محاولة لتنسيق أحزان العالَم

 

 

 قراءة في (قصيدتي الجديدة) لأديب كمال الدين

 

 

علي حسين عبيد

 

 

  قرأتُ مرةً قولا لـ هاوسمان لم أستطع في وقتها أن أبتَّ بمدى دقته أو إيماني به يقول فيه (إن الشعر هو محاولة لتنسيق أحزان العالم)، والآن بعد عقد أو أكثر من السنين أقرأ في موقع (النخلة والجيران الالكتروني) قصيدة للشاعر أديب كمال الدين بعنوان (قصيدتي الجديدة) تعيدني إلى تلك الجملة التي قالها هاوسمان والتي تركت في نفسي حشداً من المشاعر لا أستطيع معرفة كنهها أو نوعها .

لقد بدت قصيدة أديب المعنونة: قصيدتي الجديدة (المنشورة في مجموعة شجرة الحروف: أزمنة للنشر والتوزيع - عمّان - الأردن) كرأس دبوس ينكأ جرحاً قديماً في قلبي، بل إنها هيَّجتْ مقولة هوسمان واستنهضتها من تحت ركام السنين وصارت كأنها تنطق بكلمات وجمل شعرية معاكسة. إن هذه القصيدة ربما تريد أن تقول أو (هكذا سمعت منها) بأن الشعر هو جزء من مصائب الصنف البشري وغوامضه الأزلية، وذلك بسبب حدة اغترابها وثقل الوحشة الهائلة التي تشع من بين سطورها.

ومع ذلك تمرق هذه القصيدة إلى متلقيها بهدوء يشبه هدوء الوحدة الغريبة التي تعيشها، إنها تنسلّ بخفّة ورشاقة وبصمت عميق إلى صميم المتلقي لتعلن له وحدتها الممضة وقلقها الصامت وحزنها على المصير الإنساني في وقت ليس أمامها سوى أن تتكتم على سرها ومعناها لتكتسب طابعا أزليا يليق بها، فهي – القصيدة - برغم جدتها وعذريتها ونهجها الإيحائي المسالم إلا إنها لا تفلح في التفاهم مع أرقى رموز الإنسان والطبيعة معا ممثلة بـ (الحسناء /الطفل /النهر) والسبب كما سيبدو ليس في القصيدة أبدا ولا في الشعر الذي- ربما- لا يزال يمارس وظيفته لتنسيق أحزان العالم، بل في القصور المتجذر في الطبائع البشرية لدى المخلوق الإنساني.

تبدأ هذه القصيدة بمحاولة الشاعر لكسر الطوق المضروب عليها والخروج من وحدتها من خلال مسار سردي بالغ النقاء، وسيختار الحسناء كرمز مناسب تماماً لقصيدته كي تمد معها جسور التفاهم ثم القيام بمهمة - تنسيق الأحزان المتبادَل:

 

(أعطيتُ قصيدتي الجديدة

بأصابع الارتباكِ والرغبة

إلى الحسناءِ الجالسةِ بجانبي في الباص

قلتُ لها: ضعيها بين النهدين

لتتعرّفي إلى سرّ القصيدة

ومعناها الأزليّ.)

 

 

 

 

إنّ هذه الانسيابية السردية في كتابة الشعر تأتي لتناسب حالة الاستعداد القصوى للتفاهم مع الآخر الكائن البشري. إن القصيدة تقدم نفسها بلغة واضحة رقيقة مسالمة في محاولة للتقرب من الآخر لكن ضمن شروط التمنّع الأزلي الذي يحفظ لها سرها وقوتها. إنها حالة اعلان ناجحة لكسب الأطراف الأخرى من أجل كسر طوق الغموض او الالتباس الذي يشوب العلاقة بين القصيدة (الشعر / والآخرين)، ان حالة الارتباك والرغبة لا تعني الشاعر فحسب، انها تعبير سايكولوجي للشعر نفسه، ان القصيدة نفسها تشعر بحالة الارتباك المشوب برغبة التواصل مع الحسناء الرمز كما انها تختار مكانا (بين النهدين) حيث منبع الحياة البشرية وديمومتها لتنعقد علاقة التفاهم المتبادل بين الغوامض الأزلية، إن الشعر هنا يختار التواصل مع الإنسان ممثلا برمز الجمال والرقة غير أن ما يحدث سيزيد من حدة الوحدة والاستيحاش وسيشكل خطوة مضافة لبعثرة الأحزان البشرية وليس تنسيقها والسبب ليس الشعر بل الطرف الآخر: 

 

(لم تأبه الحسناءُ لكلامي

وتشاغلتْ بحقيبتها الحمراء

وهاتفها الصغيرِ المليء بالمواعيد.)

 

إن هذه اللامبالاة والتغابي الممقوت من لدن الحسناء سيشكلان صدمة مباغتة خارج حدود التوقع لكنها لم تكن نهاية المطاف، بل سيحاول الشعر المطوق بوحدة شاعره وحالة الاغتراب التي يصارعها إلى مد جسور حثيثة وهذه المرة مع رمز إنساني لا نشك ببراءته مطلقا:

 

(ثم أعطيتُ قصيدتي الجديدة

للطفلِ الذي يلعبُ في الحديقةِ العامة

قلتُ له: العبْ معها

ولكَ أن تصنعَ منها لُعَبَاً لا تنتهي

بألوان قوسِ قزحٍ لا حدّ لها.)

 

وهذه عودة إلى لغة متناسقة (طفولية) تلائم الهدف الذي يتوخاه الشعر، وتحاكي روح الطفل وبراءته وتدعوه لأن يصنع ما يروق له وما يضيف لعالمه من جديد باهر، إن الشعر من اجل أن يكسر طوق العزلة لا يتوانى عن فعل المستحيل حتى مع عالم يبدو انه لا يكترث به لا من بعيد ولا من قريب ولكنها قضية صراع وربما رسالة يجب النجاح فيها مع الطرف الآخر وبالتفاهم معه، ربما نلمس هنا استعداد القصيدة لمنح سرها ولكن لعالم البراءة، هذا العالم الطفولي الذي يتميز بالمنعة والخلود أيضا، انها محاولة لضرب وإضاءة (العتمة الفاصلة بين الشعر والإنسان) ولكن ستلوح في الأفق صدمة ثانية:

 

(فصرخَ الطفلُ باكياً

وولّى بعيداً.)

 

إن الطفل هو الآخر لا يعبأ بـ (القصيدة الجديدة) بل يستغربها ولعلّه يخشاها وستبقى في حالة عزلة تفصلها عن الإنسان وتعوق هدفها في تنسيق احزان العالم والخروج من مأزقها الموحش في آن واحد مما يدفع إلى محاولات جديدة لكن هذه المرّة ليس مع الإنسان بل مع الطبيعة، إنه النهر (الإله المُلقى على الأرض) الذي يديم الحياة بمائه، إن اللجوء إلى النهر يمثل وسيطا مقبولا بين الشعر والإنسان لاعادة الأمل بعقد علاقة تنسيق الاحزان:

 

(ثم أعطيتُ القصيدةَ للنهر

قلتُ له: خذْها

إنها ابنتكَ أيضاً

أيّها الإله المُلقى على الأرض

باركْ سرّها

وتعرّفْ إلى معناها الأزليّ

أيّها الأزليّ.)

 

إذن فالشاعر يرى أن النهر هو أكثر قدرة من غيره على ادراك معنى قصيدته من دون البوح بسرها لأن النهر (الماء) له صفة الأزل التي تجمع بين الاثنين الشعر/ النهر، ولكن ستأتي التوقعات والنتائج مخيبة أيضاً، فالنهر (إله قائم بذاته) حالم محاصر بالقوة والديمومة والغرور ولذلك سيفشل كوسيط أفضل: 

 

(لكنّ النهرَ ظلّ يحلمُ ويحلم

محدّقاً في الأقاصي البعيدة

دون أن يعيرَ كلامي انتباهاً.)

 

إنها محاولات فاشلة كما تابعنا ذلك بأنفسنا لمد جسور التلاقي بين الشعر العصامي المستوحد والإنسان المتعالي المتغابي اللاّهي في دنياه الراهنة، حتى الطبيعة أصابها داء التعالي والغرور والتسطُّح بسبب هيمنة الإنسان عليها ولذلك لم ينجح النهر في مساعيه الرامية لوضع الأمور في نصابها بين الشعر والإنسان.

الوحيد الذي سيمد يده إلى القصيدة الجديدة هو (الإنسان الخطأ/ الشرطي) رغماً عن القصيدة أو من دون رغبتها بذلك لأنه ليس الطرف المرغوب به: 

 

(وحدهُ الشرطيّ اقتربَ منّي

وصاحَ بصوتٍ أجشّ

* ماذا في يدك؟

قلتُ: قصيدة جديدة.

* فماذا تقولُ فيها؟

قلتُ: اقرأها لتتعرّف إلى سرّها ومعناها.)

 

إن هذا التقارب المشوه بين الشعر و(الإنسان الخطأ) كان متوقعاً في نهاية المطاف، فالشرطي أداة أستلاب وليس تفاهم أو تنسيق وهو أداة سطوة وقوة قاهرة ولذلك تضخَّم الاسلوب البوليسي بقوة وشاعت نبرة الاستجواب، على العكس من التعامل مع الأطراف الأخرى (الحسناء /الطفل /النهر) حيث الشعر هو الذي يبدأ بالمبادرة للتنسيق غير أن النتيجة تكاد تكون واحدة، فالطرف الذي ترغب به يهملك بلا مبالاة قاسية والطرف الذي لا توده يفرض علاقته وارادته عليك فرضاً، وهنا تكمن إشكالية الأدب بل (الثقافة برمتها) مع السلطة بكل أشكالها عندما تعجز عن إجبار الشعر بالكشف عن أسراره بالقوة:

 

(فأخذها منّي

ودخلَ غرفته السوداء

دخلَ ليربطَ القصيدةَ إلى كرسيّ حديديّ

ويبدأ بجلدها بسوطٍ طويل

ثم أخذَ يضربها بأخمص المسدس

على رأسها

حتى نزفت القصيدةُ حروفاً كثيرة

ونقاطاً أكثر

دون أن تعترفَ بسرّها ومعناها.)

 

إنّ تجربة العزلة في هذه القصيدة تكاد تؤشر سيرة الشاعر أديب كمال الدين الراهنة كما أن اهتمامه بالحرف والنقطة ومدارهما الذي يشكل عمق وفحوى تجربته الشعرية الطويلة يبدو غنياً في هذه القصيدة التي تشع إغتراباً واستيحاشاً مصحوباً بنزف (حروفي ونقطوي) يشكل هيبة وسريَّة تامة للشعر، كما نلاحظ حفاظ القصيدة على هيبتها ومنعتها برغم نقائها ومسارها السردي الذي يلائم أهدافها. وأخيراً أقول (من وجهة نظر شخصية) إن هذه القصيدة تحاول أن تعيد الشعر إلى دوره المهم في تنسيق أحزان الإنسان وربما نجحت في ذلك على قدر تعلق الأمر بها.    

 

 

 

 

قصيدتي الجديدة

شعر: أديب كمال الدين  

 

 

أعطيتُ قصيدتي الجديدة

بأصابع الارتباكِ والرغبة

إلى الحسناء الجالسةِ بجانبي في الباص.

قلتُ لها: ضعيها بين النهدين

لتتعرّفي إلى سرِّ القصيدة

ومعناها الأزليّ.

لم تأبه الحسناءُ لكلامي

وتشاغلتْ بحقيبتها الحمراء

وهاتفها الصغيرِ المليء بالمواعيد.

ثُمَّ أعطيتُ قصيدتي الجديدة

للطفلِ الذي يلعبُ في الحديقةِ العامّة.

قلتُ له: العبْ معها

ولكَ أنْ تصنعَ منها لُعَبَاً لا تنتهي

بألوان قوسِ قزحٍ لا حدّ لها.

فصرخَ الطفلُ باكياً

وولّى بعيداً.

ثُمَّ أعطيتُ القصيدةَ للنهر

قلتُ له: خُذْها.

إنّها ابنتُكَ أيضاً،

أيّها الإله المُلقى على الأرض،

باركْ سرَّها

وتعرّفْ إلى معناها الأزليّ

أيّها الأزليّ.

لكنَّ النهرَ ظلَّ يحلمُ ويحلم

مُحدّقاً في الأقاصي البعيدة

دونَ أنْ يعيرَ كلامي انتباهاً.

وحدَهُ الشرطيّ اقتربَ منّي

وصاحَ بصوتٍ أجشّ:

* ماذا في يدك؟

قلتُ: قصيدةٌ جديدة.

* فماذا تقولُ فيها؟

قلتُ: اقرأها لتتعرّف إلى سرِّها ومعناها.

فأخذَها منّي

ودخلَ غرفته السوداء.

دخلَ ليربطَ القصيدةَ إلى كرسيّ حديديّ

ويبدأ بجَلْدِها بسوطٍ طويل

ثُمَّ أخذَ يضربُها بأخمصِ المسدس

على رأسِها

حتّى نزفت القصيدةُ حروفاً كثيرة

ونقاطاً أكثر

دونَ أنْ تعترفَ بسرِّها ومعناها.

 

 ****************************

 

 

 

القصيدة بصوت الشاعر

 

https://www.youtube.com/watch?v=4jOp4YZW_OM

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home