إذا كان الشعر في أبسط تعاريفه هو التعبير عن
مشاعر الشاعر، فإن معناه يختلف عند الشاعر أديب كمال
الدين، إنه في تصوره لحظة من البوح الروحي والتعبير
العرفاني الذي يمزج بين جمالية الصورة وعمق الفكرة.
فمن خلال قراءتي لديوانه الأخير الموسوم ب
"مواقف الألف" أحسست بأن جل القصائد تعبر عن رؤية إلى
العالم بالرغم من نفسها القصير حيث كلما ضاق المبنى
اتسع المعنى كما قال عبد الجبار النفري، فالقصائد
الشعرية بمثابة إضاءات تكشف للقارئ حقيقة الحياة التي
خبرها الشاعر وعبر عنها شعرا.
إن الشاعر أديب كمال الدين وهو يتنقل بكاميرته
عبر المحطات والمواقف التي يقف فيها/عليها..... ليصوغ
للمتلقي/القارئ قانونا في الحياة، يذكرنا بكتابات
جبران خليل جبران، وخاصة في كتابه "النبي"حيث إن
الشاعر عند جبران هو النبي الذي ينظم أشعارا تكون
بمثابة قوانين داخلية ينبغي الاقتداء بها من أجل غد
أفضل ومن أجل مجتمع راق تسوده الفضيلة والسعادة.
هكذا نجد الشاعر أديب كمال الدين يتأنى في
مخاطبة القارئ ويعبر له عن مجموعة من الحكم الصادقة
التي استمدها وخبرها من خلال تجاربه الحياتية، حكم
تأخذ مصداقيتها من المخزون القرائي والمعرفي عند
الشاعر، مخزون متأثر بأرضية دينية إسلامية.
وما
يبرهن على ذلك هو استهلال الديوان وتصديره بآيات من
القرآن الكريم، كما أن الشاعر يتناص في كثير من قصائده
بحكم وتشريعات مستمدة من القرآن والسنة النبوية.
(أوقفني في موقفِ الروح
وقال : هو ذا سرّكَ الأعظمُ يا عبدي
فأنتَ لن ترى الروحَ حتّى تموت
والروح لن تراك)
مواقف الألف
ص41
فالمقطع الشعري يتناص مع الآية الكريمة
(قوله تعالى: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). وعندما نغوص عميقا في
هذه التجربة النوعية نجد أن الشاعر أديب كمال الدين
يزاوج في"مواقف الألف" بين الهموم الذاتية والهموم
الحياتية والأسئلة الوجودية التي يطرحها الإنسان ولا
يجد لها أجوبة في الواقع، بينما يجد لها أجوبة في النص
القرآني، فالشاعر يتساءل كما الإنسان العادي عن سر
الحياة وعن القضايا الوجودية المحيرة، لكن الشاعر يدخل
في حوار داخلي وكأنه في حلم يتلقّى الإجابة من إلهامات
فوقية لا يعلمها إلا الشعراء، هذه الإجابة هي في حقيقة
الأمر خلاصة ما ترسخ في ذهنه من المقروء الديني استطاع
تلخيصه وبلورته للقارئ في شكل أبيات شعرية تأخذ من
النص القرآني لبه، محاولا صياغته بلغة شعرية تنحت
عميقا في النفس البشرية وتجيب عن الأسئلة الوجودية
المحيرة.
فالديوان على العموم يمزج بين جمالية اللغة
وعمق الفكرة الصوفية والفلسفية، حيث اللغة هي البوابة
التي منها يقدم للقارئ الجانب المعرفي والدلالي،
وتعطيه تصورات مثالية عن الكون وما يدور في فلكه.
كما أن اللغة في الديوان امتازت ببساطة
الألفاظ ووضوحها، لأن الغرض منها هو كشف الحقيقة
الغائبة وتجليتها للقارئ، وتقديمها بين يديه واضحة
وصريحة، ولعل هذه الكتابة العرفانية تتقاطع مع الكتابة
الصوفية التي تهدف إلى كشف الحقيقة، وإنارة العتمات
للمريدين الذين يبحثون عن كوة لكشف الحقيقة ومعرفة ما
وراء الملموس والمحسوس.
(يا عبدي
حررْ نفْسَكَ بمحبّتي
فلا حريةَ لكَ إلا معي
لا حريةَ لكَ إلا في مملكةِ العارفين)
مواقف الألف
ص78.
فاللغة لا تفهم في حد ذاتها وإنما تفهم في
علاقتها بالمنظومة الكلامية ككل، فاللفظة عبارة عن
مادة خام لا تكسب ماهيتها إلا بالصورة التي تتشكل
فيها، ولهذا فهي تُفهم حسب السياق الذي سيقت فيه،
والسياق العام الذي جاءت فيه ألفاظ الديوان هو السياق
الصوفي العرفاني الذي يحتاج إلى قارئ من نوع خاص، قارئ
يعيش القصيدة أكثر مما يقرؤها.
(أنا الذي نفختُ في جسدِك
حرفَ الروحِ وسرَّ النقطة
فكنتَ سماءً
وكنتَ أرضاً،
كنتَ نوراً
وكنتَ ظلاماً،
كنتَ حلما
وكنتَ بشرا.)
مواقف الألف
ص62
فالمقطع غني بمعانيه التي تتضمنها الألفاظ حيث
لا يمكن فهمها في معزل عن بعضها البعض، لأنها تموت
وتحنط، وتنتهي عندما تقرأ معزولة عن سياقها العام، أي
سياق القصيدة ككل.
وما زاد في حركية المقاطع الشعرية
وديناميتها تكرار الكلمات في نفس القصيدة بل في نفس
المقطع، هذا التكرار الذي يساعد على خلق نوع من
التماثل الكلي بين الأصوات، ويساعد التكرار على
انفجارية اللغة وتأديتها لدلالات متعددة تتعدد بتعدد
القراءات وتعدد الرؤى إلى العالم وإلى طبائع البشر.
(أوقفني في موقفِ الأولِ والآخر
.........
يبيعون إلهاً
هو الأوّل والآخر..)
مواقف الألف ص84
فالأول والآخر الأولى ليست هي الأول والآخر
الثانية فالتكرار هنا كان القصد منه هو استفزاز
المتلقي و تشتيت ذهنه من أجل إثارة انتباهه ورده عن
غيه ،حيث الحكمة في مضمون النص بارزة يريد الشاعر
إرسال رسالة إلى العالم من أجل الابتعاد عن الطريق
الضلال الذي يميت ضمائرهم ويجعلهم يدوسون على القيم
والأخلاق الدينية الفاضلة.
وقد اعتمد الشاعر في التكرار على أسلوب
الاشتقاق الذي يرجع الألفاظ المكررة إلى أصلها المعجمي
الواحد،محاولا إلباس كل لفظة اللباس الذي يلائمها و
ينسجم معها، حيث إن الكلمات تبدو واحدة على مستوى
الصياغة لكن على مستوى الدلالة فالكلمة كلمات كل واحدة
تفهم حسب السياق الذي سيقت فيه.
فالكلمة تتحرك في فضاء النص الشعري باحثة
عن التركيب الذي يناسبها باعتبار التركيب هو الوسيلة
التي تساعد على خلق التناغم داخل القصيدة،فهو الذي
ينتقي الأفعال المناسبة والعكازات اللغوية الدقيقة
التي تساهم بدورها في خلق التوتر داخل القصيدة، وفي
توترها توتر لنفسية المتلقي حيث تبدأ القراءة وتتعدد
الصور المفارقة.
ومن خلال هذه الصور يخلق القارئ
فضاءه الخاص الذي استنتجه من خلال عملية التلقي
والتأويل، حيث يبدأ في إنتاج صور أخرى في متخيله، صور
قائمة على ما تلقاه أثناء عملية القراءة.
والملاحظ كذلك هو أن الشاعر استطاع استدراج
القارئ إلى ما يريده من مواقف ومحطات ركز عليها الشاعر
في الديوان، وقد ساعده في ذلك الروابط الحجاجية التي
تمهد القارئ وتحضره لتقبل المضامين الفكرية و
الأيديولوجية التي يؤمن بها الشاعر،حيث إنه يذكر السبب
ويذكر النتيجة ، وفي كل الأحوال تكون النتيجة منطقية
مستساغة يتقبلها المتلقي ويؤمن بها.
كما أن القصيدة الواحدة فيها تراكم كبير
من الأصوات التي اعتمدت حروفا متعددة وظفها الشاعر في
الديوان بقوة الصوت محدثة تشاكلا لفظيا زاد من قوة
المقاطع الشعرية كما نجد في قصيدة (موقف الماء) ص69
حيث تكرر حرف الشين 11 مرة وحرف القاف 23 مرة وهكذا
نجد في حروف أخرى على مستوى مساحة القصيدة الضيقة،لكن
بحكم قوة هذه الألفاظ أصبحت القصيدة أكثر شساعة وأكثر
رحابة.
**************
• سورة الإسراء :الآية 85
• مواقف الألف: شعر: أديب كمال الدين - الدار
العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان
2102
•
الحقيقة والمنهج : هانز جورج غادامير
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
نُشرت في مجلة (طنجة) الأدبية بتاريخ 11
نيسان- إبريل 2012
كما نُشرت في
صحيفة الزمان اللندنية في 24 - نيسان - إبريل - 2012