الرمز والفراغ عند الشاعر أديب كمال الدين:

 خصائص اللغة الشعرية وعلاقتها بالمعنى ومستوياته

 

 

 

 

 

 

أسامة غالي

(وأنقذْني من الثرثرة

 فلا أنطقُ إلّا رمزاً)

تأتي هذه القراءة لتكشف عن توظيف الرمز وتشكلاته عند الشاعر العراقي أديب كمال الدين ومقاربته مع ما هو موجود في الحاضنة الصوفية كي نتعرف على ميزات النص الحروفي التي جعلت منه (نصاً إبداعياً لم يحققه أحد من شعراء عصره)، هذا وان أديب كمال الدين عني عبر تجربته الشعرية بالحرف والنقطة والمواقف والإشارات وما يتصل بالرمز الشعري.

عند الرجوع إلى نصوص أديب كمال الدين نجده يوسّع إطار الرمز حتى يشمل الإشارة والتي هي عبارة عما (يخفى عن المتكلم كشفه بالعبارة للطافة معناه) وغيرها من اللغز والايماء، وبذا لا يجعل من الرمز قسيما للإشارة كما هو الحال عند المتصوفة الذين وضعوا برزخا بين الرمز والإشارة مما يشي بتباينهما، بل أن أديب كمال الدين يجعل من الرمز جسراً يربط بين (الغيب والحس/ الخيال والواقع) لكن بطريقة أخرى تتم بتقريب الميتافيزيقي، ووضعه بصورة حسية ماثلة أمام القارئ خلافاً للرؤية الصوفية التي تعتمد تفسير الواقع الحسي بإرجاعه إلى صور غيبية مستترة، وبهذا يكون أديب كمال الدين قد استند على الرؤية القرآنية التي تعتمل الرمز بطريقة التماثل بين عالم الغيب والشهود، فتصبح وظيفته هي اختزال ما وراء الحس بحروف ومواقف وإشارات والسعي نحو خلق كثرة وجودية، مفيداً بعض ملامح هذا التوظيف من تجربة النفري صاحب المواقف:

 

(اقتَبسَتُ مِن النِّفَّريّ جُملةَ البَدء

ومِن دمي جُملةَ المُنتهى.

وما بين الجُملتين

بعينين دامعتين

وقلبٍ يشبهُ شجرةَ الأمل)

 

وهذا المفتتح وإن كان يشي بتجربة جديدة ومغايرة في حدود مجموعة (مواقف الألف) وما يتعلّق بصدى مواقف النفري على مواقف أديب كمال الدين الّا أن فكرة الموقف الرمزية تتكرر في نصوص أخرى دون أن يصرّح الشاعر بذلك أو يضع مفتتحا، وبالتالي تكون جملة البدء (فكرة الرمز) مأخوذة من التجارب الصوفية ثم اشتغل عليها أديب كمال الدين بأسلوب خاص حتى تماهت ملامح تلك التجارب في تجربة الشاعر الحروفية وخرجت من إطارها المعرفي إلى إطار شعري يخضع للقصدية والمحاكاة.

 

  * الرمز وانحسار اللغة:

 

يتعرف القارئ لنصوص أديب كمال الدين على لغة خاصة أو استعمال لغوي خاص يندرج ضمن هوية النص الحروفي القائم على قصدية داخلية بمعيتها تتضح خصائص لغة أديب كمال الدين الشعرية وعلاقتها بالمعنى ومستوياته. تأتي لغة أديب كمال الدين بتراتب وتفاوت في الدلالة مع ما ينسجم وتراتب المعنى، حيث اللغة عند أديب كمال الدين تابعة للمعنى في التكون ما يجعلنا نستعير قولة النفري (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة)، فاتساع المعنى يشي بانحسار وضيق اللغة ما يدفع بالرمز نحو الظهور كي يصير معقدا رئيسياً للتخلص من الإشكالية البيانية، حيث اتساع المعنى يؤذن بحتمية وجود الرمز حسب النفري، بينما في تجربة أديب كمال الدين الأمر مختلف، الرمز متأت من قصدية داخلية وليس بسبب التلازم المفترض بين اتساع المعنى وضيق اللغة، وهذه من أهم العلامات الفارقة في تجربة أديب كمال الدين والتي تؤكد وجود منحى جديد ومختلف عن المناحي والتجارب الصوفية، إضافة إلى ذلك الثيمات المركزية التي يشتغل عليها أديب كمال الدين اذ تنتمي بمجموعها لتجربة الشاعر الإنسانية والثقافية وعلاقته بالمجتمع ولم تكن ثيمات جاهزة أو تقليدية تتجه نحو فكرة واحدة كما هو الحال عند المتصوفة حيث يتجهون نحو البحث عن الذات من أجل فنائها في المركز، فإلى جانب فكرة الحب والفناء تجد أديب كمال الدين مشغولاً بما حوله من واقع وأفكار وشخوص، وكثير من قصائده انطوت على الجانب المأساوي وهو يكتب عن الموت والحرب ولم تقتصر رؤيته للأشياء بعين الرضا والتسليم بل تجد للتمرد والاستياء حضوراً في قصائده يوازي حضور الجمال والحب والتسليم للقدر، كما أن هذا التجميع بين الرؤى المتباعدة والمتناقضة يُعد علامة فارقة أخرى في تجربة أديب كمال الدين ويشير إلى صوت مختلف عن الأصوات التي عملت على استعادة وهج القصيدة الصوفية.

 

* أنماط اللغة ومستويات المعنى:

 

تشير القراءة في نصوص أديب كمال الدين إلى وجود ثلاثة أنماط لغوية رئيسية:

أولاً: نمط مباشر، وهو نمط يتسم بالتعبيرية، وتؤدي اللغة المعنى بطريقة حرفية وبمستوى ظاهري لا يحتاج إلى أدنى إجراء تأويلي.

 

( أوقَفَني في موقفِ الصبر

وقال: الصبرُ امتحانٌ عظيم.

فماذا ستفعلُ يا عبدي؟

أعرفُ أنّ كلماتكَ سترتبك

وينهار معناها

مثل جبلٍ من الثلج

وستدمع عيناكَ مثل طفل ضائع

في السوق).

ففي هذا النص لا يوجد استدعاء تأويلي، اذ جميع المفردات ذات دلالة حقيقية مباشرة وحتى التشبيه المستعمل تشبيه حسي مفصل بين معان متساوقة في الوضوح.

ثانياً: نمط غير مباشر، وهو نمط يعمد إلى الايهام والخفاء بغية إيجاد مستوى باطني للمعنى تمارس بازائه قراءات متنوعة وهذا يكون بالخروج من اللغة المعجمية إلى التواضع والإصطلاح.

 (أجلسُ كي أكتبَ سرَّك

وسرَّ سرّك

بكسرةِ حرفي.

وأجلسُ أيضاً

كي أمحو حرفي

حتّى لا يظهر من سرِّك

وسرِّ سرّك

سوى السين وقت انقضاض الزلازل

وسوى الراء وقت انهمار المطر).

 

في هذا النص يتكرر استعمال مفردة (السر) والتي تقترن بجانب الخفاء، ومفردة (أمحو) التي تأتي أحياناً بصياغتها الاسمية (المحو) وتارة بصياغتها الفعلية كما في النص المتقدم، واستعمالها كـ(فعل) سيزيل عنها دلالتها الاصطلاحية التي ارتبطت معرفيا بسفر الذات العارفة، وينبئ عن توليف جديد يقرن الجانب اللغوي بالجانب الاصطلاحي.

ثالثاً: نمط مُشفّر، وهو نمط خاص جداً أقرب في استعماله إلى العلوم الغريبة كالسحر والجفر من الشعر والحقل الإبداعي الأدبي، فضلاً عن خلو هكذا نمط (من القيمة الفنية لجنوحه إلى التجريد الخالص والتصورات التي تجمع بين علم الأثولوجيا والتأمل الميتافيزيقي وأخلاط أخرى من العلم القديم كما عبرت عنه المذاهب العرفانية المستورة:

 

(ستقولُ له كلَّ نون

وستسحره بالحروفِ وأسرارها

وستدهشه بكهيعص ويس وطسم وألم)

 

وبمعية نص آخر لأديب كمال الدين تتضح كثافة التجريد وتتأكد إشكالية الفهم، حيث يطفو الحرف على سطح النص بغية خلق حجاب بينه وبين المتلقي.

(ذاتَ يومٍ مُقدّس،

ستفتحُ هذه الحاء التي كحّلتْ

قلبَها بسرِّ الحياة

آخرَ بابٍ: بابي الأربعين.

وستدخلُ لتكتبَ على جدران روحي

أنّها كشفتْ طاءَ الطلاسم والسحر

وتماهتْ مع حرفي الذي قاربَ الفجر

حتّى تحوّل إلى شمسٍ وبحر.

ستدخلُ لتكشفَ عن كلِّ نون

وستكون سعيدةً، دون شكٍّ، بكشوفاتِها

فلقد عرفت الحرفَ الأعظم،

وكلّمتْهُ كما تشتهي

فردَّ عليها

وردّتْ عليه

وزادتْ فزاد.

ثُمَّ أجلسها قُربه.

كيف؟

وبأيِّ صفة؟

ملكة؟

عارفة؟

ساحرة؟

لا أعرفُ لذلك جواباً أكيدا.

كلّ ما أعرفه أنني قد بنيتُ

لروحي وحرفي باباً جديدا

لا يُسمّى لكثرةِ أسمائه،

ولا يختفي لشدّةِ أسراره،

ولا يُطْرَقُ لأنّه لا يُرى،

ولن يدخله أحدٌ أبدا!)

 

إن قراءة نصوص أديب كمال الدين المنطوية تحت النمط الثالث تحيل إلى موضوعة التناص خصوصا ما يرتبط بالحروف القرآنية المقطعة الا أن القراءة تتجه في محاولتها هذه إلى جانب تأدية المعنى الشعري بعيداً عن مرجعية الحروف القرآنية والسياق الخاص الذي انبثقت منه، اذ من الواضح للمعنين بالشأن القرآني أن هناك إشكالية حول هكذا نمط لغوي كهذا جاء به القرآن، والإشكالية ترتكز على وظيفة الحروف المقطعة وتأديتها للمعنى رغم أن النص القرآني لا تقتصر قراءته على البعد الأدبي، فكيف بحضور هكذا نمط في نص شعري؟!

إن النص الأدبي عبر مراحل تطوره وتحول موضوعاته واشتماله على الأسطورة والرمز يبقى منتميا لثقافة عصره ويراهن على أن يجد مساحة واسعة عند متلقيه، والتفاعل بين النص والمتلقي يتأسس أولاً على اللغة، إضافة إلى ذلك، فإن طبيعة اللغة المستعملة تحدد هوية الخطاب الشعري وتميزه عما سواه.

 

* الحرف والنقطة:

قبل بزوغ حركة التصوف كان الرمز يمثل انعكاسا للواقع فهو نتاج تساؤلات معقدة ارتبطت بالفراغ وبفضاءات البحث عن المجهول، أما بعد مجيء التصوف بات الرمز نتاج رؤية تنسجم مع الإطار الايديولوجي العام، ويستجيب الإنسان من خلاله للعوالم الروحية المشعة بمعاني العشق والجمال والبحث عن المقدس، لذا دفع التصوف بالرمز نحو تشكلات أخرى يتعالق عندها المعرفي بالايديولوجي ويتجاوب عبرها الخيال مع الواقع حتى أصبح الشعر والنثر الصوفي يرتكز على الرمز ارتكازا عميقاً وواضحاً، وبدأت تظهر علاقات ودلالات جديدة تؤثث الفراغ الحاصل بين الذات والآخر، ولم يقتصر الرمز على الجانب التركيبي أو الصورة في النص بل ألقى بظلاله على الحرف والنقطة، وبدا الحرف حاضراً بقوة في النص الصوفي، ما دعا كثير من المتصوفة أن ينقبوا في بنية الحرف ويضعوا له تعريفات عدة تجاوبا مع قيمته الرمزية وقدرته على اختزال حقائق وجودية، والكشف عن دلالة كل حرف وما يقابله من أسفار ومواقف، كما أشار إلى ذلك محيي الدين بن عربي في واحدة من قصائده:

(إن الحروف التي في الرقم تشهدها                        لها معان وأسرار لمن نظرا)

لكن المفارقة تكمن في تعامل المتصوفة مع الحرف، اذ يتجهون نحوه من زاوية فلسفية، وهذا ما ألمح إليه ابن عربي:

(علم الحروف شريف لا يُقاس به                      علم الكيان لمن قد جد أو سخرا)

خلافاً لأديب كمال الدين، حيث يتجه من زاوية الشعر، وإن كان يشتغل على الحرف تبعاً للنفري وابن عربي والحلاج وآخرين بسبب تقارب الرؤى والانسجام الفكري، لكنه من جهة أخرى يسعى لتحقيق الريادة في الكتابة الحروفية الحديثة، وهذا ما ألمح إليه في واحدة من قصائده.

 

(وقالَ سيسمّونك الحروفيّ

فتبصّرْ)

ومن هنا يجد المتتبع لتجربة أديب كمال الدين اشتغالا واسعاً على الحرف، وكذا النقطة التي ترتبط بالحرف ارتباطاً شديداً باعتبارها جزءا منه، اذ النقطة بداية الخط والحرف يعد تعبيراً آخر عن تكرار النقطة وبتشكلات عدة يقتضيها التنوع والتفاوت في المعنى والوجود، وقد أشار أديب كمال الدين إلى هذا:

 

 (أوقَفَني في موقفِ الاسم

وقالَ: ما اسمكَ يا عبدي؟

قلتُ: النقطة.

قالَ: بل الحرف والنقطة جزءٌ منه).

 

وعليه، فإن حضور (الحرف/ النقطة) في نصوص أديب كمال الدين يساوق حضورهما المعرفي في الحاضنة الصوفية مع فارق ان حضورهما عند أديب كمال الدين حضور منبثق من إطلاع وقراءة وتأمل وليس منبثقا من حالة إشراقية فحسب، وهذا ما تؤكده نصوص أديب كمال الدين نفسه:

(وقال: الحرفُ حرفي

ستجدهُ في كهيعص

وألم وطه ويس وق ون)

 

 

 

 

 

 

إن هذه الاستعارة للحرف القرآني طالما يعتمدها أديب كمال الدين في نصوصه (ويزرعها في أصابعه وجسده كي تصبح ريشا، ومن ثم إذا نبتت وكبرت فرح بها أو لها) ، لذا تتكرر في معظم قصائده، وما ان ابتعد عنها تغير شكل الحرف.

(ما كانتْ تكفي لكتابةِ قصيدةٍ عن الحاء

ولا عن الباء

ولا عن الحاء والباء).

 

ثم لا يقتصر حضور الحرف عند أديب كمال الدين على النص، بل يتجاوز ذلك إلى العنونة الفرعية والعتبات الرئيسة فجاءت مجموعاته (جيم/ نون/ حاء/ مواقف الألف/ إشارات الألف).

***************************

نُشرت في جريدة القدس العربي بتاريخ 4 أيلول - سبتمبر  2014

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home