* القصائد
- ثمّة خطأ
225
- الرقصة
229
- العودة من البئر
231
- إنّي أنا الحلّاج
235
- زوربا
238
- صقر فوق رأسه الشَّمس
241
- غزال أكل قلبَه النمر
244
- حارس الفنار قتيلاً
246
- اليد
249
- وصيّة حروفيّة
251
- يا صاحب الوعد
253
- النخلة
257
- انسلال
259
- تمسّكْ بها واستعنْ!
262
- أقوال
266
- قصيدتان
269
- أيّتها المرآة
271
- سؤال مسدود
275
- "صباح الخير" على طريقة شارلي شابلن
277
- الموكّل بفضاء الله
279
- الكثير من الصور
282
-
الحاء والألف
284
- أو أكثر بقليل
286
- مُشاهد
288
- لم يعدْ مطلعُ الأغنيةِ مُبهِجاً
290
- في المطار الأخير
294
- في شارع الحشّاشين
296
- حوار
298
- أعتذر الآن
301
- مديح إلى مُهنّد الأنصاريّ
303
- لِمَ أنت؟
305
- القمر والبئر والقطار
307
- حرف يحتضنُ نَفْسه
310
- أشياء على المائدة
311
- المطربة الكونيّة
314
- تحليق
317
- تحت شجرة الكلمة
318
- أمطار موسميّة
320
- ما اسمكَ أيّها الحرف؟
322
- البيّاتي
325
- آراء في التجربة
329
- سيرة ذاتيّة
353
ثمّة خطأ
1.
ثمّة خطأ في السَّرير
وفي الطائرِ الذي حلّقَ فوقَ السَّرير
وفي القصيدةِ التي كُتِبَتْ
لتصفَ مباهجَ السَّرير
وفي المفاجأةِ التي تنتظرُ السَّرير
في آخر المطاف.
2.
ثمّة خطأ في الأصابع،
والشوق،
ولحظةِ العناق.
ثمّة خطأ في الجسد،
أعني في تفّاحِ الجسد
وخياناته وَصَبَواته العجيبة.
3.
ثمّة خطأ في الكأسِ والخمرة
وفي الرقصةِ والراقصة
وفي العُري
والتعرّي
وفي وثائقِ التابوت
وفي النشيدِ، والنشيجِ، والضجيج،
والحروبِ التي أكلتْ أبناءَها
أو التي ستأكلهم عمّا قريب.
4.
ثمّة خطأ في السرِّ، والقبرِ، والمنفى
وما بين الساقين.
ثمّة خطأ في الطائرة
وفي مقصورةِ الطيّار
والسنواتِ التي انقرضتْ فجأةً
دونَ سابق إنذار.
ثمّة خطأ في البحر
والجلوسِ قربَ البحر
وقربَ العاريات،
أعني العاريات تماماً.
5.
ثمّة خطأ يكبر
وآخر يتناسل
وثالث يشيخ
ورابع يبكي
وخامس يهربُ من منفى الى منفى
ومن دمعةٍ الى دمعة
ومن رمادٍ الى رماد.
6.
ثمّة خطأ في الحرفِ وآخر في النقطة
وفي ساعةِ الرملِ
أو ساعةِ الصخر
وفي الذكرى، والموعدِ، والسكّين
وفي المفتاحِ، وبابِ البيتِ، والمطر
وفي القُبلةِ، وكلمةِ الأسف
وفي رغبةِ شفتيكِ وشفتيّ
وفي كلمةِ: "أحبّك"
وكلمةِ: "وداعاً".
7.
وأخيراً
وباختصار سحريّ
ثمّة خطأ يشبهني تماماً
مثلما يشبه البحرُ نَفْسه
والموسيقى طائرَ الفجر،
خطأ
لا ينسى ولا يتسامحُ حدّ الموت
يفتحُ بابَ الموت
بهدوءٍ
أسْوَد
ويطير.
الرقصة
أزلتُ عن قصيدتي الهوامش
ثُمَّ أزلتُ الفوارز وعلاماتِ
الاستفهام
والتعجب والارتباك.
ثُمَّ صرتُ أكثر
شجاعةً
فأزلتُ المعنى عن قصيدتي
بعدَ أن أزلتُ النقاطَ عن الحروف
بالطبع.
حينها
بدأتْ حروفي تتماسك
لتشكّلَ دائرةً تحيطُ بي
وأنا في وسطِها.
وبدأت الحروفُ عاريةً تماماً
ترقصُ وترقصُ وترقص
رقصةً وحشيّة
وأنا لا أعرف مَن أنا:
أأنا المصلوب في أورشليم الذي وشى به
يهوذا؟
أم أنا المصلوب على جسرِ الكوفة
لسنين عدداً؟
أم أنا طوطمٌ أفريقي
خُلِقَ ليبتهجَ بقرعِ الطبول؟
أم أنا مجرّد حرف ضّال،
حرف خارج عن القطيع،
حرف ممسوس
أمسكَ الشَّمسَ بيمينه
والقمرَ بشماله،
فكرهته الحروفُ جميعاً
وقرّرتْ أن تعاقبهُ بالسجنِ المُؤبّد
عبرَ رقصها الوحشيّ المُؤبّد
حولَ صليبه العجيب؟
العودة من البئر
1.
لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟
لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟
لماذا تركتهم يكذبون،
وأنتَ تعرفُ أنّهم يكذبون؟
أعرفُ أنكَ كنتَ شيخاً جليلاً
وأنّهم - وا خجلتاه - استغلّوا
ضعفكَ البشريّ
وبياضَ لحيتِك
ودقّةَ عظمِك.
أعرفُ هذا
وأعرفُ أنّهم تركوني إلى الموت
قابَ قوسين أو أدنى
وأنّ الذئبَ كانَ أرحم من أراجيفهم.
لكنّني كنتُ ضعيفاً.
أصدقكَ القول
لم أستطعْ أن أقاومَ سحرَ لثغتها
ولا أنوثتها الطاغية
فسقطتُ في البئر
وصحتُ: انتشلْني
يا مَن كُتِبَ عليه ما قد كُتِب
من عذابٍ عجيب.
صحتُ: سلاماً
إنّني أهوي إلى القاع.
فهل سقطتْ دمعتُك
من بؤبؤ الحزنِ حتّى تراني؟
أصدقكَ القول
إنّني لم أعدْ بعد.
إنّني أحلمُ أن أعودَ إليك
لأبكي على صدرِكَ الطيّب
وأصيحُ : أبي يا أبي
أيّها البعيد كهلالِ العيد
والقريب كهلالِ العيد
أريدُ أن أراك
لآخر مرّة.
قالَ إخوتي: إنكَ متّ.
لكنّهم - كما تعرف - يجيدون
فنَّ الكذب
ولم يسلمْ حتّى الذئب من أكاذيبهم.
لكنّهم صدقوا هذه المرّة
فأنتَ متّ بين يديّ
وكنّا وحيدين
في غرفةِ صباي وشيخوختك،
أعني صباي المُلوّن بالحرمان
وشيخوختك المُعطّرة بالألم.
كنّا وحيدين.
2.
كنّا وحيدين
حينَ متَّ بين يديّ.
لم تقلْ شيئاً.
لم تقلْ أيَّ شيء.
لماذا لم تقلْ أيَّ شيء؟
لم أقلْ لكَ أيَّ شيء.
لماذا لم أقلْ لكَ أيَّ شيء؟
لم نقلْ أيَّ شيء.
لماذا لم نقلْ أيَّ شيء؟
وكنتُ قربكَ ألبسُ قميصي المُمزّق،
القميص الذي لبستُه طوال عمري
حزناً عليك.
إذنْ، لماذا تركتَهم هكذا
يرقصون طرباً من لذّةِ الحقدِ
والانتقام؟
لماذا كنتَ ضعيفاً إلى درجةِ الوهم؟
لماذا كنتَ طيّباً
كطيبةِ دمعتِكَ الطاهرة؟
ولماذا أورثتني دمعتَكَ الطاهرة
يا أبي؟
إنّي أنا الحلّاج
لا تقتربْ من ناري!
من نارِ قلبي وسرّي،
فإنّي أخافُ عليكَ من النار:
من دمِها ولوعتِها وضوضائها،
فكنْ على حذرٍ
أيّهذا المُعذَّب بالشوقِ والليلِ
والأهلّة،
أيّهذا الغريب الذي يجدّدُ غربتَه
بدمعتين اثنتين
في كلِّ فجرٍ
وفي كلِّ ليلة.
لا تقتربْ!
أخافُ عليكَ من الصلب
وما بعد الصلب.
أخافُ عليكَ ممّا ترى
ولا أخافُ عليكَ ممّا لا ترى،
فكيفَ سيُسمّونكَ حينَ تموت؟
كيفَ سيُسمّون حرفَكَ الإلهيّ:
أعني معجزةَ نونكَ وأسطورةَ نقطتك؟
وكيفَ سيقترحون تاريخَكَ الأرضيّ
وجغرافيتَكَ السماويّة؟
هل سيقيسونكَ بمساطرهم الغبيّة
وبمقولاتهم الجاحدة
لتضيعَ كما ضعتُ من قبلك؟
أم سيقيسونكَ بمحبّتهم القاسية
وبعشقهم المزيّف
لتضيعَ ثانيةً كما ضعتُ من قبلك؟
لا تقتربْ!
أيّهذا الحُروفيّ الذي يقترحُ الحرفَ
اسماً
لكلِّ شيء
ويسمّي الأنبياءَ بالأحبّة
والشموسَ بالأهلّة
والسرَّ بالبلْبَلة
والنارَ بالقَبَسِ المُوسويّ
ثُمَّ يمضي من النهرِ إلى الصحراء
ومن الصحراء إلى البحر
ومن البحرِ إلى الموت،
أعني إلى النار
وهو يحملُ جثّتَه فوقَ ظهره.
لا تقتربْ!
فلقد احترقتُ قبلكَ ألفَ مرّة
وما ارعويت.
لا تقتربْ!
إنّي أنا الحلّاج
اسمُكَ اسمي
ولوعتُكَ لوعتي
ودمعتُكَ دمعتي
ووهمُكَ وهمي
وصليبُكَ صليبي.
أرجوك
إنّها النار التي لا تُبقي ولا تَذَر
فلا تقتربْ منها أيّهذا البشر!
زوربا
سترقصُ، إذن، يا صديقي.
سيجتاحُكَ الوهمُ أو الموج.
(حسناً الموجُ أجمل).
وسترفعُ قدمَكَ إلى الأعلى.
ستبتسم
ابتسامتكَ الجميلة بالشهوةِ والسخرية
وستضحكُ حقاً.
(ليسَ من الموتِ طبعاً
ولا من عبثِ الحياةِ وأكاذيبها
ولا من النساءِ اللواتي...)
نعم،
سترقصُ أيّها الزوربويّ المهووس
بالفجرِ والحُبِّ والبحر.
وسترفعُ قدمَكَ الثانية
وتقفزُ قليلاً،
سترى أنّكَ قد رأيتَ فجراً
وربّما تذكّرتَ قُبْلةً من عسل
وربّما صعدتَ إلى الماضي.
ستنظرُ إلى البحر:
إنّه
هائلٌ وغامضٌ ومُخادع.
فكيفَ السبيل إلى ترويضه؟
هل يمكنُ لرقصةٍ ساحرة
أن تروّضَ البحر؟
أو أن تروّضَ الموت؟
(البحرُ أسهلُ من دونِ شك).
ستستديرُ الآن
لتقول:
ما لنا وللموتِ في هذه الساعة
النادرة؟
(سحقاً، إذنْ، للموت!)
وستضحكُ حقاً
ليسَ من حُلمِكَ الذي تناثرَ فوقَ
البحر
ولا من جسدِكَ الذي لم يعدْ يصخب
مثلما البحر
ولا من البحرِ الذي لا يستمعُ
لموسيقاكَ الهائلة
فهو مشغول بعُريه الفادحِ منذ ألف
عام.
ستسخرُ. ممّن إذن؟
مِن الرقص؟
لا.
مِن الرمل؟
لا.
مِن الحُبّ؟
لا.
مِن الحظّ؟
لا.
مِن الخوف؟
لا.
ستكرّرُ لا ولا ألف مرّة
إلى أن تنهارَ فوقَ الرمال
والقلبُ ضاحكاً مثل طفل سعيد
يصيح: لا.
وأنتَ من خلفه مذهولاً تصرخ: لا
لا
لا
لا
لا
لا
لا!
صقر فوق رأسه الشَّمس
إلى: الشاعر الراحل رعد عبد القادر
1.
لم تكنْ تتوقّع
أن تنتهي الرحلة
بهذهِ السرعة.
فلقد أعددتَ مُبتهجاً
المزيدَ من المشاهد لمسرحيّتك
والمزيدَ من الفصولِ لروايتك
والمزيدَ من الأمطارِ لحديقتك.
لكن،
كما ترى،
فإنَّ الرحلة
قد انتهتْ بسرعة
إلى ما ينبغي لها
أو إلى ما لا ينبغي لها.
ولا فرق!
2.
حسناً
وبمثلِ ما ينبغي أن يُقال
فقد نُسِيتَ أو دُفِعْتَ إلى بئرِ
النسيان.
والأصدقاءُ الذين صُعِقوا لموتِكَ
الأسطوريّ
وذرفوا الدموعَ لموتِكَ الأسطوريّ
عادوا فنسوكَ بسرعةِ البرق
- مثلما ينبغي في مثل هذه الحال!-
ليبحثوا بين دفاتر أيامّهم المتهرّئة
عن المباهج، والنساءِ، والدنانير.
3.
لم تعدْ هناك شمسٌ، إذنْ،
فوقَ صقرك.
ولم يعدْ هناك صقرٌ، إذنْ،
فوقَ شمسك.
صقرُكَ حلّقَ عالياً عالياً
بعدما سقطتْ شمسُكَ في البحر
ولم تكنْ هناك
آلهةٌ لتستقبلها
ولا أنبياء
ولا مُريدون
ولا مُهرّجون!
********************************
* العنوان هنا مأخوذ من مجموعة الشاعر
الراحل رعد عبد القادر الأخيرة: (صقر
فوق رأسه الشَّمس).
غزال أكل قلبَه النمر
أحببتُكَ وأنا داخل النَّصّ
وأحببتُكَ وأنا خارج النَّصّ
وأحببتُكَ وأنا أكتبُ في نقطةِ
النَّصّ،
فكنْ بي رحيماً
- أنتَ الذي اسمُكَ الرحمة-
فالنَّصّ لا يعرفُ مَن يتنفّسه
في كلّ لحظة
ويتألقُ به وسطَ الظلام
في كلّ لحظة
وينبضُ به في كلّ لحظة.
أنتَ،
وأنتَ فقط،
يعرفُ مَن يقرأ النَّصّ
دونَ أن يسبرَ غوره
ويعرفُ، كذلك، مَن يتنفّسه
حتّى يكاد ينبضهُ نبضةً نبضة
داخل القلب.
فكنْ بي رحيماً
وأنا داخل النَّصّ
وأنا خارج النَّصّ
فالظلامُ الذي يشتدُّ حولي
ليسَ كأيّ ظلام
والعطشُ الذي شقّقَ لساني
جعلَ كلماتي جريحةً
مثل غزال أكلَ قلبَه النمر.
حارس الفنار قتيلاً
إلى: محمود البريكان*
1.
اقلب المائدة
وحطّم الكؤوس
فلقد قُتِلَ حارسُكَ أيّهذا الفنار!
حارسُكَ الذي أنفقَ سبعين عاماً
جالساً تحتَ عرشِكَ الوهميّ
وفوقَ ساحلِكَ الوهميّ
يرقبُ السفنَ وهي تغرق
أو تتيهُ في الأزرقِ اللانهائيّ
ويرقبُ الموتى وهم يراجعون
لوائحَ أسمائهم
في جهنّم باسمين يرتعدون
أو في الجنّةِ واجمين لا ينطقون.
نعم،
قُتِلَ حارسُكَ الذي اعتزل
كلَّ شيء مضى
وكلَّ شيء أتى
لينجو بجلده في بلادِ السواد.
وما عرفَ أنّه سَيُذبَحُ يوماً
ذبح الخرافِ بأرضِ السواد.
2.
ما قتلته النفْسُ التي سماؤها الشهوات
ولا تلك التي سماؤها الكراسي والسياط
بل قتلته النفْسُ التي سماؤها الدينار
وخرجتْ من مسرحِ جُثّته
بحفنةِ دنانير
لونها الدم
وأحداقها الدم.
فاقلب الكراسي والمائدة
أيّهذا الفنار
وحطّم الكؤوس
على مسرحِ النفوس.
فلقد ذهبَ الذي اعتزلَ وما نجا
والذي أنفقَ العمرَ كلّه
يخدمُ الحرفَ كلّه
ويبسملُهُ كلّ ليلة
بالياءِ والسين.
ذهبَ بعدَ أن رقص
معَ الزائر المجهول
عارياً كنبيّ
عارياً يحملُ بيديه الضعيفتين
رأسَه المقطوع!
******************************
* محمود البريكان - لمن لا يعرفه -
شاعر عراقي كبير من جيل السيّاب
والبيّاتي. اعتزل الدنيا بما فيها
ليكتب رائعته: (حارس الفنار) وفيها
يتأمّل العالم منتظراً الزائر
المجهول.
وما عرف أنّ هذا الزائر- وا خجلتاه-
سيكون لصّاً يذبحه من أجل حفنة
دنانير!
اليد
في الطفولة
فتحتُ يدَ الحرف
كي أجدَ قلمَ حبرٍ أخضر
فوجدتُ وردةَ دفلى ذابلة.
وفتحتُ يدَ النقطة
فوجدتُ دمعةَ عيدٍ قتيل.
وفي الحرب
فتحتُ يدَ الحرف
كي أجدَ طائرَ سلامٍ
يرفرفُ فوقَ روحي التي أربكها
مشهدُ الدم،
فوجدتُ حفنةَ رمادٍ
وقصيدةَ حُبٍّ مزّقتها الطلقات.
وفتحتُ يدَ النقطة
فوجدتُ دمعةَ أمٍّ بكتْ ابنها
القتيل.
وفي المنفى
فتحتُ يدَ الحرف
فوجدتُ باباً
قادني إلى أربعين باباً
وخلفَ كلّ باب
جسد عارٍ شهيّ ومُهان.
وفتحتُ يدَ النقطة
فوجدتُ نفسي
أكتبُ قصيدتي التي لا تكفُّ
عن الاحتفاءِ بالبحرِ والحُبِّ
والشَّمس
رغمَ العواصفِ والصواعق
وأشلاءِ السفنِ التي سدّتْ عليَّ
الأفق
من السُّرّةِ حتّى العنق.
وصيّة حروفيّة
حينَ يجلسُ الحرفُ قبالتك
لا تتكلّمْ قبلَ أن يبدأ الكلام.
اصغِ إليه حينَ ينطق
وابكِ حينَ يئنّ
وقبّلْهُ في جبينه المُضيء
حينَ يقبّلك
في جبينكَ الذي أكلهُ التراب.
وحينَ يغنّي
قمْ فارقصْ
فسيكونُ الحرفُ نايك
بل سيكونُ طائركَ الأبْيَض
مُحلّقاً في السماءِ الزرقاء.
وحينَ يشتعلُ الحرف
من الموتِ والحُبّ
(وكثيراً ما يشتعلُ الحرف
من الموتِ والحُبّ)
ضعْ إصبعَكَ على شفتيكَ علامةَ السكوت
وابدأْ كتابةَ القصيدةِ فوقَ الماء!
يا صاحب الوعد
1.
يا صاحبَ الوعد
حملوا رأسكَ فوقَ الرماح
وطافوا به كوفة الوعد. أيّ وعد؟
كنتُ أبصرُ شهوةَ الدينار
تلمعُ في عيونهم الكليلة
وأبصرُ شهوةَ الغدر
في سيوفهم المُغبرّة.
2.
يا صاحبَ الوعد
كنتُ أركضُ خلفهم
- أنا الشاهدُ الأخرس-
وأكادُ أختنقُ من ترابِ الخيول.
لقد انتصروا!
الله أكبر!
وكانت الدنانيرُ تُلقى على الناس
في كوفة الوعد. أيّ وعد؟
وشعراءُ الكديةِ يهلّلون
لدمِكَ المسفوح
ويمتدحون رمحاً حملَ وعدَك
وسيفاً حزَّ عنقَ مُحبّ الإله.
3.
لبّيك
يا حاءَ الحق.
لبيكَ يا سينَ السرّ
وياءَ السرّ ونونَ المحبّة.
لبّيك
دمعي يطفر.
حافياً أركض
خلفَ خيولِ المنتصرين
ورأسي أشعث.
أصرخُ: لبّيك،
كيفَ يُسْلَبُ قلبُ النبوّة؟
لبّيك،
كيف يُغْتَالُ بريقُ سيفِ أبي تراب؟
لبّيك،
كيف تناوشتْ سيوفُ الحُثَالة
ضياءَ الإله؟
الله أكبر!
كيفَ يبتهجُ الكَفَرَةُ الفَجَرَة
بتكسيرِ أجنحةِ الملاك؟
الله أكبر!
دمعي يطفر،
كيفَ يرقصُ الأوغادُ كالقِرَدَة
فرحين حدّ الجنون؟
كيفَ يُسْتَبدَلُ حلمُ الأمين
بحلمِ الغدر؟
بل كيف يُسْلبُ قلبُ الأمين
في كوفة الوعد. أيّ وعد؟
لبّيك
- صرختُ عندَ رأسكَ الطيّب-
يا صاحبَ الوعد
- ولوّحتُ بقلبي المُمزَّق-
وداعاً أيّها المُتبرقع بدمِ
الأنبياء.
وبكيتُ أكثر من ألف عامٍ وعام
بدموعٍ من لوعةٍ واشتياق.
كانتْ خيولُ عبيدِ الدنانير
تنهبُ الأرضَ نهباً
ورأسكَ ينهبُ التاريخَ نهباً
بدمه الطيّبِ الزكي
ليكتبَ سرّاً لا يدانيه سرّ،
ليصبحَ اسم الشهيد له وحده
سرّاً لا يدانيه سرّ:
سرّ الحاء والسين والياء والنون
يُقْتَلُ غدراً
ويُمَثَّلُ
به في كربلاء البلاء
ثُمَّ يُطافُ به في وضحِ النهار
في كوفة الوعد. أيّ وعد؟
النخلة
لم نكنْ أذكياء بما ينبغي
لنقدّمَ ولاءنا المُطلق
إلى النخلة.
انشغلنا بأدويةِ ضغطِ الدم
ومُسكّناتِ الألم.
لم نكنْ أذكياء، إذن،
رغمَ أنّنا نعرفُ بهدوءٍ لا يسبقُ
العاصفة
أنّ النخلةَ رمز الله
بل هي فاتحة قصيدته الغامضة.
وهي صورة حرفه
وبوّابة نقطته
وبيت نبيّه
وسكينة مريمه.
انشغلنا بأخبارِ الفيضان
وأسماءِ مدنِ الزلازل والنكبات
وأسعارِ العملاتِ وعُري النساء
العجيب.
وحدّقنا كثيراً في تيجانِ الملوكِ
الظَلَمة
وقصورِ شعرائهم السَّفَلَة.
كنّا أرضيين تماماً،
وا أسفاه،
ولم نرفعْ الرأس
لنرى النخلة
ببهائها السِّحريّ
ولطفِها الإلهيّ
وبركتِها الأموميّة
وحنانها الأخضر
ورطبِها الذهبيّ
إلّا في آخر لحظة!
انسلال
مثل كلّ مرّة
اختفى الطريقُ إلى البيت
وأنتِ معي.
فماذا سأقول؟
بل ماذا سأفعل
والظلامُ يحيطُ بي من كلِّ صوب
كما يحيطُ الصِبْيةُ العابثون بمجنون؟
وكيفَ لي
وسطَ ليلٍ يستقبلني بحجارةٍ من سجّيل
أن أقودكِ ثانيةً
لأعبرَ بكِ الشارعَ المُظلم
إلى الغرفةِ المُعلّقةِ في الأعالي؟
أقودكِ كي لا أترككِ تنسلّين
وقت الفجر إلى الأبد.
أقودكِ كي أعاهدك
أن أبقى الليل كلّه،
أعني العمر كلّه،
يقظاً مثل جمرة.
2.
كنتِ حرفي ونقطتي وعنوان قصيدتي.
كنتِ مطري الأسْوَد الذي حاصرني
فرقصتُ عارياً مثل سكّين،
وكنتِ فجري الذي أشرقتْ
فيه شمسي الخضراء.
ولكنّي غفوتُ في آخر الرقصة
بعدما نزفتُ آخرَ نبضةٍ في قلبي
وآخرَ قطرةٍ من دمي.
غفوتُ
فمررتِ بين البُطين وبين الأُذين
إلى أبدِ الآبدين.
3.
إذن،
كلُّ شيء تحوّلَ إلى رماد،
والرماد طارَ في الريح،
والريح مضتْ إلى البحر،
والبحر أبحرَ إلى الشَّمس،
والشَّمس مضتْ لتنامَ بعدَ نهارٍ
طويل،
وجاءَ القمرُ إليَّ رمادياً بعينين
مُتعبتين.
أنتِ معي
أمسكُ بكِ بقوّة
أمسكُ بكفّكِ بقوّة.
أعاهدُكِ أنّني لن أغفو،
وسوفَ أراقبُكِ العمر كلّه
مثلما يُراقبُ البخيل
صندوقَ ليراته الذهبيّة،
ولن أترككِ تمرّين بهدوءٍ سِحْريّ
بين البُطين وبين الأُذين
لأصحو بعدها جسداً دونَ قلب،
لأصحو بعدها جسداً أزرق دونَ قلبٍ
أبْيَض.
تمسّكْ بها واستعنْ!
إلى: د. حسن ناظم
1.
صديقي الذي جمعَ الدنيا في حروفٍ
ثلاثة
كانَ دليلي الوحيد
حينَ سقطت الشَّمسُ وسطَ الصحراء،
فصارَ عليَّ لكي أرى
صاحبي وطريقي
أن أجمعَ شظايا الشَّمس
قطعةً قطعة.
وصارَ عليه
أن يتماسكَ وسطَ الظلام
ويكون أخي ودليلي.
2.
قلتُ له:
يا مَن بدأتَ بالحاء
كيفَ يمكنُ أن نجمعَ شظايا الشَّمس
ونحن لا نجيدُ الرمايةَ ولا التدليس
ولا مدحَ السلطان
ولا الرقصَ عند باب إبليس؟
3.
قلتُ له:
يا مَن توسّطتَ بالسين
كيفَ يمكنُ أن نجمعَ شظايا الشَّمس
وقد مدحنا الحاء
دونما أملٍ أو رجاء؟
فحين مدحنا حاءَ الحُبّ
نلنا حاءَ الحرب،
وحين مدحنا حاءَ الحرّيّة
نلنا، بكرمٍ أسطوريّ، حاءَ الحقد
لنبكي مثل طفلين ضائعين
عند بابِ السوق.
كيف
وقد ضاقتْ علينا الأرض
وامتلأتْ حقائبنا بالمنافي والبرد؟
4.
لم تبقَ لنا سوى النون
يا مَن تختّمتَ بالنون!
هي نون نهرٍ
يتألقُ وسطَ الظلام،
يتألقُ في كلِّ ليلة
ربّما ليغرقَ في كلِّ ليلة.
وهي نون أغنيةٍ تبزغُ
منذ بدءِ القصيدة،
أغنية جمعتْ لغةَ الياءِ والسين
إلى رقّةِ التينِ في القلبِ
والياسمين.
قلتُ له:
تمسّكْ بها واستعنْ!
علّها تكون المعين لنا
وسطَ زمجرةِ البحر،
علّها تعلّمنا كيفَ نرقص
ذاتَ يومٍ
مثل الدراويش على بابِ بغداد
أو علّها تعلّمنا
كيفَ نجمعُ شظايا الشَّمس
حينَ يصطادنا الموت،
ولابدّ أن يصطادنا الموت
يا أخي ودليلي!
أقوال
1.
قالَ الحرفُ الحكيمُ للنقطةِ الشاعرة:
تعالي إليّ!
فأجابت النقطة:
بل أنتَ تعال إليّ!
قالَ الحرفُ:
إن جئتكِ عشقتك
وأصبحتُ ساحراً،
وأنا لا أحبُّ السِّحر.
فأجابت النقطة:
إن جئتكَ ذبتُ فيك
وأصبحتُ نبيّةً،
والنُبُوّة لا تصلحُ للنساء!
2.
قالَ شاعرُ الملوكِ الظَلَمةِ للشاعرِ
الفقير:
انظرْ إليّ: لقد ضحكتُ من الملوك
وبنيتُ بدنانيرهم قصراً عظيماً
وضحكتُ من الناس
حينَ أوهمتهم أنّني مِن الثائرين.
فردّ الشاعرُ الفقير:
أمّا قصرك
فعمّا قريب ستموت
وستسكنهُ من بعدكَ الغربان،
وأمّا ذكراكَ عند الناس
فستتحوّلُ إلى شتيمة
تخفقُ في الهواء
مع رفّةِ
كلِّ جناحِ غُراب!
3.
قالَ الشاطئُ للبحر:
أما تعبتَ من السفرِ طوال الدهور؟
أما آنَ لأمواجكَ الزرق أن ترتاح
بين يديّ قليلاً؟
أما تعبتَ مِن هذا المكتوب؟
فأجابَ البحر:
لستُ بطالبِ راحةٍ أبداً.
لو أردتها لنمتُ بين يديك
منذ آلاف السنين
إلى أن يضمحلَّ لوني
وتنهارَ أشرعتي وأسطورتي.
لكنّه السفر،
لكنّه المجهول،
يا صديقي، وشقيقي، ورفيق الشموس.
قصيدتان
1.
قالت الشجرةُ الوحيدة،
الشجرة التي أزورها كلّ يوم
عندَ عشّ الطائر ونهاية النهر،
قالتْ: لأنّني خرافةٌ مُقدَّسة
وأنتَ خرافةٌ نُزِعَ منها التاجُ
والصولجان
لذا فالحوارُ معكَ لا يجوز
وإن جازَ فهو لا ينفع بشيء!
2.
قال الطائر،
الطائرُ الذي ينامُ عشّه فوقَ الشجرةِ
الوحيدة:
لا تسألْ عن اسمي
سواءً كانَ اسمي الغُراب أو الحمامة
بل اسألْ عن سفينتك:
سفينتكَ التي غادرها نوح
منذ زمنٍ طويل
ونزلتْ منها الكائناتُ كلّها
فرحةً مستبشرة
وبقيتَ أنتَ فيها وحيداً كالموت
تنتظرُ معجزةَ أن تبحرَ السفينة
لوحدها من جديد!
أيّتها المرآة
1.
أيّتها المرآة
تذكّرتُك الآن.
تذكّرتُ اسمَكِ وكانَ مزيجاً من
الضحكِ والبكاء
وتذكّرتُ قُبْلَتَكِ وكانتْ مضيئةً
بالوهم
وتذكّرتُ موتَكِ أيضاً.
وتذكّرت،
نعم، تذكّرتُ كلَّ شيء
وأنا أنظرُ إليكِ وفيكِ وبك.
تذكّرتُ شبابي الذي سقطَ من النافذةِ
الخلفيّة
لمسرحيّةِ الغربة في العَرَبة،
والعَرَبة في العائلة،
والعائلة في الجسد،
والجسد في الغربة.
تذكّرتُ أيضاً
(يا للسرور!)
صباي في الغرفةِ المُعلّقةِ بسماءِ
الحرمان،
ومنظر الصِّبيان يلعبون في الشارع
وأنا أنظرُ إليهم دونَ عينين.
كما تذكّرتُ
(وهذه إضافةٌ مهمّة)
ركضي من شارعٍ إلى شارع
حينَ سمعتُ بِاسم من أسمائك
فَرِحاً كأنّما مُنحتُ خاتم سليمان!
(أهو العباءة؟)
2.
هذه فرصةٌ لا تتكرّرُ للوضوح.
ولذا سأتذكّرُ معكِ غرقي في النهر
ثُمَّ خروجي منه إلى سرِّ الأنثى
وهي تلبطُ فيه مثل السمكة،
السمكة التي ستسحرني
ثُمَّ تذرُّ رمادي وقصائدي
في عذابٍ أخّاذ.
كما سأتذكّرُ طفولتي: دمعتي
وهي تحاصرني كلّ ليلة
من ليالي الشتاء
لأنّني وُلِدتُ لحرفٍ قاسٍ
ولنقطةٍ أكثر قسوة.
كما سأتذكّر
أمامَ سيلِ أمواجكِ أيّتها المرآة
يدَ الغريقِ تصرخ
ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال
(أتراها يدي؟)
كما سأتذكّرُ أنّني تهتُ في اسمِ الله
رغمَ حنيني إليه،
حنيني الذي ربّما يشبه حنينه إليّ.
3.
إذن، تهتُ وأنا أنظرُ إليك،
ففيكِ رأيتُ لهيبَ النار
ولمعان الذهب
وشبّاكَ الحلم
ودائرةَ الرغبة
ومُثلّثَ الجسد
ولامَ الحرف
وشينَ النقطة
وطائرَ الموت.
ومعَ أنّكِ، أيّتها المرآة،
تشبيهن المرأةَ إلى حدٍّ كبير،
بل كأنّكِ المرأة نفسها،
لكنّكِ
(وهذا هو الفرق الوحيد)
صادقة حدّ اللعنة
وهي (كما أظنّ) كاذبة حدّ اللعنة.
معَ ذلك،
فإنّني أفضّلُ أن أترككِ الآن
لأنّ حديثَ التذكّرِ مُتعِبٌ ولا
نهاية له
مثل أيّ حديثٍ مُخيفٍ آخر.
سؤال مسدود
1.
كيفَ مُتَّ
أنتَ الذي كانت الحياةُ كأسكَ
المُفضّل
والقمرُ نديمكَ الأبيض
والشَّمسُ بهجتكَ الخضراء
والضحكةُ المُجلجلةُ غيمتكَ الصافية
والنساءُ صندوق بريدكَ المليء
بالطيورِ والقُبَل؟
2.
كيفَ مُتَّ
أنتَ الذي اقترحتَ للعيدِ فجراً
وأرجوحة،
وللفراتِ عنوانَه السعيد،
وللرفقةِ دمعةً وضحكة،
أعني حرفاً ونقطة.
وللعذابِ المُغلّفِ بصوتِ الكمان
اقترحتَ سذاجةَ الأغنيةِ التي
بادلتَها
بُعداً بقُرب
ولحناً بدم؟
3.
كيفَ مُتَّ؟
بأيّ ليلٍ بهيمٍ سقطتَ كنجمةٍ تائهة؟
وبأيّ لحنٍ سحريّ
رقصتَ عارياً كالسكّين وسطَ الظلام
مفجوعاً كنبيٍّ طردَهُ ربُّه
بعدما
خانهُ أقربُ الناسِ إليه؟
4.
كيفَ مُتَّ،
يا فراتَ الروح
وسينما الطفولة
ومقهى الحلم،
لاذعاً مثل كأس عرقٍ مغشوش
في شمسِ آب؟
كيفَ متَّ، إذن،
وتركتَ جثّتكَ مرتعاً للطيورِ
والكلاب؟
"صباح الخير" على طريقة شارلي شابلن
صباح الخير أيّها الضحك.
صباح الخير أيّتها القهقهة،
أيّتها
السخرية،
أيّتها السعادة،
أيّتها الطفولة المُتهرّئة،
أيّها الفقر الأسْوَد،
أيّها الغنى الأبْيَض.
صباح الخير أيّتها الدموع،
أيّها الجوع،
أيّها الحذاء المسلوق،
أيّتها البطالة،
أيّتها المغامَرة،
أيّتها المرأة الجميلة المعشوقة،
أيّها المُتشرّد العاشق.
صباح الخير يا أمريكا الأعاجيب،
أيّتها الرأسمالية البشعة،
أيّتها البروليتاريا الرثّة،
أيّتها الحرّيّة،
أيّتها العبوديّة،
أيّتها الأثداء والسيقان،
أيّها الحرمان.
صباح الخير أيّها الكائن الصغير:
بالقبّعةِ المُتحرّكةِ والعصا
اللطيفة،
بالشواربِ الهتلريّةِ والمشيةِ
المُسلّية.
صباح الخير يا أفلامي الجميلة التي
غزتْ
دورَ السينما في كلّ مكانٍ وزمان.
صباح الخير أيّها النجاح العظيم،
أيّها الضحك والضحك والضحك حدّ الموت!
الموكّل بفضاء الله
1.
أيّها الألف
سيشتمُ همزتَكَ شاعرُ الملوكِ
الظَلَمة،
وسيحاولُ أن يعضّها
وهو في قمّةِ الهيجان والوحشيّة
الكلبُ المغربيّ،
أعني الوغد المغربيّ
المُدرَّب على الشتمِ والقذف.
وسيحاولُ أن ينالَ من أبجديتِك
كاتبُ التقاريرِ العراقيّ
اللامعُ بأمّيّته وساديّته،
وسيحاولُ أن يسرقَ جوازَ سفرك
اللصُّ المصريّ
وأنت في الطريقِ إلى المنفى،
أعني إلى المنفى الأبديّ.
نعم،
سيحاولُ المُخنّثُ الهنديّ
صاحبُ الشَّعْرِ الطويلِ والأكاذيب
الطويلة
أن يزوّرَ اسمَكَ الحَلّاجيّ
وقلبَكَ البسطاميّ
ليضعه في كتابِ عَبَدةِ النارِ
والدينار.
وأنتَ الذي لم تعرفْ أحداً إلّا الله
ولم ترَ إلّا الله
ولم تعشقْ إلّا الله
ولم يكنْ في قميصِكَ- الذي مزّقه
إخوةُ يوسف- إلّا الله!
2.
ما أجملكَ، إذن،
وأنتَ في طائرةِ الزمن
تتسامى بلطفِكَ النبويّ
وابتسامتكَ الإلهيّة،
تنظرُ إلى أعدائكَ السفهاء
بعيني المسيح الدامعتين
لتعبرَ المُحيط
مُتماهياً معَ زرقة الماءِ والسماء
ومعَ الغيم الذي يُسبّح
من خلالِ نبضك
بسمِ الله.
3.
اسمحْ لي أيّها الألف
الموكّل بفضاءِ الله
والموكّل بفضاءِ الصبر
والموكّل بفضاءِ الكتابة
تذرعُها وتذرعُك،
اسمحْ لي أن أمتدحَك
وامتدحَ محبّتكَ التي مَلأتْني
شمساً حقيقيّة
منِ السُّرّةِ حتّى العنق.
الكثير من الصور
التقطنا معاً،
يا صديقي الحرف،
الكثيرَ من الصورِ التذكاريّة
قربَ الجسر
وقربَ بابِ المدرسة
وقربَ محطّةِ القطارِ النازلِ إلى
الجحيم.
وعلى مائدةِ
النقطة
وكأسِها المُترعةِ بالشوق
التقطنا صوراً عاريةً
إلّا من الألم،
صوراً عاريةً إلّا من صرخاتِ الليل،
صوراً عاريةً إلّا من قميصِ الله.
نعم،
التقطنا صوراً مُلوّنةً
بلونِ الغروبِ عندَ البحر
أو بلونِ الأمطارِ الأستوائيّة
أو مُلوّنةً بغيومِ الشتاءِ البعيد
أو بظلالِ النساء
أو بنورِ الشَّمس
وهي تتعرّى على امتدادِ المُحيطِ
العظيم.
هذه الصور تسمّيها أنت،
وأنتَ على حقّ،
تسمّيها قصائد.
وأنتَ فرحٌ بها
لأنّكَ ابتكرتها
وكنتَ فيها الظاهر والباطن.
أمّا أنا فسأموتُ
دونَ أن أكتب
قصيدتي التي أقول فيها الحقيقةَ
عاريةً
دونَ صور،
دونَ صورٍ من أيِّ نوعٍ كان!
الحاء والألف
قالتْ حروفُ الحقّ
وهي تناقشُ
في الألفِ الشاب:
هل سَيُكْتَب لهُ أن يعيش؟
بل هل ينبغي أن يعيش
أو ينبغي- ربّما-
أن يموت!
قالتْ حروفُ
الحقِّ كلاماً كبيراً
وكلاماً كثيراً.
نصفه غامضٌ ولا تذكرهُ الذاكرة،
ونصفه لا يُفسّرهُ
إلّا
العارفون.
وحدهُ الحاء
قالَ: اتركوه فهو شمسي.
هو مَن سيذكرني كلّما هلَّ اسمي.
وسيكتبُ عن رأسي وقد تناهبهُ الغُبار
وحُمِلَ فوقَ الرماح
من بلدٍ الى بلد
ومن عطشٍ إلى عطش
ومن واقعةٍ إلى واقعة.
بل إنّ رأسي سيكونُ قصّته
ودمي لوعته
وأنيني نبض قلبه.
قال: اتركوه.
هل ستناقشون أخطاءَه؟
نعم، سيقعُ في الخطأ
لينجو إلى خطأ آخر
وسيقعُ في الظلام
ليرتحلَ الى ظلامٍ جديد.
لكنّه مثلي
سيموتُ غريباً
في البلدِ الغريب.
وستطفرُ دمعته
كلّما غابت الشَّمس
حزناً عليَّ وعلى آلِ سرّي.
قال: اتركوه فأنا منه وهو منّي!
أو أكثر بقليل
بعدَ أن تكرّرتْ صورتُكِ في قصيدتي
عاريةً
تمشّطين شعرَكِ الطويلَ أمامَ المرآة
لنصفِ قرنٍ أو أكثر بقليل،
قرّرتُ أن أمسحَ هذا العسل المُرّ
من الذاكرة.
ولذا هبطتُ
من قارّةِ الماءِ والمساء
عابراً سبعةَ أبحرٍ أو أكثر بقليل
كي أدخلَ إلى شبّاككِ الباذخِ
بالعُري،
الباذخِ بشعركِ الطويل،
الباذخِ بمرآتكِ الكبيرة
أيّتها المرأةُ المرآة.
ففوجئتُ أنّ شبّاككِ لم يكنْ في مكانه
ولم تكنْ هناك مرآةٌ لتتعرّي أمامها
ولم يكنْ هناك بيتٌ على الأرض،
بل إنّ شارعكِ اختفى من الخارطة
وضاعَ معه الحيّ كلّه والمدينةُ
برمّتها.
هكذا عدتُ مُسرعاً
لأعبر سبعةَ أبحرٍ أو أكثر بقليل
كي أدخلَ في صورتكِ الحيّةِ في قصيدتي
لنصفِ قرنٍ جديد
لنصفِ قرنٍ أو أكثر بقليل!
مُشاهد
في المشهدِ الأخير
أيقنتُ أنّكِ مُتِّ حقّاً وصدقاً.
كنتِ تنظرين إلى البحرِ في الليل
والبحر أبْيَض،
وثوبكِ- كما اختارَ له المخرجُ-
أبْيَض،
والشجرُ الذي يحيطُ بكِ أسْوَد
أسْوَد.
ليسَ عجيباً أن تموتي،
العجيب أنّي كنتُ أنظرُ إليكِ في
المشهد
وكنتِ تموتين بهدوء
وكأنّكِ لستِ عنوان قصيدتي،
وكأنّكِ لستِ جرحي العجيب الذي
يطاردني
العمر كلّه
من غيمةٍ إلى أخرى
ومن ظلامٍ إلى آخر.
كنتُ أنظرُ إليكِ بحيادٍ تام
وكنتُ ذكيّاً بما يكفي
لأنسى كلَّ ما رأيت
في اليومِ التالي،
أعني في اليومِ التالي
لموتكِ السينمائيّ السعيد!
لم يعدْ مطلعُ الأغنيةِ مُبهِجاً
1.
تعبتُ من أكوابِ الشاي والقهوة
ومن الشَّمسِ التي لم تعدني بشيء.
تعبتُ من المحطّاتِ والمُحيطاتِ
والطائرات،
ومن المطرِ والصحو والغيوم،
ومن الشوارع الفارغةِ والمُكتظّة،
ومن الأعدقاء وأشباهِ الأعدقاء،
ومن المُتشاعرين والمُتشاعرات،
ومن مدّاحي الطغاة
ومدّاحي القنابل
حينَ تُفجّرُ وسطَ جموعِ الأبرياء.
2.
"لم يعدْ مطلعُ الأغنيةِ مُبهِجاً"
يكتبُ لي شاعرٌ من بغداد ويضيف:
"ألم تجدْ في الكنغر تسليةً ما؟"
قلتُ له:
لم أجد الكنغرَ في بلادِ الكنغر
بل وجدتُ القرد
- وا خيبتاه-
وجدتُ القردَ الأصلع!
3.
النهرُ هنا يتجدّدُ قطرةً قطرة
ليسَ كالفراتِ الذي يدفعُ ماؤه
الضفافَ دفعاً.
النهرُ حبيسٌ هنا
وقد جَمّلوهُ رغمَ عفونةِ مائه.
نعم، جمّلوهُ فأمسى جميلاً
بنافوراته ونسائه
وملابسه الضوئيّة الراقصة.
4.
مَن يعيد إليَّ سمكَ الفرات؟
ومَن يعيد إليَّ مَركباً خشبيّاً وسطَ
الفرات؟
ومَن يعيد إليَّ سمكاً يلبطُ فيه،
سمكاً من الضوءِ
والمسرّة
كأنّني حينَ ألمسهُ بيدي
ألمسُ سرَّ المسرّة.
5.
كلُّ شيء مضى.
سأحتاجُ إلى كلمةٍ لأصفَ غربتي
وسأخترعُها إن لم أجدها.
غربتي ليستْ هي البحر،
فالبحرُ، رغمَ
وحشته وأكاذيبه ومجونه، طيّبٌ
إذا روّضته أو روّضك.
غربتي، إذن، بدأتْ في الفرات
وغابتْ معَ شمسه التي غابتْ
وسطَ مائه وصيحاتِ أطفاله
وسطَ دموعه وأسراره.
6.
غربتي هي غربةُ العارفين
إذ كُذِّبوا أو عُذِّبوا.
غربتي هي غربةُ الرأس
يُحْملُ فوقَ الرماح
من كربلاء إلى كربلاء.
غربتي هي غربةُ الجسرِ الخشبيّ
إذ يجرفه النهرُ بعيداً بعيداً.
غربتي هي غربةُ اليد
وهي ترتجفُ من الجوعِ أو الارتباك،
وغربةُ السمكِ إذ تصطاده
سنّارةُ الباحثين عن التسلية،
وغربةُ النقطة
وهي تبحثُ عن حرفها الضائع،
وغربةُ الحرف
وهو يسقطُ من فم السكّير
أو فم الطاغية.
في المطار الأخير
حسناً نحنُ الآن في المطار.
(أهو المطار الأخير؟)
السماءُ مُلبّدةٌ بالغيوم
والشتاءُ هو الوقت.
حسناً أيّها الحرف:
هل حانَ وقتُ الوداع؟
لماذا أنتَ مُرتبكٌ كلّ هذا الارتباك؟
لماذا؟
لقد رافقتُكَ سبعين عاماً
فماذا سمعتَ في أعماقي؟
هل سمعتَ صوتَ البحر
أم صوتَ الزلزال؟
أم سمعتَ صراخَ الطفولة
تنشجُ في آخر الليل؟
الطائرةُ اقتربتْ من المدرج
وهاهم ينادون بِاسمي.
أرجوكَ إن عرفتَ الجواب
فاكتبْ إليّ.
أنا في الانتظار.
اكتبْ إليَّ أو هاتفْني في أيّ وقت.
الطائرةُ على وشكِ الإقلاع
سأركضُ نحوَ البوّابة الأخيرة
فرحاً مثل طفل
يكسرُ بحجارته
بوّابةَ المتحفِ الكبيرة،
فرحاً مثل بحر
يُغرِقُ نَفْسه بنَفْسه،
فرحاً مثل زلزال
على وشكِ الحدوث.
+
في شارع الحشّاشين
من شرفةِ غرفتي المُطلّة
على شارعِ السكارى
والحشّاشين والنساءِ العاريات،
كنتُ أطلُّ كلّ ليلة
على جمهوري المخمور
لأحدّثه عن الله،
والمحبّة،
والسلام.
كانَ جمهوري صبوراً
لكنّه كانَ يسخرُ منّي حينَ أغادرُ
الشرفة.
وحينَ بلغتُ السبعين
صرخَ أحدهم،
وكانَ في قمّةِ السُّكْرِ والهيجان:
أيّهذا النبيّ الدعيّ
مللنا من إلهك
وكلامكَ المعسول عنه.
اخرجْ لنا مُعجزةً
أيّهذا النبيّ الكذّاب!
فارتبكتُ
وارتجفتُ
وجفَّ حلقي
وغامتْ عيناي
ولم أعدْ أبصرُ شيئاً.
غيرَ أنّ أصابعي
امتدّتْ إلى قلبي
وخلعتُه من مكانه
وأخرجتْ منه طائراً أبْيَض
ورمتهُ باتجاه الجمهور.
حلّقَ الطائرُ فوقَ الجمهور
ثُمَّ ارتفعَ عالياً عالياً
حتّى صرخَ الجمهورُ من السعادة
وبكى ذاك الذي شتمني
حينَ رأى جُثّتي
وهي تنهارُ على الأرض.
حوار
1.
حينَ طرقتُ بوّابةَ مقصورةِ الطيّار
قالَ الطيّارُ بهدوء:
ماذا تريد؟
هذه رحلةٌ مليئةٌ بالمحاذير
وستستمرُ دونما توقّف.
ولكن كيفَ دخلتَ هنا؟
قلتُ بصوتٍ مُرتبكٍ: بالصدفة!
قال: إن أردتَ أن تتكيّف
مع مأساتكَ الطائرة،
فتذكّرْ أنّنا يوماً ما
سنسقطُ في البحر
أنا وأنتَ والطائرة!
بالأدق:
أنتَ والطائرة!
بالأدق:
أنتَ فقط!
2.
ثُمَّ قالَ الطيّار
بعدَ أن تأمّل مشهدَ النجوم
الذي كانَ يتّسعُ ويتّسع:
هذه رحلةٌ مليئةٌ بالمتاعب.
لا تحزنْ إن وجدتَ
معطفكَ يحترقُ دونما سبب،
ولا ترتبكْ
إن سرقوا جوازَ سفرِكَ أو نقودك
أو نبضكَ أو حتّى اسمك،
ولا تبكِ إن أخبروك
بأنّ المدينةَ التي حلمتَ بها
طوال عمرك
قد غرقتْ واختفتْ منذ طوفان نوح
أو أنّ المرأةَ التي تُحبّ وتعشق
أضحتْ هباءً منثوراً
أو أنّ هذه الطائرة التي لا تكفّ
عن الطيران
منذ مليون عام
ستسقطُ عمّا قريب
وسطَ المُحيط.
3.
الآن
أجلسْ في مكانِك:
الكرسيّ
الأخير على اليمين.
ولأنّ رحلتنا أبديّة
حاولْ أن تُغنّي
إن كنتَ تستطيع الغناء
أو أن تُصلّي
إن كنتَ تستطيع الصلاة
أو تتكلّم معَ النافذة
حيث الليلُ يتّسعُ ويتّسع
ومشهدُ النجومِ يتّسعُ ويتّسع.
وإذا كنتَ محظوظاً بما يكفي
فحاولْ أن تنام!
أعتذر الآن
1.
لم نكنْ نفهم كثيراً،
أيّتها النقطة،
حينَ قرّرنا أن نمارسَ العناقَ
الأبديّ
في حديقةِ السَّرير.
إذ لم يخطرْ ببالي
أننا سنكتبُ كلماتٍ أو جُمَلاً،
قصائد أو روايات
كلّها لا تؤدّي إلّا لموتِ الشاعر
وهو يتوهّجُ بماءِ القصيدة،
ولموتِ الروائي
وهو يشرحُ قصةَ هروبه
من ثقبِ المرآة،
ولموتِ المُغنّي
حينَ يتسلّقُ صوتُه
آخرَ مرحلةٍ في سُلّمِ الواقعة.
2.
لم نكنْ نفهم
بل لم أكنْ أفهم أنا
أنا الذي قادتني الصَبَوات
والهوى والشباب
إلى بابكِ: الرمز
وعنوانكِ: الفخّ.
3.
أعتذرُ الآن
لشدّةِ سذاجتي.
أعتذر
ليسَ من أجلكِ
بل مِن أجلِ ما كتبتُ بعدَ العناق
من دَمْدَمةٍ
وهَمْهَمةٍ
وهَلْوَسةٍ
امتدّتْ وامتدّتْ إلى ما شاءَ البحر.
أعتذرُ الآن
لشدّةِ سذاجتي
أنا الحرف الذي كانَ ترتيبه الصفر!
مديح إلى مُهنّد الأنصاريّ
كانتْ حقيقيّة
شمسُكَ أيّها الراحل- الباقي.
ليستْ مُحاطة بالغُبار
ولا معجونة بالأكاذيب.
ليستْ بحجمِ حبّةِ قمحٍ
ولا بحجمِ برتقالةٍ ذابلة.
ليستْ بالتي تنام
ولا تدري أتقومُ غداً
مِن سريرها أو لا تقوم.
ليستْ بالتي تكرهُ ساعاتها
ولا دقّات قلبها.
ليستْ بالتي تلبسُ وجهين
ولا تغيّرُ دفّتها كلّ حين.
ليستْ بالتي تدوسُ على الكواكب الأخرى
إن زاحمتها في الطريق،
ولا بالتي تهجو القمر
حينَ يتأخرُ في حانةِ النجوم،
ولا بالتي ترى الدنيا رماداً
أو عذابَ السموم.
شمسُكَ كانتْ طيّبةً تحبُّ دجلة
وتعشقُ ثلجَ الجبل
وترقصُ معَ الحرف في كلِّ فجر
وتتماهى معَ النقطة في كلِّ ليلة.
شمسُكَ كانتْ تشرقُ بلطفِها
على كلِّ شيء:
على المُمثّلين والمُمثّلات
والمُطربين والمُطربات
والمُذيعين والمُذيعات
والعُشّاقِ والعاشقات
ومُعدّي البرامج والشعراء
والمُوسيقيين العميان.
ولا تنسى أن تشملَ بنورِها وذهبِها
حتّى كلاب الإذاعة
وقِرَدَتها التي كانتْ تملأُ
الممرّات.
شمسُكَ كانتْ تحبُّ الله
والله يحبُّها مثلما يحبُّ سرَّ النون
وصاحبَ النون!
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
مُهنّد الأنصاريّ فنّان عراقيّ من
الطراز الأوّل في حقل الإذاعة
والإخراج الإذاعيّ، غيّبه الموت عام
2000
لِمَ أنت؟
يا شاعرَ الحروفِ المريرة
رأيتُكَ البارحة
تحملُ حقيبتَكَ السوداءَ من جديد
حزيناً كقاربٍ مُحطّمٍ على ساحلٍ
مهجور.
خفتُ أن أسألك
عن اتجاهِكَ الجديد،
أعني عن منفاكَ الجديد.
خفتُ أن أسألك
فقد كنتَ تتعكّز على ضياعِكَ الأبديّ
وعلى صمتِكَ الذي لا يطيقُهُ الجبل
وعلى وحدتِكَ ذات السياط السبعة.
خفتُ حتّى أن ألقي عليكَ السلام
فَمَن يضمنُ لي أنّكَ ستعرفني
بعدَ أن أفترقنا منذ أيام نوح،
منذ أن ضاعَ يوسف
وباعه إخوةُ الذئبِ إلى ظلامِ البئر،
منذ أن رُفِعَ رأسُ الحسين على
الرماح،
منذ أن صُلِبَ زيد الشهيد على بابِ
الكوفة،
منذ أن صُلِبَ الحلّاجُ ورماهُ
مريدوهُ بالورد،
منذ أن قُتِلَ الملكُ المسكينُ بين
خالاته وعمّاته،
منذ أن اشتعلتْ بغداد سبعين مَرّة
بالحربِ والرعبِ والنهبِ والزلزلة،
منذ أن غادرتُ أو غادرتَ
بابل الأسطورة والبَلْبَلة
وعلى بابها الكبير
كانَ كلكامش وأنكيدو والأفعى
يشيرون إلى صورةِ مأساتهم
التي لا تكفُّ عن التكرارِ في كلِّ
يوم
وكأنّهم يبوحون بسرٍّ خطيرٍ إليك.
فقلْ لي:
أيّ سرٍّ كانوا يبوحون به؟
ولِمَ أنت،
دونَ غيرك،
مَن يُباحُ له بالسرِّ العظيم
يا شاعرَ الحروفِ المريرة؟
القمر والبئر والقطار
1.
ستجنُّ النقطةُ من الحُبّ
والحرفُ من الحرمان!
2.
قالَ القمرُ للحرف:
لا تمنحني اسماً جديداً
فاسمي هو الذي تعرفهُ حقاً
حينَ يصيبكَ الأرق
وأنتَ تحاولُ النوم
في حديقةِ ليلةٍ صيفيّة.
3.
مرَّ القطارُ مُضيئاً وبطيئاً.
لم أعرفْ وجهته ولا هدفه
غير أنّي متأكّد أنّ حجمه يصغرُ كلّما
ابتعد!
4.
كلّما تذكّرتُ الماضي
وددتُ لو أنّ بئراً في البيت
لأنظرَ فيها وأمسح الذكريات بهدوء.
5.
هل ينبغي الآن
الرجوع إليك؟
والرجوع إليك
يشبهُ كتابةَ قصيدة حُبّ
دونَ دموعٍ أو أصابع أو حروف!
6.
القمرُ مُحاصرٌ بالغيوم
وفي وسطِ الحلم
تبدو النساءُ جميلاتٌ وعاريات
أو تبدو النساءُ قبيحاتٌ ولا يتوقّفن
عن الثرثرة.
لا يهمّ،
فالحرفُ ميّتٌ في حلمه
فيما النقطةُ تحاولُ النهوضَ من
الموت.
7.
سيجنُّ الحرفُ من المَلَل.
أعرفُ هذا.
وستجنُّ النقطةُ من الخوف.
ذلك ما أخشاه.
8.
اختفى القمر
ولم يقلْ لهُ أحدٌ وداعاً.
حرف يحتضنُ نفسه
في النهاية
لن تكونَ أنت
سوى حرف أضاعَ نقطته،
سوى حرف يحتضنُ نَفْسه
وينامُ وحيداً
مثل يتيمٍ طُرِدَ من الملجأ.
أشياء على المائدة
1.
كيفَ أنجو من الغرق
والبحرُ قد غرقَ فيَّ؟
2.
حينَ لم أجدْ أحداً أنتصرُ عليه
انتصرتُ على نفسي.
3.
لم يكنْ هناك الكثير
من الأشياء على المائدة.
كانَ هناك تفّاحُ الشهوة
وشاي السمِّ المنقوع بالعسل
وقطعةُ خبزٍ كبيرةٌ سوداء
وسيكارةٌ أنفثُ دخانها ببطء
طوال حياتي
وأنا أتلقّى الأخبارَ السيّئة
الواحدَ تلو الآخر.
4.
فاجأني موتي قبلَ أربعين عاماً،
فاجأني حينَ رآني صَبيّاً
أحاولُ أن ألقي جَسَدي في النهر
من فوقِ الجسر.
كانَ صوتُهُ عنيفاً
وأوامرهُ شديدةُ الصرامة.
لكنّني اخترعتُ الحلمَ قصيدةً
والحرفَ شاعراً
والنقطةَ بدايةً لرغباتي الدفينة
ونهايةً لرعبي المُوشومِ بالطلاسم،
بعدما تركتُ الجسرَ والنهرَ والصَّبيّ
يختصمون
فيما الموتُ يرعد
ووميضهُ يَملأُ كلَّ شيء.
4.
في آخر معاركي
(وكانتْ مأساويّة بالطبع)
بكى قائدُ جُنْدي وهو يُسلمُ الروح
بين يديّ،
بكى وهو يوصيني بجثمانه.
قالَ لي:
رغمَ الهزيمة الهائلة
أريدُ احتفالاً مُهيباً لجنازتي.
فأقسمُتُ له أنّني سأنفذُّ وصيّته،
أنا الذي لا أستطيع
أن أوفّرَ تابوتاً لجُثّتي!
المطربة الكونيّة
1.
لأربعين عاماً
كنتُ أشكو لواعجَ روحي
وارتباكَها الأزليّ
إلى أغنياتِكِ المُزهرةِ بالشوقِ
والأنين
إلى صوتِكِ الذي تحفُّ به
ملائكةٌ من الدمعِ والياسمين
إلى نيلكِ وشمسِ أصيله الغامضة.
2.
لأربعين عاماً
كنتُ أشكو إليكِ
- دونَ أن أدري أو لا أدري-
حبيباتي الجاحداتِ والساذجاتِ
والخائنات
وسنواتي التي أنفقتُها
بكرمٍ حاتميّ
على حروبِ الطغاة،
أعني على الموت
وظلماته وشموسه الساطعات.
3.
لأربعين عاماً
كنتُ أراقصُ صوتَكِ
حتّى صرتُ ساحراً من الحرف
ثُمَّ صرتُ حرفاً من السِّحر.
أعني صرتُ نقطةً من الشوق
ثُمَّ صرتُ منارةَ شوق.
واكتملتْ طلاسمي ورسالتي
حينَ تبعتُ أثرَ صوتِكِ
من صبا إلى صبا
ومن شبابٍ إلى شباب
ومن لوعةٍ إلى لوعة
ومن هوى إلى هوى
ومن شبّاكٍ إلى شبّاك
ومن رصيفٍ إلى رصيف
ومن شظيّةِ وطنٍ إلى دخان وطن.
4.
حينَ أخبروني أنّكِ قد متِّ
بكيتُ عليكِ بدمعتين
ثُمَّ تركتُ سريرَ الحزنِ خفيفاً
لأتبع أثرَ صوتِكِ من جديد،
صوتكِ الذي تحفُّ به ملائكةُ الضائعين
إلى المنافي السحيقة:
حيث تنعدمُ الأسئلةُ والأجوبة،
حيث يلعبُ الغيمُ والبحر
والجسدُ والذهب
لعبةَ الصواعقِ والعبثِ والزلزلة
كلّ يوم.
إلى المنافي السعيدة
حيث الموت الذي لا يعرفُهُ أحد
ولا يسألُ عنهُ أحد،
أعني إلى المنافي السعيدةِ التي ترى
الموت
لوحةً معلّقةً فوقَ جدارٍ قديم!
تحليق
بسببِ اللاسبب
(وقيلَ بسببِ الحُبّ)
صارت النقطةُ ظلّاً للحرف
يتبعهُ في كلِّ خطوة
وفي كلِّ حركة.
لكن حينَ يبلغُ السأمُ بالحرفِ أقصاه،
بسببِ اللاسببِ أيضاً،
(وقيلَ بسببِ الحُبِّ أيضاً)
يتوكّأ الحرفُ على جناحيه الكسيرين
ليحلّقَ بعدَ جهدٍ جهيد
إلى سماءِ اللاضوءِ واللاظل
إلى سماءِ اللاحرفِ واللانقطة،
أي إلى سمائه الوحيدة!
تحت شجرة الكلمة
1.
تحتَ شجرةِ الكلمة
جلسَ الحرفُ والنقطة
وقبّلا بعضهما بعضاً.
2.
كانَ الحرفُ أخرقَ
لا يجيدُ سوى فنّ الكلام
ولا يجيدُ، بالطبع، فنَّ التقبيل.
فقامت النقطة
بتعليمه سرَّ القُبْلة
تحتَ شجرةِ الكلمة.
3.
حينَ تعلّم الحرفُ سرَّ القُبْلة
صارَ عاشقاً
ثُمَّ شاعراً
ثُمَّ مجنوناً
كما ينبغي في مثلِ هذا الحال.
أمّا هي،
أي النقطة،
فاكتفتْ بأن عرضتْ مفاتنها
كاملةً
تحتَ شجرةِ الكلمة.
4.
مرَّ صيفٌ لاهبٌ
وشتاءٌ ثلجيّ
وربيعٌ مَهووسٌ بالجنس.
وتكرّرَ الزمن
وتكرّرت القُبْلةُ بينهما
في الفراشِ أو في القصيدة
حتّى أصابَ الحرفَ العمى
وأصبحت النقطة
قبيحةً كجهنّم
بعدَ أن انهارتْ عليهما،
دونَ سابق موعدٍ أو إنذار،
شجرةُ الكلمة!
أمطار موسميّة
ليسَ كثيراً ما طلبتهُ منكِ
أيّتها الأمطار الموسميّة.
فقط
أردتُ أن أقبّلكِ:
أن أقبّلَ شفتيكِ الرطبتين بالشوق.
لكنَّ سوء الحظّ
وسوء التوقيت
والحرب وجُثثها
والطاغية وذنوبه التي لا تُغتَفَر
والإفلاس وذنوبه التي لا تُغتَفَر هي
الأخرى
والخوف
والمجهول
والظلام
وإخوة يوسف
ويعقوب الذي ماتَ بين يديّ
كمداً على يوسف الذي لم يعدْ.
كلُّ ذلك
جعلَ هذه القُبْلة مُستحيلة
أيّتها الأمطار الموسميّة.
ما اسمكَ أيّها الحرف؟
ما اسمك؟
قلتُ للحرفِ في مساءٍ شديد الظلام.
قالَ: بعد هذي السنين الطوال
والانتقال العجيب
من منفى إلى آخر
ومن شظيّةٍ إلى أخرى
بل من زلزلةٍ إلى أخرى،
وأنتَ لا تعرفني؟
قلتُ، كَمَن يتصنّعُ الهدوء،
لا.
قالَ: كيف؟
ألم تكتب المئات من القصائد
لتصفَ الحرفَ وعرشَه
وأساطيره وشموسه وفراته؟
ألستَ الذي يُدعى بالحُروفيّ
أو ملك الحُروف
أو النُقطويّ أو الطلسميّ؟
قلتُ: لا أدري.
قال: إذنْ خذْها منّي،
يا شبيهي المُعذّب بالموتِ والارتباك،
أنا الحاء
حلمكَ الباذخ بالحُبّ
أيّها المحروم حدّ اللعنة،
حلمكَ المُتشظّي بالحرّيّة
أيّها المنفيّ إلى الأبد،
وأنا الباء بسمَلَتك
أعني جمرتكَ التي لم تزلْ
شوكةً في قلبك،
وأنا النون: بئركَ الأولى
وعنوانكَ المستحيل،
وأنا السين:
طفولتكَ التي ضيّعتَها باكياً
معَ دشداشتكَ اليتيمة
ودراهمكَ السبع على بابِ بغداد
ومحرابِ بابل.
قلتُ: وماذا بعد؟
قال: أنا الألف:
جرحكَ الممهور بالدمِ والندم
وأنا النقطة:
نبضُكَ الذي يولدُ كلّ يوم
في ثوبٍ جديد
ورقصٍ جديد
وعُري جديد
وموتٍ جديد
حيّرَ الأوّلين والآخِرين!
البيّاتي
1.
كنتَ تجيدُ لعبةَ الشِّعْرِ بنجاحٍ
ساحق:
تجيدُ لعبةَ البوكرِ الشِّعْريّ
والنردَ الشِّعْريّ
والدومينو الشِّعريّة.
وفي الشطرنج
أنتَ الأستاذ الذي يمرّرُ الجنودَ
بخفّة
ويطلقُ السهامَ من فوقِ القلاع
بمهارةٍ وبدقّة.
أمّا في المبارزةِ الشِّعريّة
فَلَكَ القدح المُعَلّى،
لتجهزَ على الشاعرِ الديناصور
والشاعرِ المُهرّج
والشاعرِ البهلوان
والشاعرِ الدونجوان.
2.
كنتَ تجيدُ لبْسَ القميصِ الأحمر
وحمْلَ لافتةِ الشغيلةِ والتقدّمِ
والصراعِ الطبقيّ،
والبكاءَ على ناظم حكمت
حينما يقتضي الحال.
ثُمَّ تذرفُ دمعتين
على صليبِ الحلّاج
وأنتَ ترتدي خِرْقَةَ الصوفيّة
وترسلُ برقيّةَ ألمٍ
إلى وضّاح اليمن
حينما أُلقِي في البئرِ الدمشقيّة.
كنتَ تعرفُ كيفَ تتنقّلُ بين العواصم
مخترقاً بوابات العالمِ السبع،
وتعرفُ كيفَ تسخّرُ ماردَ
الأيديولوجيا
لتلميعِ عرشكَ الشِّعْريّ
وتسخّرُ عفريتَ النقد
لخدمةِ سبأكَ الوهميّ.
3.
لكن قبلَ أن تموتَ بقليل،
وقد صرتَ شيخاً عليلاً،
بدأ أعداؤكَ بالصعودِ إلى المسرح
وهم يتهامسون.
وحينَ أخذتَ تنامُ فجأةً
في جلساتكَ الأخيرة
ضحكوا قليلاً.
ثُمَّ إذ ابتلعتكَ الأرض،
أعني في اللحظةِ التي ابتلعتكَ الأرض،
شتموك
وطالتْ ألسنتهم كثيراً كثيراً
حتّى صرتَ "الشاعر الضحل" لا "الشاعر
الفحل"!
4.
وا أسفاه
هكذا هي حالُ الشِّعْر!
|