تأخذ الحروف أهمّيتها وقداستها في
التراث العربي، من المتن القرآني،
حيث نزل على سبعة أحرف، وهو ما
يحيل إلى التعدد في الشكل داخل
بوتقة المعنى الواحد في اللغة،
إضافة إلى أنّ القرآن الكريم
تميّز بفواتيح بعض السّور التي
وردت على شكل حروف: "ألم، ن، ألر،
كهيعص"، وبقي المعنى فيها سرا من
أسرار القرآن الكريم، فالحرف
ارتبط قرآنيا بالتعدّد واكتناه
السر، ومنه يمكن أن نقول بأن
المواكبة الإبداعية لحقيقة الورود
الوظيفي والجمالي للحرف في القرآن
الكريم، إنّما تأتي لتبتكر
أساليبا في توظيف الحرف على
المستوى
الدلالي، وتحفر عميقا في
تمظهراته البيانية والدّلالية
لتفجّر السر الكامن فيه.
حروفية الحضور/ خطاب السرّ:
يلتئم جرح الكتابة وتتأهّب
مواقيتها الفائزة برونق
"الإشارة"، حين تجتمع في فضاءاتها
أنساق الميلاد وحضور الأشياء
متدثرة سرّ علاماتها عند حدود
مغامرة الكشف، وحروف الخطاب
الشعري المتخفّي خلف أنسجة القلق
العابر للتأويل ونكهة الأمكنة
المدمجة في معنى القول والكلام
وتراجيع "الإشارة".
تمعن الكتابة أكثر في انجراحها من
المواقيت الفائزة برونق
"الإشارة"، فتحدّد وجهة غروبها،
جاعلة شروقها مرصّعا بفتنة الحرف،
لتكون "الإشارة" محدّدة بمعلم
الشّهود والحضور كأن تكون "إشارات
الألف".
يشيد ديوان "إشارات الألف" بناءه
انطلاقا من "اشارات" تعرّف موضوعة
ما، إمّا أن تكون حرفا أو مفهوما،
وإضافة الموضوعة إلى الإشارة يخرج
بالمعنى من دائرة التّعيين إلى
التّحرير والإطلاق، والنّصوص
عبارة عن خطاب بعناصره التكوينية:
المرسل والمرسل إليه والمرسلة
الخطابية، وهو عبارة عن نداء
تتوجّه به الذات الشاعرة القاصرة
إلى الذات الإلهية كاملة الأوصاف
والأفعال، حيث تُفتتح النّصوص
بالنّداء: إلهي.
عتبة العنوان/ قصدية التوجيه:
تستلزم الإشارة ابتداء الوقوف بين
الرّمز والعلامة والـتأويل، فعتبة
العنوان "إشارة الألف"، تحدّد من
جهة
التّعيين الحروفي، ومن
جهة أخرى تعدّد الإشارة وتفرد
الألف، وهو ما يفتح الألف على
قراءات ومستويات وجودية متعدّدة،
ووجودية الألِف تعود على الذّات
تأويلا، باعتبار العتبة الموالية
التي جعلها الشاعر آيتين
من القرآن الكريم:
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي
مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ.
وَقُلْ رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
سُلْطَانًا نَصِيرًا.
"إشارات الألف"، عنوان يتأسّس
جاذبيا، لأنّ التوجيه فيه قوي نحو
حروفية بعينها تتمثل في الألف،
وهو ما يجعل القصدية فيه مشبعة
بالذات، التي تروم القربي من
الذات العليا وتسريح شوقها نحو
الأفق الأعلى أنطلاقا من نصوص
يمتدّ فيها الاحتياج لله وحده
لشدّة انكسار،
وغبطة روح في مراحل أخرى
تتداول مجمل النّصوص:
ففي "إشارة نوح" / ص18 :
إلهي،
أفنيتُ العمرَ كلّه
أنتظرُ نوحاً
رغمَ أنّي أعرفُ أنّ نوحاً
قد جاءَ ومضى.
فالإنتظار في القصيدة يتضمّن
تلميحا دلاليا يكشف عن غرق الذّات
في أحزانها، ونوح يختزن دلالة
الإنقاذ، والمعنى كله ينصرف إلى
الإرادة الإلهية المطلقة في
انتشال الذات من غرقها، لأنّ
نوحا، رسول من رسل العناية
الإلهية.
لكن هل العنوان يحمل تواطؤ الشاعر
في تنبيه القارئ إشارةً إلى الأنا
الشاعرة ومسار تجربتها في اكتناه
سرّ الحرف ومراتب تدرّجه في كشف
متخفي اللغة وأشكال كتابته
المنعتقة من التحديد والترسيم
المهيّأ لتخزين الرّؤيا والملمح
الفني المعشّق؟
بنية الخطاب / ورشة الذات:
تبدأ المرسلة الخطابية في ترسيم
حدود التجربة الذاتية للشاعر، أو
معاناة الذات الشاعرة، فهو يقول
مثلا في قصيدة "إشارة
المرآة"/ص65:
إلهي،
كلّما كتبتُ قصيدةً جديدة
تمنّيتُ أن تمسحَ القصيدةُ
الغبارَ الثقيل
عن مرآةِ حياتي
لأرى وجهي.
فالأصل في المعنى/الإشارة أنّ
واقع حال الذات الشاعرة مرتّب وفق
صفحة المرآة المغبرّة، بما يحيل
إلى العمق النّفسي الغائب في لجّة
القلق والغموض.
ينسج القصد في هذه القصيدة على
أساس بنية تقابلية تضع القصيدة
والمرآة كموضوعتين للحوار،
فالقصيدة تتأسّس لإحداث تغيير في
الذات (مسح الغبار)، لكن يفجر
المعنى مسافة تجعل الذات واقعة في
مرمى المرآة، وبالتالي يصبح أثر
الذات الشاعرة منعكسا على الواقع
من خلال صفحة المرآة، وهو ما
يرمّم الوجودية الشاعرة التي
تنكسر كلما ابتعدت عن النص الماثل
في أرجاء العالم والجامع
لكينونتها الحركية، فعتمة الرؤية
(لأرى وجهي) ناتجة عن غياب وجه
العالم فاغبرّ العمق النفسي
المتابع لتغيرات أحوال العالم،
والمرآة تكشف عن جذر الأفلاطونية
المستمر في حركة الشعر، حيث
أفلاطون كان "يتصوّر أنّ الشعر
نوعا من الظل أو الانعكاس".
تصدر هذه القصائد عن شفافية في
مكاشفة الذات وفق رؤية شعرية تسند
البنية المعرفية المرافقة، والتي
تظهر من خلال تأثيث القصد الحركي
للذات، كما في نص "إشارة
الأشكال"/ص118، التي تستلهم
البنية الهندسية كمساحة لفعالية
حياتية:
إلهي،
المثلّثُ ضيّقٌ كساحةِ حرب،
والمربّعُ ضيّقٌ كحظٍّ سيّئ،
والمستطيلُ ضيّقٌ كقبر.
فالحرب والحظ السيّئ والقبر،
تتأسّس مواضعاتها وفقا للمسار
الشّعري كخطوط هندسية تنحني لتشكل
زوايا تنبني كأشكال هندسية،
وبالتالي يصبح التصوّر للموضوعة
الحروفية غير مرتبط بمفهومها
القاموسي ولكن بتصوّرها للشكل
الهندسي، فتفجر علامة قراءة جديدة
مرتبطة أساسا بالقراءة الشعرية
لكن في مدارها الفلسفي، ويبدو لي
أن الحرف في فلسفيته العميقة هو
شكل هندسي يبحث في جوهره عن قراءة
جوهرية لا ترتبط برتبته القاموسية
ولكن بمعناه المتساوق وشكله
الهندسي، فالألف يشكل استطالة
الحياة
نحو اللانهائي، فهو حبل
الروح الذي يتسلقه خلودها المبتغى
في نهائية الجسد، فالحرف حينئذ
حين يرسم إبداعيته شاعر حروفي،
إنما يمتد في سر الشكل ليتجاوز
نهائية المظهر إلى لا نهائية
الجوهر، فشعرنة الحرف إضافة إلى
شكلانيته الهندسية يقذفان التصور
والفهم في أتون ماورائية حرفية
تسكن الشكل الظاهر لقاموسية قارة.
إنّ مجموعة التشكيل الحروفي
المعنونة "إشارات الألف" تشكل
مدوّنة هندسية تلتمع خزفياتها
بحروف تتوزّع جسد المعنى فيها ــ
"إشارة السّين"، "إشارة حاء
الحرمان"، "إشارة الميم والتاء
والباء" "إشارة سين السّلام"،
"إشارة الهاء".. ــ، ثمّ تتشكل
فسيفساء الانتظام المفاهيمي طبقا
لموضوعات شعرية يرومها قصد
الشاعر، وكأنّ هذه المنظومة
الإبداعية في ترتيب الشكل
النّهائي لورود كتاب "إشارات
الألف"، تفجر إشارات إحالية على
مفاهيم دلالية تتقمّص الحرف لتكشف
عن تأويلياته في نصوص تشكل
امتداده المفترض قراءة.
********************
إشارات الألف - شعر: أديب كمال
الدين ، منشورات ضفاف ، بيروت،
لبنان 2014
نُشرت في
جريدة اليوم الجزائرية
العدد 4765 بتاريخ 29
أيلول - سبتمبر 2014
|