(ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)

 كشف دلالات المعنى الشعري

 

 

زهير الجبوري

 

 

حين يرقى الفن الشعري بالأحاسيس ويشذّبها ، تنفتح العديد من المدارك والهواجس في تناوله أو تذوقه.. فالكلمات بإيقاعياتها المؤثرة تعطي للمتلقي ميزة الاستسقاء من محيط الجمال الفني في هذا الشعر مهما كانت طرق طرحه أو إلقائه.. وليست المسألة تكمن في كشف هذه الجماليات وحسب، وإنما في عملية خلق إيقونات غير مألوفة في ذلك ، تتكرس فنياً في صياغة المعنى، وكشف دلالات تدخل في بنية اللغة وآلياتها الحرفية، وهنا ندخل إلى شعر أديب كمال الدين في مجموعته الشعرية (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة).. وحين نضع الشاعر(أديب) في خبرات فنية لشعرية لم تهدأ في البحث عن مكامن وأسرار الحرف العربي، فأننا نرافقه بعيون راصدة لكشف خفايا كتابة النص الشعري وتشظياته المعرفية لديه، كما وان تمثلاته في تشكيل الصور الشعرية النقية، أعطت انزياحاً واضحاً باستخدام الحروف كشفرات للدخول إلى المتن.

وثمة إشارة سريعة لشعر (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)، إنها تحمل أسرار الكشف عن صياغة (معنى) .. لتتحول وظيفة الحرف كمعطى أيديولوجي .. لتصبح العملية مبطنة ، شاعر يكتب حرفاً .. وحرف يكشف معنى ، وهذا بحد ذاته يعد إثراءً شعرياً مؤطراً بالعديد من آليات الاشتغال الشعري الحديث.

إنّ نصوص هذه المجموعة ليست سوى تنويعات متجانسة لمحورية (ممركزة) تنفجر لحظه انفعال هذه المحورية مع ذات الشاعر، فالحرف أحياناً لا يحمل قيمة دلالية فحسب، بل  يستخدمه الشاعر كعنصر له خصوصيته لتكون مهمته وظيفية، ولعلنا نجد التلاقح بين أدوات اللغة وبين حروفها تناظراً في خلق الرؤيا الشعرية ، وليس الحرف هو جزء لا يتجزأ من منظومة اللغة ،الحرف صفة رمزية ، شكل لسحب  المعنى .. والمعنى بكل ما جاءت به التعريفات (الفرع الذي يدرس الشروط الواجب توفرها في الرمز حتى يكون قادراً على حمل المعنى )(د.أحمد عمر/ علم الدلالة ص11) .ولكننا لا ننكر بأنّ السمة الاساسية التي طرأت في شعر أديب كمال الدين  تعتمد بالدرجة الأساس على ذهنية عالية، واعتقد بأن حداثة الشعر الحالي تسير بالخطوات هذه. ولنصارح الشاعر في قصائده هذه: إلى أيّ أفق يمكن أن ننظر اليه وسط تعدد ألوان قصائده، رغم الهاجس المشترك والإحساس بوجود نكهة مشتركة أيضا؟ وأقصد انّ الحروف كلها تتنازع الأداء ولكنها لا تنفصل عن حدودها المرسومة لديه - أي الشاعر- إذ نقرأ في نص (يابائي وبوابتي):

 مع أنني أطلقتُ عليكِ اسم الباء

ثم أطلقتُ عليكِ اسم النقطة

(بعد إن قيل لي أن كلّ الباء في النقطة)

فإنني لم أشفَ من جراحي التي سببتها

سكاكينكِ وشراشفكِ وروائحك (31 )

 بتأثير الحس الصوفي المنطلق في استخدام (الباء) واستخدام (النقطة) تكمن المقارنة واللعبة الشعرية في تشكيل الصور كما ذكرنا. وحين تقف الحروف بهذه الطريقة فإنّ الانسلاخ المدروس في خلق العديد من الصور ينتقل لتصير أكثر مجازاً وانزياحا:

كان المشهد أكثر كابوسية مما أحتمل 

إذ كان يتطلّب أن أقلع عينيّ

كما فعل أوديب

وأن أقطع رأسَ الحروف

وأعلّقها على بواباتِ العبث

ولم تكن لديّ حروف بالمرّة .(ص32 ).

من جانب آخر، هل يمكن أن نصف اشتغالات الحروف هنا انها أعطت فعلا (تشبيهيا) ؟ ف( التشبيه حين يكون معادلة واضحة النسب والدلالة طرفاه من جنس واحد ) كما يقول الناقد (عبد الجبار عباس) .. ولكن ميزات الإلقاء وتأثيرها على المتلقي ، ضمن انفتاح الآليات الشعرية تستقبل رؤيةً جدّيةً من الشاعر أديب كمال الدين في محاولة تأسيس نمط شعري (منفرد) لتصبح الشعرية (شعرية / تصميمية).. (شعرية/ موضوعية).. (شعرية/ شعرية).. واللمحة الابتكارية التي جاءت سريعة في تشبيه بعض قصائد  هذه المجموعة تمحورت حول موضوعة (الضمائر) ، ولكنها جاءت مطلقةً أيضاً، وتحمل دلالات مفتوحة بين(هو) و(أنت)، كما في قصيدة (هو أزرق وأنتِ زرقاء) :

أنتِ تشبهين البحر في كلّ شيء

نعم،

هو أزرق

وأنت زرقاء

هو ساذج أخرق

وأنتِ ساذجة أكثر مما ينبغي (ص14).

( ثم بعدها تتكرر):

أنتِ تشبهين البحر

لا شك في ذلك !

ولكن أيّ معنى يختفي خلف هذي الحقيقة ؟

لقد ضعتُ بين يديكِ قبل أربعين قرنا(ص17)

فبين نسق الجملة داخل النص وبين تأطيرة المعنى المشفّر، ثمة ملامح واضحة من أداتي الإشارة (هو .. أنت)، لتصبح تعادلية بين(ذوات) فيها هواجس وأحاسيس، وبين صور لها دلالة مكانية: ( البحر.. فراشة..الطين.. المشاعل والسكاكين.. ثلج، وغير ذلك). ولعلنا هنا نبحث عن دور الحرف وانسجامه مع (المعنى) .. مهما كانت منهجية الشعر أو تجربيتة أو نمطيته، ومهما كانت وظائف الجملة المنسجمة، فبالرغم من النزعة الصورية المتشكلة والتي أشرنا اليها ( مجازاً وانزياحاً) ، فقد نهل (الحرف) من  ينبوع المعنى في نهاية القصيدة هذه :

 (كما تنتقل الحروف من كلمةٍ إلى كلمة

 ومن قصيدةٍ إلى قصيدة

 ومن موتٍ إلى موت) (ص21) .

 يمكن القول أيضاً انّ المفردات الشعرية في (ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة) مناهضة إلى حد كبير من النماذج الشعرية السابقة مدى تجربة الشاعر إذ نجد الجرأة الواضحة في تأثيث الحرف ومميزاته المطلوبة بأساليب فنية (المعنى) مع الانفجار التصويري المركّب لوظائف تستلزم مهارة نادرة بانت من خلال العلامات المثبتة ودلالاتها، ولا نعتقد ان الشعر الذي قرأناه هنا يحاول توثيق الزمن من خلال الذاكرة بل يكشف الشعر نتائج الزمن بذاكرة الشاعر. وهذه ميزة أخرى وأساسية فيها من الحيوية المقتدرة والتفاؤل و التفاعل الذي بان من خلال الحرف كأداة منفذة.

(النقطة ..الوظيفة)

الآليات الشعرية الحديثة أساسيات مهمتها مهمة عملية وفعلية إذ تقوم على التأطير الموضوعي بوظائف كشف الشعرية هذه بتجانس من لدن الشاعر، لتدخل عوامل التقنية في عملية الاستخدام في صميم المفردات المطروحة، ومن ذلك تقوم الآليات بتكريس نسيجها لفني وفق توصيفاتها المحسوبة، ولعل (النقطة) كأنموذج تطبيقي لهذه الآليات.. تقوم كعنصر أساسي لكشف المعنى مع الحرف ذاته لدى  أديب كمال الدين، توزعت كقصائد (من جهة) واجتمعت في قصيدة واحدة (من جهة أخرى) ، كما في قصيدة (جسور) التي استهلت بأربع فقرات :

-1-

 مقارنة النقطة للحرف :

 لم يكن قلبكَ مولوداً في برج الحمل

بل في برجِ العذاب (ص85 )

-2-

قال الحرف للنقطة:

هل تتذكرين الجسور التي عبرناها؟

كانت جسورا

مليئةً بالفراتِ والسمكِ اللابطِ تحت أشعة الشمس

كانت جسوراً مليئةً بالدويّ والدخان. (ص86 )

 وثم بعدها باستهلاليين – (3 ) و (4)

  وعلى الرغم من الحركة المتنامية نحو تصعيد إيقاعية الحوار بين الطرفين فإنها كشفت صوراً أيقونية متداخلة ومتشابكة، حققت منافذ متعددة لكشف (المعنى).. فالنسيج الشعري مهما كان فنياً لدى الشاعر، فانه أعطى مضموناً مختزلاً ومكثفاً للغة عالية. ولكن حين نقرأ: قالت النقطة .. وقال الحرف، فانّ ذلك يحيلنا إلى دراسة اللغة المسرحية في اللغة الشعرية وهي ميزة تكررت في نصوص هذه المجموعة، وبالتحديد في قصيدة (اعترافات النقطة):

 قالت النقطة :

 مرّ عشرون عاما

 أو ثلاثون

 ربما أربعون

 لم أعدْ أتذكّرُ الرقم

 ولكنني أتذكّر انني قدتكَ إلى الهاوية  

 -  أيها الحرف -

 قدتكَ إلى السعير،  فجهنم،  فَسَقر .( 37ص)

 ومن تسخير النقطة شعرياً لم يبقَ من حدودها التي رسمت من قصائد تلك المجموعة  سوى انها أسيرة الحرف، وكأنها تبدو (المعادل الموضوعي) في البناء الشعري لدى الشاعر مما يجعل الصورة الشعرية تكتمل بين الطرفين في حال استخدام النقطة وفي حال تكريس فعلها الوظيفي .

وككل، فإن (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) أعطى أثراً شعرياً واضحاً ابتداءً من (ثريا النص / العنوان)  وصولاً إلى خلق وتأثيث وكشف العديد من الرموز المؤطرة بالواقع والمجاز لها التوظيفات العادية للأشياء عن طريق (الحرف) كدلالة مفتوحة و(النقطة) كعلامة مكملة للحرف.

 

***********************

 مواقع كتابات والهدف الثقافي والحافة والمثقف 4 - 1 - 2007

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 121 - 125

 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home