شجرة الحروف

 


شعر: أديب كمال الدين

 

دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، ط 1 ، 2007

 

منشورات ضفاف، بيروت، لبنان ط 2 ، 2018

(الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد الثالث)

الترقيم حسب الطبعة الثانية

 

 

المحتويات

  

* شجرة الحروف   11                                                                       

 

- وصف           13                         

- الزائر الأخير    15                  

- قصيدتي الجديدة    18                 

- القليل من التراب  21                 

- قصيدتي الأزليّة      23              

- شجرة الثعابين      27               

- الغريب              31                      

- حُبّ                  34                 

- بغداد بثياب الدم      37              

- قصائد الرأس        42               

- شجرة الحروف      46                

- إبحار              50                          

- التباس نونيّ        53                

- تحوّلات              55              

- قصيدتي الصَّبيّة     56               

- ارتباك                 59            

- القبطان            62                 

- رغبات            64                  

- اكتشافات الحرف          66         

- في تلك اللحظة            68         

- ممتع، غريب، مدهش!    70         

- اعتراف ملك الحروف     73        

- احتفال حروفيّ             75        

- شطحات النقطة            78           

- حلم                         81       

- صَبيّ                       84     

- أحجار                          86   

- الحرف يتشظّى، النقطة تتدروش!    87

- رسالة الحرف إلى حبيبته النقطة     91   

- هبوط        94                            

- طائرالنقطة    96                       

- لعبة كبيرة    101                      

- توضيح حروفي   104                

- طيران             106                

- غروب النقطة    107                   

- وقال الذي            109             

- حيرة ملك            111             

- فؤوس                114             

- يد واحدة              115             

- مَشاهد                116                

 

 

 

 

وَصْف

    

1.

سقطتْ دمعةُ الشاعرِ على الورقة،

فرأى فيها إخوةَ يُوسُف

وهم يمكرون ويكذبون،

ورأى دمَ الذئب

ورأى أباه شيخاً وحيداً يتمتم:

يا أسَفَى على يُوسُف، يا أسَفَى.

ثُمَّ نظرَ مرّة أخرى

فرأى نارَ إبراهيم،

ورأى صليبَ المسيح،

ورأى الموتى ينهضون،

والعميان يتشبّثون

ببعضهم، يصرخون.

ثُمَّ رأى موسى

يعبرُ بحراً من الرعبِ والموت

ورآه وهو يقولُ: ربّي.

فَيُقالُ له:

لنْ تَراني،

انظُرْ إلى الجَبَل

فإن استقرَّ مكانَه

فَسَوفَ تَرَاني.

2.

هكذا في دمعةٍ واحدة

رأى الجبلَ ينهدُّ هدّاً

وموسى يستغيثُ: أنا أوّلُ المؤمنين.

ثُمَّ رأى عَاداً وثَمُود

ورأى أصحابَ الأخدود

ورأى صحارى محمّد وأصحابه عند بدر

ثُمَّ رأى رأسَ الحسين

يُحْمَلُ فوقَ الرماح،

فوقَ خيولِ الخوَنَة

لِيُنقَلَ بين مدن الكَفَرَة الفَجَرَة.

3.

هكذا في دمعةٍ واحدة

أضاءتْ له الدنيا جميعاً.

فاحتارَ الشاعرُ كيفَ يبدأُ، كيفَ يقول

ثُمَّ رأى أن يصفَ المشهدَ ليس إلّا!

 

 

 

 

 

 

 

 

الزائر الأخير

  

1.

كانَ يجلسُ في الغرفةِ المُجاورة

شابٌّ أنيقٌ بثيابٍ سُود،

ينظرُ إلى السقف

بعينين فارغتين من أيّ شيء،

ويضعُ على ركبتيه

كتاباً على هيئةِ حقيبة

أو حقيبةً على هيئةِ كتاب.

حينَ ناداني

دخلتُ مُرتبكاً

كجُثّةٍ تسقطُ في البحر.

قالَ بلغةٍ مُبهمةٍ كلاماً عجيباً

وأشارَ إلى الكتابِ: الحقيبة،

فنظرتُ، وجدتُ فيها إناءً مكسوراً

(كدتُ أغرق بسببه في النهر).

ووجدتُ حجراً

(ضربني به غجريٌّ فأصابَ قلبي).

ووجدتُ فيها شفتين تضحكان بآلافِ القُبَل.

ووجدتُ كؤوساً من العشبِ والطينِ والجمر،

وحذاءً من الخمر،

وصوراً وتماثيل لأفخاذِ نساء،

ودموعاً بهيئةِ لؤلؤٍ وحروف،

وقصائد بكتْ واشتكتْ وادّعتْ.

وأخيراً أخرجَ لي نقطةً حملتْ

ألوانَ الفجرِ والمغيب.

حَمَلها بيده الصفراء المُرتجفة

دونَ أن ينبسَ ببنتِ شفة.

2.

مددتُ يدي لآخذَ النقطة

أعني الإناءَ، الحجر

الشفتين، الجمر

الكؤوسَ أو الأفخاذ

الحروفَ أو الدموع.

لم تصلْ يدي إلى أيّ شيء،

ولم يعطني الشابُ أيّ شيء.

كانَ ينظرُ إليّ بعينين فارغتين من أيّ شيء

وأنا أذوبُ من الخوف،

وأنا أنظرُ إلى النقطة

مدهوشاً بألوانِ الفجرِ والغروبِ فيها

كجثّةٍ تُلقى في البحر.

 

 

 

قصيدتي الجديدة

 

أعطيتُ قصيدتي الجديدة

بأصابع الارتباكِ والرغبة

إلى الحسناءِ الجالسةِ بجانبي في الباص.

قلتُ لها: ضعيها بين النهدين

لتتعرّفي إلى سرِّ القصيدة

ومعناها الأزليّ.

لم تأبه الحسناءُ لكلامي

وتشاغلتْ بحقيبتها الحمراء

وهاتفها الصغيرِ المليء بالمواعيد.

ثُمَّ أعطيتُ قصيدتي الجديدة

للطفلِ الذي يلعبُ في الحديقةِ العامّة.

قلتُ له: العبْ معها

ولكَ أن تصنعَ منها لُعَبَاً لا تنتهي

بألوان قوسِ قزحٍ لا حدّ لها.

فصرخَ الطفلُ باكياً

وولّى بعيداً.

ثُمَّ أعطيتُ القصيدةَ للنهر

قلتُ له: خذْها

إنّها ابنتكَ أيضاً،

أيّها الإله المُلقى على الأرض،

باركْ سرَّها

وتعرّفْ إلى معناها الأزليّ

أيّها الأزليّ.

لكنَّ النهرَ ظلَّ يحلمُ ويحلم

مُحدّقاً في الأقاصي البعيدة

دونَ أن يعيرَ كلامي انتباهاً.

وحدهُ الشرطيّ اقتربَ منّي

وصاحَ بصوتٍ أجشّ:

* ماذا في يدك؟

قلتُ: قصيدةٌ جديدة.

* فماذا تقولُ فيها؟

قلتُ: اقرأها لتتعرّفَ إلى سرِّها ومعناها.

فأخذَها منّي

ودخلَ غرفته السوداء،

دخلَ ليربطَ القصيدةَ إلى كرسيّ حديديّ

ويبدأ بجَلْدِها بسوطٍ طويل

ثُمَّ أخذَ يضربها بأخمصِ المسدس

على رأسِها

حتّى نزفت القصيدةُ حروفاً كثيرة

ونقاطاً أكثر

دونَ أن تعترفَ بسرِّها ومعناها.

 

 

 

 

 

القليل من التراب

 

1.

سيبقى القليلُ من الأكاذيب،

وترّهاتِ مدائح الشعراءِ للملوكِ الظَلَمَة،

وسخافاتِ الشعراءِ المُخنّثين والشاعراتِ السحاقيّات.

سيبقى القليلُ من مواعظ المُدرّسين المُرتشين والزوجات الغبيّات،

والقليلُ من الأوامرِ الإداريّةِ بالتعيينِ والفصلِ والطرد،

والقليلُ من التقارير السرّيّة،

ومقالاتِ الشتمِ والتهديدِ والوعيد.

سيبقى القليلُ من بياناتِ النصرِ المُزيّفة،

ونياشين العسكرِ وأوسمتهم الملطَّخةِ بالدم.

سيبقى القليلُ من عظامِ العشاق

وقلوبهم التي حطّمها الفراق،

وسيبقى القليلُ من جمالِ الجميلات،

والقليلُ من العُري عندَ البحر وفوقَ السَّرير،

والقليلُ من الليلِ والفجرِ، والماءِ والهواء،

والقليلُ من الأحلامِ والدموعِ والهلْوَساتِ والكوابيس،

والقليلُ من صيحاتِ مُشجّعي كرةِ القدمِ ومُصارعةِ الثيران.

2.

سيبقى القليلُ من ذكرياتِ الطفولة،

وصورِ العيدِ غيرِ السعيد،

وأحلامِ البلوغِ ورسائل الحُبِّ وصورِ العائلة.

سيبقى القليلُ من صيحاتِ الأوركسترا،

والقليلُ من قصائد المللِ والعتابِ والانتظار،

والقليلُ من ملابسِ المُهرّجِ والطبّالِ والراقصة،

والقليلُ من دموعِ اللاجئين

ومراكبهم الصدئة التي تغرقُ كلّ يوم

في مُحيطاتِ الله.

3.

نعم،

كلُّ شيء سينقلبُ إلى تراب.

وسيبقى، أيضاً، القليلُ من التراب!

 

 

 

 

قصيدتي الأزليّة

 

1.

هكذا أُلقيتُ في الطوفان:

كانَ نوح يهيّئُ مركبه لوحَاً فَلَوحَاً

ويُدخلُ فيهِ من كلِّ زوجين اثنين.

كنتُ أصرخ:

يا رجلاً صالحاً،

يا رجلاً مُبحراً إلى الله

خذني معك.

وإذ لم يأبه نوح لصيحتي

تسلّلتُ إلى المركبِ: المعجزة.

وشاهدتُ مأثرةَ الحمامةِ والغُراب

بعدما صعدَ الموجُ بنا كالجبال،

حتّى إذا هدأت العاصفة

وقيلَ يا أرض ابلعي ماءكِ،

هبطَ الكلُّ من سفينةِ نوح

فرحين مُبَارَكين

إلّاي.

وثانيةً صرختُ بنوح:

يا رجلاً صالحاً،

يا رجلاً عادَ من طوفانه: الجلجلة.

قالَ نوح: مَن أنت؟

قلتُ: أنا الإنسان.

قالَ: مَن؟

قلتُ: أنا المؤمنُ الضّال.

قالَ: مَن؟

وتركني في المركبِ دهراً فدهراً

حتّى إذا غيّبَ الموتُ نوحاً،

تحرّكَ المركب

تحرّكَ بي وحدي

لأواجه طوفانَ عمري

في موجٍ كالجبال،

أنا الذي لا أعرفُ الملاحةَ والسباحة

وليسَ لديّ حمامة أو غُراب.

2.

هكذا أُلقيتُ في النار:

بعدما أضرمَ النارَ أهلُ أور

لإبراهيم وألقوه فيها،

انتبهوا إليّ.

كنتُ أغرقُ في الدمعِ من أجله.

قالوا: إنّه من أتباعه فألقوه في النارِ أيضاً.

هكذا أُلقيتُ في النارِ أيضاً.

وإذ كانت النارُ على إبراهيم برداً وسلاماً

فإنّها لم تكنْ لي

سوى نار من الألمِ والحقدِ والحرمان

اشْتَعَلتْ،

ولم تزلْ تشتعل فيَّ

في كلّ يوم،

هكذا إلى يوم يُبعَثون!

3.

هكذا أُلقيتُ في البئر:

ألقاني إخوتي

وعادوا إلى أبي عشاءً يبكون.

قالوا: يا أبانا قد أكلهُ الذئب.

فبكى أبي،

وكانَ شيخاً جليلاً،

حتّى اخضلّتْ لحيتُهُ بالأسى والحروف.

لكنّ السيّارة إذ وصلوا إلى البئر

ما قالوا: يا بشرى هذا غلام

بل قالوا: وا أسفاه هذا هُلام.

وتركوني في البئر

يمزّقني الظلامُ والخوفُ والانتظار.

4.

ربّما سأخرجُ من البئرِ يوم يُبعَثون

أو ربّما يوم يُقالُ للأرضِ: ابلعي ماءكِ.

فأخرجُ من مركبِ نوح

أو من نارِ إبراهيم،

وقد أكلني الرعب

ولَفَظَني الموج

وأطفأت المأساةُ عيوني.

 

 

 

شجرة الثعابين

  

1.

حينَ بدأتُ أحبو

ثُمَّ أخطو قليلاً قليلاً،

تسلّقتُ شجرةَ الطفولة

بعينين فرحتين

تتطلّعان إلى بهجةِ التفّاح

وفرحِ الموز.

كنتُ أصعدُ وأصعد

ودعواتُ جدّتي

تدفعني أعلى فأعلى.

لكن، على حينِ غرّةٍ، ماتتْ جدّتي.

فسقطتُ، وا أسفاه، من شجرةِ الطفولة. 

2.

استمرَّ سقوطي عاماً فعاماً

ولم أصل إلى الأرض.

كنتُ خفيفاً كما يقولُ الحلم،

كنتُ خفيفاً بما يكفي

لأسقطَ على شجرةٍ ثانية،

تُدعى: شجرة الحُبّ.

تسلّقتُها بعينين فرحتين

تتطلّعان إلى لذّةِ التفّاح،

فالتفّاح فاكهة الحُبّ كما تقولُ الأسطورة.

لكن، على حين غرّة،

ضاعتْ حبيبتي

وقبلاتُ حبيبتي

ومواعيدُ حبيبتي.

فسقطتُ، وا حسرتاه، من شجرةِ الحُبّ.

3.

كنتُ أتوّقع أن يكونَ سقوطي مُدوّياً

لأنّ شجرةَ الحُبّ عالية كالجنّة

لكن رغم مرور السنين

لم أصل إلى الأرض.

ربّما لأنّني كنتُ سعيداً كما تقولُ الدعابة،

ربّما لأنّني كنتُ سعيداً بما يكفي

لأسقط على شجرةٍ ثالثة

تُدعى: شجرة الموت.

4.

هذي المرّة

كانَ الأمرُ خطيراً.

فشجرةُ الموتِ لا تحُبّ المزاح،

لا تحُبّ الطفولةَ ولا الحُبّ

لكنّها شجرة مُضحكة،

كانتْ طويلةً كجهنم

وساقها ملساء كجلدِ الأفاعي.

وليسَ هناكَ في الأعالي

من ثمرٍ مُلوّن

أتطلّعُ إليه بعينين فرحتين

وقلبٍ ساذج.

فشجرةُ الموت،

كما قيلَ لي،

مسكونة بالندم،

وقيلَ مسكونة بالملائكة،

وقيلَ بل بالأجراسِ السُود،

وقيلَ بل بالثعابين،

وقيل...

لكن من المُؤكّد

أنّني أتسلّقُها كلّ يوم

منذ سنين طويلة

وأنا في طريقي إلى الندم

أو إلى الملائكة

أو إلى الأجراسِ السُود

أو إلى الثعابين.

 

 

 

 

 

 

الغريب

 

 

1.

توقّفَ الغريبُ، عند النبع، وقت الغروب،

توقّفَ ليشربَ وحصانه الماء،

فوجدَ عيناً بشرية

ويداً بشرية

وقناعاً من الذهب

وبيضةً من الذهب

وكتاباً كبيراً.

2.

تأمّل الغريبُ طويلاً في ماءِ النبع

حتّى خاطبه النبع:

أيّها الغريب

اخترْ شيئاً واحداً ولا تزدْ

واعلمْ أنّ العينَ ستجعلكَ ترى الغيب،

واليد ستصنعُ منكَ المحاربَ الشجاع،

والقناع سيجعلُ النسوة

في كلّ زمانٍ ومكان

يتسابقن للقياك،

والبيضة ستصنعُ منكَ أثرى الأثرياء،

والكتاب سيجعلكَ الحكيمَ الأعظم.

ضحكَ الغريبُ من كلامِ النبع

حتّى اغرورقتْ عيناه بالدموع.

وقالَ له: شكراً أيّها النبع

لا أريدُ العينَ ولا اليد،

لا القناعَ ولا البيضةَ ولا الكتاب.

أنا الغريب،

لا أرضَ لي ولا هدف،

لا وجهةَ ولا رغبةَ ولا قرار.

جرّبتُ الحكمةَ والغيبَ والنساء

واللهو والغنى والحروب.

فلم أجدْ أيّ شيء يعينني

على عذابي المقيمِ وضياعي المكتوب.

ثُمَّ صمتَ الغريبُ طويلاً وقال:

أيّها النبع،

هل عندكَ دواء للسأم؟

* قالَ النبع: لا.

وهل عندكَ دواء للغربة؟

* قالَ النبع: لا.

وهل عندكَ دواء للموت؟

* قالَ النبع: لا.

فضحكَ الغريبُ ثانيةً

حتّى اغرورقتْ عيناهُ بالدموع.

3.

خجلَ النبعُ من كلامِ الغريب

وصارَ ماؤه يشحبُ شيئاً فشيئاً

حتّى أصبحَ،

بعد أربعين يوماً،

أثراً بعدَ عَين.

 

 

 

 

 

 

 

حُبّ

 

 

1.

حلمي كانَ الحُبّ

ولذا أردتُ لحرفي أن ينطقَ كلمةَ: حُبّ.

قبّلتُ شفته السفلى

كانَ الحرفُ صغيراً وجميلاً

وللتوّ عادَ من طفولته المليئةِ بالجمر.

قلتُ له: قلْ حُبّ.

فقالَ على الفور: حرّيّة!

ولذا ضعتُ لسنين لا حصر لها،

أتجلّى في طوفانِ الحرّيّةِ وزلازلها.

ثُمَّ قلتُ له: قلْ حُبّ.

فقالَ على الفور: حماقة!

ولذا ضعتُ لسنين لا حصر لها،

أتجلّى في كأسِ حماقاتِ الدنيا

درويشاً مَهووساً بقصصِ العشق،

وملاكاً مُصاباً بجذامِ الرغبة.

ثُمَّ قلتُ لحرفي:

ها قد أصبحتَ كبيراً.

أعني أصبحتَ من النضجِ بما يكفي

لتقول: حُبّ.

فقالَ على الفور: حرب!

ولذا ضعتُ ضياعاً أسْوَد أغبر

في حربِ الأجداد

وحربِ الأوغاد

وحربِ الأحقاد.

2.

حينَ خرجتُ من الحرب

أجرُّ هزيمتي النكراء،

كانتْ سنواتي قد تجاوزت السبعين.

ولم تعدْ عندي الرغبة أبداً

أن أسألَ حرفي شيئاً.

ومعَ ذلك،

قلتُ في لحظةِ عبثٍ ومجون:

قلْ حُبّ.

فقالَ على الفور: حقد!

فضحكتُ حتّى اخضلّتْ لحيتي بالدموع

ومن جديد: قلْ حُبّ.

أرجوك

تعبتُ حدّ اللعنة

من الحرّيّةِ والحماقةِ والحرب .

يا حرفي..

يا هذا..

هيّا..

قلْ حُبّ.

وبقيتُ كمجنونٍ أصرخُ في وجهه

حتّى متّ: قلْ حُبّ

                  حُبّ

                 حُبّ!

 

 

 

 

 

بغداد بثياب الدم

 

 

1.

تعبتْ بغداد من ثيابِ الدم.

تعبتْ وبكتْ.

وحينَ طلبتْ جرعةَ ماء،

أعطوها قنبلةً للموتِ وسيفاً للذبح.

وحينَ طلبتْ رغيفَ خبز،

أعطوها رمحاً من نار.

وحينَ طلبتْ شمساً،

صادوا شمسَ الله

حتّى لا تحضر يوماً ما

لشوارع بغداد.

2.

تعبتْ بغداد من ثيابِ الدم.

نزفتْ موتاً أحمرَ كجهنّم.

وحينَ أرسلتْ في طلبِ الطبيب،

قالوا لها:

الطبيبُ مشغولٌ بالخليفة،

والخليفةُ مُصابٌ منذ ألف سنة

بالمللِ التاريخيّ،

والمللِ الجغرافيّ،

والمللِ الروحيّ،

والمللِ الأمنيّ،

والمللِ الجنسيّ.

ولذا سيجيءُ إليكِ

بعدَ أن يُشفي الخليفة

من أنواعِ المللِ جميعاً!

فلا تبتئسي!

وحينَ نزفتْ بغداد

مِيتاتٍ أخرى لا حصر لها

في أزمنةٍ لا حصر لها،

قالوا:

عن أيّ طبيبٍ تتحدّثُ هذي المسكينة؟

3.

بغداد،

دماؤكِ سالتْ في الشارعِ للرائحِ والغادي.

كيفَ سيوقفها الفقراءُ العُزّل؟

بأيّ حروفٍ ودواءٍ وتعاويذ؟

كيف؟

وبغداد هاجمها كلُّ ذئابِ الكون،

نهشوا وجنتيها، شفتيها،

نهشوا ثدييها ويديها،

بالوا في دجلتها

حينَ رأوا دجلة

تتألقُ في الشَّمس.

وحينَ رأوا فيها مِئذنةَ الحرفِ الذهبيّة

تمتدُّ إلى ما شاءَ الله

مارسوا فنَّ التفخيخ،

       وفنَّ القصف،

       وفنَّ الرجم،

       وفنَّ الذبح،

       وفنَّ المكر،

       وفنَّ التدليس.

4.

بغداد..

الحقدُ شديد.

نعم، والألمُ شديد.

والقتلى انتشروا دونَ رؤوس

في كلِّ مكانٍ من جسدِك.

والفقراء العُزّل

سقطوا من فوقِ الجسرِ ومن تحتِ الجسر،

وفي جامعةِ المستنصر بالله،

وفي مصطبةِ عمّالِ البابِ الشرقيّ،

وفي..

وفي.. 

فآهٍ، بغداد، وآه.

5.

لكنّكِ، يا بغداد،

ستقومين من الموت.

أعني ستقومين من الدم.

فباؤكِ باءُ الله

وألفكِ أشرفُ موجوداتِ الحرف

ودالكِ دالُ الدنيا والدين

وسرُّكِ سرُّ الحُبّ،

كلّ الحُبّ.

6.

نعم، يا بغداد،

ستضيئين الدنيا ثانيةً

بثيابِ الشَّمس

لا بثيابِ الدم،

فأنتِ العنقاءُ وأنتِ الشَّمس!

 

 

 

 

 

قصائد الرأس

 

  

1. كَرَم

*****

حينَ تدحرجَ الرأسُ المُثقلُ بشهوةِ الدم

ودخانِ الحروب

على الأرض.

قالت الأرض: ما أكرمكَ مِن رأس

أهدى إليَّ الملايين مِن الرؤوس!

 

 2. سرّ الموت

**********

لم يكن الرأسُ طبيعيّاً.

كانَ سرُّ الموت

قد كُتِبَ ما بين عينيه

بسبعين لغة حيّة ومنقرضة،

وبسبعين واقعة

ليسَ لوقعتها كاذبة.

*

لم يكنْ طبيعيّاً أبداً.

حتّى الشِّعْر المليء بالثوراتِ وخروجِ الرايات

عجزَ عن وصفِ تدحرجِ الرأس،

الرأس الذي روّعَ الشعوب.

*

لم يكنْ طبيعيّاً بالمرّة

حتّى إبليس كانَ ينظرُ إليه

وهو يتدحرجُ أمامهُ على الأرض

دونَ أن يستطيعَ نطْقَ كلمة واحدة.

 

3. أين أنتِ أيّتها الأجوبة؟

****************

مِن المهمّ أن يتعرّف

مَن يريد أن يتعرّفَ إلى سرّه

في سرِّ هذا الرأس:

أن يعرفَ القتلى

كيفَ قُتِلوا ولِمَ،

وأن تعرفَ الكلمات

لِمَ سُحِقَتْ بالأقدام،

وأن تعرفَ الأيّام

كيفَ أُلقِيَتْ ساعاتها الجميلة

في حامضِ الكبريتيك،

وأن تعرفَ المرأة

كيفَ اقتيدَ حبيبها إلى ساحةِ الحرب،

وأن تعرفَ الحرب

لِمَ أُصيبَتْ بالسمنةِ المفرطة

في زمنه الذي ابتلعَ الأنهارَ والطيور،

وأن تعرفَ الطيور

لِمَ بيعَ بيضها المُلوَّن

بدراهم معدودة

ثُمَّ أُلقِيَت الدراهمُ في المزبلة،

وأن تعرفَ الروح

كيفَ سُرِقَتْ منها في وضحِ النهار

حقيبةُ البهجةِ والمسرّة،

حقيبةُ النقاطِ والحروف،

ثُمَّ أُلقيتْ في المستنقعِ النتن.

  

4. مشهد أخير

**********

حينَ تدحرجَ الرأسُ المُثقلُ بشهوةِ الدم

ودخانِ الحروب

على الأرض.

قامَ الشهداءُ من رقدتهم،

وقامَ القتلى والغرقى والمفقودون،

والمعذَّبون والمشوَّهون والمنفيّون،

ثُمَّ قامت الملائكةُ والجنّ

وجهنّم والجحيم،

ثُمَّ قامَ الأنبياءُ والأولياء

ثُمَّ قامت السماء

ثُمَّ قامَ حَمَلةُ العرش.

استمرَّ الرأسُ يتدحرج

على الأرض

إلى أبد الآبدين!

 

 

 

شجرة الحروف

 

 

1.

ليسَ هناك مِن شجرةٍ بهذا الاسم

أو بهذا المعنى.

ولذا أنبتُّ هيكلي العظميّ في الصحراء

وألبستهُ قبّعةَ الحلم

وحذاءَ طفولتي الأحمر

وعلّقتُ عليه

طيوراً ملوّنةً اتخذتْ شكلَ النون

ثُمَّ وضعتُ عليه

بيضةً صفراء كبيرة

اسمها النقطة!

2.

ليسَ هناك مِن شجرةٍ بهذا الاسم

أو بهذا المعنى.

حينَ هبطتُ من المركبِ الأسْوَد الطويل

رأيتُ الناسَ يحملون أشجاراً:

بعضهم يحملُ شجرةَ الذهب

أو شجرةَ اللذّة

أو شجرةَ الدم.

والآخَر يحملُ شجرةَ النسيان

أو شجرةَ الكحول

أو شجرةَ النار.

فمددتُ يدي في قلبي مُرتبكاً

وأخرجتُ شجرةً صغيرةً جدّاً

مليئةً بالشَّمس

سمّيتُها شجرةَ الحروف!

3.

ليسَ هناك مِن شجرةٍ بهذا الاسم

أو بهذا المعنى

لكن حدثَ أن سُجِنتُ مدى الحياة

ولكي أبدّدَ الوقتَ في سجني الأبديّ،

زرعتُ شجرةً صغيرةً جدّاً

في الصحنِ المعدني العتيقِ الذي يضع

فيه السجّانون طعامي.

فَنَمت الشجرةُ عاماً فعاماً

حتّى أثمرتْ جيماً مليئةً بالطلاسم

وصيحاتِ الدمِ والحروب

ونوناً مليئةً بآهاتِ العشق

وريشِ المحبّة

ونقطةً قيل إنّها نقطة العارفين.

4.

ليسَ هناك مِن شجرةٍ بهذا الاسم

أو بهذا المعنى.

في المركبِ العجيب

أبحرَ جمعٌ مِن الغرباءِ المنفيين،

مِن المتوحّشين والمجانين وأشباه المجانين

ليتيهوا وسطَ البحر.

فقالَ الأولُ: سنصلُ إلى الشاطئ

حينَ نرى شجرةَ التفّاح.

وقالَ الثاني: حينَ نرى شجرةَ الدنانير.

وقالَ الثالثُ: حينَ نرى شجرةَ الطيور.

وقالَ الرابعُ: حينَ نرى شجرةَ النساء.

ثُمَّ وصلَ الدورُ إليّ

فقلتُ: سنصلُ إلى الشاطئ

حينَ نرى شجرةَ الحروف.

*

حينَ وصلنا إلى الشاطئ

استقبلنا ملكٌ ضخمُ الجثّة،

حادُّ النظراتِ، مُخيفٌ كاللعنة.

فأعطى الغريبَ الأوّلَ تفّاحة

وأعطى الثاني ديناراً

وأعطى الثالثَ طائراً

وأعطى الرابعَ امرأةً.

ثُمَّ وصلَ الدورُ إليّ

فتجهّمَ وجهُ الملكِ وصاح:

يا سيّاف اقطعْ عنقه!

*

حينَ تدحرجَ رأسي على الشاطئ

وسطَ صهيلِ الغرباءِ المنفيين،

بزغتْ من دمي المتناثرِ على الأرض

شجرةٌ مليئةٌ بالنورِ والسرور.

أتراها شجرة الحروف؟

 

 

 

 

إبحار

   

 

1.

كلّما اتجهَ الحرفُ نحو نَفْسه

حاملاً صرّةَ ملابسه،

واضعاً الشَّمسَ حلماً يتألقُ في عينيه،

راكباً حافلةَ المسرّة

باتجاهِ فراتِ المسرّة،

وَجَدَ بانتظاره نقطةً غامضة

مليئةً بالشوقِ والندمِ والألم.

2.

كلّما أبحرَ باتجاه الصحارى

عابراً خيامَ البدو ونارهم وكلابهم

أو أبحرَ باتجاه السَّحَرَة

عابراً طقوسهم وطلاسمهم وبخورهم

أو أبحرَ باتجاه السماء

عابراً طقوسَ المتصوِّفة

ودموعهم وصيحاتهم وشطحاتهم

أو أبحرَ باتجاه المُحيط

عابراً شمسَ اللهِ وسفنه وكواكبه

أو أبحرَ باتجاه اللغة

عابراً كتبَ العشقِ والموتِ والشعوذة

أو أبحرَ باتجاه الخرافة

عابراً قصصَ العجائز التي تنامُ وقت الغروب،

كلّما أبحرَ باتجاه الأساطير

عابراً كلكامش وأنكيدو والأفعى التي سرقت السرّ،

عابراً الثيران المجنّحةَ وأهرامَ الفراعنة

أو أبحرَ باتجاه النار

عابراً طيورَ الرغبةِ وبيضَ اللذّة

أو أبحرَ باتجاه اللعنة

عابراً بيوتَ النساءِ بأشكالها

المليئة بالعُري والمرايا والظلام

أو أبحرَ باتجاه الشيطان

عابراً وشْمَه وشينه وشطآنه

أو أبحرَ باتجاه الماضي

عابراً صيحاته وسكاكينه التي أكلها الصدأ

أو أبحرَ باتجاه العبث

عابراً تاريخه الذي لا ينتهي عند حدّ،

كلّما أبحرَ الحرفُ باتجاه الذي أو التي أو الذين

وَجَدَ بانتظاره نقطةً غامضة

مليئةً بالشوقِ والندمِ والألم،

وَجَدَ، وا أسفاه، نقطةَ دم!

 

 

 

 

 

التباس نونيّ

 

  

هذه ليست النون،

هذه بدايةٌ مُقدَّسةٌ للنون.

هذا سطوعٌ روحيّ

وحُبٌّ جارفٌ كالشلّال

كاحتواءِ الهلالِ لنقطةِ النون.

هذه بدايةٌ سعيدة

لشاعرٍ مجنونٍ كما يُفترض

وامرأةٍ ذات قلب حجريّ تُدعى النون.

هذا خطٌّ يُعبَد

والمؤمنون يرقصون عُراةً حولَ النقطة

وربّما حولَ الهلال

وربّما حولَ النون.

هذا منفى بهيج

وأناسٌ مُتجهّمون

وبواخرُ تغرق

ومُنشدون يصدحون

وموسيقى تهبطُ وسطَ رفيفِ الملائكة

حولَ تمثال شمعيّ كبير لشاعرِ النون.

هذه مدنٌ تتشابهُ كالموت

ولصوصٌ يبتهجون بسرقةِ النهار،

أعني كنز النهار.

ربّما هم النونيّون

ربّما هم مقلّدو النون.

هذه نونٌ بلغةٍ أخرى توحي بالرفض

في حين يوحي الهلالُ بالقبول

والنقطةُ بالمثول.

هذه قصيدةٌ غريبة

تشبهُ جزيرةً تغرقُ في البحر:

بحرِ ذي النون.

هذه هي النقطة

أعني هذا هو الهلال:

هلالُ البحرِ وهلالُ السماء.

هذه هي النون!

 

 

تحوّلات

      

 

حين قبّلتُكِ لأوّل مرّة،

نبتتْ في بطنكِ الجميلِ وردةٌ حمراء.

وحين قبّلتُكِ الثانية،

حلّقَ طائرٌ أبْيَض فوقَ جسدينا العاريين.

وحين قبّلتُكِ الثالثة،

هاجتْ عاصفةٌ زرقاء.

وحين قبّلتُكِ الرابعة،

سقطتْ علينا صاعقةٌ لا شرقيّةٌ ولا غربيّة

وأحرقتْ جسدينا الفَرِحَين،

فذهبتِ أنتِ وردةً حمراء إلى الحياة

وذهبتُ أنا طائراً أبْيَض إلى الموت.

 

 

 

 

 

 

 

قصيدتي الصَّبيّة

 

 

1.

وضعت القصيدةُ رأسَها ما بين ركبتيها

وبكتْ كأيّ صَبيّة.

فكّرتْ: كيفَ ستعلنُ عن أسرارها؟

هل سَتُمجّدُ البحر؟

سوفَ تُتَّهم بالطبيعيّة!

هل سَتُمجّدُ النار؟

سوفَ تُتَّهمُ بالمجوسيّة!

هل سَتُمجّدُ الحُبَّ: أقماره وغواياته؟

سوفَ تُتَّهمُ بالإباحيّة!

هل سَتُمجّدُ الحرف

وترقصُ في سحره كالدراويش؟

سوفَ تُتَّهم بالحروفيّة!

هل سَتُمجّدُ الشرّ؟

سوفَ تُتَّهم بالشذوذ!

هل سَتُمجّدُ الله؟

سوفَ تُتَّهم بالتصوّف!

2.

ما الذي ستفعلهُ هذه الصَّبيّة؟

لم تكنْ تعرف شيئاً سوى الدمع.

وضعتْ رأسَها ما بين ركبتيها

وبكتْ من جديد!

3.

استمرَّ بكاءُ القصيدةِ ألفَ عام

حتّى تحوّلتْ إلى ملاكٍ عجيب

طارَ فوقَ البحرِ والنار،

طارَ فوقَ الحُبِّ: أقماره وغواياته،

طارَ فوقَ الحرفِ راقصاً كالدراويش،

طارَ فوقَ الشرِّ والحقد،

طارَ فوقَ المحبّة.

4.

استمرَّ صعودُ القصيدةِ ألفَ عام.

وكانَ الذي قالَ: (كنْ فيكون)

ينظرُ إليها سعيداً،

سعيداً تماماً

مثلما أمّ موسى

وقد رُدَّ إليها ابنُها

بعدما كادَ يغيّبهُ البحرُ والدهر

إلى يوم يُبْعَثون!

 

 

 

 

ارتباك

 

إلى: سعيد الغانمي

 

   

1.

* قالَ الشاعرُ: مَن سيكتبُ قصيدتي؟

- قالَ الحرفُ: أنا.

* ومَن سيطلقُ أسرارَها للناس؟

- قالت النقطةُ: أنا.

جاءَ القَدَر

ومسحَ الحرفَ والنقطة

مِن شاشةِ المعنى.

فجلسَ الشاعرُ مذهولاً العمر كلّه

مثل صخرة كبيرة

مُلقاة على شاطئ البحر. 

 2.

* قالَ الطفلُ: مَن سيأخذني إلى حضنِ أمّي؟

- قالَ الحرفُ: أنا.

* ومَن سيشتري لي لعبةَ العيد؟

- قالت النقطةُ: أنا.

جاءت المأساة

فمسحت الحرفَ والنقطة

مِن شاشةِ المسرّة.

وتركت الطفلَ يبكي الليل كلّه

كشحّاذٍ ينامُ في شارعِ الثلجِ والمطر.

3.

* قالت الشَّمسُ: مَن سيُنبِتُ لي جناحين لأشرِق؟

- قالَ الحرفُ: أنا.

* ومَن سيمنحني القوّةَ لأطيرَ إلى الناس؟

- قالت النقطةُ: أنا.

جاءَ العبث

ومسحَ الحرفَ والنقطة

مِن شاشةِ الحياة.

فجلست الشَّمسُ وهي تقلّبُ كفّيها

في وجومٍ عظيم. 

4.

* قالَ الشيخُ وهو بين يدي الموت:

مَن سيحفرُ قبري؟

- قالَ الحرفُ: أنا.

* ومَن سيصلّي عليّ؟

- قالت النقطةُ: أنا.

جاءَ الشيطان

ومسحَ الحرفَ والنقطة

مِن شاشةِ الوجود.

فجلسَ الشيخُ مُرتبكاً

لا يعرفُ كيفَ يموت!

 

 

 

 

القبطان

 

    

حينَ سحبتُ كارتَ الملكة

من على طاولةِ اللعب،

طعنَ القبطانُ ذو الفم البشع

والإصبع الوحيد

كفّي بالسكّين.

فتوقّفتُ عن اللعبِ إلى الأبد.

وصرتُ أحضرُ الحفلَ فقط

لأرى اللاعبين يصرخون ويسكرون

ويشتمُ بعضهم بعضاً

ويدخّنون أو يبكون.

وحينَ أصابُ بالملل

(وكثيراً ما أصابُ بالملل)

أبدّدُ الوقتَ بالنظرِ عبرَ النافذة

إلى النهرِ المُجاور،

إلى النهرِ الراكدِ المُجاور،

لأرى صورةَ القمر

تتكسّرُ بهدوءٍ على الماء

حينَ يمرُّ المركبُ الأسْوَدُ الطويل

يقودهُ، كذلك، القبطانُ ذو الفم البشع

والإصبع الوحيد!

 

 

 

رغبات

 

  

تريدُ الشَّمسُ أن تسهرَ الليلة

في نادي الكواكبِ والنجوم

لكنّها تخاف أن تتأخر

ولا تشرق غداً في موعدها المُحدّد.

يريدُ القمرُ أن يحلّقَ عالياً

ويخرج من مداره المرسوم

لكنّه يخاف أن يقعَ في الثقوبِ السُود.

يريدُ العاشقُ أن يستحضرَ حبيبته

من غياهب النسيان

لكنّه يخاف حينَ تجيء،

أن يجيء معها الماضي

وأشباحه وسكاكينه المتوامضة وسطَ الظلام.

يريدُ النهرُ أن يعودَ لأهله

لكنّه يخاف من اللصوص،

اللصوص الذين وقفوا له بالمرصاد

عند حدود الطبيعة.

يريدُ الشاعرُ أن يكتبَ قصيدته الجديدة

لكنّه يخاف أن يكونَ ثمنها

كفّه التي لا تجيدُ إلّا المحبّة

ورأسه الذي يعيشُ بشغفٍ

عزلةَ العارفين.

 

 

 

 

اكتشافات الحرف

 

   

1.

حينَ قبّلَ الحرفُ النقطة

اكتشفَ الوردة

وحينَ احتضنها بقوّة

اكتشفَ الحُبّ.

وحينَ أطلقها لتطيرَ فوقَ قلبه

اكتشفَ الهذيان.

وحينَ صهرها ما بين ذراعيه

اكتشفَ اللذّة.

2.

وحينَ وضعها تحتَ جسده

وصارَ هو الشراع

وهي السفينة

اكتشفَ البحر.

وحينَ باحَ لها بسرّه المكنون

اكتشفَ الشِّعْر.

وحينَ علّقها فوقَ الشجرة

اكتشفَ البيضة.

وحينَ اعترفَ لها

كالطفلِ الذي ضيّعَ حقيبته المدرسيّة

بذنوبه ووساوسه وهلْوَساته

اكتشفَ الدمعة.

3.

وحينَ صرخَ بها

في لحظةِ فراقٍ سوداء

اكتشفَ النهاية.

وحينَ رفسَها

في لحظةِ غضبٍ زرقاء

اكتشفَ الجنون

ثُمَّ حينَ طعنها

وسالَ منها دمُ الكلمات

اكتشفَ الموت

ومات!

 

 

في تلك اللحظة

 

 

1.

حينَ بدأ يرمي حروفه

الواحد تلو الآخر في النار.

كانتْ عيناه تشعّان

بوميضٍ غريب،

وميض من البهجةِ والألمِ والخُسْران.

كانت النار

تصّاعدُ شيئاً فشيئاً

حتّى تكاد تصل إلى السقف.

لا يهمّ

- قالَ في سرّه -

لا يهمّ.

كلُّ شيء سينتهي ذات يوم

كما انتهتْ هذه الحروف!

2.

استمرَّ برمي الحروف في النار

كلّ ليلة

مغيّراً في مكانِ النار:

مَرّةً في الغرفةِ المُطلّة على الجحيم،

مَرّةً في الحديقةِ المُطلّةِ على رمادِ الخريف،

مَرّةً في فناءِ الدارِ المُطلِّ على ربيعِ الحشرات،

مَرّةً في الوطنِ المُطلِّ على مسرحيّةِ العبث،

مَرّةً في النهرِ المُطلِّ على حذاءِ الطفولةِ الأحمر،

مَرّةً في البحرِ المُطلِّ على احتفالاتِ التعرّي،

مَرّةً في أجسادِ النساءِ المُطلّةِ على اللذّة،

مَرّةً في المقبرةِ المُطلّةِ على الندمِ والعظام.

3.

بعدَ أربعين عاماً من الحريق،

لم تعدْ أصابعُهُ تقوى على رمي الحروف

ولم يبقَ لديه مكان لإشعالِ الحرائق.

في تلك اللحظة،

في تلك اللحظة فقط،

عرفَ قيمةَ الكتابة

وبدأ يكتبُ الشِّعْر

حرفاً فآخر!

 

 

 

 

ممتع، غريب، مدهش!

 

 

1.

* ما اسمكَ أيّها الشاعر؟

- اسمي الطائر.

* وبعد؟

- السمكة.

* السمكة؟                                                     

- نعم.

* ذلك مُمتع!

2.

* ما لون البحر أيّها الشاعر؟

- السفنُ والنساء.

* وما لون الحرّيّة؟

- الخبزُ والملح.

* الخبزُ والملح؟

- نعم.

* ذلك طريف!

 3.

* وكيفَ تكتب؟

- أدخلُ في الحرف،

أتمنطقُ  بسرِّ الحرف،

أبكي، أتأمّلُ، أغفو،

أحلمُ، أهذي، أرقصُ، وأموت.

* وتموت؟

- نعم.

* ذلك مُحزن!

 4.

 * والنقطة، كيفَ تصفُ النقطة؟

- النقطة أمّي وأبي.

* وإذنْ، قضيتَ طفولتكَ معها؟

- وقضيتُ صباي وشبابي ودهري الأعمى.

* هل كنتَ سعيداً؟

- نعم،

 إذ عشتُ وسطَ النقطةِ كالسمكة.

وكانت النقطةُ بحراً يمتدُّ ويمتدّ

إلى ما شاءَ الله.

* وهل رأيتَ الله؟

- لا.

* لِمَ؟

- لأنّ الله في قلبي شمس تتكلّم.

* الله شمس تتكلّمُ في قلبك؟

- نعم.

* ذلك غريب!

5.

* حسناً، وكيفَ ستموت؟

- إذا تاهَ الطائرُ في أرضِ الله.

* وبعد؟

- إذا تاهت السمكةُ في بحرِ الله.

* وبعد؟

- إذا التقطَ الطائرُ السمكة.

* ذلك مُدهش!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اعتراف ملك الحروف

 

  

1.

في خطأ لا يُغْتَفَر

حوّلتُ النون

أو نقطةَ النونِ على الأدق

إلى ملكةٍ جديدة

لا يحقُّ لها أن تخرجَ معي

عاريةً في الاحتفالات،

ولا تقاسمني سريري

عندَ فيضان عواطفي ورغباتي،

ولا تكلّمني حينَ أصدحُ بالنشيد:

نشيد الجنّ والشياطين،

ولا تتعرّى أمامي

حينَ أتعرّى أمامَ حروفي

لأوزّعَ عليها هبات المعاني،

ولا تتعرّى أمامي

حينَ تتعرّى حروفي أمامي

لتوزّعَ عليّ كؤوسَ الأمل.

2.

كانَ خطأ لا يُغْتَفَر!

أعترفُ بذلكَ أمامَ الجميع.

نعم،

كانَ خطأ من العيارِ الثقيل!

 

 

 

 

 

 

 

احتفال حروفيّ

  

 

1.

حينَ اجتمعنا عند نهر الفراتِ المُقدَّس

لنشربَ نخبَ اللغة.

كانَ النهارُ جميلاً

والشَّمسُ لم تُلَوّثْ بعد بالدم

أو بغُبارِ الحروب.

2.

في غمرةِ الاحتفال

اقترحت الجيمُ أو النون

أن نطيّرَ نقاطنا في الهواء.

فصارَ لزاماً ونحن في بهجةٍ لا تُحدّ،

صارَ لزاماً على كلّ حرف

أن يطيّرَ نقطتَه

في حبورٍ جنونيّ

وَسُكْرٍ مُقدَّس!

3.

طارت نقاطُ الحروف

عالياً

عالياً

كطيورِ النوارس،

كحماماتِ السلام،

كبلابل الصيف،

كعصافير الرغبة،

كفراشاتِ الطفولة. 

4.

فجأةً

مزّقت السماءَ قذيفةُ دم.

5.

لكنّ النقاط لم تعدْ لأحرفِها

لم تعدْ!

فبكت الجيمُ محنتَها

وصاحتْ بوجهي:

إنّني مُرتبكة مثل جُثّة

أيّها الألف الذي لا نقطة فيه ولا معنى!

وصاحت النون:

وا أسفاه

سأبقى مثل ذراعين تائهتين

دونَ نقطةٍ أعشقُها وأعبدُها كلّ يوم.

6.

كثيراً

بكيتُ كثيراً لبكاءِ الحروف.

ونظرتُ للشمس

فإذا هي نقطة من دخان!

 

 

 

 

 

 

 

شطحات النقطة

 

    

1.

أدافعُ عن حرفٍ ليسَ لي.

أدافعُ عن نونٍ لها ما لها

وعن جيمٍ تقودُ طفولتي

نحو فراتٍ من السكاكين

وعن شين مُقدَّسةٍ من تراب.

2.

أخذوا النونَ واستووا عليها

فكانتْ لهم مركباً طيّباً

ولي سندباد خوفٍ ونارٍ وموجٍ وتيه.

وأخذوا الجيم

واغتالوا شبابها في توابيت من خمر

وتوابيت تنضحُ ماءً

يمرُّ من تحتِ قدميّ المذعورتين.

وأخذوا الشين

صارتْ بأيديهم أساطير من ذهب

ودَوَلاً من سوادٍ وخوف.

وتبادلوا الدورَ مع مَن حُمِلَ رأسي إليه

فقالوا وهم يذرفون الدموع:

باِسمكَ أيّها الرأسُ المثقلُ بالأسى والحروف

نؤسسُ مملكةً للحتوف.

سنرقصُ فيها على الطبل

ونترككَ في عطشٍ ترتجف،

في جلالٍ ونورٍ تموت. 

3.

كيفَ لي أن أدافعَ عن حرفٍ ليسَ لي

ونخلةٍ لم أعدْ أجلس تحتَ سعفاتها؟

كيفَ لي أن أدافع

عن زمنٍ أزرق له عُريه الذهبيّ

وناره السوداء؟

عن زمنٍ ليسَ يعرفني،

ليسَ يعرف أحداً أبداً؟

كيفَ لي أن أدافع

عن ملحمةٍ لها شاعرها الذكيّ الدعيّ

وكتابٍ له مؤلفه اللوذعيّ؟

4.

أدافع؟

كيفَ أدافعُ عن أبجديتي

وأنا الذي رماني السَّحَرَةُ بلوحٍ من النار

ورماني الغجرُ بحجارةٍ من سجّيل

ورماني الرماةُ بسهمٍ من الحقد؟

كيفَ لي،

بعدَ هذا جميعاً،

أن أدافعَ عن حرفي

وأمنحه ماءَ قلبي وشمسَ كينونتي؟

 

 

 

 

 

 

 

حلم

 

 

1.

كانتْ باحةُ الحلمِ غامضةً مُتْرَبة

حينَ حطّتْ فيها نقطةٌ كبيرة.

رقصتْ حولَ عقربي الساعة

فتحرّكا بعدَ قرون من الصدأ

ثُمَّ ضربتْ بجناحيها الناعمين عصا المايسترو

فبدأت الموسيقى تندلقُ على الأرض.

استفاقت المرأتان العاريتان من نومهما الطويل

وقبّلتْ إحداهما الأخرى  

وبدأتا في الرقص. 

2.

طارت النقطةُ بعيداً.

كانَ بانتظارها قطارٌ أسْوَد طويل

وسككٌ بِيض

وإشارةُ سيرٍ مُلوّنة.

ضربت النقطةُ بجناحيها الناعمين إشارةَ السير

فصهلَ قطارُ الكلامِ صهيلاً جميلاً،

وصعدَ البخارُ من منخريه

قليلاً قليلاً

حتّى هبطَ من بابِ القطار

حرفٌ بملامح قاسية

وأناقةٍ مُفرطة

وشاربٍ كثّ

وكتابٍ ثمين

ولسانٍ طويل.

3.

رجعت النقطةُ فَرحةً لترى المرأتين

ترقصان بسعادةٍ ولذّةٍ وعذوبة.

لكنّ الحرفَ القاسي التقطَ النقطة

بلسانه الطويل الطويل.

فتوقّفَ، على الفور، عقربا الساعة

ويبستْ أمواجُ الموسيقى

ثُمَّ أخرجَ الحرفُ النقطةَ من لسانه

ووضعها في كتابه العجيب،

في كتابه الثمين الذي يحتوي

على أكثر من نقطةٍ ميّتة.

4.

مرّتْ لحظاتٌ ثقيلة

أثقلُ من الصخر

لتتوقّفَ بعدها المرأتان العاريتان عن الرقص

ويدخل كلُّ شيء في غيبوبةِ الموت.

 

 

 

 

صَبيّ

 

 

 

1.

في الشارعِ المليء بالعماراتِ العالية

هبطَ الطائرُ العملاق.

هبطَ حتّى لامسَ الأرضَ فهربَ الجمهور،

هبطَ وسطَ دوّامةٍ من الريح.

كانَ قويّاً

يطيرُ بلونٍ أسْوَد،

يطيرُ بجناحين ثابتين من الحديد.

صرخَ الجمهورُ وولّى بعيداً.

لكنّي اقتربتُ من الطائر

- كنتُ صَبيّاً بمعنى الكلمة -

لأمسكَ بيدٍ واحدةٍ بجناحِ الطائر

فارتفعَ بي قليلاً

لأسقطَ، مِن ثمَّ، على الأرض

وسطَ ضحكاتِ الجمهور.

2.

ها أنذا أعودُ إلى المكانِ ذاته:

الشارعِ المليء بالعماراتِ العالية.

لم أجد الطائرَ العملاق،

لم أجد حتّى اسمَ الطائر،

لم أجد الجمهور،

لم أجد حتّى

ذلك الصَّبيّ الذي هو أنا.

فارتسمَ خيطٌ من الأسى

على وجهي

وخيطٌ من الدهشة

وأنا أرفعُ يدي

- مثلما فعلتُ قبلَ نصف قرن -

لأمسكَ بجناحِ الطائر،

الطائر الذي أعلمُ علمَ اليقين

أن لا وجودَ له أبداً.

 

 

 

أحجار

 

 

يوماً ما

قرّرَ أن يذهبَ إليها

لم يعدْ يحتمل سكاكين الفراق

وطعنات الرغبة.

وحينَ دقَّ على شبّاكِها المُطلِّ على الشارع

لم تفتحْ له.

فذهبَ إلى الباب

وهمسَ بِاسمها الرقيق

فلم تفتحْ له.

حينها رجعَ إلى الشبّاكِ المُظلم.

فصارت الأحجار تُرمى على ظهره

حجراً إثر حجر

وهو يدقّ

والأحجار تزدادُ وتزداد

لتغطّي ظهره وساقيه وقدميه

شيئاً فشيئاً

وهو يدقّ ويدقّ

حتّى اختفى خلفَ كومةٍ من الأحجار.

 

 

 

 

 

 

الحرف يتشظّى، النقطة تتدروش!

 

 

1.

في كينونتي،

أعني في ارتباكي الكبير،

ثمّة حرف

وثمّة نقطة.

2.

حرفي تشظّى

منذ أن تعرّفتُ على طفولتي

راحلةً نحو شمس الخيانة والنحاس.

وتفحّمَ في مراهقتي التي قضيتها

أترقّبُ فجرَ جسدِك

مجنوناً قربَ الشبابيك،

وحيداً وسطَ الغرفِ المظلمة

حيث ينتهي الرأسُ بين الركبتين

مستسلماً بحرقةٍ للدموع.

حرفي تاه

وسطَ كؤوس الخمرِ والدخان

حتّى أدمنَ صيحاتِ البحر

وصيحاتِ نوارسِ البحر.

لكنّ نقطتي

نهضتْ من جنونها اليوميّ

نهضتْ لتتدروشَ وتتصوّف.

3.

وإذن، سأدعوكِ حبيبتي

وصاحبة صباي العجيب،

صاحبة القلبِ الفتيّ الذي سُرِقَ منّي

في وضحِ النهار

ووسط صياحِ الباعة،

صاحبة الشفتين الرطبتين

كتينةٍ مَشْقُوقة،

صاحبة الأغنياتِ الساذجة

كموعدِ حُبّ أخرق.

سأدعوكِ

نعم،

لكن إلى أين؟

أإلى حرفي المُتشظّي

أم إلى نقطتي المتدروشة؟

4.

نعم،

سأدعوكِ إلى حرفي.

أعني سأدعوكِ إلى الحاء:

حاء الحرّيّةِ والحنينِ والحُبّ،

إن كانَ اسمكِ يتماهى مُحترقاً بالحاء.

وسأدعوكِ إلى نقطتي.

أعني سأدعوكِ إلى نقطةِ النوالِ والنونِ والبسملة،

إن كانَ اسمكِ يتماهى مُحترقاً

بنقطةِ البدءِ والمنتهى.

5.

أشكُّ أنّكِ ستلبّين الدعوة

لتخفّفي من ارتباكي الكبير.

لأنّ اسمَكِ

رغمَ جبروته وعنفوانه وسذاجته الفادحة

لم يحترقْ بالحُبّ كما ينبغي

حتّى تذروه النارُ هشيماً،

ولم يشتعلْ بالنقطة

حتّى تذروه الأبجديّة

طائراً من نور.

أشكُّ أنّكِ ستلبّين الدعوة،

أشكُّ كثيراً

لأنّني أعرف

أنّ إصابتي بداءِ الارتباك

لا شفاء منها أبداً.

 

 

 

 

 

 

رسالة الحرف إلى حبيبته النقطة

 

 

حبيبتي:

أيّتها النقطة،

أيّتها الحمامة،

أّيّتها الصخرة المُلقاة على حافةِ النهر،

أيّتها الوردة الطيّبة،

أيّتها الابتسامة اللذيذة كقيمرِ الصباح،

أيّتها الدمعة: اللؤلؤة،

كيفَ أجدُكِ الليلة؟

بحثتُ عنكِ طويلاً طويلاً

في كتبِ اللغة،

ودواوين العشقِ والوصال،

وفي معجزاتِ الأنبياءِ والأولياء،

وفي قصصِ الغرقى والمُشرّدين والأدعياء.

بحثتُ عنكِ في الشوارعِ الخلفيّة،

والبيوتِ المظلمة،

وعلى موائد الضائعاتِ واللئامِ والأيتام.

بحثتُ عنكِ

في شواطئ البحرِ الأسودِ والأصفرِ والأحمر،

وضفافِ الأنهارِ الحيّةِ والمنقرضة،

وفي أجنحةِ الملائكةِ المُنزَلين،

وفي قماقم الجنِّ المحبوسين،

وفي وحشةِ الجبالِ والعزلةِ والينابيع.

بحثتُ عنك

في أدويةِ الأطبّاء،

وإشاراتِ السَّحَرَة،

وطلاسم المُشعوذين.

بحثتُ عنك

في أمواجِ اللوحات،

وفي زرقةِ المعابدِ والجسورِ والحانات،

وفي وجعِ الليلِ والفجرِ والنهار.

نعم،

يا حبيبتي

بحثتُ حتّى وهنَ العظمُ منّي

واشتعلت الروح

لكنّ الأملَ لم يزلْ على قيد الأمل

رغمَ بريق الصواعق

وزلزلة الأمطار

وصيحات السكاكين،

الأمل الذي يغنّي لي كلّ ليلة:

ربّما سأجدُكِ أيّتها النقطة

ذات ليلة،

ربّما سأجدُ أثرَك،

وربّما ستجدين بقاياي!

 

 

 

 

هبوط

 

 

 

قالت النقطة:

أيّها الحرف

إنّكَ بحر عجيب،

وملك مُطَارَد،

وساحر يأكلُ قلبه كلَّ شيء،

وطفل أضاعَ دربَه في الوديانِ السحيقة،

وإله رحيم لكنّ أتباعه القساة والقَتَلة،

وشاعر أعمى

مَهووس بالجنسِ والنارِ والموت.

سكتت النقطة.

فنزلتْ دمعتان من عيني الحرف

ونظرَ إلى يديه

فهبطَ منهما البحر،

وهبطَ الملكُ من البحر،

وهبطَ الساحرُ من مركبِ الملك،

وهبطَ الطفلُ من جناحي الساحر،

ثُمَّ هبطَ الإلهُ من غيمته

ليقودَ الشاعرَ الأعمى

وهو يمشي مُرتبكاً

وسطَ القساة والقَتَلة

يمشي ولسانه رطبٌ أبداً

بالغناءِ والدعاءِ والهذيان.

 

 

  

 

 

طائر النقطة

 

  

1.

في صباحٍ عجيب

هبطتُ في بلادِ الكنغر

وهبطتْ معي نقطتي مضيئةً سوداء

وحرفي طائراً من أنين.

هبطتُ أحملهما بكفّي مسروراً

أحملهما كأيّ كائنٍ خرافيّ

ظنّ أنّه وصلَ الجنّة.

2.

مثل هذه البداية: الخطأ

ستقود، حتماً، إلى النهاية: الخطأ.

هكذا قالَ الفلاسفة

وما كذبوا!

3.

كيف؟

أنا لم أهبطْ في بلادِ الكنغر

ومعي حرفي ونقطتي

بل هبطتُ في بلادِ الجَمَل.

ثُمَّ إنّ نقطتي لم تكن معي

لأنّني حينَ نزلتُ إلى الأرض

مختبئاً تحتَ صرختي الأولى

طارتْ نقطتي عالياً.

وقيل إنّها طارتْ

حينَ بلغتُ سنَّ البلوغ.

ثُمَّ إنّ حرفي

كانَ طائراً بلونِ الذهب.

4.

ذلك يجعل الصورة أكثر وضوحاً:

النقطةُ سوداء

(أهي سوداء أم بيضاء يا إلهي؟)

والطائرُ ذهبيٌّ ذهبيٌّ حدّ اللعنة!

5.

لا أستطيعُ أن أستمرَّ في كتابةِ القصيدة

فلقد قالَ الفلاسفة:

الشِّعْرُ لا قيمة له

إذ لا معنى يُنتَظَرُ منه!

6.

وقالَ البلاغيون

وأحدهم قابلني في شبابي

وصرخَ بوجهي:

احذرْ أن تكتبَ شعْراً فيه معنى!

قلتُ: فهل أكتبُ شعْراً لا معنى فيه؟

قال: ولا هذا أيضاً!

وأشاحَ بوجههِ القاسي عنّي.

7.

لكنّي كنتُ مُحبّاً،

مُحبّاً من العيار الثقيل.

كنتُ أحُبّ نقطتي

وأريدها أن تبتهجَ وتبهجني

وإلّا فالموت خاتمة القصّة كما تعرفون.

وكنتُ أحُبّ حرفي

وأريده أن يحلّقَ عالياً عالياً

حتّى يلامس السماء.

ففي السماء

كما قالَ لي طائري

واثقاً ذات مرّة:

لا توجدُ إلّا المحبّة!

8.

وإذن، لنراقب هذه اللعبة:

الطائرُ التقطَ النقطة.

كانت النقطةُ مضيئةً سوداء

ثُمَّ رحلَ بعيداً بعيداً

حتّى ضاعَ في الغابات.

(أهي غابات من الأشجارِ أم من السيقانِ يا إلهي؟)

كانَ المشهدُ عذباً وعَذاباً.

الذهبيُّ التقط الأسْوَد،

الحياةُ التقطت اللذّة.

ثُمَّ سقطت النقطةُ من فمِ الطائر.

فسقطَ الذهبيُّ خلفها

حتّى ارتطمَ بالأرض

ومات.

9.

نهايةُ محزنةٌ حقاً!

أيجب أن يموت الذهبيّ

ويعيش الأسْوَد؟

لكن إذا فَلْسفْنا المشهد

سنقول:

لابدّ أن يعيشَ الذهبيّ

لأنّ الذهبيّ هو الحياة،

           هو الطائر،

           هو الجناح.

ولابدّ أن تموتَ النقطة

لأنّها سوداء.

10.

هذه كلّها مجرّد أكاذيب!

لأنّ النقطةَ كانتْ بيضاء

والطائرحملها بقلبهِ لا بمنقاره

وطارَ بها أعلى فأعلى

حتّى سقطَ الذهبُ منه

ريشةً فأخرى

على رأسي المدهوش،

رأسي المُحدّق في الأعالي

حيث لا توجدُ إلّا المحبّة!

 

 

 

 

 

 

 

 

لعبة كبيرة

 

 

 

1.

حينَ ذهبتُ إلى ساحلِ البحر

وجدتُها تستلقي عاريةً

بفخذين مليئتين بالرغبة

وصدرٍ إلهيّ عارم

وعينين باتساعِ البحر.

صرتُ أمرُّ من أمامها جيئةً وذهاباً

لسنين لا حصر لها.

ثُمَّ نظرتُ بعيداً

لأرى غيمةً وسمكةً وطفلاً

يقتربون من المرأةِ العاريةِ ليأخذوها معهم.

بكيتُ طويلاً

لأنّي أنفقتُ دهراً

وأنا أحلمُ بالمرأةِ العاريةِ دونَ جدوى،

وأكتبُ حروفَ الحُبِّ لها دونَ أمل

أو نقطة أمل.

2.

في اليومِ التالي

جلستُ عند الساحل.

وبدأتُ أفكّرُ في الأمرِ مَليّاً:

كيفَ اختفت المرأةُ العارية

ربّما رفعتها الغيمةُ إليها!

ربّما دعتها السمكةُ للبحر!

ربّما أخذها الطفلُ إلى مكانٍ غير بعيد! 

3.

وحينَ بلغتُ من العمرِعِتِيّاً

رأيتُ المرأةَ من جديد

تستلقي فوقَ رمالِ الساحل

بكاملِ لذّتِها وعُريها.

اقتربتُ منها هذي المرّة

لأراها - وا أسفاه - مجرّدَ لعبةٍ كبيرة،

لعبة مُلقاة على الساحل،

لعبة لم ترفعها الغيمةُ اليها،

ولم تأخذها السمكةُ للبحر،

ولم يأخذها الطفلُ إلى مكانٍ غير بعيد!

4.

وإذن، صرتُ أزورُ البحرَ كلّ يوم

وأنا أدمدمُ بحثاً

عن جوابٍ لما حدثَ لي،

ولمّا ارتفعَ المدُّ، صرختُ:

لم تعد المرأةُ العاريةُ تهمّني

ما يهمّني حروفي التي كتبتُها عنها:

هل سترفعها الغيمةُ إليها

أم ستأخذها السمكةُ للبحر؟

أم سيمزّقها الطفلُ في مكانٍ غير بعيد؟

 

 

 

 

 

 

توضيح حروفيّ

 

 

1.

هل النونُ معنى أو لا معنى؟

ذهبٌ أم تراب؟

عُري أم تستّر؟

زندقةٌ أم توحيد؟

زنبقةٌ أم أفعى؟

عرشٌ أم منفى؟

2.

هل النونُ سلامٌ

أم الهدوءُ الذي يسبقُ العاصفة؟

أهي النجومُ التي في السماء

أم النجومُ التي فوقَ الماء؟

أهي الخرافةُ أم البشارة؟

أهي الفراتُ أم بركةُ الدم؟

3.

ليست النون شيئاً،

ليستْ هي الأمطار ولا الأكاذيب،

ليستْ هي اللؤلؤ ولا المرجان،

ليستْ هي الخوف ولا الطمأنينة،

ليستْ هي حبيبتي ولا عاذلتي،

ليستْ هي مَن قطعَ رأسي

ووضعهُ على الرمح

ولا مَن أعادهُ إلى الجسد

وقت امتلاء الأرض بالصواعق.

 4.

النونُ هي النون.

فلا تضعوا على لساني

كلماتٍ لم أقلها

ولا حروفاً لم أعرفْ سرَّها ونجواها.

النونُ هي النون

بِعُريها الذي يشبهُ شمساً ترتدي البياض،

بلذّتِها التي تشبهُ فيضانَ الحُبِّ أو الموت،

بهلالها المطليّ بالذهبِ والخوفِ والمستحيل،

بنقطتها التي تتنفسُ الزرقةَ والعشبَ والمنفى.

النونُ هي النون

ليسَ إلّا!

 

 

طَيَران

 

 

 

أقصى ما أحلمُ به

أن أطيرَ فوقَ الجسر

حتّى لا أرى العابرين فوقه

نحو ساعات يومهم،

ولا العابرين تحته

نحو الموت الأسْوَد

لكنَّ أجدادي المتبرقعين بالأخضر

طاروا جميعاً.

بعضُهم طارَ فوقَ العماراتِ العالية،

والآخرُ طارَ فوقَ الغيمةِ عالياً عالياً

حتّى لم يعدْ يعرف أين هو!

 

 

 

 

غروب النقطة

  

 

1.

أنا النقطة،

أنا الشَّمسُ المُكتملة،

وأنتَ البحر اللانهائي،

أيّها الحرف،

أهبطُ فيكَ شيئاً فشيئاً

حتّى أختفي تماماً

لتصبحَ أحمرَ بدمي،

بمحبّتي،

بطيورِ طفولتي.

2.

أنا النقطة،

أنا اللغزُ الخرافيّ،

أنا رحلةُ المجهول،

أنا قرصُ السلامِ والحُبِّ والشوق،

وأنتَ البحر،

أيّها الحرف،

يا مَن تقرأ لوحَ حياتي، أعني قصيدتي.

هكذا أختفي فيكَ وبكَ ومعك

لأكون لانهائيةً فيكَ وبكَ ومعك،

وأنتَ تمتصّني لتبتهجَ بأسراري

أو لتضيعَ فيَّ أو بي أو معي.

3.

نعم

أنا النقطة،

أنا الشَّمسُ المُكتملة،

وأنتَ البحر،

أيها الحرف،

أنتَ القارئ السرّ

والحافظ السرّ

والفاضح السرّ.

منكَ أستمدُّ سرَّ فرحي أو موتي،

ومنكَ أستخرجُ شيئاً فشيئاً

طوفانَ ناري

وجحيمَ جنّتي.

 

 

وقال الذي

 

 

   

وقالَ الذي عنده شيء من السرّ:

إنّ الذي ضيّعَ نقطتَه

عند نهر الفرات

لن يجدها عند المُحيط: أيّ مُحيط

وعند الخليج: أيّ خليج.

وقالَ الذي عنده شيء من الحرف:

إنّ الذي ضيّعَ حرفَه

عند نهر المحبّة

لن يجدَ حرفَه بعدها

عند أيّ مُحيطٍ أو خليج.

وقالَ الذي عنده شيء من العشق..

وقالَ الذي عنده شيء من الروح..

وقالَ الذي عنده شيء من السِّحر..

وقالَ الذي عنده شيء من الذي عنده شيء..

ثُمَّ جاءَ الذي عنده شيء من الموت

فقالَ قولاً يسيراً

قالَ: ميم، واو، تاء.

فانتهى كلّ هذا الهُراء

في هدوءٍ غريب!

 

 

 

حيرة ملك

 

 

1.

لم أكنْ ملكاً مثل باقي الملوك.

كنتُ - ولم أزلْ -  طيّباً حدّ السذاجة

ومُرتبكاً أغلب الوقت،

عادلاً لدرجةِ أن أظلمَ نَفْسي

وأتركَ شعبي

يحيط بقصري في كلّ ليلة

حاملاً المشاعلَ والفؤوس

صارخاً، شاكياً، لاعناً.

2.

كنتُ - ولم أزلْ - متواضعاً:

أزرع القمحَ والعنب

معَ الفلّاحين في الحقول،

وألعبُ الشطرنجَ مع اللاعبين الصغار.

ليس لديّ خدم ولا خيول أو كلاب.

بسيط لدرجةِ أنّني أتناولُ طعامي

في مطعمٍ منزوٍ في الأزقّة

دونَ أن يلاحظَ صاحبُ المطعمِ البدين

أنّني صاحب الجلالة الملك.

3.

معَ ذلك،

فقد اعتادَ شعبي

أن يخرجَ في كلّ ليلة

مُطالباً برحيلي.

معَ أنّني لا أفرضُ الضرائبَ على أحد

ولا أهينُ الطفولةَ ولا الشيخوخة

وليستْ لديّ أيّة رغبةٍ في إشعالِ الحروب.

بسيط لدرجةِ أنّني لا أركبُ الخيل

ولا أعرفُ أن أركبَ الخيل.

أمشي، حينَ أشاءُ، على قدميّ

دونما موكبٍ أو طبول.

وكثيراً ما أطلبُ من حرّاسي

أن يستقيلوا

فلا أعداء لي كما أعتقد.

4.

ولكن

لِمَ اعتادَ شعبي

أن يتظاهرَ في كلّ ليلة؟

ولِمَ اعتادت الملكة

أن تشاركهم في الهتاف؟

(وربّما شاركهم ولدي وقائدُ جُنْدي!)

ولِمَ يحملُ المتظاهرون المشاعلَ والفؤوس؟

الكلُّ يعيشُ في مملكتي دونَ خوف.

الماءُ مُتاح

والشَّمسُ مُتاحة.

الملحُ مُتاح

والعملُ والحُبّ والرقص.

فلِمَ كلّ هذا الصياح وذاك النواح؟

5.

آ...

كانَ ينبغي أن أكون

كأبي الملك المُهاب،

ذاك الذي حرّمَ التجوالَ ليلاً

لأكثر من خمسين عاماً

ومنعَ الكلابَ – كأيّ طاغيةٍ – من النباح!

 

 

 

 

 

 

 

 

فؤوس

 

   

أنا والشجرةُ سنهرم.

هي ستفقدُ شيئاً فشيئاً

ثمارَها وأغصانَها،

وأنا سأفقدُ شيئاً فشيئاً

شَعْري وأسناني.

هي ستسقطُ على الأرض

ليأتي الحطّابون فيقطّعوها بالفؤوس

إرْباً إرْباً،

وأنا سأسقطُ على الأرض

ليأتي الحطّابون فيدفنوني في الأرض.

لنْ أحتاجَ إلى مَن يقطّعني

لأنّ عظامي ستنهارُ شيئاً فشيئاً

ثُمَّ تتحوّلُ إلى تراب

في هدوءٍ

ودونَ فؤوس!

 

 

 

يد واحدة

 

    

بيدٍ واحدةٍ قرأتُ سرَّ بطنِكِ النحيل

وشفتيكِ المُلتهبتين بالرغبة.

بيدٍ واحدةٍ انطلقتُ إلى أسراركِ وأكاذيبكِ المُرعبة

وعرفتُ طقوسَ النقطةِ ودمَ الحروف،

فاستبدلتُ مراكبي الواحدَ تلو الآخر،

وحملتُ رؤوسي الواحدَ تلو الآخر،

ورميتُهم خلفي في النهرِ وفي البحر

في السِّجنِ وفي البئر.

بيدٍ واحدةٍ توّجتُكِ

ملكةً للنفي وللمنفى.

وتوّجتُ نَفْسي،

في احتفالٍ سرّيّ مُقدَّس،

ملكاً للموتِ وللموتى

ثُمَّ لبستُ عباءةَ السِّحرِ الحمراءَ إلى الأبد

بيدٍ واحدة.

 

 

 

 

 

مَشاهد

 

   

 مشهد يوميّ

*********

كلّ يومٍ تجيءُ قصيدتي مليئةً بالشَّمس

لتصعدَ إلى الطابقِ الخمسين

من عمارتي: عمارةِ الحروف.

ثُمَّ تبدأ في غرفتي العجيبة بتمشيطِ شعرها

وتضع أحمرَ الشفاهِ فوقَ شفتيها.

ثُمَّ تتعرّى تماماً

وتذهب إلى النافذة

لتحدّقَ طويلاً في المدينة:

في طيورها السُود التي ملأت السماء.

 

مشهد طبيعيّ

*********

سقطت الورقةُ من الشجرة

فتلَقّفتْها الريحُ لترسلها أنّى تشاء!

 

مشهد عاطفيّ

**********

قالَ لها وهو يركعُ أمامها

قالَ لها والدموعُ تنهمرُ من عينيه:

إن كنتِ أنتِ الشجرة الكبيرة

فإنّني أنا الفأسُ الصغيرة

يا حبيبتي!

   

 مشهد مسرحيّ

**********

"ليكنْ حُبّكَ مُتوهّجاً إلى الأبد!"

هكذا صرخت المُمثلةُ المُحترفةُ بالمُمثّلِ الهاوي

فوقَ خشبةِ المسرح

ثُمَّ قبّلتهُ بعمق.

فارتبكَ المُمثّلُ الهاوي أمامَ حرارةِ قُبْلَتِها

وسقطتْ كلماتُهُ على الخشبة

كالأحجار

كلمةً إثر كلمة.

 

 مشهد الجنون

**********

فوقَ الجبلِ الكبيرِ انحنى المجنون

على النبعِ ليشربَ الماء

لكنّه بدلاً من الماء

شربَ القمرَ والنجوم.

 

مشهد البهجة

**********

اشتريتُ بستاناً وزرعتُهُ بالرمّان

وتركتُهُ لتنقرهُ الطيور

أو يسقط فيلتقطهُ الأطفالُ والمُشرّدون.

كنتُ سعيداً

لأنّني بعدَ أن يذهبَ الأطفالُ والطيورُ والمُشرّدون

ألتقطُ صوتَ ارتطامِ الرمّانِ بالأرض

ثُمَّ أطلقهُ من جديد،

في الهواءِ الجميل،

قصائدَ مليئةً بالبهجةِ والجنون!

 

 مشهد الموت

 *********

صرخَ القبطانُ بركّابِ سفينته الغارقة

وهم يستسلمون للبردِ والموت.

صرخَ بهم

فلم يستفقْ منهم أحد.

يا إلهي

حتّى صرخات القبطان

استسلمتْ للبردِ والموت.

  

مشهد القهقهة

*********

بعثرتْهما الريح،

وفرّقهما الفقرُ والجوع،

وحطّمتْهما الزلازلُ والصواعقُ والحروب.

لكنهما بقيا يقهقهان العمر كلّه!

 

 مشهد تراجيديّ

***********

حينَ التقتْهُ بعدَ أربعين عاماً من الفراق

بدأتْ، على الفور،

تنظّفُ كلماته من الصدأ والغُبار.

وبدأ هو، بهدوءٍ إلهي،

ينظّفُ جسدَها من الدمِ والطعنات!

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home