هاملت أديب كمال الدين

 

 

د. عدنان الظاهر

 

 

 

 

 

أهدى لي الشاعر (أديب) مجموعتين من مجاميعه الشعرية. قرأتهما على مهل فاستوقفتني فيهما قصيدتان... بشكل خاص. تحمل القصيدة الأولى عنوان "محاولة في هاملت" [كتاب النقطة 2001 ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت]، وتحمل الثانية عنوان "صورة الولد في ورق اللعب" [كتاب حاء 2002 ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت].

كتب الكثير من الأساتذة  والشعراء والنقّاد عن الشاعر وخصوصيات تجربته الشعرية وقالوا فيه ما يستحق من تقويم وإعجاب وتفرّد في دنيا الشعر. لكني وجدتُ نفسي أخالفهم جميعاً في أمر قد أجمعوا عليه: التركيز على ظاهرة الحرف والنقطة في أشعار شاعرنا أديب كمال الدين. لم يضفْ أديب الشاعر والمفكّر والمثقف شيئاً جديداً عمّا قاله وبحث فيه (جابر بن حيان الصوفي الكوفي الأزدي) المفكّر والمحسوب على كيمياء القرن الثاني الهجري. أنفق هذا الرجل الكثير من وقته في معالجة ظاهرة الحرف ومدلولاته السحرية وعلاقته بمضمون المسميات الدال عليها (د.  زكي نجيب محمود في كتابه: جابر بن حيان/  الهيئة المصرية العامة  للكتاب ـ 1975: أقصد الموضوعين التاليين: الحروف وطبائع الأشياء. ميزان الحروف. الصفحات 131 ـ 147).

لا أروم الخوض في تفصيلات هذا الأمر... فذلكم موضوع آخر ولكل حادثٍ حديث كما يُقال. أردت أن أقول إنَّ شعر هذا الشاعر المتميز لغةًً وموهبةًً إنما هو شعر كبير ومتميز بصرف النظر عن تركيز الشاعر ومن قام بنقده وتقويمه على ظاهرة النقطة والحرف. لست معنياً ـ كقاريء ـ بعلاقة الشاعر برمز الحرف ودلالته الروحية ـ الصوفية ـ التأريخية لا من قريب ولا من بعيد. ربما تأثر الشاعر بمطالع بعض آيات القرآن الكريم من قبيل (كهيعص... ألف ميم نون.... وغيرها مما نقرأ في القرآن والتي لم يُحسم الجدل والتفسير حولها بعدُ).

أقرأ مقطوعات كتابي الشاعر فأجد نفسي وجهاً لوجه أمام شاعر لا يشبه غيره من الشعراء. وهذا ما أتوقعه وما كنتُ قد أكّدتُ عليه في كل ما كتبت عن قصيدة الشعر المنثور. شعراء هذا الضرب من الفن أمراء على إمارة شعرهم....أباطرة على إمبراطورات شعرهم...ملوك ممالكهم الخاصة  بتيجان وأكاليل غار على هاماتهم.

 

لغة شاعرنا لغة بسيطة واضحة الدلالات لكنها تستبطن موروثاً عميقاً وتوظّف مخزوناً ثقافياً عريضاً واسع الآفاق. قبل هذا وذاك.... في طوق الشاعر مُكنة خاصة به على قول الأشعار المؤثرة واضحة الأهداف.... يُنفّذها بأشكال مباشرة دقيقة الإتجاه والتصويب.  لكأنها تسعى عارفةً أهدافها ومواقع التأثير في نفوس قارئيها. نعم، كل شاعر هو أمير على إمارة شعره وسيد صنعته ومالك قلمه وما يخط من حروف.

 

محاولة في هاملت

كيف وقع إختياري على هذه القصيدة ؟ كتبتُ ونشرتُ في موقع " الكاتب العراقي مقالةً بعنوان (هاملت البياتي وقباني) قارنتُ فيها بين قصيدتين لهذين الشاعرين المعروفين تحملان اسم هاملت، بطل مسرحية شكسبير المعروفة بإسم (هاملت أمير الدنمارك). بيّنتُ في دراستي تلك بُعد كلا الشاعرين عن جوهر مسرحية شكسبير وعن دقائق طبيعة ومهمات هاملت. لكني وجدتُ الشاعر أديب كمال الدين الذي تفصله عن هذين الشاعرين المعروفين فترة زمنية  تقارب الثلاثة عقود... وجدته أفضل من كتب وتناول موضوع هاملت وقد تفوّق كثيراً على كل من الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي والشاعر السوري نزار قبّاني.

 كيف؟ سؤال وجيه من حق القاريء أن يسأله. لا بدَّ للمقارنة من الرجوع لمقالتي سالفة الذكر، بخصوص هاملت البياتي والقباني. هاملت أديب كمال الدين أقرب كثيراً لهاملت شكسبير الحقيقي الذي إبتعد عنه الشاعران المعروفان الآخران. حوّلاه إلى مسخرة وشوّها رسالته النبيلة التي ضحى بنفسه من أجلها: كشف القتلة ومن تستّر على الجريمة ثم الإنتقام لدم أبيه من قاتليه. حتى نزار شاعر النسوان والجنس والآيروتيكا الفاضحة.... حتى نزار لم يتطرق إلى ذكر الصبية الجميلة الوحيدة في المسرحية: أوفيليا التي ماتت غرقاً بعد مقتل أبيها. على الضد من ذلك، نجد الشاعر أديب يفتتح قصيدته بمخاطبة أوفيليا على لسان هاملت:  Hamlet

 

أوفيليا،

يا غيمةَ البراءة،

أخبريني كيف اجتمعت الدنيا في جسدك

ثم ضاعت في الماء؟

أخبريني كيف قُتِلَ أبي

وكيف أباحت أُمّي طيورَ طفولتي للثعبان؟

كيف قادني الشبحُ إلى الشبح

والموتُ إلى الطوفان؟

 

لقد برع الشاعر في تلخيص مأساة هاملت كلها في ثمانية أسطر لا أكثر:

1 ـ  مقتل والده

2 ـ  خيانة أمّه

3 ـ  شائعة موت الوالد بلسعة أفعى سامة

4 ـ ظهور شبح والد هاملت فوق أبراج قلعة آلسينور وكشفه لإبنه حقيقة مقتله لا بأنياب أفعى سامة ولكن بزئبق سكبه عم هاملت (أخ الملك السابق)  في أُذنه ثم تزوّج أم هاملت (زوج الملك القتيل).

5 ـ  غرق أوفيليا

هذه هي أهم أحداث المسرحية وقد لخّصها الشاعر أديب كمال الدين برشاقة وسرعة ببضعة أسطر. وقد جعلها مُفتتحاً لقصيدته التي حملت عنوان (محاولة في هاملت).

لِمَ إختار الشاعر مأساة أوفيليا غريقةً كمُفتتح لقصيدته وقد سبقها حادث مقتل أبيها (بولونيوس) على يد هاملت؟ لِمَ يتطرق الشاعر لهذا الحادث، الذي قد يكون سبب غرق أوفيليا مصادفةً وجزعاً بعد مقتل أبيها من الحياة... أو إنتحاراً مع سبق الإصرار. في الشاعر ميل قوي لمخاطبة الجنس الآخر. ميل غريزي.... فلقد جاء منه (الأم) وسكنَ إليه (القرينة) وكرر ظاهرة الأم بإنجابه بنتاً. إنه محاصر بمثلث متساوي الأضلاع: الأم ـ الزوج ـ البنت. لذا نراه قد إندفع أماماً إندفاعة سهم يعرف بدقة هدفه فسعى إليه بجسارة وهيبة: المرأة / أوفيليا. أحب الشاعرُ أوفيليا المسرحية.... وجد فيها ضالته ورمز الجمال المتخيّل. دخل في هاملت فخاطبها بكلمات لم يقلها هاملت. قال فيها شعراً أو غزلاً أو كلاماً جميلاً لكنه سَرعان ما إنقلب عليه فنفاه، ثم شرع بالتهكم والسخرية من الصبية أوفيليا من قبيل: هل أنتِ شريفة؟ اذهبي إلى الدير. ترهّبي. ثم يسألها بشكل فجائي: أين أبوك؟ قرأ أديب مسرحية شكسبير هذه دون ريب. قرأها شاعراً ثم قرأها طالباً في كلية اللغات الأجنبية/ فرع اللغة الإنجليزية.

يتغزّل الشاعر في المقطعين الثاني والثالث بجسد وجمال أوفيليا (جسدكِ المقمر مرثاة عمري.... دعيني أتعرّف إلى ـ هكذا وردت، الأصح على ـ جسدك البضّ... دعيني أتعرف إلى أصابعك لأعرفَ سرّ الفرح....دعيني أتعرف إلى بطنكِ النحيل لأعرفَ سرّ الطفولة والطمأنينة). ثمَّ (أوفيليا...جمالك الأسطوري عذّبني كل يوم حتى قادني إلى منافي الكلمات...ورضابكِ أبهجني مثلما يبتهج الساحرُ بالصاعقة... فضميني قبل أن تهلكَ آخر قطرات دمي معك.... ضميني قبل أن يأكلني الماء).

هل في رأس وذاكرة الشاعر امرأةٌ سبق وأن وقع في غرامها في الزمن السالف فيها شبه ما من أوفيليا جسداً أو وجهاً ؟ جائز. يحصل ذلك مع الجميع!! أوفيليا الشاعر أديب هي بصورة ما آلهة الجمال (فينوس) أو(أفروديت) أو آلهة الجنس والخصوبة العراقية القديمة (عشتار السومرية). هل في أديب شيء من حبيبها (تمّوز) الذي يختفي نصف عام ويظهر في النصف الآخر؟ لا، ولكنَّ أوفيليا هي التي غابت بالموت غَرَقاً الغيبة الأبدية.

أنهى الشاعر هذه القصيدة نهايةً رائعةً جمع فيها كل ما يعرف من ثقافة معاصرة وتراث عراقي عريق ضارب في القِدم. نقرأ المقطع الرابع والأخير:

 

مدّت أوفيليا يدها إليَّ

لكنْ ما أنْ قبّلتُ أصابعها المترفة

حتى تحوّلتْ إلى خناجر وشتائم

ما أنْ قبّلتُ صدرَها الفاتن

حتى خرجت المَرَدةُ والشياطين

وأحاطتْ بي من كلّ جانب

وما أنْ قبّلتُ شفتيها

حتى خرجت الأفعى إليَّ

فسقتني السُمَّ

لأموتَ إلى الأبدْ .

 

يبدأ الشاعر [الذي يذكّرني بأورفيوس] بالحركة من الأسفل إلى الأعلى. يقبّل يد أوفيليا أولاً ثم ينتقل إلى أعلى فيقبِّل صدرها لينتهي بتقبيل شفتيها. هذه تقنية وجدتها في الكثير من أشعار أديب: إنتقالات رأسية فيها جنوح رمزي نحو الصعود  والتسامي الأمر الذي يدلُّ دلالة قوية على ما في هذا الإنسان من مطامح وقوى دافعة نحو شكل من أشكال المجد الأدبي ـ الشعري والشخصي. ولا غرابة في ذلك، إذ يكفي أن نُلقي نظرة على موجز تأريخ الشاعر لندرك على الفور سعة طموحاته وكثرة ما حقق من هذه المطامح والتطلعات. هذا المقطع غريب بقدر ما هو عميق و مثير. ما وجه الغرابة والإثارة فيه؟ في  مقطع القصيدة الأول مثّل الشاعر دور هاملت عاشقاً مغازلاً ومتسائلاً يبحث عن أجوبة صعبة المنال... لأنَّ طابعها العام هو الموت. وهل هناك ما هو أكثر غرابة وإثارةً من الموت؟! (كيف إجتمعت الدنيا في جسدك ثم ضاعت في الماء ؟)....(أخبريني كيف قُتِلَ أبي؟).... (وكيف أباحت أُمّي طيور طفولتي للثعبان؟).... ( كيف قادني الشبحُ للشبح ؟). هاملت الشاب يسأل صبية ماتت غرقاً أسئلة غاية في الإحراج. لكأنه ـ مثل جلجامش السومري ـ يمتحن أوجه الموت وكيف ينجو من مخالبه وكيف يعيش حياةً أبدية لا موت فيها. ما طعم الموت يا قتيلة؟ هل أنا سبب موتك غرقاً في البحيرة لأنني قتلتُ أباك خطأً وكان المقصود عمّي قاتل أبي وزوج أمي المتواطئة؟ كان يتدرّب على قبول الموت وكان  يُجري تمرينات ويمارس أنواعاً من الرياضة النفسية كما المتصوفة والدراويش ليبلغ أقصى درجات التخدير وليأتي الموت بعد ذلك ف (ما لِجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ) كما قال المتنبي. هاملت يستجوب فتاة لا وجود لها إلاّ تحت أديم الأرض جثّةً هامدة. يمارس أمامها طقوساً غريبة لم يمارسها قبله إلاّ جلجامش سومر. البشر يخافون الموت. السفر الذي لا رجعة من بعده.

جميل أن يجمع أديب ما بين هاملت الذي ما زال حيّاً وفتاة زالت من الوجود. وضع الحياة والموت وجهاً لوجه. وضع هاملت أمام ضحيته التي لم تكن لتموت لولا قتله لأبيها. أوفيليا لا تجيب. لا وجود لها على الأرض. لم يعدْ لها ثمّةَ من وجود. أحسبُ أنَّ الشاعر أديب (ما علاقة الإسم أديب بأوديب؟) أراد توظيف بعض التكهنات أو التفسيرات التي تقول إنَّ هاملت كان مجنوناً أو مضطرب العقل أو فيه مسٌّ من خبال. وإلاّ كيف يخاطب حيٌّ ميتاً؟ هنا برز ذكاء الشاعر على مسرح الأحداث ليذكِّرنا أنْ ليس في الأمر من غرابة : أَفلمْ يخاطبه شبح أبيه القتيل فوق أبراج قلعة آلسينور مبيّناً له تفاصيل مقتله وكاشفاً هوية القاتل وحاثّاً أن ينتقم له من قاتله؟ (إذا كانت الطبيعة سويةً فيك انتفض). رجلٌ ميت يكلِّمُ نجله، فما المانع في أن يكلّمٌ هذا النجلُ الحي فتاة ميّتة ؟ (كيف قادني الشبحُ  إلى الشبح ؟). هذا ما قاله أديب الشاعر.

ما علاقة هذا المقطع بالمقطع الأخير؟ كيف ترتدُّ البداية  لتناقض النهاية؟ كيف يؤول الغزل والوله والأسئلة الوجودية المحيّرة إلى شتائم وخناجر وعقوق وشياطين وسم وأفعى؟ يتحول إصبع أوفيليا إلى خنجر، وتخرج من صدرها مَرَدةٌ وشياطين، وتخرج من شفتيها أفعىً سامّة تقتل (أورفيوس) الذي غامر بالنزول إلى  العالم السفلي لإنقاذ زوجه (أويريدكا). إنها لنهاية رائعة. فيها من  الفكر والفلسفة أضعاف ما فيها من أهوال وفضائع. ومن ذا يلوم أوفيليا الصبية ضحية مخططات ومؤامرات القصر الملكي ونذالة والدها (بولونيوس) وخبثه وإتهامه هاملت بالجنون وإستخدامها وسيلة ساذجة لكشف هذا الجنون المزعوم؟

أوفيليا .... تنتقم من هاملت قاتل أبيها. لا تُصفحُ عن هذا القاتل الذي جاءها معتذراً عمّا فعل... لا تقبل ما يطبع على أناملها من قُبل زائفة، فهذه الأنامل خناجر وسباب.  وترفض تلك التي وضعها على صدرها ففي صدرها حقد على قاتل أبيها أكبر من كل المَرَدة والشياطين. أخيراً... حين يُقبِّلُ ثغرها يتحول لسانها إلى أفعى حقيقية قاتلة تسقيه سُمّاً  لا (زئبقاً) كذاك الذي صبّه عمه في أُذن أبيه في ساعة قيلولته في حدائق قصره الملكي في الدنمارك ثم زعمَ أنَّ أفعى سامّة قتلته.

نهاية ما كان شكسبير يحلم بها أبداً. فيها تفسير جديد للرواية. فلا مبارزة أخيرة بين هاملت و شقيق أوفيليا (لايرتس) حيث يسقط الإثنان قتيلين، ولا موت أمه بالسم الذي أعدّه زوجها لهاملت، ولا مصرع هذا الزوج بطعنة من هاملت. أنهت أوفيليا المظلومة المسرحيةَ بقتل هاملت... أصل البلاء. قتل والدها فقتلت نفسهاً جزعاً من هول المصيبة. أهملها هاملت وأهانها في حياتها ثم قتل أباها. جاء الآن دورها لتنتقم من قاتل أبيها ومن كان السبب في موتها. لا جوابَ لحب هاملت وهي في عداد الموتى إلاّ الموت بسم أفعى حقيقية ليست مزعومة. أفعى حيةٌ قتّالة تطلع من فم إمرأة ميّتة. المرأة تنتقم حتى لو كانت في عالم الأموات. وهذا هو الحب القاتل (ومن الحب ما قتل) .... على حد تعبير بعض الشعراء.

أليس هذا إبداعاً متميّزاً وعملية خلق لما نعرف من تراث ومأثور؟ لوحة جديدة ما فكّر قطُّ شكسبير بها. فيها الكثير من العِبر وفيها رصيد ضخم من التفكير الذي ربما هبط على الشاعر في لحظ إلهام نادرة.

 

******************************************

 

 نُشرت في مجلة نصوص عراقية الالكترونية - موقع الكاتب العراقي- الأول من شباط- فبراير 2006

و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 177 - 183

 

  الصفحة الرئيسية