في العصر
الحالي أصبح
التداخل مع
الموسيقى واحداً
من الأدوات
الرئيسة في
بناء القصيدة
لدى أغلب
الشعراء، حيث
أخذوا يسخّرون
عدة وسائل
لتحقيق الأداء
الموسيقي لقصائدهم،
ومن هذه
الوسائل استخدام
التكرار أو
تضمين القصيدة
إحدى الأغاني
أو الأهازيج
الشعبية المتداولة،
وهي ظاهرة
معروفة في
الشعر العربي
منذ عصر
ما قبل
الإسلام، إلا
أنها لم
تتخذ شكلها
الواضح إلا
في العصر
الحديث، وبالأخص
في نماذج
من الشعر
الحر . والموسيقى
هي (تحول الصوت
إلى إيقاع
عن طريق
كسر تعاقبه
وإقامة التكرارية
مكان التعاقب. (1)
وقد جاء
توظيف الشعر
للتكرار تأثرا
ببنية القطعة
الموسيقية القائمة
على التكرار. فهو ظاهرة
صوتية تميزت
بها القصيدة
الحرة، وهو
إلحاح على
جهة معينة
في العبارة
يعني بها
الشاعر أكثر
من عنايته
بسواها ، وكذلك
يسلّط الضوء
على نقطة
حساسة في
العبارة ويكشف
عن اهتمامه
بها (2)
إن استثمار
تكنيك التكرار
في عموم
الشعر يجعل
منه مكانة
دلالية من
خلال انتقاء
مفردة معينة
أو أكثر،
وللتكرار دلالة
نفسية ( حيث
يفرغ الشاعر
حاجاته ومشاعره
المكبوتة ليعيد
التوازن إلى
حالته الطبيعية (3) . فوجوده في
الشعر إذن
لا يبعث
الملل والنفور
في النفس
بل هو
طبيعي يرتبط
ارتباطا وثيقا
ببناء القصيدة
حتى
أصبحت بعض
التكرارات تأخذ
شكل (اللازمة) وهي
مظهر من
مظاهر الموسيقى
وتقنياتها المعروفة.
.
ولا يخفى
ما للتكرار
من مزايا
فنية عديدة
(سواء
من حيث
تأثيره في
المعنى أم
من حيث
تأثيره في
الموسيقى الشعرية
فضلا عن
الدلالة النفسية
التي يستطيع
أن يضيفها
على القصيدة)
إلى جانب
أثره في
تقوية النغم،
(فالشاعر
المعاصر حاول
قدر الإمكان
تجاوز الحدود
التقليدية للوزن
والقافية، متجها
نحو التكرار
وسيلة لأغنائها
والتجديد فيها
،
فالإيقاع الصوتي
الذي يخلقه
تكرار جرس
الحروف والكلمات،
تظهر القيمة
الفكرية والنفسية
التي يعبر
عنها من
خلال العناية
بتكرار لفظة
معينة أو
مقطع معين
.(4)
(التكرار نمط
صوتي يتصل
بالذات المبدعة.
ويسهم
في تلاحم
البناء وترابطه
ويشكل نغمة
موسيقية قوية
فهو يعين
على تشكيل
عنصر التأثير
والتأثر. (5) وهو عنصر
مهم يسهم
في تثبيت
الإيقاع الداخلي
في فضاء
النص الشعري.
ونشير
هنا إلى
بعض مواطن
التكرار في
شعراء الحداثة :
مثل
قصيدة
(حوار)
للشاعر صلاح
عبد الصبور،
فقد كرر(أأنت
من سكان
هذه المدينة!
(
في قصيدته
هذه ست
مرات مكتفيا
في مرتين
منها بتكرار
مفتتح السؤال
(
أأنت ..( مع وضع
إشارة الحذف.
وقد وظف
الشاعر نزار
قباني التكرار
في أغلب
قصائده ومن
هذه القصائد
قصيدة الحزن
حيث جعل
جملة (علّمني حبك
(
مفتتحا لكل
مقطع . إما
الشاعر بدر
شاكر السباب
فقد أعتمد
فنيا ومعنويا
على التكرار
في قصيدته
الشهيرة (أنشودة المطر
وقد
تكررت كلمة
مطر بترتيبية
معينة تخدم
السياق والمعنى
وقد بلغ
عدد المكررة
فيها كلمة
مطر (26) مرة . أما
الشاعر محمود
درويش فقد
وظفه في
كل مستوياته
، بدأ
من تكرار
الحرف وانتهاء
بتكرار الجملة
مثل قصيدته
(أنا
آت إلى
ظل عينيك
(
فقد كرر
الجملة الافتتاحية
(
أنا آت
إلى ظل
عينيك (
ست
مرات في
تضاعيف القصيدة.
يحاول الشاعر
أديب كمال
الدين أن
يغني موسيقى
قصيدته من
الداخل، إذ
يلجأ إلى
تكوين تجمعات
صوتية متماثلة
أو متجانسة
وهذه التجمعات
إنما هي
تكرار لبعض
الأحرف التي
تتوزع في
كلمات البيت
أو مجيء
حروف تجانس
أحرفا أخرى
في كلمات
تجري وفق
نسق خاص،
مما شكل
ظاهرة جمالية
في مجموعته
(أقول
الحرف وأعني
أصابعي). ومن
أهم مكونات
البنية الإيقاعية
في هذه
القصائد ويوظفه
بشكل لافت
ليقوم بما
يشبه التدفق
الإيقاعي الخفي
بين ثنايا
المفردات، كما
سعى الشاعر
فيه إلى
توظيف كل
مستوياته بدأ
من تكرار
الحرف وانتهاء
بتكرار الجملة
أو العبارة
أو بيت
شعر أو
مقطع ، ذلك
أن للتكرار
دلالات إيقاعية
كثيرة، منها
التأكيد على
أهمية اللحظة
الواحدة وتشظّيها
إلى آلاف
اللحظات ليسهم
في تلاحم
البناء و
ترابطه. أما
مواضع التكرار
في هذه
المجموعة للشاعر
فيمكن أن
نجدها في
الآتي:
تكرار
الحرف:
كثير ما
يظهر في
القصائد، وهو
من
أبسط أنواع
التكرار، لقلة
ما تحمله
هذه الحروف
من معاني
و
قيم شعورية
قد لا
ترتقي إلى
مستوى تأثير
الأفعال والأسماء
والتراكيب.
وأمثلة هذا
النوع ، في
هذه المجموعة
كثيرة.
منها تكرار
الحرف في
قصيدة: ثمة
خطأ. يقول
في المقطع
الأول ص 7
ثمّة
خطأ في
السرير
وفي
الطائرِ الذي
حلّقَ فوقَ
السرير
وفي
القصيدةِ التي كُتِبَتْ
لتصفَ
مباهج السرير
وفي
المفاجأةِ التي
تنتظرُ السرير
في
آخرِ المطاف.
ثمّ يعود
ليكرر الحرف
في المقطع
الثالث:
ثمّة
خطأ في
الكأسِ والخمرة
وفي
الرقصةِ والراقصة
وفي
العُري والتعرّي
وفي
وثائقِ التابوت
وفي
النشيدِ، والنشيجِ،
والضجيج،
والحروب
التي أكلتْ
أبناءها
أو
التي ستأكلهم
عمّا قريب.
ويعود مرة
أخرى في
المقطع السادس:
ثمّة خطأ
في الحرفِ
وآخر في
النقطة
وفي
ساعةِ الرملِ أو ساعةِ
الصخر
وفي
الذكرى، والموعدِ،
والسكّين
وفي
المفتاحِ، وبابِ
البيتِ، والمطر
وفي
القُبلةِ، وكلمةِ
الأسف
وفي
رغبةِ شفتيكِ
وشفتيّ
وفي
كلمةِ: (أحبّك)
وكلمةِ: (وداعاً).
يكرر
الشاعر حرف
الجر(في) أكثر
من (15) مرة. وقد
وظّف الشاعر
تكرار الحرف
لبيان صورة
محتملة في
ثبات تأكيد
أخطاء في
حياتنا، من
الحرب، إلى
العري، إلى
الأسف، إلى
فقدان الرؤية،
لتضفي على
الصورة وصفا
داخليا متسما
بالقهر من
خلال الحرف
(في)
وهي تشكل
أنموذجا يحتذي
به في
مختلف القصائد
فضلا عن
ما أفاده
التكرار من
خلق إيقاع
موسيقي داخل
القصيدة. والتكرار
يحكمه قانونان
لا بد
من مراعاتهما
معا عند
توظيفه في
النص الشعري
. وهما
التكرار: إلحاح
على جهة
مهمة في
العبارة يعني
بها الشاعر
أكثر من
غيرها وبالتالي
يأخذ بعدا
نفسيا
له علاقة
بنفسية الكاتب
أو الشاعر، كما
يخضع للقوانين
الخفية التي
تتحكم في
العبارة وهو
قانون التوازن
ففي كل
عبارة طبيعية
نوع من
التوازن الدقيق
الخفي الذي
ينبغي أن
يحافظ عليه
الشاعر في
الحالات كلها.
وقد
يعمد الشاعر
في بعض
الأحيان إلى
أنواع مختلفة
من تكرار
الحروف كأن
يكرر أداة
استفهام أو أداة نفي
منها تكرار
الحرف في
قصيدة (زوربا)
ص 20
ستسخرُ.
ممن
إذن؟
من
الرقص؟
لا.
من
الرمل؟
لا.
من
الحُبّ؟
لا.
من
الحظ؟
لا.
من
الخوف؟
لا.
ستكرّرُ
لا ولا
ألف مرّة
إلى
أنْ تنهار
فوقَ الرمال
والقلبُ
ضاحكاً مثل
طفلٍ سعيد
يصيحُ:
لا.
وأنتَ
من خلفه
مذهولاً تصرخُ:
لا
لا
لا
لا
لا
لا
لا!
تنوعت
التكرارات في
هذه القصيدة،
منها تكرار
الحرف (لا) (15)
مرة
وهذا النفي
ناتج من
رفض وسخرية
(زوربا)
من الموت
ومن الحب
ومن الخوف
ليصيح : لا ،
حيث
يتم تشكيل
الحرف بنسق
جمالي في
شكل عمودي
ليقرّ بأهمية
التأثير البصري
وفاعلية دلالته وتكرار حرف
السين (13)
مرة،
(سترقص
إذن يا
صديقي
/
سيجتاحك الوهم
أو الموج/
وسترفع
قدمكَ إلى
الأعلى
/ ستبتسم).
لاحظ
كيف أن
(سين
المستقبل)
متلاصقة للأفعال
المضارعة وهي
تحمل زمنها
بنفسها. إن
الفعل: ترقص
الذي ينمّ
عن حركة
وانفتاح يزيد
من تصعيد
الحدث وأن
زوربا يعود
ويبتسم. ويبدو
أن هذا
التنوع في
التكرار قد
أغنى الإيقاع
الدلالي للقصيدة،
فتكرار (لا) و(من)
تأكيد
للمعنى الذي
يحاول الشاعر
إيصاله فضلا
عن الإيقاع
النغمي والموسيقي .. وفي قصيدة (اليد
)
يقول في
صفحة
32
في
الطفولة
فتحتُ
يدَ الحرف
كي
أجدَ قلمَ
حبرٍ أخضر
فوجدتُ
وردةَ دفلى
ذابلة.
وفتحتُ
يدَ النقطة
فوجدتُ
دمعةَ عيدٍ
قتيل.
وفي
الحرب
فتحتُ
يدَ الحرف
كي
أجدَ طائرَ
سلامٍ
يرفرفُ
فوقَ روحي
التي أربكها
مشهدُ
الدم،
فوجدتُ
حفنةَ رمادٍ
وقصيدة
حبّ مزّقتها
الطلقات.
وفتحتُ
يدَ النقطة
فوجدتُ
دمعةَ أمٍّ
بكتْ
ابنها القتيل.
لقد
تكرر حرف
الفاء
(12)
مرّة، وهي
فاء العطف
مع الفعل
(وجدتُ)
الذي تكرر
ست مرات.
في هذا
النص نجد
طفولة الحرف
والنقطة وما
بهما من
أحاسيس ومشاعر،
حيث أثث الشاعر
فضاءه بأصابعه
التي طرزت
جملا ومقاطع
شعرية مزجت
بين بساطة
اللغة وعمق
المعنى، عبر
شخصيتين رئيسيتين
هما الحرف
والنقطة، متمثلة
في الطفولة
والحرب والمنفى،
ومن خلال
الحرف نستبطن
الداخل. وقد
رُتّبِت القصيدة
في حكاية
من ثلاث
مقاطع ، وهكذا
في بقية
القصائد حيث
تتكرر الحرف
فيها مثل :
لِمَ أنت
،
مديح إلى
مهند الأنصاري
،
لم يعد
مطلع الأغنية
مبهجا، غزال
أكل قلبه
النمر.
تكرار
المفردة :
وفيها
يسعى الشاعر
إلى تكرار
مفردة معينة
في القصيدة
ويكون هذا
التكرار ناتجا
عن أهمية
هذه المفردة
وأثرها في
إيصال المعنى
وتأتي مرّة
للتأكيد أو
التحريض ولكشف
اللبس فضلا
عن ما
تقوم به
من إيقاع
صوتي داخل
النص الشعري . ومن
هذا النوع
من التكرار
نجده حاضرا
في قصيدة
:
مديح إلى
مهند الأنصاري
،
ص 88
كانتْ
حقيقية
شمسكَ
أيّها الراحل-
الباقي.
ليستْ
محاطة بالغبار
ولا
معجونة بالأكاذيب.
ليستْ
بحجمِ حبّةِ
قمحٍ
ولا
بحجمِ برتقالةٍ
ذابلة.
ليستْ
بالتي تنام
ولا
تدري أتقومُ
غداً
مِن
سريرها أو
لا تقوم.
ليستْ
بالتي تكرهُ
ساعاتها
ولا
دقّات قلبها.
ليستْ
بالتي تلبسُ
وجهين
ولا
تغيّرُ دفّتها
كلّ حين.
ليستْ
بالتي تدوسُ
على الكواكب
الأخرى
إنْ
زاحمتها في
الطريق.
نلاحظ
تكرار مفردة
(ليست)
خلال أسطر
القصيدة، حيث
تتكرر ست
مرات مؤدية
إيقاعا موسيقيا
داخل القصيدة
فضلا عن
الإيقاع الدلالي
الذي تؤديه
هذه المفردة
التي تدخل
النفي حول
حقيقة شمس
الراحل الأنصاري
. والنفي
هنا رمز
ولو رجعنا
إلى كلمة
(
ليست)
في اللغة
العربية لوجدناها :
ليس
فعل ماضي
جامد والتاء
هي تاء
التأنيث . ومن الأمثله
الأخرى لهذا
النوع من
التكرار قصيدة
(لم
يعد مطلع
الأغنية مبهجا).
يقول الشاعر
أديب كمال
الدين في
المقطع الخامس
ص 75
كلّ
شيء مضى.
سأحتاج
إلى كلمةٍ
لأصفَ غربتي
وسأخترعها
إنْ لم
أجدها.
غربتي
ليستْ هي
البحر،
فالبحرُ،
رغمَ وحشته وأكاذيبه
ومجونه، طيّبٌ
إذا
روّضته أو
روّضك.
غربتي،
إذن، بدأتْ
في الفرات
وغابتْ
مع شمسه
التي غابتْ
ويقول في
المقطع السادس
ص 75
غربتي
هي غربةُ
العارفين
إذ
كُذِّبوا أو
عُذِّبوا.
غربتي
هي غربةُ
الرأس
يُحْمَلُ
فوق الرماح
من
كربلاء إلى
كربلاء.
غربتي
هي غربةُ
الجسرِ الخشبي
إذ
يجرفه النهرُ
بعيداً بعيداً.
غربتي
هي غربةُ
اليد
وهي
ترتجفُ من
الجوعِ أو
الارتباك،
وغربةُ
السمكِ إذ
تصطاده
سنّارةُ
الباحثين عن
التسلية،
وغربةُ
النقطة
وهي
تبحثُ عن
حرفها الضائع،
وغربةُ
الحرف
وهو
يسقطُ من
فم السكّير
أو
فم الطاغية.
يكرر
الشاعر لفظة
(غربة).
لاشك
أنها غربة
الشاعر في
بلاد غير
بلاده، أحاسيس
مثقلة بهموم
الغربة.. وقد
أسهم هذا
التكرار في تعميق
صورة
الغربة التي
تتحكم بالشاعر
بكل أشكالها
وصفاتها. إنها
غربة الروح
والجسد والهجر
وفقدان الوطن
الحبيب. فالشعر
يعاني الاغتراب
بالجسد والروح
معا بعدما
أبى العيش
في وطنه
تحت حكم
الطغاة، ومن
الأمثلة الأخرى
لهذا التكرار
قصيدة ( أقوال
(
ص 49
قالَ
الحرفُ الحكيمُ
للنقطةِ الشاعرة:
تعالي
إليّ!
فأجابت
النقطة:
بل
أنتَ تعال
إليّ!
قالَ
الحرفُ:
إنْ
جئتكِ عشقتك
وأصبحتُ
ساحراً،
وأنا
لا أحبُّ
السحر.
فأجابت
النقطة:
إنْ
جئتكَ ذبتُ
فيك
وأصبحتُ
نبيّةً،
والنُبُوّة
لا تصلحُ
للنساء!
ثمّ يقول
في المقطع
الثاني:
قالَ شاعرُ
الملوكِ الظَلَمةِ
للشاعرِ الفقير:
انظرْ
إليّ : لقد
ضحكتُ من
الملوك
وبنيتُ
بدنانيرهم قصراً
عظيماً.
ويقول في
بداية المقطع
الأخير:
قالَ الشاطئ
للبحر:
أما
تعبتَ من
السفرِ طوال
الدهور؟
أما
آنَ لأمواجكَ
الزرق أن
ترتاح
بين
يديّ قليلاً؟
في
قصيدة (أقوال) تكرر
هنا فعل (قال)
أربع مرات،
وفي بداية
كل مقطع نرى الحرف
ذكرا والنقطة
أنثى تهب
وترد صدى
الحرف مثل
ترديدها هل
تحبني؟ أنا
أحبك أيضا.
محاورة
جميلة بين
الحرف والنقطة،
حيث تهيمن
هذا الثنائية
على النص
وعلى النصوص
الأخرى وهي
خاصية تتسم
بها معظم
قصائد أديب
كمال الدين،
وهما قطبا
التحول في
الطاقة والدلالة
ومنجم موضوعاته.
في قصيدة
:
صباح الخير
على طريقة
شارلي شابلن،
يقول
في ص 60
صباح
الخير أيّها
الضحك.
صباح
الخير أيّتها
القهقهة،
أيّتها السخرية،
أيّتها
السعادة،
أيّتها
الطفولة المتهرّئة،
أيّها
الفقر الأسود،
أيّها
الغنى الأبيض.
صباح
الخير أيّتها
الدموع،
أيّها
الجوع،
أيّها
الحذاء المسلوق،
أيّتها
البطالة،
أيّتها
المغامَرة،
أيّتها
المرأة الجميلة
المعشوقة،
أيّها
المُتشرّد العاشق.
صباح
الخير يا
أمريكا الأعاجيب،
أيّتها
الرأسمالية البشعة،
أيّتها
البروليتاريا الرثّة،
أيّتها
الحريّة،
أيّتها
العبوديّة،
أيّتها
الأثداء والسيقان،
أيّها
الحرمان.
تبدأ
القصيدة بمنادى
وبتكرار خفيف
يشبه إيقاظ
نائم أو
إيقاظ لوجوه
عديدة ، يستمر
الشاعر أديب
كمال الدين
في تكرار
المفردات في
حالة همسات
شاعرية رائعة
يمتزج فيها
الحسي والمعنوي
امتزاجا عضويا
نابضا بالتوهج
الجمالي، فأسلوب
النداء له
أهمية في
هذه القصيدة
حيث
تأكيد الانتباه
ولفت اهتمام
القارئ خاصة
وأن المنادى
هو كل
أشكال السياسة
والقهر والحرمان
وبطريقة هزلية ..
طريقة
شارلي شابلن!
وتتكرر المفردة
في قصيدة
(ما اسمكَ
أيّها الحرف؟)
ص 111
ما
اسمك؟
قلتُ
للحرفِ في
مساءٍ شديد
الظلام.
قالَ:
بعد هذي
السنين الطوال
والانتقال
العجيب
من
منفى إلى
آخر
ومن
شظيّةٍ إلى
أخرى
بل
من زلزلةٍ
إلى أخرى،
وأنتَ
لا تعرفني؟
قلتُ،
كَمَن يتصنّعُ
الهدوء،
لا.
قال:
كيف؟
ألم
تكتب المئات
من القصائد
لتصفَ
الحرفَ وعرشه
وأساطيره
وشموسه وفراته؟
ألستَ
الذي يُدعى
بالحُروفيّ
أو
ملك الحُروف
أو
النُقطويّ أو
الطلسميّ؟
قلتُ :
لا أدري.
قال:
إذنْ خذْها
منّي،
يا
شبيهي المُعذّب
بالموتِ والارتباك،
أنا
الحاء
حلمكَ
الباذخ بالحُبّ
أيّها
المحروم حدّ
اللعنة،
حلمكَ
المُتشظّي بالحرّية
أيّها
المنفيّ إلى
الأبد،
وأنا
الباء بسمَلَتك
أعني
جمرتكَ التي
لم تزلْ
شوكةً
في قلبك،
وأنا
النون: بئركَ
الأولى
وعنوانكَ
المستحيل،
وأنا
السين:
طفولتكَ
التي ضيّعتَها
باكياً
مع
دشداشتك اليتيمة
ودراهمك
السبع على
بابِ بغداد
ومحراب
بابل.
قلتُ :
وماذا بعد؟
قال:
أنا
الألف:
جرحكَ
الممهور بالدمِ
والندم
وأنا
النقطة:
نبضُكَ
الذي يولدُ
كلّ يوم
في
ثوبٍ جديد
ورقصٍ
جديد
وعُري
جديد
وموتٍ
جديد
حيّرَ
الأوّلين والآخِرين!
لا
يختلف اثنان
على هيمنة
ثنائية (الحرف والنقطة)
على معظم
شعر الشاعر
أديب كمال
الدين فهما
مشروعه الحياتي
والشعري .وقد
تكررت المفردة
وتنوعت فمن
تكرار (قلت وقال)
ليشيرا إلى
زمنين ماضيين
محاورة بين
حروفه الأثيرة
في سؤال
وجواب، وفي
إيحاء دلالي
يرمز إلى
حوار الشاعر
مع نفسه
للوصول إلى
الحرية والخلاص
مما يدل
على التحسر
على وطن
فارقه . فالحوارية
هي السمة
المهمة في
النص الشعري
ومنبّه كبير
للنص، ويبدو
أن هذا
التنوع قد
أغنى الإيقاع
الدلالي للقصيدة.
في قصيدة: حرف
يحتضن نفسه
، يقول
في ص 96
دع
القطار يخرجُ
من سكّتِه.
دع
المرأة تقول :
(أحبّك)
وهي
تضعُ الكثيرَ
من الأصباغِ
المزيّفة
على
وجهها الذي
أتعبه الزمن.
دعْها
تقول
حتّى
لو انتحرتْ
في آخر
القصةِ البليدة.
دع
القصة البليدة
تتكرّرُ كلّ
يوم.
دع
النافذة تنفتحُ
بقوّة
لترتبك
الصورة العارية
في الهواء.
دع
التلفون يرّن
ويرّن دون
أنْ تقلق.
دع
المطر يهطلُ
بغزارة
لتشرق
الشمس، بعدئذٍ،
بصخبٍ أصفر.
دع
الشبّان يصرخون
في الشارع
والشابّات
يلبسن اللاشيء.
دع
الزمن ينهمرُ
من نافذةِ
العمر
أو
من نافذةِ
الفندق
والساعات
تدفعُ بعضها
بعضاً
في
ازدحامٍ عجيب.
دع
المدينة تلهو
وبرجها
ينهارُ بهدوءٍ
شيئاً فشيئاً.
دع
الطائرة تطيرُ
على ارتفاع
ذراعٍ
واحدٍ من
الأرض.
تكررت
مفردة : دع (13)
مرّة
مؤدية إيقاعا
موسيقيا داخل
القصيدة فضلا
عن الإيقاع
الدلالي الذي
تؤديه هذه
المفردة التي
تدل على
ترك كل
ما يربك
ويقلق الحرف
وهو ينام
مثل يتيم
طُرِد من
الملجأ.
ويبدأ
في جمل
فعلية بالفعل
(دع)
حيث الزمن
يلعب ويلهو
ويعبث ويطير
كما يحلو
له.
وهكذا تتكرر
المفردة في
قصائد أخرى
مثل:
البياتي ، أيتها
المرآة ، لِمَ
أنت ..
تكرار
العبارة:
لا
يقتصر التكرار
على حرف
أو مفردة
إنما إلى
تكرار عبارة
معينة في
القصيدة ، وربما
تكون هذه
العبارة هي
المرتكز الأساس
الذي يقوم
عليه البناء
الدلالي للنص
فضلا عن
المهمة النغمية
التي يؤديها
التكرار وهذا
النوع نجده
حاضرا في
قصائد كثيرة.
يقول
في قصيدة
:
ثمة خطأ،
ص 7
(1)
ثمّة خطأ
في السرير
وفي الطائرِ
الذي حلّق
فوق السرير
(2)
ثمّة خطأ
في الأصابع
والشوق
ولحظةِ العناق
ثمّة خطأ
في الجسد.
أعني في
تفّاح الجسد...
(3)
ثمّة خطأ
في الكأسِ
والخمرة
وفي الرقصةِ
والراقصة
(4)
ثمّة خطأ
في السرِّ
والقبرِ والمنفى
وما بين
الساقين.
ثمّة خطأ
في الطائرة
وفي مقصورةِ
الطيار
والسنوات التي
انقرضتْ فجأةً
دونَ سابق
إنذار.
ثمّة خطأ
في البحر
والجلوس قرب
البحر
(5)
ثمّة خطأ
يكبر
وآخر يتناسل
(6)
ثمّة خطأ
في الحرفِ
وآخر في
النقطة
وفي ساعةِ
الرملِ أو
ساعةِ الصخر
(7)
وأخيراً
وباختصارٍ سحريّ
ثمّة خطأ
يشبهني تماماً
مثلما يشبهُ
البحرُ نَفْسه.
تكررت
عبارة : ثمّة
خطأ (اللازمة) في
بداية مقاطع
القصيدة ، وهي
القصيدة الأولى
في الديوان،
حيث كررها
الشاعر عشر
مرات، ليأتي
هذا التكرار
لتقوية الصورة
التي تصف
هذه الأخطاء
ومكان خطورتها.
ثمّة خطأ
في الحرف
وآخر في
النقطة ، ليأتي إلى خلاصة تقول:
(أخيرا/
وباختصار سحري/
ثمّة خطأ
يشبهني تماما).
فالنص لا
يعالج خطأ
واحداً وإنما
مجموعة أخطاء،
منها نشوة
الخمر، نزعة
التعري، الموت
الأحمر، السنوات
التي تتساقط
من بين
أصابع الشاعر،
وهروبه من
منفى إلى
آخر، إلى
آخر الأخطاء
التي تكبر
وتتناسل.
يلاحظ
أن الشاعر
قد عمد
إلى أن
يأتي بهذه
العبارة في
بداية المقاطع
ليدل على
الخطر في
ارتكاب الخطأ
،
لتكون القصيدة
من القصائد
الجميلة في
المجموعة. وفي
قصيدة: سؤال مسدود
،
يقول ص 58
(1)
كيفَ متّ
أنتَ الذي
كانت الحياة
كأسك المُفضّل
(2)
كيفَ متّ
أنت الذي
اقترحتَ للعيدِ
فجراً وأرجوحة
(3)
كيفَ متّ
بأيّ ليلٍ
بهيمٍ سقطتَ
كنجمةٍ تائهة؟
(4)
كيفَ
متَّ،
يا
فراتَ الروح
وسينما
الطفولة
ومقهى
الحلم،
لاذعاً
مثل كأس
عرقٍ مغشوش
في
شمسِ آب؟
كيف
متَّ، إذن،
وتركتَ
جثّتكَ مرتعاً
للطيورِ والكلاب؟
يتوالى
تكرار عبارة
(
كيف متّ
) في
القصيدة وفي
بداية كل
مقطع من
مقاطع القصيدة الأربعة،
إذ
وظف
السؤال ( كيف
متّ ) بصيغة
استفهامية وهذا
التكرار الاستفهامي
نسج منه
الشاعر تجربته
الشعرية، فصار
الاستفهام هو
المحور لهذا
النص ، ولعل
الاستعانة بالأسئلة
وصيغ الاستفهام
خاصية بدأت
تبرز بشكل
ملفت للنظر
في قصائد
هذا الديوان .
وفي قصيدة
واحدة هي: العودة
من البئر،
يمكننا إحصاء
أكثر من
عشرة أسطر
تبدأ ب(
لماذا ؟)
وهي
صيغة الاستفهام
تأتي أحيانا
صادمة للقارئ
وتثيره ، لكنها
في الأغلب
تأتي كمخرج
متعدد الحالات،
وهذا هو
سر مهنة الشاعر
(لماذا
تركتهم يلقونني
في البئر؟ /
لماذا
تركتهم يمزّقون
قميصي؟ / لماذا
تركتهم يمزّقون
قميصي؟ لماذا
لم تقلْ
أيّ شيء؟).
وهي تتحدث
عن غدر
إخوة يوسف
وعن معاناته ،
ويكرر الشاعر
لماذا، ولماذا سكت
يعقوب عن
كل هذا
الظلم.
ويقول
في قصيدة
: المطربة
الكونية
ص 101
1.
لأربعين عاماً
كنتُ
أشكو لواعجَ
روحي
وارتباكها
الأزليّ
إلى
أغنياتكِ المُزهرةِ بالشوقِ
والأنين
إلى
صوتكِ الذي
تحفُّ به
ملائكةٌ
من الدمعِ
والياسمين
إلى
نيلكِ وشمسِ
أصيله الغامضة.
2 .
لأربعين عاماً
كنتُ أشكو
إليك
3 .
لأربعين عاماً
كنتُ أراقصُ
صوتَك
تكررت
عبارة
(لأربعين
عاماً ) في
بداية مقاطع
القصيدة الأربع،
ولا نعرف
ما سرّ
تعلّق الشاعر
أديب كمال
الدين بهذا
الرقم؟ فديوانه
السابق كان
عنوانه: (أربعون قصيدة
عن الحرف)،
وقصائد
هذا الديوان
عددها أربعون
قصيدة . ربما
استخدم الشاعر
هذا الرقم
هنا ليشير
إلى ذكرى
مرور أربعين
عاماً على
تعرّفه على
صوت الفنانة
الكبيرة أم
كلثوم، إلى
صوتها العظيم،
صوتها الذي
تحفُّ به
ملائكة من
الدمع والياسمين،
وأغانيها ذات
الشوق والأنين،
وإلى النيل
وإلى أغنيتها
الشهيرة (شمس الأصيل).
إن ديوان (أقول
الحرف وأعني
أصابعي (
للشاعر
المتألق أديب
كمال الدين
هو حقاً
(منجم
الموضوعات الشعرية
التي ينتقيها
بعناية فائقة
معتمدا على
حاسته الشعرية
المرهفة (5). وهذا يرجع
إلى الانفتاح
الواسع لخيال
الشاعر على
استقبال الفنون
ونزوعه الذاتي
نحو اكتسابها.
وهذا
التنوع والانفتاح
هو الذي
يبرز الطاقة
الشعرية التي
ينهل منه
الشاعر، فثمة
كثافة في
قصائده متأتية
من كون
القصيدة عنده
قطعة من
حياة بكل
ما فيها
من مسرات
ولوعات وغربة
وبُعد.
إن أديب
كمال الدين
حرف منفرد
في مسيرة
شعراء الحداثة
يعتمد التوسط
في حداثته
ولديه القدرة
على التعدد،
في هذا
الديوان (أقول الحرف
وأعني أصابعي)
وفي دواوينه
الأخرى، قد
نهل فيه
من أجناس
إبداعية كثيرة
كالموسيقى، المسرحية،
القصة، الدراما،
الفن التشكيلي
والتصوير وما
إلى ذلك،
في بناء
نصه الشعري،
وبدرجة عالية
من العشق
والتركيز، تجعل
من أديب
صوتاً منفرداً،
ليكون شاعر
الحداثة والقصيدة
الحية،
فلغة أديب
لغة عملية:
إيقاعات بسيطة
وعذبة ذات
مفردات يومية
منتقاة وتجربة
شخصية مصوّرة
بصور تتلاحق
في أسلوب
حكائي ليس
على لسان
الحمامة والثعلب
وإنما على
لسان الحرف
وحبيبته النقطة،
و(إن الحرف
لا ينتهي،
وتأويله شعرا
لن ينتهي
(
كما يقول
أديب نفسه (6).
.................................................................................
هوامش الفصل
الرابع
1- أقول
الحرف وأعني
أصابعي ، أديب
كمال الدين
، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2011
2 - الشعر
العراقي المعاصر
،
عمران خضير
ص
182
3 - قضايا
الشعر المعاصر
،
نازك الملائكة
،
دار النهضة
بغداد
ص
242
4 - التكرير
بين المثير
والتأثر ، عز
الدين علي
السيد ، ص 84
5 -
التكرار في
الشعر الجاهلي
،
موسى ربايعة
6 - منجم
الموضوعات
الشعرية
،
عدنان
حسين
أحمد، صحيفة القدس العربي ، لندن 7 نيسان 2011
7-
متعة
القصيدة تكمن في كشف
أعماق شاعرها
،
حوار
أجراه ياسر عبد الباقي مع
الشاعر
أديب
كمال
الدين ، موقع جدارية 23 آذار 2009
|