إنّ الإشراق مكنون
في عمق المرء بغريزة مهما
أُعتمت حياته، هذه الإضاءة
كامنة في الروح وتتجلّى بهاءً
على محياه، فسمة اللون معبّرة
حتى وإن لم تظهر، فهي معروفة
عياناً، فللون الأبيض سمته
الخاصة ببراءته حتى بنطقها
حرفياً وبصوتها المنغم بنقاوة
اللفظة. أُستخدِمَ البياض
كدالة على الإشراقة الوليدة،
وغُرّة كلّ حدث ومنها أُطلق
على منتصف الشهر- الليالي
البيض- كذلك وصفوه أي البياض
بمقام المدح ونقاء العرض
كإشارة لبياض الوجه والطهر
وبتعبيرات مستخدمة بيومياتنا
- كلام أبيض - كذب ابيض -
وغيرها من سمات هذا اللون
الطهري، حتى تجلّى في مخيالنا
العام برمزه القدسي مثله مثل
حرف الألف المنغم بتجليات
عرفانية يتوكّأ عليها أهل
التصوّف. فللشاعر رموز حرفية
تضيء أعماقه منذ أن تمعّن
ببياض الحرف وعكف طويلاً
ومازال يغور في معاني الحروف،
يرصفها أمامه ويتبحّر فيها
علها تنطق بذات المعنى الذي
يقصده من استبيانه المعهود،
ناسك تعبّد في محراب الحرف
واستجلى من معناه رمزاً يرصع
رؤاه- ذاك هو شاعر الحروف-
اقتحم مبكراً روح مفاتيح
اللغة ومغالق منحنياتها بدءاً
من - جيم/ نون/ حاء= جنح، أي
جَنح نحو الصوفية وتوشّح
ببهاء شطحات لثغة الحرف
القدسي- لما لحروفه من معاني
متجانسة من مدلولات عميقة، لو
ناور بها مرتّباً إياها مع
الألف لأصبحت = جناح/ يسمو به
طائره نحو الاقاصي الأثيرية
غير المنظورة.
إنها فلسفته في
اقتحامه الأبجدية بهذه الصيغة
النادرة. ومن المفيد أن نذكر
هنا حقيقة أن اللون وإختلاف
معاينته، فقسم من الناس من
يقول: لا وجود للون، وإنما
يتخيل البياض للأجزاء الشفافة
المصغرة جداً كما في زبد
الماء وفي طيات الثلج ورذاذ
البلور والزجاج والحليب وهباء
الضباب- فاللون الابيض
إيجابياً قد يعكس النظافة،
النقاء -الإيجابية والفاعلية\
سلباً وقد يعكس البرود والبعد
والتكبر أو التعفف بعكس
الأسود لون الامتصاص-هو لون
الإنعكاس الكامل حيث يعكس
الجسم الابيض كافة الوان
الطيف الشمسي ولا يمتصّ أياً
منها وكما في كتاب أ. د. عياض
عبد الرحمن أمين\ مفهوم اللون
ودلالاته- ص51.
وللاستزادة من دلالة
اللون الأبيض نلاحظ ما جاء في
كتاب الله سبحانه وتعالى في
قوله:( يُطافُ عليهم بكأسٍ من
معينٍ* بيضاءَ لذّةً
للشًّاربينً) و(نًزَعَ يدهُ
فإذا هي بَيضاءُ
للنَّاضِرِينْ) و( أُضممْ
يدكً إلى جناحك تخرجُ بيضاءً
من غير سوء) كذلك ورد اللون
الأبيض في أحد عشر موضعاً في
القرآن الكريم وكانت دلالاته
تشير إلى الصفاء والنقاء
والعمل الصالح في الدنيا
والآخرة قال تعالى:( وأما
الذين ابيضّتْ وجوههم ففي
رحمةِ اللهِ هم فيها خالدون).
إن التأملات
العرفانية والشطحات الصوفية
لمعت بإشعاعات بيضاء عند
متذوقي الشراب الرباني-العشق
الإلهي- لذا نراهم يهيمون في
التلاشي ويحدّقون في هباب
أبيض يملأ المكان بطقوس قدسية
والتي دخلت حتى في تفاصيل
حياتهم اليومية، كما هو ذوبان
المتصوف -المولوي- في حركته
المحورية والتي تخفف وزنه عند
الدوران فجاءت مطابقة لحركة
الأفلاك. إنّ العاشق تسري فيه
حرارة تمده بالحس حيث يستطيع
أن يحوّل الحرف إلى كائن حيّ
يحتضنه لحظة التجلّي بتأمل
وإستبصار ظاهرين على محياه
مثل -إشعاع روحي- نوراني-
عقلي خارق - تنبؤ - شطحة
متزنة- إشراق بلحظة تجلّي
وهكذا جرياً هنيئة إختراق
العقل للزمن.
إنّ مناور الحروف
بحقّ مبتكراً وله مدرسته
الحرفية التي لا ينازعه أحدٌ
عليها- ثمّ وشم حروفه-
بالنقطة- وهي أصل تكوين
واستنطاق الحرف وإثبات وجوده،
ثمّ الألف باستقامة علاه
مشكّلاً مع بقية ماهياته خفقة
روحية تسمو ببهاء محلّقة في
ملكوت الكلمة وإضاءة معناها.
هذه الحروف رصعها بأسماء
دواوينه الشعرية، والتي طالما
شدّتني للقراءة وفكّ لغز هذه
المقطعات الهجائية الزاخرة
بالغرائبية، إلا إنني اخترت
قصيدة- ورقة بيضاء- كونها
تختلف عن باقي قصائده من حيث
العنونة. هذه الورقة الصقيلة
التي أمامه وقد طفحت بياضاً
على بياضها بشطحات مضاءة
بقوله:
في الليل
كتبَ على الورقةِ
البيضاء
قصيدةً عن اللقلق.
وفي الفجرِ مزّقَها
حين رأى اللقلقَ لا
يستطيعُ الطيران.
نعم مزّقها لأنها بيضاء على
حالها مطوية لم يدون بها
حرفاً- الليل معتم بفقدان
اللون حيث تبان كل الألوان
سواء- أي سوداء. في الليلةِ
الثانية كتبَ على الورقةِ
البيضاء قصيدةً عن الفجر. وفي
الفجرِ مزّقَها حين عرفَ أنّ
الفجرَ لا يحبُّ اللقلق. لم
يكتب كذلك لأنّ / الورقة=
بيضاء-/ اللقلق= أبيض / الفجر
= أبيض.
إن الدلالة اللونية
طغت على الأشياء الماثلة في
الصورة، أي أن هناك تنافراً
من الذاتية للون الواحد - حيث
تظهر معادلة فيزيائية دون أن
نعلم/ موجب = بياض+ بياض/
الفجر+ اللقلق= بياض وهكذا
لرؤى الحروفي الفلسفية.
إنّ سمة اللون ولغته
الإشراقية فرضتا هالةً من
الضياء وانعكاساً للشخوص فما
بعد من مباينة في عتمة الليل-
فما منه إلّا أن يمزّق الورقة
لانتفاء الحاجة منها- لعدم
استطاعتنا قراءة القصيدة. بعد
الليلة الثالثة- لم يكتب
شيئاً ونام سعيداً - لأنّ
معالمه بيضاء كريش اللقلق
وتنفس الصبح البهي.
يقول
أديب كمال الدين في قصيدته:
في الليل
كتبَ على الورقةِ البيضاء
قصيدةً عن اللقلق.
وفي الفجرِ مزّقَها
حين رأى اللقلقَ لا يستطيعُ
الطيران.
في الليلةِ الثانية
كتبَ على الورقةِ البيضاء
قصيدةً عن الفجر.
وفي الفجرِ مزّقَها
حين عرفَ أنّ الفجرَ لا يحبُّ
اللقلق.
وفي الليلةِ الثالثة
لم يكتبْ شيئاً.
نامَ سعيداً تماماً،
هادئاً تماماً.
لكنْ في الفجر
مزّقَ الورقةَ البيضاء.
فقط لأنّها كانتْ بيضاء
كريشِ اللقلق
وضياء الفجر.
نعود لنقول: إن
الورقة البيضاء، هي سيرة حياة
شخصية غير متأثرة بمناخ سائد
أو ماضٍ راكد أو هي محبرة
بأردان على جبلتها الأولى
-الطفولة البريئة- ومثل ما
قيل -المساحة الفارغة- وتعني
جغرافياً الصحراء- وهي مطلقة
الإتساع اللامرئي ، وعن
اللاشيء الذي نراه في تمرين
الرسم الأولي في فكرة لم
تكتشف بعد في تخمين نهائي
لها.