كلِّ
جانب؟
ها قد حملتَ الذهبَ على ظهرِكَ
اليوم
فماذا وجدتَ سوى غِلْظة وفظاظة
لامستْ قلبَك؟
هذا هو ملمسُ الذهبِ يا عبدي:
ملمسُ الباطلِ في صورةِ الشَّمس.
موقف قَسوة القلب
أوقَفَني في موقفِ قَسوةِ القلب
وقال: إيّاكَ وقَسوة القلبِ يا
عبدي.
انظرْ إلى رحمتي التي وسعت
السَّماواتِ والأرض،
رحمتي التي وسعتْ
حتّى الذين أشركوا بي
والذين هم لعظمتي وقدرتي ينكرون.
أعنْ ما استطعتَ
وأعطِ ما استطعتَ.
فإن غلبتْكَ قَسوةُ القلب
أرسلتُ مَن استحكمتْ
عنده قَسوةُ القلب
ليزيلَ منكَ نقطةَ حرفِك
فتكون هَباءً مَنثوراً.
موقف السَّلام
أوقَفَني في موقفِ السَّلام
وقال: اعبرْ حاجزَ الظُّلْمَة،
وهو بسَبْعَةِ أبْحُر.
فَعَبرتُ.
ثُمَّ قالَ: اعبرْ حاجزَ الوحشة،
وهو بسَبْعَةِ أبْحُر.
فَعَبرتُ.
ثُمَّ قالَ: اعبرْ حاجزَ المرأة،
وهو بسَبْعَةِ أبْحُرٍ أُخرى.
فَعَبرتُ.
ثُمَّ قالَ: اعبرْ حاجزَ النَّاس،
وهو بثلاثةِ أبْحُر.
فَعَبرتُ.
ثُمَّ قالَ: اعبرْ حاجزَ المرآة،
وهو بثلاثةِ أبْحُرٍ أُخرى.
فَعَبرتُ.
ثُمَّ قالَ: اعبرْ حاجزَ الحرف،
وهو ببحرٍ واحد
لا أوّل له ولا آخِر.
فَعَبرتُ.
ثُمَّ قالَ: اعبرْ حاجزَ
النُّقطة،
وهو ببحرٍ يمتدُّ منكَ إليكَ
ليغرقَ فيك.
فَعَبرتُ.
ثُمَّ قالَ: اعبرْ حاجزَ الموت،
وهو بألفِ بحرٍ ممّا تعدّون.
فَعَبرتُ.
فقال: انزلْ من صليبِكَ الآن يا
عبدي
إنّكَ في موقفِ السَّلام.
موقف الحجاب
أوقَفَني في موقفِ الحجاب
وقال: يا عبدي
أعملتَ لتنالَ مطرَ رحمتي حجاباً
وأنتَ الذي تمزجُ شمسَ الغروب
بشمسِ الفجرِ في كهيعص نوري
وحم كتابي
وطسم عرشي وجلالتي وحضوري؟
كيفَ يحدثُ هذا؟
ألا يكفيكَ أن يكونَ قلبك
هو قلب السؤال:
بابه الحمد،
وعلامته أن لا شريك لي،
ونبضته دعاء وجواب؟
موقف البيت
أوقَفَني في موقفِ البيت
وقال: يا عبدي أمَا مِن بيت؟
أنفقتَ عمرَكَ تحملُ صرّةَ ثيابِك
هائماً على وجهِك
من بيتِ الفراتِ إلى بيتِ الرماد
إلى بيتِ البحرِ وما وراء البحر.
ومن بيتِ اليُتمِ إلى بيتِ
اللئام،
ومن بيتِ الحرمان
إلى بيتِ البكاء والنَّاس نيام،
ومِن بيتِ الصرخةِ إلى بيتِ
الغُربة،
وأنتَ تبحثُ عبثاً عن مأوى
وطمأنينةِ جدار.
يا عبدي
لا بيت لكَ إلّا بيتي،
فادخلْه مطمئناً
وقلْ: سلامٌ سأستغفرُ ربّي.
وقلْ: الحمدُ للهِ الذي آواني
بعد تَشرّدٍ وضياع
وَجَعلَ حرفي ونقطتي جدرانَ بيتي.
موقف الحمد
أوقَفَني في موقفِ الحمد
وقال: الحمدُ اسمٌ من أسمائي
وإشارةٌ من إشاراتي
ورحمةٌ من رحمتي التي وسعت
السَّماواتِ والأرض.
فمَنْ حمدني شكرتُه،
ومَنْ شكرتُه فتحتُ له بابَ
النجاة
ثُمَّ بابَ الطمأنينة
ثُمَّ بابَ الخلاص
ثُمَّ بابَ الجَنّة.
ومَن جحدني جعلتُ يومَه سجناً
وحياتَه سَجّاناً
وأنزلتُه الجحيمَ مقرّاً ومقاماً.
موقف الدائرة
أوقَفَني في موقفِ الدائرة
وقال: هذا كتابكَ، يا عبدي،
كتابُ السِّينِ عن الدائرة.
دائرةٌ مُحْكَمة.
دائرةٌ تبدأُ مِن عَرشي
ثُمَّ تمضي إلى شمسي ونجومي
ثُمَّ إلى قمري وأرضي.
دائرةٌ أعَيتْ بسرِّها الأوّلين
والآخِرين
فلا تكنْ منهم.
كتابُكَ هذا سرُّ نجاتِك
يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنون.
فاحملْه باليمين.
بسمِلْه وحوقِلْه،
وغطِّه بالدمع،
وقبِّلْه بالمغفرة،
وسمِّه كتابَ السِّين
في دائرةِ السِّنين.
موقف الجَنّة
أوقَفَني في موقفِ الجَنّة
وقال: هذه هي الجَنّة.
فانظرْ إلى رحمةِ ربّك
كيفَ أحاطتْ بك.
ادخلْها فأنتَ مِن المُكرَمين
وقل: الحمدُ للهِ ملء السَّماوات
والأرض.
فأنتَ ما دخلتَها يا عبدي
بألفِكَ بل بقافي،
ولا بمحبّتِكَ بل بمحبّتي لك،
ولا بصبرِكَ بل بصبري عليك.
ادخلْها وقلْ:
الحمدُ للهِ الذي هَدانا لهذا
وما كُنّا لنهتدي لولا أنْ هَدانا
الله.
وقل: سلامٌ قولاً مِن ربٍّ رحيم.
إ
|