بكاء الخراساني

  د . رياض الأسدي

إلى: الشاعر أديب كمال الدين

 

 

* الظهور

ظهر حرف واحد ، سقط سهواً ، من كتاب قديم لم يذكر في الفهارس العربية قط. ولم يتنبّه له المفهرسون القدماء والجدد ؛ ذلك الحرف الغريب ـ من أجل أن نوجز لكم سادتي الورّاقين قصته ـ علينا أن نسأل العارفين البارعين (شبه الممنوعين والمغيبين) من العاملين في الطلاسم: أيها الأخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: النون تكتب بالكوفي، كأنها بئر ماء الكوثر . والباء: خشب مستطيل وأغاني بحرية (هووولو هووولو) والشراع نقطة هائجة، والياء المؤرقة أبدية: هل تعرف بأننا نحن من أخترع الأبدية لأول مرة، ونحن من أعطاها الرمز(&&&&&&&&&&&) لكنا نسينا الكثير ، ليس في خضم الركض ؛ كلانا يركض شرقا وغربا بقوة أليس كذلك ؟ نموت ونحن نركض نركض ؛ ولا شيء غير العدو واللهاث الذي يقطع الأنفاس: منا من يموت بسرعة ومنا من يبقى إلى أرذل العمر لكي يشهد الفاجعة كلّها. وأثناء الركض الجنوني نقف أحيانا فنرى ونحن نلهث: النقطة بحر لجّي، ما أن تخترقها حتى ترى كأنك في عالم لم تألفه من قبل ( لن يسمح لي شيخي الخراساني بالفضّ اكثر من ذلك بعد أن اخذ مني عهدا بالكتمان) النقطة دمعة كونية . الكون كلّه دمعة كبرى . الله في الأصل خلق أول ما خلق النقطة .اكتمْ .

اكتب: ظهر الحرف على حين غرّة مثلما يفعل الطفل الضائع وسط غابات النخيل المعروشة. وصاح: هاأنذا هنا!. هل تروني. لكن أحد من المارة لم يره. ألم أخبركم بانهم مارة راكضون؛ تماما مثل تلك الرياضة السريعة في المشي. والدنيا رطبة والحرّ قاس، والأمل في الظهور من تلك الأجمة قليل. يا الله!. رأفت بعبدك الوراق فأظهرت له الحرف من هذا الرواق ، ولم تجشّمه عناء السفر إلى بلاد الواق واق .أعني.

أكتب . الحرف الذي سقط سهوا والذي قلت لكم عنه ، لم يكن حرفا عاديا، وما هو بمعروف لدى العامة، ولا حتى لدى كثير من الخاصة. الباء العجيبة التي تشبه السفينة المبحرة دائما. الحرف علم من ثلاثة وسبعين علما لو تعلمون.. لكنكم تجهلون وتمرضون .

عرف الورّاق الأخير أبو محمد الكوفي الخراساني الذي تطارده ( عيون) العباسيين لاشتراكه في ثورة ( القراء) وهو  الآتي من أعمال خراسان اليوم متخفيا حذرا . رسم اثنين وسبعين حرفا وترك الأخير لذاته! صرخت:

ـ الله أكبر! ما هذا الإدعاء ياخراساني !!

ـ وما أعظم أن يفعل ذلك بي وحدي!.. وعاد إلى البكاء من جديد، وأردف:

ـ طوبى لمن كانت الحروف مهنته . والكتمان صنعته . والحيرة لعبته .. ثمّ نشج بصوت غريب :

ـ أما أنا فقد آليت على نفسي : أن لا أحدث أحدا ؛ وأن أغيب عنكم  من أجلكم تارة ، ومن أجل نفسي أخرى . ولم أره بعد ذلك . فبحثت عنه في كلأ مصر وفي أعمال فارس وفي المغرب ، ولم أجد له أثرا يذكر حتى حسبت بأنه قد مات أو أن (عيون) بني العباس ألقت به في جبّ فضاع أثره عن العامة والخاصة وخواص الخواص .

 

* ليلة 

وذات ليلة ماطرة حزينة تشبه في رسمها حرف هاء نسخ ، ليلة وحيدة ، رسمت على جلد غزال ، كان الحبر فيها من ماء الزعفران ، وأبو محمد الكوفي الخراساني ، شيخي على الباب ، يبكي بكاء لم يسمع به أنس ولا جان ولا ملك ولا ورّاق كأنما هو زلزلة من جهنم. ما أبكاك هذه الليلة يا صديق؟ وأين كنت كلّ هذه السنين فقد ابيض شعر الراس والوجه  وأصبحنا ، كلانا ، ثلجيين . وما هذه الأنات التي تشبه الغناء المتقطّع يا شيخ؟ هل رغبت عن مهنتك أم أن الحروف علّمتك ما لم تكن تعلم؟

ـ اتركني الآن، دعني أستريح من عناء الرحلة.

ـ هل أنت هو أم إني أحلم؟

ـ هو هو

ـ وكم أصبح عمرك؟

ـ لا سنون لنا؛ الزمن حرفتنا. هل نسيت؟

ـ لم أنس لحظة يا شيخ.

آثار الأيادي التي تعاملت معه لما تزل ماثلة على شكل لطخات سود . لم يكن ذلك الحرف الذي قلت لكم عنه غير تأمل مضى إلى وهم ، بعد سلسلة من التركيز البصري ، ولأجل تحريك أشياء ساكنة ، أو إظهار أشياء مخبؤة من زمان الخرقة القديمة .

بدأنا مرة أخرى . بالباء أولا .

( مع انني أطلقتُ عليكِ اسم الباء

ثمّ أطلقتُ عليكِ اسم النقطة

وبعد أن قيل لي أن كلّ الباء في النقطة ).

 

*الخرقة

طائرة في الهواء من يد لأخرى لا تدفعها ريح ، وليس بها من سحر . من أمسكها جاءه اليقين كانت في الأصل نقطة. لي ركضتي وحدي ، ولي عدوي الذي أعدوه وحدي .

 

*الحرف

حلّ فيّ . ورأيت أبو محمد الخراساني لما يزال يبكي ، فسألته :

ـ ما بك يا شيخنا هل ما زلت تنوح بعد كلّ هذه السنين الغريبة؟

ـ الغزال هارب . والحرف غائب . والريح ساكنة . والنون بلا شراع .

ـ منذ الزمن الأول وأنت هكذا؛ أما آن لك أن تتغيّر؛ الدنيا كلها أصبحت شكلا آخر؟ خذني أنا مثلا أمامك يا شيخنا.

ـ الحرف سفينتي . روحي التي لم تغادرني .

وقف وحيدا ، واستلّ سكينا قديما ، وفاحت من جسده رائحة ما ، تشبه الكافور ، والقيت على جسده شرشفا أبيض. وقبل أن أغادر اختفى .

 

* المرأة

رأيتها : سوداء غريبة كأنما خرجت من جوف بئر قديمة ، تنوح عند قبر بالقرب من (مرقد الكرخي) تبكي على طريقة الخراساني تماما . ولم أسألها .

* القول

( فإنني لم أشفَ بعد من جراحي التي سببتها

سكاكينكِ وشراشفكِ وروائحك

نعم لم أشف ).

 

   ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة : الأبيات بين الأقواس الكبيرة المزدوجة هي للشاعر أديب كمال الدين من قصيدته (يا بائي وبوابتي) المنشورة في مجموعته (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة).

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home