توالد المعنى ما بين الحرف والنقطة

 

قراءة في ديوان (شجرة الحروف) للشاعر أديب كمال الدين

 

 قراءة في مجموعة أديب كمال الدين: (أقول الحرف وأعني أصابعي)..وجدان عبدالعزيز

 

 

وجدان عبد العزيز

 

 

   الشعر حينما تتكوّن التجربة يكون ثنائي الإخراج، أي انه يمارس النقد داخل مساحاته الجمالية مما يكسب الشاعر رؤية المتمرّس عبر مواقفه من الحياة وعملية الخلق، ليكون بعد ذلك صاحب منطقة شعرية خاصة به ينطلق منها محاكياً الآخرين من خلال تغذية أذواقهم بإيقاع الجمال وتحفيزهم على ترويج الأفكار. وحتّى لا أقع في اضطراب الفكرة عليَّ اجلاء جوانبها بأنّ التجربة لا تعني الالتزام والأدلجة بعيداً عن الفنية وامتلاك المعاني وامتلاك لغة البوح وممارسة الحرية أي بمعنى الانفتاح برؤية خصوصية ...

   أسوقُ هذه المقدمة بافتراض الدخول إلى عوالم الشاعر أديب كمال الدين كونه صاحب تجربة في مساحة الإبداع وصاحب منطقة شعرية خاصة، وإنه صاحب إشكالية متوترة فهو ينغمس في الحرف ويتصوّف في معاني الكلمات ويشظّي ارهاصاته في الجمل. فتراه يعلن ويحجم ويتقلقل ولا يستوي حتّى وصلت به الحال إلى (شجرة الحروف) .. يقول الشاعر:

 

(حتّى نزفت القصيدةُ حروفاً كثيرة

ونقاطاً أكثر

دون أن تعترف بسرّها ومعناها)

 

   إذن، الشاعر صاحب رؤية وعمق لا يمكن التصريح بهما بدليل أن قصائده طوال عمره الشعري لم تعترف بسرّها ومعناها وظلت أسيرة التأملات المتوالدة والمعاني المتفجرة معلنةً عن ثورة مستمرة في مسيرته. إنه يختصر أشياء الحياة بالنكوص إلى التراب الذي يمتاز بالقلّة، غير أنه هو الموصل بين البداية والنهاية بدائرة مغلقة، والدليل الآخر تنقّل الشاعر من شجرة الطفولة إلى شجرة الحبّ والحياة ثم شجرة الموت.

  هذا الصراع خلق حالة توتر وشدّ جعله ينزع إلى اختصار المسافات وهي مجللة بأنوار البثّ المباشر لكلّ معاني الحركة والسكون وعلاقاتهما بالحرف والنقطة، فمطية الشاعر اللغة المغايرة بحرفية واضحة وحروفية تستنهض معانيها النقاط.

  إذن، لولا وجود النقطة لما وجد معنى آخر للحرف، وتصوّف بحرف المبنى وأزاح الفراغ بوضع حرف المعنى في مكانه المعتاد وهو بوعي كامل حتّى تشكّلت لديه شجرة حروفية فخمة كما أسلفنا، لكن هل توقف نزف الحرف وهو يشكّل القصيدة؟ يبدو انه ظلّ يتناسل ويتوالد- أي الحرف- في مسافات إبداعاته حتّى إذا جَلَدنا القصيدةَ ازداد نزفُ الحروف، وبتحصيل رياضي منطقي ظلّت القصيدة حبلى ببنات أفكارها وتوزّع أسرارها. وتصل به حالة التصوّف- أي الشاعر- إلى أن يدعو النهر: الإله بقوله:

 

(أيّها الإله المُلقى على الأرض

باركْ سرّها

وتعرّف إلى معناها الأزليّ

أيّها الأزليّ)

 

    واستمر كمال الدين في المثاقفة يمنح من خزينه المعرفي وتناصاته مع تكويناته الاجتماعية والاحتفاظ بإشراط الشعرية الملتزمة تجاه الشعر بالمغايرة والحداثة، وهذا قصدي من التجربة الشعرية التي لا تعني الالتزام من ناحية ولا تعني الانحياز إلى الفنية حتّى الوصول إلى مبدأ الفن للفن من ناحية أخرى. إنما الاستيعاب والقصدية في التوجيه، فله عين شعرية شاخصة تنشطر بين التقاط أشياء الوعي أحياناً وخليط اللاوعي أحياناً أخرى، يقول:

 

(هكذا في دمعةٍ واحدة

أضاءت له الدنيا جميعاً

فاحتار الشاعرُ كيف يبدأ، كيف يقول

ثم رأى أن يصفَ المشهدَ ليس إلاّ)

 

   الدمعة عين الشعر التي سقطت على الورقة وطوت فيها الكثير من الرؤى والمواقف وظل في انحياز إلى كلّ ما هو جميل من أشيائها دائباً في الصمت والعلن لم يلتفت إلى سياط القبح التي تلعب على ظهره فهو تجاهلها وانفتح على نوافذ الجمال أمامه... إنه صبور على ريب الزمان وعاشق لما هو روحي مقدس:

 

(هذه ليست النون

هذه بداية مقدسة للنون

وحبّ جارفٌ كالشلاّل

كاحتواءِ الهلالِ لنقطةِ النون

هذه بداية سعيدة ...)

 

   إذن، الشاعر يفترض بداية لكلّ حرف ولم يحدد نهاية بل تركها مفتوحة ليؤسس على ما اعتقدنا به من أن حروفية الشاعر لا تنتهي ومشروعه لا يكتمل، وبين البداية والنهاية المفتوحة تلعب الحروف والنقاط دورها في العالم الجمالي الذي يبغيه الشاعر:

 

(هذه بدايةٌ مقدسةٌ للنون

............

هذا خطٌ يُعْبَد ..)

 

   وعلى هذا الخط يكون (المنفى البهيج) وأناس وبواخر ومنشدون وموسيقى وملائكة وتمثال شمعي لشاعر الحرف ومدن تتشابه كالموت. وفي اعتقادي مدن تتوالد كما تتوالد معاني النون في حروف المبنى وحروف المعنى حتّى غدت:

 

(.. قصيدة غريبة

تشبه جزيرة تغرقُ في البحر

بحر ذي النون ..)

 

   وبعد أن يلتقط الشاعر أنفاسه يقول: (هذه هي النون) فكيف بالحروف الأخرى؟ إنه فعلاً الشاعر المجنون الذي يعدد قُبلاته بعدد مراحل الحياة في قصيدة (تحوّلات) يقول:

 

(وحين قبّلتُكِ الرابعة

سقطتْ علينا صاعقةٌ لا شرقيةٌ ولا غربية

وأحرقتْ جسدينا الفرحين)

 

   وهي آخر قُبْلة حيث ذهبتِ أنتِ وردةً حمراء إلى الحياة وذهبتُ أنا طائراً أبيضَ إلى الموت. والقصد انه ترك خصبه كي تتجدد الحياة به وأردف بالقرب من قصيدة (تحوّلات) قصيدة (قصيدتي الصبية) ليعمّق الرقم (4) ويستمر..

 

(... بكاء القصيدة ألف عام)

ويستمر

(... صعود القصيدة ألف عام)

لماذا؟

لأنّ:

(... الذي قال (كنْ فيكون) ينظرُ إليها سعيداً)

 

   وهي معلومة مقدسة تم استنباطها فقهياً بأنّ الله جميل ينحاز دائماً إلى الجمال ولا يصدر منه القبح. من هذا فالشعر بثّ جمالي يعانق فطرة الإنسان في حبّ الخير ومقت ما يغاير هذا...

   الحقيقة التي لا مناص منها أن ديوان(شجرة الحروف) هو بثّ جمالي على مدار الساعة بين طياته تكمن الروح والنفس ورغبات الحبيبة وارهاصات الشاعر وتحولاته، حتّى ارتباكاته وهو يبثها لصديقه الناقد سعيد الغانمي ارتكزت على الحرف والنقطة وهما مكوّن اللغة ليثبت أنّ (اللغة الشعرية لا تتحقق إلا على مستوى التركيب الذي يقوم على خرق منطق العلاقات المألوفة في اللغة العادية عن طريق الانزيحات التي يحدثها بين الكلمات والجمل والمقاطع). وهكذا يستمر الشاعر في مشروعه الشعري بين مستويين من اللغة الشعرية: الأول: إخباري كبثٍٍّ مباشر، والثاني: إشاري رمزي تتخفّى فيه المعاني، ثم يمنطق اكتشافاته تارةً في المعقول وأخرى في اللامعقول، ليؤكد جماليته عبر صحبته الطويلة مع الحرف والنقطة، يقول:

 

(حين قبّل الحرفُ النقطة

اكتشف الوردة

وحين احتضنها بقوة

اكتشف الحبّ

وحين أطلقها لتطير فوق قلبه

اكتشف الهذيان

وحين صهرها ما بين ذراعيه

اكتشف اللذة)

ثم استمر أديب كمال الدين

( برمي الحروفِ في النار

كلّ ليلة)

و

(... يكتبُ الشعر

حرفاً فآخر )

حتّى ترهبن داخل صومعة الحرف وتصوّف حد الذوبان، ليكون بثاً جمالياً مستمراً يتناسل في الحرف:

 

(النون هي النون

فلا تضعوا على لساني

كلماتٍ لم أقلها

ولا حروفاً لم أعرف سرّها ونجواها)

 

   بعد أن أغدق على الحرف صفات إلهية منزّهة وزاد عليه(ليست النون شيئاً) و(ليست هي الخوف ولا الطمأنينة). وهنا تأرجح أديب كمال الدين في وضع الحرف بين المرئي واللامرئي، ليضفي عليه قدرةً غير محدودة في التوغل داخل الإنسان الشاعر، ليكون محرّكاً دائم الحثّ والتأثير وترميم العالم الجمالي المفترض بثنائيات مفترضة للحرف وأنسته، كي يقترب من بوح لواعج النفس..

وجملة القول أن الشاعر أديب كمال الدين مَسْرَحَ المكان وأعطى الأذن في تحوّلات الحرف وفق رؤاه هو- وكما أسلفنا- ورؤى المتلقي في دائرة زمنية مستمرة في التناسل والتوالد عبر ثنائية الموت والحياة.

 

****************************

 

* ديوان (شجرة الحروف) الشاعر أديب كمال الدين- عمّان-  دار أزمنة  2007

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home