( الوجه الثامن للذات الشاعرة )

استنطاق نقدي لقصيدة أديب كمال الدين (مائدة الغرباء):

 

 

 

 

 

د. أحمد جار الله ياسين

 

 

  

 

التقى الغرباءُ على المائدةِ: مائدة قلبي.

كانَ كبيرهم مُعمّماً.

والآخر زاهداً

والثالثُ شهوانياً

والرابعُ سكّيراً،

الخامسُ عارفاً بكلّ شيء،

السادسُ هازئاً

والسابعُ ساحراً.

وبدلاً مِن الحديثِ المُمتع

في شؤونِ الطيرِ والنساءِ والموت

تبادلَ الجميعُ الشتائمَ والسباب.

ثمَّ اقترحَ أحدهم اطلاقَ النار

حتّى كدتُ أموت

أنا الثامن الأخرس!

(مائدة الغرباء/ شعر: أديب كمال الدين)

 

 

    في قصيدة (مائدة الغرباء) للشاعر أديب كمال الدين المنشورة في مجموعته (حاء) الصادرة ببيروت عن المؤسسة العربية والدراسات والنشر، يضع مفهومُ (المائدة) في العنوان القارئ أمام توقّعات معيّنة تقوده استحضار دلالات الإلفة والمودّة والحوار والتواصل الاجتماعي، وكلّها يمكن أن تدور بين المجتمعين حتى لو كانوا (غرباء) كما جاء في الجزء الثاني من التركيب الاضافي للعنوان، لاسيما أنّ المائدة في متن النص  تنتسب لعضو بشري (قلبي) ذي أبعاد معنوية وعاطفية وإنسانية سامية، حتى أنّ الشاعر نفسه يتساءل في منتصف النص متعجّباً من غياب ما يفترض دورانه من كلام ممتع حول المائدة (في شؤون الطير والنساء والموت)، كما تجري الحال عادة حول الموائد الاجتماعية، وما تساؤله إلّا لاستفزاز القارئ تدريجياً وتهيئته لغرابة ما سيحدث حول المائدة.. ويبعدها عن أبعادها السيميائية  التقليدية ويزيد تعجبه عندما يحلّ بدلاً من ذلك الكلام الممتع الغائب (تبادلَ الجميعُ الشتائمَ والسباب) وتتطوّر النزعة العدوانية للمجتمعين حول المائدة  من الجانب اللفظي إلى جانب آخر مادي أكثر قسوة ،عندما يقترح أحدهم إطلاق النار. . بمعنى أنه يفسح المجال أمام خيار القتل المادي لطرف آخر، ويبدو أن النار كانت موجهة ضد الثامن (الأخرس) بدليل مواجهته للموت (حتّى كدتُ أموت).. علما أن النص لم يفصح عن وجود ثامن حينما ذكر اصناف المجتمعين في بداية النص.. وكأنّ النص كان يبيّت الرغبة بإقصاء الثامن عن السبعة الآخرين لاختلافه في الموقف والفكرة معهم حتى لو كان حاضراً مادياً معهم حول المائدة.. فهم جميعاً غرباء بالنسبة له مادام يختلف عنهم فكرياً.. لكنه ربما الأقرب إلى ذات الشاعر.. ومن ثم فإنه ليس غريبا عنه وهذا ما سيفصح عنه التأويل النقدي لاحقاً..

    وما دامت المائدة في فضاء القلب فإنها مائدة شعرية وذات خصوصية نفسية وفكرية تماماً وليست واقعية ومِن ثمَّ فإن الوجوه المجتمعة حولها بأصنافها المختلفة يمكن أن يكون كلّ واحد منها ممثلاً لجانب من جوانب الشخصية الثامنة  (الأخرس) الذي يبدو أنّه يمثّل الوجه الشعري من الذات النصية، لأنّ الشاعر تحدّث من خلاله بصيغة الأنا، ولأنه أيضاً يبدو أكثر إنسانية من الآخرين (المعمّم/ الزاهد/ الشهواني/ السكّير/ العارف/ الهازئ/ الساحر) بحكم عدم مشاركته في السبّ والشتم، وأيضا تعرّضه لمحاولة القتل.. وهو بذلك الأقرب إلى كيان الشاعر من الوجوه الأخرى .. وكأنّ النص يريد أن يقول إن الشاعر بوصفه وجهاً من الوجوه المتعددة للذات داخل الكيان الانساني الواحد يبقى الوجه الأكثر رقيّاً وصدقاً وصفاءً حتى أنه يلجأ للصمت (أخرس) عندما تتصاعد الأصوات العدائية للوجوه الأخرى تجاه العالم او أي طرف آخر في الوجود .. وتلك الوجوه هي أيضاً وجوه الحياة اليومية لكثير من الناس مجتمعة أو منفردة في دواخلهم وانعكاس ذلك في مواقفهم، وما (الخرس) إلّا موقف شعري آخر للذات بوجهها الشاعر كونها تخلّت عن الأداة الرئيسة المعبّرة عن وجودها الشعري وأعني به اللسان الذي خلد إلى الصمت وتخلّى عن الكلمات ربما احتجاجاً على فضاء العدوانية الذي روّج له المجتمعون وربما تنزيهاً للذات الشاعرة عن المشاركة بفعاليات السبّ والشتم التي تطوّرت إلى الدعوة للقتل.. وهذا ما لا يتناسب والصورة الشفافة المرهفة للشاعر كما تتصوّرها المخيلة البشرية عادة .

    والمفارقة أن ممن يجتمع حول المائدة مَن (هو) يفترض أن يكون موقفه مماثلاً لموقف الشاعر في الاقل لأنه (معمّم) بكل ما لهذه الصورة من بُعد ديني وروحي ومثله الزاهد أيضاً والعارف، فكلّهم أقرب للنضج في الوعي والفكر مما يمنعهم من الولوج في فضاء العدوانية بهذا الشكل المتسارع في الاجتماع حول المائدة. بينما الوجوه الأخرى فإنها يمكن أن تقع في خطيئة السبّ والشتم والقتل لغياب وعيها (السكّير) أو غَلَبة شهوتها على العقل (الشهواني) أو عدم جدّيتها (الهازئ) أو مكرها (الساحر) .

    ربما لهذا كلّه أمست هذه الوجوه تحت صفة الغرباء كونها غريبة عن ذاته أو طارئة عليه. وتحدّث عنها الشاعر بصيغة الجمع الغائب (هم) ولم يتحدّث بصوت الأنا الحاضر إلّا عند كلامه نيابة عن الأخرس الذي كان ثامنهم حول المائدة لكنه لم يكن منهم في المواقف التي اتخذوها. لهذا يبدو (الخرس) هنا شعرياً كونه لم يمنع الشاعر من الإدلاء بشهادته عما حدّث حول مائدة القلب وتدوين الشهادة بصيغة قصيدة مكتوبة يمكن أن تؤرّخ للانحدار الأخلاقي الذي وصلت اليه الذوات الاجتماعية في مواقفها على الرغم من رقي منزلة كثير منها اعتبارياً كما في شخصيات الزاهد والمعمّم والعارف. هذا إذا أخذنا فكرة المائدة كفضاء رمزي للمجتمع خارج إطار الذات الشاعرة. أما إذا أخذنا فكرة المائدة كفضاء للذات الشاعرة وما يعتمل فيها من صراع بين وجوهها الإنسانية الأخرى فإنّ ذلك يؤرّخ لمدى الصراع الكبير المحتدم داخل هذه الذات وانتصار الوجه الشعري لديها في النهاية كونه الوجه الأكثر صدقاً وتضحيةً ونقاءً وبراءةً. حيث رفضَ الاشتراك في ما دار حول المائدة، بل كاد يموت بمجانيّة نتيجة العبث الذي وصلت اليه عملية الصراع الداخلي بين الوجوه الأخرى التي علا صوتها وأسكت الشعر وأخرسه مؤقتاً.

***********************

 * نُشرت قصيدة (مائدة الغرباء)، في مجموعة: (حاء)– للشاعر أديب كمال الدين- عن المؤسسة العربية والدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ص 69

د. أحمد جار الله ياسين: ناقد وأكاديمي عراقي

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home