فلسفة " المعنى" بين النظم والتنظير
دراسة في مجموعة " أخبار المعنى" لأديب كمال الدين
واثق الدايني
القسم الأول
1 – مدخل
يحمل علم الدلالة Semantics من بين علوم اللغة الانكليزية مشكلة اسمها ( معنى المعنى ) meaning of the meaning إذ يقف ازاء حل هذه المشكلة كبار فقهاء اللغة الانكليزية المحدثين من العاملين في حقل علم الدلالة والنحو على وجه خاص . ولقد ( كان ) للعرب وقفة مماثلة لهذا الموقف ، تماماً ، ازاء المشكلة نفسها ، وما في تماثل هذين الموقفين ، رغم القرون الواقعة بينهما ، من غرابة ومافيهما من عجب ، فضلاً عن ذلك ، فإنّ الموقفين يدخلان معا نهج التنظير العلمي- الموضوعي من أصعب مداخله اللغوية لمعالجة مشكلة ليس لها حل كما يبدو ، أو حتى الآن في الأقل ، منذ أكثر من ألفي سنة على رأي جون لاينزJohn Lyons ( 1 ) .من هنا يحق لنا أن نجعل منها ( قضية ) فلسفية قائمة حتى إذا أصابها حل حاسم بتعريف يتفق عليه ( الجميع ) أو قانون شامل لمعنى المعنى صارت علما يُدرس ويُتابع بعيدا عن الفلسفة أو أطرافها ، ولما كانت الفلسفة لاتبدأ أو لاتتعامل بالمسلمات كشرط أساس لصيرورة موضوع البحث من موضوعات الفلسفة فلقد وجدنا ذلك متاحاً أيضا .
- الجديد في مواجهة هذه المشكلة ، على وفق هذا البحث ، أن يصار الى تناولها بإطار النظم الشعري المتنوع وعلى نحو يكتنفه الغموض الرامز Symbolic Ambiguity بتعدد فرص التأويل في معنى المعنى والبراعة في البناء على وجهي الاثبات والنفي ليمنحنا أبعادا دلالية مميزة في الاستعمال المفضي الى الغنائية التأملية المركبة . ولقد قدم الشاعر العراقي أديب كمال الدين ديوانه الشعري (أخبارالمعنى-1996) في هذا السياق اطلاقا ، بوصفه واحدا من مبدعي ما بعد الحداثة في البنية ، اذ هو متفلسف بالمعنى وفي المعنى معا.
- لن يتعامل هذا البحث مع هذا النظم المنتقى بمنظور نقدي أدبي - شعري (جمالي) أو (بنيوي) أو (بلاغي) على نحو محدود فحسب بل سيسعى الى معالجته بمنظور (شكل) المعنى ومعنى المعنى ومدلول اللامعنى أساساً عبر أطار نظري تاريخي (عربي – انكليزي) وتحليل متعدد الانواع على منهجي الاستقراء والاستدلال الفلسفيين مع الاستعانة بشيء من الرياضيات البيانية لتأكد بعض المدلولات أو الاستنتاجات ومن ثم التوصل الى حالة استنباط نراها صحيحة وعلى شكل فرضية مقبولة نظرياً ، بل تعطينا ، وقد فعلت ، أحكاماً لامجال الى نقضها بحدود فضائها ولاتسمح باغفال أهميتها في العلاقة بين النظم الحديث ، المبحوث هنا ، والتنظير الموثق بصدد (المعنى) و ( معنى المعنى) ومدلول (اللامعنى) على وجهي الاستعمال الوظيفي في اللغة الانكليزية : ( non-meaning + meaningless ) في سبيل أثبات فرضية البحث القائم على وجود توجه جديد في استعمال لفظة ( المعنى ) و(معنى المعنى ) غير مسبوق أو مكرور ويمكن توصيفه بصيغة جديدة ربما على شكل "أبعاد" مستوياتية.
- انطلق الباحث في عرض مادة هذا البحث من طريقة التسلسل الرقمي المقترن مع العنوان الرئيسي أو الفرعي ، على نهج الكتابة الحديثة (الأمريكية و البريطانية) لتسهيل الاشارة والاسترجاع مع الاحتفاظ (بروح) التبويب التقليدي ظاهرة للعيان.
2 – في معنى المعنى
2-1 المعنى كما يراه فقهاء اللغة الأجانب :
توزعت دراسة ( المعنى ) على أكثر من فرع لغوي أو علم من علوم اللغة واللسانيات في المدارس الأمريكية والبريطانية على نحو خاص ، وحسب طبيعة هذا المبحث يمكن عرض آراء (العلماء ) في هذا الصدد على نحو موجز كما يأتي :
( أ ) تحت عنوان اختلاف المعنى diversity of meaning كتب جون لاينز مايأتي مترجما الى العربية : ( يعنى علم الدلالة بدراسة المعنى ، ولكن ماهو المعنى ؟ لقد ناقش الفلاسفة هذه المسألة مع رجعة مخصوصة صوب اللغة كما يزيد على ألفي سنة مضت ، لكن لم يستطع أحد منهم حتى الآن تقديم اجابة مقنعة على هذا السؤال .اذ ان أحد أسباب ذلك قد يكمن في طبيعة السؤال ، على النحو الذي يطرح به ، ومن غير الممكن الاجابة عليه ) (2 )
( ب ) ذهب عالم ( علم اللغة الاجتماعي ) الدكتور هدسن Hudson الى القول : ( ربما يكون التعميم الوحيد الصحيح الذي نستطيع أن نطلقه على المعنى هو أنه كيان ذهني وأنه قد يكون مفهوما Concept أو اجراءً Procedure ) ( 3 )
( ج ) أما عالم علم الدلالة اف . آر . بالمر F. R. Palmer فيقف موقفا متحفظا من هذه المشكلة اذ يقول : ( وطبيعي ان لفظة المعنى أكثر إلفةً لنا جميعا ، غير ان القاموس سيقترح عددا من المعاني المختلفة لكلمة معنى أو بعبارة أدق للفعل " يعني " ) ( 4 ) ثم يذكر : ( واستطاع أوغدن و ريتشاردز أن يدرجا ما لايقل عن ستة عشر معنى مختلفا يحبذّها باحثون معروفون وليس من أهداف هذا الكتاب – يقصد: علم الدلالة- أن يفحص كل التعاريف الشائعة والعلمية لهذه اللفظة ولا حتى التعرّف على ما اذا كان لكل معاني " يعني " و"المعنى" شيء مشترك ).
( د ) في تفسير ملاحظة بالمر عن أوغدن وريتشاردز في الفقرة ( ج ) السابقة نعود الى جون لاينز (الفقرة أ ) لنجده يوضح لنا هذه الاشارة كما يأتي : (يذكر أوغدن و ريتشاردز في كتابهما " معنى المعنى " مالايقل عن ستة عشر معنى للفظة " معنى " سواءً أكانت اسما أم فعلا ، مما يجعل هذه المعاني المتعددة في مستويات مختلفة حسب أهميتها اللغوية ) ( 5 )
( ه ) ينقل بالمر أيضا رأي ليونارد بلومفيلد ( السلوكي ) ويتحفظ عليها كما يأتي : ( يتألف المعنى حسب رأي بلومفيلد من العلاقة بين الكلام ( المبين في رد فعل لغوي " رل" يعمل عمل منبه لغوي " مل " ) ( والحدثين العمليين : المنبه " م " الذي يسبق الكلام ٍStimulus ورد الفعل " ر " Reaction ( اللفظة Response ) بمعنى استجابة وهي أكثر استعمالا حاليا من Reaction ( 6 )
( و ) يتحفظ جون لاينز من جانبه على نظرية بلومفيليد فيقول : ( إن جوهر مناقشتنا العامة للسلوكية هو انها فشلت حتى الآن في تقديم نظرية عامة مُرضية للمعنى . ولايعنى ذلك ، وهذا مايجب تأكيده ، الأهمية أو الفائدة من صيغة ( المنبه – الاستجابة ) للسلوك اللغوي لكنه يعني فقط ضرورة الاقرار بمحدوديتها ، وضرورة قصر لفظتي " الاستجابة " والمزاج يستجيب " على ردود فعل محددة ، وتحت ظروف يمكن تحديدها ) ( 7 )
( ز) في العلاقة بين النحو والمعنى يذهب جومسكي الى القول : (لقد دخلنا أرضا وعرة حين قلنا ان البنية النحوية يمكن أن تزودنا ببعض المعرفة عن مسائل المعنى والفهم . اذ ما في الدراسة اللغوية من جانب عانى من الارباك وهو بحاجة الى التوضيح والصياغة الدقيقة أكثر من ذلك الذي يعالج مسائل الربط بين النحو والدلالة . ان السؤال المهم الذي يسأل هو : كيف تستخدم الوسائل النحوية المتوفرة في لغة معينة في الاستعمال الحقيقي لتلك اللغة ) و ( لايمكن تشخيص مفهوم " القواعدية " بأنه كل " ماله معنى " أو كل ما "هو ذو مغزى " وفق أي مفهوم دلالي فالجملتان الاولى والثانية أدناه لامعنى لهما ولكن أي متكلم باللغة الانكليزية يعرف ان الجملة الاولى فقط هي قواعدية :
Colorless green ideas sleep furiously.
الأفكار الخضر التي لالون لها تنام بشدة
Furiously sleep ideas green colorless.
بشدة تنام الخضر التي لالون لها الأفكار ) ( 8 )
- ينطبق قول جومسكي عن قواعدية الجملة ( 1 ) ولاقواعدية الجملة ( 2 ) على العربية أيضا.
ورغم ان جومسكي معني بالنظريات اللغوية النحوية التوليدية " معارضا لها " والتحويلية " مبتدعا لها " والتفكيكية " مناقشا لها " فانه يفرد للعلاقة بين المعنى ، عبر تعبير الدلالة ، والنحو فصولا متميزة كما في ملخصه الآتي : (9-2-2 ، حيث ذكر هنا بعض الأقوال الشائعة التي تردد لتأييد اعتماد نظام القواعد على المعنى وهي :
(1 ) لاتتمايز قولتان فوينميا الا اذا اختلفتا في المعنى.( الفوينم Phoneme هو أصغر وحدة صوتية ) .
( 2 ) المورفيمات أصغر العناصر التي لها معنى . ( المورفيم morpheme هو أصغر وحدة صرفية ) .
( 3) الجملة القواعدية هي الجملة التي لها محتوى دلالي .
( 4 ) إن العلاقة القواعدية : فاعل- فعل ( أي :عبارة اسمية – عبارة فعلية في تحليل الجملة ) تطابق " المعنى البنيوي " العام ، العامل – الحدث
( 5 ) إن العلاقة القواعدية : فعل – مفعول به ( أي: فعل – عبارة اسمية في تحليل العبارة الفعلية ) تطابق المعنىالمُبني للحدث وهو : الحدث- الهدف أو الحدث – المفعول به
( 6 ) إن جملة المبني للمعلوم وجملة المبني للمجهول التي تقابلها هما مترادفتان ) ( 9 )
- على ان جومسكي فنّد هذه (الأقوال ) الواحد بعد الآخرعلى حساب نظام اللغة الانكليزية
( ومايقرب من نظام اللغة العربية أيضا ) – حسب مايراه – بأن يأتي بأدلة لغوية تناقض هذه الاقوال أو تؤيد نقيضها ثم يقول : ( ومن الغريب ان أولئك الذين اعترضوا على بناء النظرية اللغوية على اقوال كتلك التي في ( 117- 1 ) أعلاه – قد أتهموا بأنهم يهملون المعنى – والصحيح عكس ذلك ، فالذين يقترحون شيئا يشبه ماجاء في ( 117 – 1 ) انما يفسرون " المعنى " تفسيرا واسعا ، على مايبدو ، حتى ان أية استجابة للغة تسمى " معنى ". واذا قبلنا بهذا الرأي جردنا " المعنى " من اية أهمية أو مضمون. انني أرى ان المرء اذا أراد أن يبقي على عبارة " دراسة المعنى " باعتبارها تصف جانبا من البحث اللغوي عليه أن يرفض هذا الخلط بين ( المعنى ) و ( الاستجابة للغة ) ويرفض معه ماورد في ( 177- 1 )) ( 10 )
- من الواضح ان جومسكي هنا يشارك بالمر ( الدلالي ) في نسف نظرية بلومفيلد السلوكية ( راجع 2- 1- ه ) وفي الوقت نفسه يحاول تقويض الآراء التقليدية ازاء العلاقة بين المعنى والنحو ويحل محلها علاقة جديدة من وجهة نظره .
- نكتفي بهذا القدر من الاطار النظري ( العام – الحديث ) لنترك ماتبقى منه ( حسب حاجة هذا البحث ) الى سياقات التحليل القادمة. ولنا ان نشير الى آراء ( روجر سيمون ) في ( 4- 2- 3 ) عن العلاقة بين التفسير والمعنى وآراء (إي . دي . هرش ) في آخر ( 4 – 2 – 3 ) نفسها عن (سياسات التأويل ) . وفي جميع هذه العروض والإقتباسات فإن هدفنا لن يكون مقصورا على ايجاد العلاقة بين ماقدمه أديب كمال الدين في نظمه الشعري وتوظيفه كلمة
( المعنى ) وماقدمته هذه الآراء فحسب بل ايجاد المنافذ الجديدة التي أطلقها نظم أديب كمال الدين ازاء ( المعنى ) بوصفه لفظة ً تمتعت بأكبر قدر من الاتجاهات والابعاد الدلالية في التطبيق ومن دون تنظير مسبق في الواقع . اذ ان نظم الشعرلايعتمد منهجا خارج الفروض في كثير من الاحيان ، ولايمنع هذا النظم ان يدخل في صلب النظريات من خلال التطبيق والممارسة الجميلة المباشرة تلقائيا ،لأن النظم ابداع والنظرية اشتقاق والجمع بينهما ممكن والفرقة بينهما ممكنة وحاصلة أيضا في نسبة كبيرة من النظم الشعري العربي والاجنبي . اما اخضاع ( كل ) النظريات النقدية فمستحيل ، من هنا فإن تلاقي ( بعض ) النظم مع ( بعض ) النظريات مسألة متحققة وجائزة بل أكيدة .
2- 2 " المعنى " عند فقهاء اللغة العرب :
( المعاني في اللغة : المعاني جمع المعنى ، والمعنى في أصله اللغوي كما عند الفراهيدي مانصه : " ومعنى كلّ شيء محنته وحاله الذي يصير اليه . وعنه نقل ابن منظور وروى الأزهري عن أبي العباس ، أحمد بن يحيى ، ثعلب قال : " المعنى والتفسير والتأويل واحد . ومعنى كل كلام مقصده . وعند الراغب : المعنى اظهار ماتضمنه اللفظ وهو يقارب التفسير وان كان بينهما فرق . وعند الطريحي : معنى الشيء ومحتواه ومضمونه كلّ مايدل عليه اللفظ . وقولهم هذا بمعنى هذا ، وفي معنى هذا : أي مماثل له ومشابه ) ( 11 )
- على ان المحدثين يفرقون بشدة بين المعنى Meaning والتفسير Exegesis والتأويل Interpretation ازاء اللفظ ( الواحد ) والجملة ( الواحدة ) بل الموضوع المتكامل مما يدخل في علم التأويل فتتحول الملهاة الكوميدية في ظاهرها الى مضمون فكري سياسي مؤولا ويتضح مما سبق ان للمعنى عدة مؤشرات : الأول : يعني بمصير الشيء وحاله ومحنته ولاعلاقة لهذا بمعنى اللفظ أو القول أو الكلام الاّ على جهة المجاز ، بلحاظ ان معنى اللفظ هو حاله التي يصير اليها على سبيل التجوّز كما أسلفنا ، وذلك اذا أريد من الحال مايؤول اليه .
الثاني : ان المعنى يعنى بالبيان والاظهار والكشف والرجوع- وهو رأي ثعلب – وهو يلتقي بمضمونه بالمؤشر الثالث .
الثالث : يعني بدلالة اللفظ على المضمون والمحتوى واظهار ماتضمنه اللفظ من مراد ، وهو رأي الراغب وابن منظور وفخر الدين الطريحي وهو مانأنس اليه في تحديد المعنى لغة . وعلى هذا فالمعاني لغة تعني بدلالة الألفاظ على مضامينها ومقاصدها، وما يظهر منها لغة عند التبادر في الاطلاق لدى العرْف العربي العام . وهو أجنبي عن المصطلح الفني " للمعاني " التي يعرف بها حال اللفظ العربي في مطابقته لمقتضى الحال لا في دلالته على معنى معين .. ) ( 12 ) وفي مذهب آخر للعلاقة بين النحو والمعاني نتمعن في هذه الاشارات : (السيرافي اذ قال : معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته ، وبين وضع الحروف في مواضعها ، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير ) ( 13 ) ثم وفي الموضع نفسه نقرأ : ( ويستوقفنا حقا ما أفاده أحمد بن فارس حينما عقد بابا وسماه ( معاني الكلام ) وهي : عند أهل العلم عشرة : خبر واستخبار ، واصرار ونهي ، ودعاء وطلب ، وعرض وتحضيض ، وتمنٍ وتعجب ) ( 14 ) ( وهنا يجب التنبه ان نظرية " النظم " عند الجرجاني تنظر الى النحو نظرة نظرة خاصة ومتطورة ، تتعدى حدوده التعريفية وعلاماته الاعرابية الى خصائصه الفنية ولايقصد بالنحو معناه الضيق الذي فهمه المتأخرون وانما يريد المعاني الاضافية التي يصورها النحو . وبذلك رسم في " دلائل الاعجاز " طريقا جديدا للبحث النحوي تجاوز أواخر الكلمة وعلامات الاعراب ، وبين ان للكلام نظما وان رعاية هذا النظم واتباع قوانينه هي السبيل الى الابانة والافهام ) ( 15 )
- من الواضح تماما وقوف الجرجاني في مواجهة جومسكي ( راجع 2 – 1 – ز ) ان لم يكن على النقيض منه ! في ( مستوى ) العلاقة بين النحو والمعنى ، فبين ان يكون ( النحو أساس المعاني ) أو أن ( تكون المعاني قاعدة النحو ) بون شاسع في البنية وما يتفرع منها وفي الدلالة وما يرتبط بها ، ولكن عندما يتوقف العمل بأيّ من ( النظريتين ) منهجيا ويبدأ النظم شعرا وتبدأ الكتابة تأليفاً على قاعدة ( جعل ) لكل جملة معنى ، تركيبيا ومفرداتيا معا فإن (مستوى ) ( المعنى ) يصبح معلّقا بين الوضوح والغموض ، أي التقليدي والبلاغي ،وليس ثمة نظم أو تأليف من غير معنى في آخر الآمر ، فماذا يرى جمع المثقفين في هذا الوضع حديثا ؟
2-3 في المعنى والشكل ، رأي عربي معاصر في القديم والجديد
(( يكاد النقاد والبلاغيون العرب القدامى يجمعون على أن الشأن في الشعر – أي شكل من الشعر – ليس في إبداء المعاني ، فالمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي وانما هو جودة اللفظ وصفائه ، وحسنه وبهائه ، ونزاهته ونقائه ، وكثرة طلاوته ومائه ، صحة السبك والتركيب ، والخلو من أوَد النظم والتأليف .ويتفق هذا مع رأي الجرجاني في أن العبرة في ترتيب الكلمات في بيت شعر أو فصل خطاب هو ( ترتيبها على طريقة معلومة ، وحصولها على صورة من التأليف مخصوصة ) ولاأجد في هذا الفهم
( للأدبية ) اختلافا جوهريا عما يقوله الاسلوبيون المعاصرون بشأن الخطاب الادبي في أنه
( خلق لغة من لغة ) أي أن ينطلق صانع الأدب من لغة موجودة فيبعث فيها لغة وليدة هي لغة الأثر الأدبي )) ( 16 )
ولقد يمثل هذا المذهب توجه هذا البحث نفسه وبنسبة كبيرة .
3 – موقف
بهذا التلخيص الدال نستطيع تحديد ( موقف ) ما ازاء ( المعنى ) و ( معنى المعنى ) في ديوان شاعرنا أديب كمال الدين : ( أخبار المعنى ) ، ولكن من دون محاولة ( فكّ ) رموز الغموض أو تفسير المضمون بل الكشف عن الكوامن النفسية في ( أبعاد المعنى ) وتوجهات المعنى المستنبطة ) ولابد للوصول الى هاتين النتيجتين من عرض كل ماسبق في ( 2- 1 )
و ( 2-2 ) من غير أن نحدد موقفا فكريا ازاء أيّ ( رأي ) أو ( مذهب ) أجنبي أو عربي ، ومع كون هذا ممكن ومتاح ، الا أن ترك الأمر ( للقارىء ) غاية ساحبة في سياق ( حرية ) الأختيار . اما نحن ، في هذا الصدد ، فسنعالج النظم الشعري المعروض للبحث في ضوء المعطيات التي نراها مساعدة أو مفيدة لتحقيق النتيجة المطلوبة واثبات فرضية هذا البحث بوجود توجه جديد ازاء استعمال لفظة ( المعنى ) يمكن تحويله الى صيغة موصّفة بقدر مقبول ومعقول . أما صيغة ( اللامعنى ) وتعبير ( لامعنى ) يفرضان حالة تأملية ( خارج ) كل ماتقدم ( داخل ) شعرأديب كمال الدين ! لأنّ التنظير لم يتعرض لأيّ من صيغ النفي رغم عمقها وفحواها وأثرها في تحديد معنى الجملة الكامل Total Meaning وفي سبيل التذكير والاستذكار نضع الاستدراكات الآتية : في القول : ( اللامعنى معنى )
The non- meaning is meaning
انتماء نحو البلاغة في تحديد مغزى القول كما يقال : ( اللاالتزام التزام ) وعندما يتدارك الشاعر تعبير (اللامعنى ) فإنه يعني شيئا بهذا النفي المعرّف.
( ب ) في القول ( معنى اللامعنى )
Meaning of the non-meaning
محاولة تفسيرية لتحديد مغزى ( اللامعنى ) اطلاقا ، وليس مجرد حصر النفي بحالة معينة .
(ج ) (اللامعنى لامعنى )
The non-meaning is meaningless
أي نفي أيّ معنى للاّمعنى ، لغة ، تأكيد لفظي .
( د ) ( لامعنى اللامعنى )
Meaningless of the non-meaning
اتخاذ جانب التفسير بالنفي نحو التعبير المنفي : اللامعنى.
- في التعبير ( ج ) (اللامعنى لامعنى ) نفي مزدوج اذ يصير اعادة التركيب مثبتاً : ( المعنى معنى ) مع التباين في المضمون ، في ( معنى المعنى ) أو ( معنى اللامعنى ) حسب غاية الباحث أو المؤلف أو الشاعر في نظمه.
- ثمة مشكلة مرتبطة بلاغيا بهذه الصيغ ، اذ هي نفي الضد ( غير يسير= عسير )، فإذا كان للمعنى رديف Synonym كالتفسير والتوضيح على المحمل العام فإنّ نقيضه أو مضاده ِAntonym ليس واضحا أو مؤكداً في السياق المبحوث هنا لأن كلمة " معنى " من " يعني " لاتقدم في كل متضمناتها الدلالية مايبعث النقيض شاخصاً بوضوح ، أي ان ( اللامعنى ) ليست نفيا للضد بل هي نفي عادي ، كذلك الحال مع ( لامعنى ) اذ لامعنى ( له ) حالاMeaningless ليست كاللامعنى اسما Non-meaning وعندما يوظف كمال الدين في ديوان ( اللامعنى ) ( اسماً ) فإنه يرقى الى بلاغة التورية والاستعارة والكتابة الرمزية الا انه عندما يلجأ الى ال (لامعنى ) فإنه يتعامل بالنفي التقليدي الفصيح أي ( لامغزى ولامقصد له )
في ديوان " أخبار المعنى "
المكونات العامة والمداخلات النظرية الحديثة
4-1 المكونات العامة
- تسعة وثلاثون نظما موزعة على احدى وثمانين صفحة متوسطة ، كل نظم يحمل عنوانا تدخل في كلمة ( المعنى ) من دون أي أستثناء ، أمام متن كل نظم ( النص ) . فقد يخلو من كلمة ( المعنى ) وقد يتضمن عددا يبدو ( كبيرا ) نسبة الى حجم النظم نفسه وما من معيار لتحديد ( الكم ) المستعمل من هذه اللفظة على صيغة مفردة أو بصيغة الجمع أو بتركيب ( معنى المعنى ) أو على هيئة النفي ( اللامعنى ) سوى السياق الشعري واختيار الشاعر أو احساسه بالضرورة أو الحاجة الى اللجوء الى أي منها ، حتى وصل الرقم الاحصائي ( في حالتي الاثبات والنفي ) الى 75 إستعمالا منها 61 إستعمالا مثبتا و 14 إستعمالا منفيا .
- من النظم الذي خلا متنه من كلمة المعنى نقرأ :
( أ ) صورة المعنى
سقط َ الساحرُ في كأسي ..
فبكيتُ على نفسي . ص 56
( ب ) مخاطبة المعنى
من أنت ؟
وعلامَ أخاطبكَ ، اللحظة ، مجنوناً ؟ ص 56
( ج ) طيران المعنى
وأصيـّرُ جوعي حرفا ًورمادي حرفا ً..
وأنيني حرفا ً..
أركبها و أطيرُ الى الموت . ص 56
( د ) الـه المعنى
دع لي الباءَ ولاتأخذ ْها
فلعلّي ألقى نقطتها
ذات صباح أو ذات مساء
فأقومُ من القبر إلها ً
أبعث في جسدي الروح ! ص 56
- أما النظم الذي يحمل متنه أكثر من استعمال ( للمعنى ) فنقرأ :
بيت المعنى
- ( للمعنى ) بيت خـَرِب .
- ( للمعنى ) باب أدخله ، بهـدوء أسطوري ، أخرج من
بين ثيابي سكيناً غامضة ً وأفتشُُ عن لحم عذابي وأقطـّعه
بحروفي المرّة وسط هدوءٍ أعمى لأدندن في كأسي : للمعنى
بيت ، سكين ، لحم ألـِـق.
للمعنى ) قمر ، موت . ) _
للمعنى ) أعداء شرسـون، ) _
و ( للمعنى ) ربّ و ملائكة و نجوم . ص 68
- وقد يتضمن النظم صيغا بين الصيغتين السابقتين.
4- 2 ملاحظات في بنية النظم قيد البحث
4- 2- 1 مشكلة ( مفاهيمية ) النص والنص الشعري ومابينهما ( المعنى )
في معنى النص التقليدي Text هو (( أ – الكلمات المطبوعة أو المخطوطة التي يتألف منها الأثر الأدبي . ب - إقتباس أجزاء من الكتب المقدسة والتليق عليها في الوعظ . ج – الاقتباس الذي يعتبر نقطة انطلاق لبحث أو خطبة )) أما بمعنى المتن فهو(( الجزء الرئيس من المؤلف مستقلا عن شروحه وحواشيه )). اذن ثمة فروق بينه وبين القصيدة Poem اذ هي نص شعري Poetic Text (( أو منظومة : قطعة من الكلام الموزون المقفى تمثل وحدة مكتملة ، أو القطعةٍStanza وهي عند العرب مازاد على اثنين الى ستة من الأبيات ( Lines (وقد اختلف في عدد أبيات القصيدة العربية والرأي السائد أنها تتكون من سبعة أبيات فأكثر وهي عند البعض عبارة عن غزل يزيد عن اثني عشر بيتا وليس لها حد معين عند آخرين )) ( 17 ) وفي اللغة الانكليزية ازاء نظم الشعر الانكليزي وحسب بن جونسون Ben Jonson فإن القصيدة قد تتكون من بيت واحد فقط ( 18 ) . هنا نستطيع القول ان هذا الوصف قد ينطبق على شاعرنا أديب كمال الدين عبر الأمثلة التي عرضناها في ( 4- 1 ) السابقة وفي غيرها ضمن الديوان .
4-2-2 في مفهوم النص الحديث
يذكر روجر سيمون Roger Simon (( هناك استعمالان رئيسان للمصطلح ( النص ) مشتقان بصورة تقريبية من التمييز بين التأويلي والعلمي .ففي التأويل الأدبي يعني النص مجموعة الكلمات التي تحتاج الى تفسير مهما كانت المبادىء المستعملة لتحقيق ذلك . وهذا الكيان يسميه رولان بارت " العمل " . أما في النقد العلمي فالنص يقابل مايعرف في العلوم الأنسانية والطبيعية كالسانيات وعلم الحياة التطوري وهو حقل للدراسة ....
4- 2- 3 أما بصدد العلاقة بين التفسير والمعنى فلقد يفيدنا أن نقرأ للمنظّر بول دومان
Paul Deman مايأتي : (( إن التفسير من حيث التعريف عملية موجهة نحو تحديد المعنى .. النظرية الشعرية من الناحية الأخرى هي فرع من المعرفة وصفي أو ارشادي ( فوق لغوي ) ويدعي بتمتعه بتجانس علمي ، وله علاقة بالتحليل الشكلي للكيانات اللغوية بغض النظر عن المعنى .. وبخلاف النظرية الشعرية التي تهتم بالتصنيف وعلاقة الهياكل الشعرية وتداخلها ببعضها فإن الدراسة التفسيرية تهتم بمعاني نصوص معينة )) ( 20 ) ولغرض الكشف عن (المواقف ) النقدية في بحثنا هذا فإن قراءة ( النص 4- 1 – أ )
( أ ) صورة المعنى
سقط الساحر في كأسي
فبكيتُ على نفسي
لاتتيح فرصة للفصل بين ( الشكل ) في (صورة المعنى ) نصاً وبين مدلول ( البيت ) المرتبط به أو التابع له أو أن البحث في معنى (المعنى ) ضمن عبارة (صورة المعنى ) لايمكن فصله في الواقع عن ( شكل ) البيت اللاحق بها . واذا اختلف التفسير بين الفرد ( س ) والفرد ( ص ) فان سمة ( التأويل ) تحضر فورا بمعنى منح الشكل تفسيرا ( مختلفا ) اذ ان منح الشكل تفسيرا ( واحدا ) ( سيف = مهند ) لايعني الاّ ترسيخ المعنى بعبارة أخرى وان ( السيف = سلاح حرب ورمز شجاعة وكناية فروسية ) يصير تفسيرا على نهج الأيضاح Explanation أما ان نمنح ( المعنى ) ( معنى ) غير متفق عليه تفسيرا ، فإنه يصير بالتأكيد تأويلا ( يحق ) بموجبه لكل قارىء ( فرض ) ما يشاء على مدركاته بمدركاته هو نفسه فيمتنع بها ويدافع عنها اذ يصير أوتوقراطيا في الأوتوقراطية ( Autocracy = المستبد أو الذاتي الحكم ) ، واذا ماقارن حكم التفسيري هنا بما يذهب اليه ( الآخرون ) ليكونوا معا مجموعة ( آراء ) ازاء معنى (المعنى ) في هذا النظم فإنه – القارىء – يصير ألوكراطياAllocracy ( أي يحكمه الآخرون ) ، الا ان القارىء – الناقد قد يعتمد على المعرفة المتحصلة قبل التجربة ، اي قبل التقائه هذا النظم لأول مرة فيعيد خزينه عن ( معنى المعنى ) ليوظفه في فهم هذا النص ، فهو اذن قبلي Apriority ويتبع القبيلة smِApriori ولايسمح لتغيير حكمه الذي اقتنع به . اما اذا لجأ الى الآخرين ليكونوا فريقا جماعيا ألوكراطيا فإن فرصة التغيير في الأحكام ستبدو متوفرة تماما . اي ان التوجه الألوقراطي يعتمد على الخبرة المتحصلة بعد التجربة وانه قابل للتغيير والتعديل مادام القرار الجماعي لم يتحقق بعد وانه في صيرورة معينة لتحقيق ( معنى المعنى ) في نظم البيت والقصيدة معا !
(( دعنا نلخص التحليلات التي قمنا بها حتى الآن . فأولا تكمن سياسات التأويل في الاختيار مابين المعيار الأوتوقراطي والمعيار الألوقراطي . ففي المعيار الأوتوقراطي تكمن السلطة بيد القارىء في حين ان هذا القارىء يولي السلطة للفعل التأريخي المعاد ، بناه شخص آخر أو جماعة أخرى في المعيار الألوقراطي ،وثانيا لايمكن تعديل التأويل الأوتوقراطي مبدئيا الا بتغيير عرض التفصيلات . في حين ان يمكن تعديل التأويل الألوقراطي بمفعول رجعي على أساس من النظريات والأدلة المتغيرة عن الحدث التأريخي الحاكم ومن هنا فإن المعيار الأوتوقراطي قبليا Apriority وغيرقابل للتغيير ، والمعيار الألوقراطي بعدياAposteriori وقابل للتعديل . والقدرة على اختيار أي من هذين المعيارين في يد القارىء ، وهذا الأختيار الحر هو اختيار اخلاقي أو سياسي في طبيعته )) ( 21 ) اما العبارة الملحقة بهذا التحليل ( انه غير محدد اطلاقا بالاعتبارات الأبستمولوجية ) فلقد تبعد عن القارىء جانب ( الوعي ) لتنقله الى جانب ( اللاوعي ) في منح صيغة التأويل شكلها ومضمونها . أما نحن ، في هذا البحث ، فإننا نرى أهمية الألوقراطية في التعامل مع ديوان أديب كمال الدين لأنه جعل من كلمة المعنى ( تجربة ) تمتد بين القبلية والبعدية عند كثير من الأدباء والشعراء. أي أن كل نظمه الشعري يخضع لمفهوم الأوتوقراطية والألوقراطية معا وللتجربة القبلية والبعدية سويا طبقا لمحتوى المادة ( 2 ) والمادة ( 3 ) من هذا البحث بفروعهما كافة وعلاقتهما بالقارىء المعاصر حصرا كما سنرى في كل تحليلاتنا القادمة .
4 -3 الغموض أو الألتباس تأويلا
4- 3- 1 الغموض الدلالي في الديوان
عندما نقرأ بيتا من مثل ما في قصيدة (أخطاء المعنى ):
(( كنت ُ أوزّع ُخطأً مضغوطَ الشفتين ومرتجفَ المعنى )) ص 10 الديوان.. فإننا نصطدم بالغموض لامحالة ، بل اننا قد نقع تحت تأثير مثال ( جومسكي ) في ( 2-1- و) عن الجملة القواعدية الخالية من المعنى ! الا ان الحقيقة هنا ان الجملة قواعدية وموزونة شعرا الا ان مدلولها العام ومضمونها الخاص ليس في متناول اليدين ( فورا ) وهما في الوقت نفسه ليسا متماثلين عند كل من يقرأ هذا البيت وما على نسجه، بل ليسا متماثلين عند القارىء الواحد في وقتين مختلفين حتى لوكان ناقدا اكاديميا أو ناقدا جماهيريا! وان نحن (حاولنا) وضع تفسير لهذا البيت اتجهنا الى الاوتوقراطية طوعا لاكرها ، سواء استعنا بالقبلية أم بالبعدية ، اذ أن اختيار الكلمات هنا ،و في غير هذا البيت أيضا ، يجاوز حالة الإقتران أوالتلازم collocation في اللغة العربية بين الالفاظ (أنف مستدق وعيون حوراء وليس: أنفا أحور وعيونا مستدقة) وبتجاوز شرطية التلازم التقليدية ، يدخل النظم فضاء (البلاغة) الفسيح ، ثنائي التركيب في بعض الاحيان ، اي انه يجمع سمتين بلاغتين في وقت واحد كجمع التشخيص personification - الى الاستعارة أو الكناية metaphor and metonymy في تعبير: (أوزّع خطأ) في صدر البيت الا أن المعنى يبقى عصيا على المستمع أو القارىء اذا أرادا (الاصل) الذي يريده الشاعر نفسه . أما المعنى الذي يريده القارىء فلقد يقدره كما يشاء فيلتقي مع الشاعر(احتمال ضئيل ) أو يفترق عنه (احتمال كبير) و((بجمع)) تأويلات (القراء) نحصل على مجموعة سلّمية من الموضوعات التفسيرية: اجتماعية وسياسية ، قبل غيرها ، في مثالنا هذا . واذا انتقلنا الى جملة الوصف اللاحقة بالموصوف (خطأ) وهي: (مضغوط الشفتنين) أضفنا حالة جديدة من مظاهر البلاغة ونمطا جديدا من التأويل وهكذا مع جملة الوصف الثانية: (ومرتجف المعنى) التي تضيف الغموض الأكثر صعوبة باحتضانها كلمة ( المعنى ) محور (البيت) هنا ومحور بحثنا هذا كله! اذ بعودة (المعنى) الى (الخطأ ) تتضاعف درجة الغموض تماما ومن ثم تتضاعف نسبه التأويلات حتما . ولكن ماهو الغموض على حقيقته المعرفية والمنهجية معا ؟!
- للاجابة على هذا السؤال نرجع الى محتوى Ambiguity نفسه في معجم Oxford فنراه :Double meaning expression capable of more than meaning )) ))
وترجمته : ( معنى مزدوج ، تعبير له القدرة على اعطاء معنى واحد أو أكثر ).
- إذن الغموض ، او اللبس كما هو متداول بعض الأحيان ، ليس نقيض الوضوح فحسب ، بل هو حالة بلاغية شاملة تضم بين طياتها مظاهر بلاغية معروفة من بينها التورية pun اذ هي معنيان قريب ظاهر وبعيد مستتر. وفي المعاجم المتخصصة نقرأ : احتمال امتلاك اللفظ أو العبارة لأكثر من معنى . وقد يكون اللبس نتيجة للتعقيد اللفظي كقول المتنبي :
أنّى يكون أبا البرية آدم وأبوك والثقلان أنتَ محمد
وفي النقد الأدبي الانكليزي الحديث أعتبر اللبس سمة لامفر منها بل جوهرية في الكلام .وأتى الناقد الانكليزي الحديث أي أي ريشاردز Richards في كتابه ( فلسفة البلاغة ) بنظرية في الدلالة اللفظية مبنية على هذا الاعتقاد .ولعل أهم كتاب في تطبيق اللبس أو ازدواج الدلالة على نظريات النقد الأدبي هو كتاب الناقد الانكليزي ويليام إمبسون المسمى :( سبعة أنواع من ازدواج الدلالة ) Seven Types of Ambiguity ويقصد المؤلف باللبس او ازدواج الدلالة على حد قوله (( أي أثر يتركه الكلام قد يضيف معنى او ظلا لمعنى يستخلص مباشرة من صريح العبارة )) فيقترح اذن أبوابا سبعة لأنواع اللبس الممكنة في الكلام ، ولو انه يعترف في الوقت نفسه باحتمال تداخل كل نوع مع الأنواع الأخرى :
1- قد تكون الكلمة أو التركيب اللفظي ذا أثر فعال في اتجاهات مختلفة في آن واحد .
2 – قد تتألف دلالة النص من دلالتين أو أكثر.
3 – وفي التورية توجد دلالتان في آن واحد .
4 – ان المعاني المختلفة للكلام قد تتحد لا لتزيد معنى جديدا بل للكشف عن الحالة المعقدة لعقل الكاتب .
5 _ قد يستقيم المجاز أو الصورة البلاغية في مكان ذهني يقع في منتصف الطريق بين فكرتين .
6 – قد يضطر القارىء الى ابتداع تأويلات شخصية كما في الكلام جراء تناقض او تضاد ظاهري .
7 _ قد يكون للكلام معنيان متناقضان فعلا ، فيكشفان عن انفصام جوهري في ذهن المؤلف .
- وقد طبقت هذه النظرية على الاعمال الادبية في كثير من الكتابات النقدية الحديثة)) (22)
- اذا استبدلنا كلمه كاتب في النوع (4) وكلمة المؤلف في النوع (7) بكلمة (شاعر) صح تطبيق هذه الانواع على النظم الشعري تماما ويخاصة النظم الحديث على أي نوع كان من أنوع الشعر ( الشعر المرسل blank verse) أو (الشعرالحر free verse ) أو ( النثر الشعري poetry prose) أو ( قصيدة النثر أو غير ذلك ما نجده فعلا في ديوان شاعرنا :
( أخبار المعنى) أو في غيره من دواوين الشعر الحديث .
4-3-2 الغموض النحوي ( في الديوان) :
في العبارة التي تحتمل اكثر من معنى بسبب تركيبها النحوي فإنه قليل التداول في الشعر و لايقال عنه انه غير موجود أو غائب لانه كما يبدو أصعب صياغة من الغموض الدلالي Ambiguity Semantic الذي يرادف ماذهبنا اليه في اعلاه كما في قوله تعالى : ( تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) الفرقان 1 فإنّ عودة ( ليكون) تصير اما ( للفرقان ) أو ( لعبده) من حيث البنية النحوية ، ولكن بالعودة الى التفسير Commentary تجد المفسرين يميلون الى ترجيح الفرقان . مع ذلك أخذ بعض كبار المترجمين بعودة (ليكون ) الى عبده وما أخطأوا .
نقرأ ترجمة العالم الكبير عبد الله يوسف ونلاحظ عودة الضمير (it) الى الفرقان Criterion
1) p 889: Blessed is He who sent down the Criterion to his Servant, that (it) may be admonition to all creatures.
- ثم نقرأ ترجمة أرثر جي اربري Arther J. Arberry ونلاحظ عودة الضمير (he) الى عبده servant:
2) P.362: Blessed be he who has sent down the Salvation upon his servant, that (he) may be a warner to all beings.
- ولقد أكد المترجم الاول عودة الضمير (it) الى الفرقان بملاحظة هامشية بوصفه (نوراً) يفرق بين الحق والباطل ، ثمة أربعة مترجمين آخرين أعادوا ليكون الى عبده بالضمير (he)
( 23 )
- في شعركمال الدين غموض نحوي محدود ومثلهُ قوله في منظومة (أخطاء المعنى ):
(أ) (( كانت أرض الله تغرّد فيك
وأنا أعتذر اليوم إليك : إلى
خطأ في اللهجة من خطأ في المعنى ...
خطأ في البهجة أو خطأ في الدمعة
خطأ في خطأ في خطأ الرأس ...)) (ص 12)
- اذ بين تذكير أو تأنيث (فيك) و (إليك) جواز مباح الاّ أن تمثل (إليك ) (معنى) (إلى خطأ في اللهجة) أو انفصاله عنه مسألة متعلقة بنية الشاعر نفسه ، بعدها تأتي (خطأ في خطأ في خطأ الرأس) لتجعل الغموض النحوي عاملاً قوياً في غموض المعنى لأنّ الجملة لم تسبقها (من) كما في جملة (من خطأ في المعنى) ولم تسبقها (أو) كما في جملة (أو خطأ في الدمعة ) وبذلك صارت على محملي (الاستقلال في المعنى) (او) عطفاً على كل ماقبلها وكلاهما صحيح وجميل.
- نقرأ المثال الثاني ، من غير استزادة ، في منظومة (نسيان المعنى):
(ب) (( وبقيتِ أمامي جسداً حياً يتبعني في موتي
يكتب سفسطتي وعنائي...
ويناقشُ دولاب الفجر، سرير اللذة ، باب المعنى
قرب فراشي ، ويربّت فوق الكتفين )) (ص55)
- فهل دولاب مرفوع أو منصوب ؟ فاذا نصب فانه (مفعول به) للفاعل (جسداً حياً ) واذا رفع فإنه فاعلُ مرفوع مفعوله ٌ (سرير اللذة) منصوباً وكلاهما ، أيضاً ، صحيح وجميل ، والحكم الفصل في ذلك تحريك الشاعر لكلمات شعره كاملة للافصاح عما غمض واستتر من الأعراب الذي يريد! الا انه ، ربما رأى هذه الصياغة اكثر امتاعاً وجمالاً . وهو كذلك !
- بملاحظة جملتي (من خطأ في المعنى) في النظم الأول ( أ ) و (باب المعنى) في النظم الثاني (ب) نجد الأولى تخضع ، تماماً لمفهوم الغموض الدلالي ( ازدواج المعنى ) أي ان جملة (خطأ المعنى) تحمل معيني (التورية): المستتر البعيد والظاهر القريب ، الا أن تعبير (باب المعنى) تعبير مجازي بلاغي في الكتابة عن شيء يقصده الشاعر وأخفاه، وعلى القارئ (الاوتوقراطي) ان يتوصل الى (معنى المعنى) هنا ، وفي كل مجال نظمي بلاغي في هذا السفر الشعري ، بنفسه ، لأن اشتقاق المعنى بتأويل الباحث هنا ، ليس من مهمة البحث أو منهجه، انما تدارك هذه السياقات وأمثلتها يقدم بعض الملامح التأويلية ( الحرة ) كما قدمنا في المادة ( 3 ): ( الموقف ) هذا من جهة ومن جهة ثانية ، فإن تحديد ( معنى المعنى) في كل النظم الذي يقدمه الديوان انما هو متعذر تماما اذا أردنا التطابق مع الشاعر نفسه ! أما اذا أردنا الأقتناع بتفسير تأويلي يخص مداركنا وتجاربنا ( القبيلة ) أو البعدية فهو الصحيح والمفترض . ولما كان الغموض النحوي يلفّ هذه ( المقاطع ) الشعرية فإن الصعوبة ترتفع جمالا وغبطة في تأويل معنى النص صوب السياسة أو الاجتماع أو الفكر أو الوجدان والعاطفة لتقصي جذور ( المعنى ) في وجدان الشاعر.
4- 3- 3 الحروف الرامزة والغموض
- في الديوان عشرات الأبيات التي تطلق أو تتضمن ( أحرفاً ) عربية سليمة تبوأت مواقعها لترمز ، من غير وضوح ، الى ( شيء ) ما ، فهي واقعة أمام الغموضين السابقين ان شئت أو قبلهما أو بعدهما أيضا . المهم هنا ان ما ترمز اليه الحروف قد يبقي على ( مستويات ) من الغموض ، وليس غموضا واحدا أو عاما مماجعله يتميز عن الغموض الدلالي والغموض النحوي . نقرأ هذا المقطع من منظومة ( نون المعنى ) :
( أ ) ((والألف : أنا : مجهول في هيئة شاعر
وإله في هيئة مجهول
والباء حبيبة قلبي ضاعت في دائرة الحوت
والحاء أبي
والعين عيون من جدي
والهاء هم موتاي الأحياء اخرسوا وقت النطق وضاقوا
بالساعة ، والساعة قائمة )) ( ص 32 )
- هنا نستطيع عدّ هذه الحروف مختصرات للكلمات التي ارتبطت بها بوضوح. (ألف ) في أنا وفي ( إله ) ، والعين في ( عيون ) والهاء من ( هم ) وعندما يعرّف الشاعر ( أنا ) و
( العيون) و ( الهمّ ) فإن نسبة الغموض تقل الى مالم نستطيع معه القول بوضوح كل شيء لئلا يفقد النظم قوته الجمالية الرامزة ومتانته البنائية معا . نقرأ مثل هذا الترميز Symbolization في منظومة ( ماضي المعنى ) كما في المقطع ( 7 ) منها بتسلسل ( ب ) هنا :
( ب ) (( مَن يفتح ميمَ الماضي ؟
مَن يفتح راءَ الرغباتِ و شينَ الشمس ِ المبقورة
والقمر المقطوع الرأس ؟
مَن يفتح سينَ سريراللذ ّةْ
وعيون الخوف ِ، صرير الدم
من يفتح ميمَ الدم ؟ )) ( ص 73 – 74 )
****************************
محاضرة أُلقيت في اتحاد الأدباء والكتاب في العراق بغداد 2 - تشرين أول -1996
ونُشرت في "الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 257 - 276