سبق نقدي لإحصاء خسائر الشاعر وأرباحه في هذا العالم
فيصل عبد الحسن*
وقد
درس الناقد تجربة الشاعر عبر عدة فصول، حملت العناوين التالية:
"ملاحظات تمهيدية – الشكل العام لقصائد أديب كمال الدين – اتجاهات الحداثة
في شعر أديب كمال الدين – الأسطورة و الرمز الديني في شعر أديب كمال الدين – معنى
الوطن في شعر أديب كمال الدين – المضمون الاجتماعي والمعرفي في قصائد الـ (مواقف)–
ملاحظات ختامية – ونبذة عن حياة الشاعر أديب كمال الدين."
وقد أعطى تبويب الفصول للناقد فرصة للتحرك بحرية في العديد من قصائد الشاعر،
لينقل لنا خلاصة تجربته بأقل قدر من صفحات كتابه، وبطريقة البحث المعهودة في
الدراسات البنيوية، التي تناولت معظمها نصوصا ثورية في أدبنا الشعري المعاصر. وقد
نجح بعضها نجاحاً منقطع النظير في تحليل قصائد لكثير من شعراء الوطن العربي المهمين
الذين قادوا طلائع شعراء قصيدة النثر كوديع سعادة وأنسي الحاج وأدونيس، والماغوط،
وأمجد ناصر وعباس بيضون، وسيف الرحبي، وغيرهم، فهو يتناول في تمهيده، الذي أعطى فيه
مبررات اختياره لهذا الشاعر فقال: "كنت أتحرّى الخطوط العريضة التي تركت عدة
علامات، ولنقل عدة ندوب، أو جراح تنزف، فوق القصيدة.
ولا شك أن التركيز على مبنى ومضمون الحداثة، كما حاول الشاعر أن ينقلها
إلينا، له ما يبرره. ولكن هذا لا يفصله عن الضفة الأخرى: الهم الوجودي والعميق،
الهم الأصيل الذي يعبر عن جدلية الأمكنة، ثم جدلية الحاضر والماضي، ولا سيما
التاريخ المكتوب والسرد المعاصر. وأود أن أنوه أيضا أن هذه المقالات كانت بعيدة عن
المجاملة وعن الإطناب، ولم تستنفذ كل جوانب الشاعر، ما له وما عليه.
لقد كان ديدني أن ألاحظ الظاهرة، وأن أعمد لتأويلها، من غير أي تدخل شخصي.
إنها قراءة في المفاهيم والأخيلة، مع نوع من التحري في الأسباب والدوافع، ولا سيما
المنظومة الفردية، وهي في لحظة المواجهة مع مصادر الألم و الشقاء".
لقد وضع الناقد نصب عينيه
الندوب التي خلفتها قصائد هذا الشاعر في تجربة الجيل الشعري العراقي، الذي جايله
أديب كمال الدين في العراق في بداية السبعينات من القرن الماضي، وانتهاء بتجربة
الشاعر الأسترالية، التي انطلق فيها من تجربة حياتية غنية في العراق بالمواقف
الحياتية المصيرية، كالموت والسجن، المرض والجرح والفقر والغنى، الخيانة والصداقة،
الحب والكره، والبحث عن موقع في حياة ضاجة بالمتزلّفين والمنافقين، وأصحاب العاهات
النفسية، الذين خلفتهم الحروب الكثيرة التي أدخل النظام السابق فيها العراق من دون
مبررات حقيقية، وانتهى فيها إلى أستراليا حيث بدأ في هذا البلد يحصي خسائره
وأرباحه. فهو إذن سبق نقدي لأحصاء خسائر الشاعر وأرباحه في هذا العالم، ولكن هيهات
أن يصلح تغيير الأمكنة الروح التي أدمتها الأيام.
ويتناول الناقد في فصله المعنون "الأسطورة والرمز الديني في شعر أديب كمال
الدين" فيورد ما يلي: "أما
بالنسبة
للتصوّف الذي يوظف
الشاعر مفرداته الخاصة في أكثر من مناسبة، فهو
یبدو
لي
أقرب
إلى
أنه إشاعة،
أو
وجبة محضرة
في
مطبخ
مختلف ولماذا
لا
نتحلى
بالجرأة
ونقول :
إنه
نفس
الظاھرة
التي یعزوها
بوفون
إلى الأسلوب،
باعتبار
أن
الرجل
ھو
أسلوبه،
بمعنى
أنه
تكنیكه.
لقد
كانت
الغاشیة
الصوفیة،
وھي
التي
تتحمل
أعباء معنى
أھل
الباطن
وأھل
الظاھر
أو
عالم
الثبوت
و
عالم
الغیب،
متنحیة
من
مجمل الصورة،
و
كان
یعوزھا
في
ھذه
الحالة
ما
یزید
على
نصف
العناصر
التالیة
: 1 -
شدة
الوجد، 2 -
تجربة
الاتحاد،
3 -
الدخول
في
غیبوبة
السكر،
4 – صوت الهاتف
الإلهي،
5 -
الاستفاضة
بالكلام
بلا
قیود" .
وربما يختلف مع الناقد د. صالح الرزوق كثيرون غيري، فيما ذهب إليه الناقد من
اعتباره لمحاولة الشاعر الصوفية في قصائده النثرية، بانها أشاعة أو وجبة محضرة!!
كما أشار
إلى ذلك في النص المجتزأ السابق من مقاله، في الحقيقة لقد جعل أديب كمال الدين
المفردة اللغوية الشعرية في قصائده تحمل أكثر من معنى، وأكثر من رمز، فجاءت عباراته
ورؤاه لتذكرنا بما كان يقوله ابن عربي والتوحيدي وابن الفارض والسهروردي، وغيرهم من
لبسوا في شعرهم ونثرهم لبوس الفيوضات الصوفية، ورموزها، وأيحاءاتها، وعمقها الروحي
الغامض.
ولكن الناقد يصيب كثيراً في بحثه عن أسرار أستخدام الحروف في نص كمال الدين
الشعري، ولنجتزىء ما قاله في هذا الصدد "وردت مفردة نقطة في مجموعة (أربعون قصيدة
عن الحرف) 18 مرة ربما للإشارة إلى العلاقة بين محيط الدائرة (التجربة أو الموضوع
أو الصورة) ومركزها (الإنسان أو الذات أو النفس الكلية)، و كأنه ينقل لنا رسالة ابن
عربي : إن الإنسان هو روح الله، و له رمز نقطة مطلقة لا تقيدها الدوائر. وإن أصل
هذه الفكرة يعود إلى (المذهب الذري) الذي يرادف عند علماء المسلمين معنى (الجوهر
الفرد) والكثافة (انعدام الفراغ في الداخل).
وكان وراءها تخيلات نصف علمية لها ضرورات إيمانية، لتبجيل الخالق، و ليس
ضرورات خطاب اجتماعي تحليلي متعقل، لذلك غابت عنها (الصفات) لا سيما أن الله ليس
كمثله شيء، و لم تتدرج من المحسوس إلى المعقول، و خاطرت بالمنهج في طريق الخيال
والصورة، ثم المجازات والاستعارات (كما ذكر حسن مروة في معرض حديثه عن المعتزلة-.
بالمقابل ورد حرف الباء (6) مرات، و الحاء (4)
مرات. و هما حرفان خافتان و متعاكسان (شفوي و حلقي)، و لهما معنى عاطفي مضمونه
(حب)، و هذه أصغر مفردة ذات معنى في اللغة العربية، لو تغاضينا عن الأفعال الأوامر
و النواهي المجزومة (مثل : ق وما شاكل
ذلك).
على أية حال لم يكن
الشاعر مهتما بحرف دون آخر. و قد توزع مخطط حروفه في مجموعة (أربعون قصيدة عن
الحرف) على النحو التالي : الباء (6) مرات، الحاء (4)، الدال (4)، الألف (3)، الواو
(2)، الخاء (2)، الراء (1)، السين (1)، النون (1)، الميم (1)، التاء (1)، الغين
(1)، الهمزة (1). و كما هو واضح إن الفونيمات القريبة في نطقها من مقدمة الفم و
ذروة اللسان تبلغ 17 مرة، مقابل 11 تكراراً لفونيمات موزعة على ما تبقى من مناطق. و
هذا دليل آخر على أن القصائد ليست معدة لاحتفالات جماهيرية، ولا لأغراض التحميس، و
لكنها مكتوبة بوحي من الوجدان و التأمل الذاتي الرقيق و الشفاف."
لقد أنجز الناقد د. صالح الرزوق في دراسته لشعر الشاعر أديب كمال الدين
سبقاً نقدياً سيحسده عليه الكثير من النقاد، خصوصاً في هذا المدّ الكثيف من
الشعراء، الذين لم يكتبوا قصائد مهمة، لكنهم نالوا الكثير من الشهرة، والنفاق
الاجتماعي الذي صيّرهم شعراء مبجلّين يشار إليهم بالبنان، ويانفوا حتى من الحديث مع
الناس أو تقبل نقد الصادقين منهم!!
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
نُشرت المقالة في صحيفة أخبار الخليج البحرينية
، العدد 11985 في 15 يناير
2011
·
فيصل عبد الحسن : كاتب وناقد عراقي يقيم في المغرب
faisal53hasan@yahoo.com