قراءة في مجموعة "تفاصيل" للشاعر أديب كمال الدين:
“تفاصيل”: شاعريّة الطفل الّذي كانَ
أ.
د. مصطفى الكيلاني – تونس
1- الالتفات إلى أقدم اللحظات.
جرت عادة الكتابة الشعريّة أن تتّجه إلى غَير التفاصيل، إلى المُطلق أو المجرّد،
لمدى حاجة الذات الشاعرة إلى الخروج من دائرة الأشياء المعتادة إلى مواطن الحلم
وكثيف الرغْبة داخل العوالم الجُوانيّة المكتظّة بالرموز والأسرار. غير أنّ
التفاصيل، هنا، عند قراءة الديوان الأوّل في حياة أديب كمال الدّين الشعريّة لا
يُراد بها أداء الأشياء الحسّيّة بالمباشر العلاميّ، بل هي أشبه ما يكون بالجهد
التذكّريّ يعود ليتنصّت أبعد الأنْباض في تاريخ الوجود الفرديّ ويتعقّب أقدم
الصُوَر، عَوْدًا إلى الحبّ البدائيّ، إلى زمن المشيمة، إلى ذكرى الماء ببَهجة
الوعي البدائيّ الّذي سُرعان ما استحال بمُرور أوقات العمر إلى لا
وعي.
ففي “قصيدة حبّ”
تنكشف بعض ملامح هذا الزمن البَدْئيّ، كأنْ تتضمّن كتابة الاستذكار بمجمع قُوى
الروح الكاتبة المدفوعة بالالتفات إلى أقدم اللحظات بعضا من الحنين إلى زمن كان ولا
تزال آثاره عالقة بصميم الذاكرة البدائيّة: “الجسد البلّور والثدي وتلال الماء
والصحو الرمليّ والثلج والبحّار الضائع وأردية امرأة والأزهار والأحلام والأشجار
وغابات الكلمات...”.
هي، إذن، لحظة البَدْء أو دهشته ينجَلي بعض سمائها في “قصيدة حُبّ” لتُعلن ابتداء
تجربة شعريّة تُؤالف بين الحنين إلى البدايات الأولى وفعل الاستذكار عَوْدًا إلى
زمن المشيمة فالرضاع وهوس الحرف ينشأ عشقه تزامُنا مَعَ عشق الكتابة أو تنائها
الجميل:
“حبيّ !
من أجلك قد غنّيتُ حروفًا لا توصف
وحروفًا تشكو لونَ
الليلِ وتمشي (...)
وحروفًا تهمس للصيف...”
وكأنّ “قصيدة حبّ” ابتداء الوشم الّذي استحال في اللاّحق إلى حرف، ابتداء الكتابة
برغبة البوْح عن المُخّبأ الدفين، عن الحُبّ البدائيّ، مرجع كُلّ الأحداث والوقائع
في حياة الذات الشاعرة، استباق لما يكون عبر مختلف أطوار الوُجود ووجود الكتابة.
2- فعل السؤال كلّما استحال الإثبات أو تَعَسَرَ .
كذا تتّضح بدايات الكتابة الشعريّة لأديب كمال الدّين على شاكلة استذكار ينتهج سبيل
الالتفات فعلا استبطانيّا يستقرئ أدقّ تفاصيل تاريخ الروح بجهد الاسترجاع الّذي
يسعى إلى إعادة تجميع أصداء المنتثر وتوحيد شتاته في هدير الزمن المنقضي بفِعل
السؤال كُلّما استحال الإثبات أو تعسّر:
“أأنا صوتٌ ودعاء أبيض
حلمٌ وزياراتٌ صيغتْ من أعماقِ الوردة ؟
أأنا مطرٌ ...؟
أأنا حضنُ امرأة ...؟ ”
وحينما تسعى الذات الشاعرة إلى الإجابة بمُحاولة الكشف عن الغارق في البُهمة ينجلي
بعضٌ من المعنى مُتردِّدًا بين شتات الأصوات/الأصداء:
“يدعوني القاتل...
الخاطئ...
العاشق... الشاعر... يدعوني الطفل ..!!
فيطفو صوت الطفل أو صَدَاه في زحمة هذه الأصوات/الأصداء، كأن تنتصر لحظة البدايات
بلحظة قصيدة “طفولة” تكرارًا في الدلالة المرجعيّة “لقصيدة حُبّ” وتتجاوزها في الآن
ذاته بحادث اللّحظة وراهن الحال المُفردة المُختلفة عن سابقتها.
3
-
حقيقة النُقصان.
تدرك الذات الشاعرة حقيقة النُقصان منذ البدايات الأولى إذ “اللقاء...
وداع” لحظة شعريّة أخرى تعقب اللحظتيْن السابقتيْن.
إلاّ أنّها تختزل بوعي كارثيّ بدائيّ ما يصل بين الحياة والموت، بين الحدوث
والانقطاع أو الانقضاء حتّى لكأنّها لحظة استقراء الموت في الحياة على شاكلة
بدْئيّة تتّخذ لها الحُبّ دلالةً أولى مرجعيّة والطفولة مجالا لاستقدام الغامض من
الرموز وتوليد المُمْكن الحادث منها.
فيتعالق الحلم وكابوس اليقظة، رومنسيّة فعل الاستذكار وما يُشبه واقعيّة الزمن
الراهن في لحظة القصيدة، إمكان تمعين (من المعنى) ما حدث ويحدث وما سيحدث أو قد
يحدث والعبث أو اللاّ-معنى الجاثم بكلْكله على صدر اللّغة كما يتمثّلها الشاعر
إعادةَ إنشاء للّغة. لذلك يرتبك حلم “النرجس” لارتباك الذاكرة كي يظلّ هذا الزهر
علامة تيقُّظ في صميم الروح، كأن يدفع إلى حياة قادمة من غير أن يذبل:
“النرجسُ
ذكرى
عطر امرأة فارقت البحر (...)
النرجسُ زمنٌ آخر
لا جدوى فيه إلى الكلمات...”
وإذا “النرجس” لغة أخرى لا تحتاج إلى ألفاظ، بل هو فيض حال ينزع إلى مقاربة ماهو
أبعد
من الكلمات.
فيلتقي الحدث ونقيضه، الرغبة والوجع كي تزداد دلالة “النرجس” لبسا في الأثناء
بمُخْتلف أفعال توصيفه، وبالضمير المستَتِر الّذي يكتفي بالإلماح إلى غامض المعنى
ائتلافا واختلافا بين “اللقاء”
و”الوداع”:
قالتْ ذلك
وبكتْ مثل النرجس”.
4- “ما نفع الأشعار، إنْ لم تأخذ بيدي؟”
تنشأ الكتابة الشعريّة، إذن، لدى أديب كمال الدّين في الحيرة وبالحيرة، برُؤيا
الجسد أو جسد الرؤيا لما يدلّ عليه فعل الاستذكار مِن إحياء لقُوى روحيّة بدائيّة
كامنة في الجسد حينما تسعى ذاكرة الكتابة إلى الحفر في عميق هذا الجسد المُكتسي
بقديم خيالاته وحادث رغباته وأحلامه كي يُثار سُؤال قَصْديّة الشعر في “قصائد
قصيرة”:
“ما نَفْع الأشعار
إنْ لم تأخذ بيدي؟”
ويستمرّ السُؤال ماثلا في الطوايا والخفايا: كيف للّغة أن تتجاوز ذاتها إلى لُغة
أخرى هي من الشعر واليه؟ فتُمسي الكتابة، هُنا، ضرورةً لاستقراء الأزمنة، كُلّ
الأزمنة بمُحاولة الاستذكار أو احياء ما طواه النسيان الأبديّ، نبوّة من نوع خاصّ
هي نُبُوّة الشاعر، ذلك “النبيّ الصغير” ينفتح بأقصى الجهد على المواطن المشتركة
بين الحياة والموت عند التفكير
الحدسيّ شعرا في “الشتاء” بمختلف رموزه، ما أدركتْه الذات الشاعرة الطِفليّة وما لم
تُدْركه بعد، برومنسيّة الدهشة ووُجوديّة اللحظة تستحيل إلى إمكانات رموز، بل مواقف
ومقامات شتّى للرغبة بالوجود والكتابة:
“الشتاءُ نبيٌّ صغير
ملعبٌ للزمانِ القديم...”
فتستعين الذات الشاعرة باللّغة حينا كي تُعلن عن عجزها أحيانا عن أداء شاعريّة
البدايات. لذلك نراها تلوذ بالحرف والصمت أيضا، كـ “لا القصيدة“:
“ لا
أصمتُ الآن
صامتاً قد يجيء الفراتُ البليغ
صامتاً قد يجيء الفراتُ العميق...”
كما تتوسّل هذه الذات بعناصر الطبيعة على غرار ما انتهجت سبيله الرومنسيّة عند
النفاذ إلى ما وراء الطبيعة لأداء المشترك بين دهشة الروح ولغة العناصر، بين طفولة
الكائن وأصالة الكيان بما تكشفه مرايا الذات والوجود وما تحجبه، وبرمزيّة اللحظة-
الطفلة، تلك الرغبة العارضة في “القُبلة
والنهر”:
“إنّني عُشبَةٌ فارقتْ صوتَ أطفالها
ربّما لحظة تهتدي ذاتَ قرنِ المساء
طفلة كحّلتْ قلبها
في المرايا بصمتٍ وليلٍ وموج ...”
5-
الموت مُرادف السلب الفاعل إبْدَاعًا
شعريّا.
تخوض الذات الشاعرة في “تفاصيل” تجربة الاستذكار عَوْدًا إلى طفولة الاسم وطفولة
الحرف، وتُغامر في
استقراء البدايات لتبحث لها ومن خلالها عن معنى مّا للحياة والموت.
وإذا الحقائق، كُلّ الحقائق الممكنة، تصطدم باللاّ-وثوق، بالنفي حينما تُدرك الذات
الشاعرة أنّ السلب هو أصل وجود المعنى ومرجعه، وأنّ الصمت أساس اللّغة، وبها تكون
فِعْلاً ناطقًا، إذْ في قصيدة
“لم” تدْرك الذات الشاعرة أنّ البداية لم تحدث بعد:
“لم تبدأ بعد. الشاعرُ قال (...)
لم تبدأ بعد. الشاعرُ قال.
فأتاه الموت! ”
فليس الموت انقضاءً، بل ابتداءً غير مُؤكَّدّ لنهاية مؤجَّلّة. وما الكتابة
الشعريّة عند استقراء البدايات بِفِعل الاستذكار إلاّ إعلانٌ عن ولادة شعريّة تنشأ
داخل رحم اللاّ-معنى، السلب، النفي، العدم، الموت.
كذا تنشأ القصيدة بمختصر “قصيدة”، آخر نصوص “تفاصيل”:
“ يا أرحبَ لحدٍ مُعشب
يا أرحبَ مَنْأى !“
فما سعت الذات الشاعرة إلى استذكاره تلاشى وُجودًا، وإنْ ظلّ ماثلا ببقايا أصدائه
في المُشتَرَك القائم بين اللّغة والصمت، بين الحرف وما وراء الحرف.
إنّ الوعي الناشئ القائم على إدراك الحقيقة الّتي مفادها أنّ الثابت وُجودًا بعد
تلاشي الحبّ، الطفولة، بكارة المعنى هوالموت، لأنّه الحاضر بكثافة حيّة في الوجود،
باعتباره أساسًا مرجعيّا وموَلّدًا للمعاني، حادثها ومُمكنها، وهوالشيء ونقيضه،
والنهج الدلاليّ المتبقّى في ليل الوُجود، والأفق الّذي سيفتح على جديد المعاني
مادام حاضرًا بإمكان معناه في الوُجود وبالوُجود.
********************************
(*) أديب كمال الدين، “تفاصيل”، النجف: مطبعة الغرّي الحديثة، 1976.
**
الفصل
الأول من كتاب لناقد التونسي أ. د. مصطفى الكيلاني
بعنوان: "الحرف والطيف: عالم أديب كمال الدّين الشِعريّ (مقاربة تأويليّة)"
تونس 2010 (نشر اليكتروني) .