مقاربة سيميائية لقصيدة "أرق" لأديب كمال الدين

 

 

 

 

 

 

 

عطية راضية – الجزائر

 

 

 

 

 

نصّ القصيدة:

أرق

شعر: أديب كمال الدين

إلى: بدر شاكر السيّاب

نمْ..

فالوردةُ قد سقطتْ في البئر

وانفضَّ الأولاد

يا عيني، أضحتْ عينُكَ مئذنةً ورمادْ.

نمْ..

الساعة قاربتِ الفجرَ ولا أحد يؤويكَ: فَمَنْ يؤوينا؟

كفّكَ فارغة إلّا مِن رائحةِ الآسْ،

إلّا مِن حلمٍ يمتدُّ ليصهر دائرةَ الناسْ

ورداً وفراتاً ونخيلاً. 

أتعبنا الجري وراءَ السنوات.

قد أتعبنا حرفٌ كالثورِ الهائجِ: كيفَ نروّضهُ

بأظافرنا، وأظافرنا مُلِئتْ بأنينِ الدمِ وأنينِ الراسْ؟

نمْ..

يا مَن أسقطتَ الوردةَ في البئرْ،

يا مَن اسقطتَ الوردةَ في بئرِ الحُرّاسْ

وبقيتَ، الساعةَ، درويشاً أعمى

يبكي في الظلمةِ شمسَ الله.

نمْ..

لا عاصمَ، هذي اللحظة، مِن أمرِ الناسْ.

والناسُ نيامُ....... الناسْ.

 (أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الأول، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، 2015، ص 234)

 

 

1ـ سيميائية العنوان:

إنّ أوّل ما يستوقفنا عند قراءة القصائد الشعرية الحديثة والمعاصرة العنوان نظرا لما يتوافر عليه من طاقات تعبيرية وإيحائية كامنة، فهو يمثّل مفتاحا أوليا أو بؤرة تتوالد وتتنامى إلى أن تكشف عن مكنوناتها التي تحمل عددا من التأويلات على مستوى البنية العميقة، فالعنوان بنية دلالية ذات وظائف رمزية مشفرة بنظام علاماتي دال وعلامات هي جملة من الإيحاءات تربطها علاقة جدلية بالنصّ.

إذا عدنا إلى قصيدة "أرق" نجد أن العنوان عبارة عن شحنة من الدلالات وهي كما يلي: يتكون العنوان من لفظة واحدة جاءت نكرة في هيئة مصدر. العنوان بهذا الشكل يحمل معاني متعددة فيفتح باب التخمين والتأويل:

أرق: تدل على: المرض ـ القلق ـ الإجبارـ حمل الهموم ـ التفكير ـ الانتظار ـ المعاناة ـ الغربةـ الاغتراب.

دلالة الأصوات في العنوان:

الألف: أعمق الحروف مخرجا يدل على الألم ـ الأنين ـ المناجاة ـ الرغبة في الإفصاح عمّا في داخل النفس من مشاعر وتناقضات دال على الشعور بالاحتقان والأذى.

الراء: يدل على التكرار .

القاف:  قلق وجودي ـ انقباض نفسي ـ قسوة ـ القطع والقطيعة ـ الرغبة في القول والبوح والإفصاح عمّا في القلب.

كأنّ العنوان يتحدّث عن ثنائية لطالما شغلت الأدب المعاصر، والتي تتمثل في الأنا/الآخر، إذ  ما تتميز به القصيدة المعاصرة من الحضور الطاغي للذات المبدعة أما الآخر فهو الرغبة في إشراك المتلقي أو القارئ في عملية الإبداع أي في تكوين الشفرة وحلها وعليه فالعنوان يحمل الدلالات التالية:

بنية سطحية: تتمثّل في المرض والخوف وعدم الشعور بالأمان، وهي دلالات ذات معنى نفسي خاصة بالذات المتحدثة (الأنا).

بنية عميقة: الرغبة في البوح وإخراج مافي الذات ـ المعاصرة ـ من هواجس وتناقضات وصراعات، وبما أنه بوح ورغبة في القول فهذا يحتاج إلى مستمع أو متلقي (الأنت أو الآخر).

سيميائية الإهداء: إلى بدر شاكر السيّاب.

استخدم الشاعر أديب كمال الدين لغة بسيطة في الإهداء، استعمل فيها حرف الجر: "إلى" الذي يفيد انتهاء الغاية المكانية، كأنّ هناك مسافة فاصلة بين الشاعرين أديب كمال الدين والسيّاب، أي الأنا والأنت بالرغم من أنهما يشتركان في العراق الوطن الجريح، وربما يتوضح ذلك في كون أديب كمال الدين شاعر متصوّف أما السيّاب فهو ذو اتجاه رمزي ورومانسي، ليشترك الشاعران في الإغراق في الرمزية ووطن التكثيف.

سيميائية المعجم في القصيدة:

وظّف الشاعر الألفاظ توظيفا دلاليا يسير في منحى تقابلي يكشف طبيعة العلاقة المتناقضة بين الذات والآخر، بين الأنا الشخصية الدينية والمتصوّفة وبين الأنت/ الشخصية المتحررة فجاءت الألفاظ ذات طابع تضادي كما يلي:

المعجم الديني (الأنا):

السقوط في البئر: تناص مع قصة سيدنا يوسف عليه السلام في القرآن الكريم.

انفضّ الأولاد: تأكيد يوضح التناص مع القرآن فهو دلالة على الترك والتخلّي وهذا ما فعله إخوة يوسف بعد رميه داخل الجُبّ.

لفظة مئذنة ـ الساعة قاربت: تناص مع قوله تعالى: "اقتربت الساعةُ وانشقّ القمر".

القمر ـ الفجر: دلالة على الوقت الذي يقترب فيه الإنسان المتعبّد من ربّه من أجل التقرّب إليه، وهو الوقت الذي ينزل فيه الله تعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل لحظة المناجاة والدعاء، فيقول: هل مِن داعٍ أستجيب له .

لفظة يأوينا: من المأوى وهي الجنّة بالنسبة للمتصوّف والمتعبّد، وجنّة المأوى تحمل دلالة الطمأنينة والبحث عن الراحة النفسية والروحية وكذا السكينة والهدوء.

وردا وفراتا ونخيلا: وصف لتلك الجنّة.

الحرف: بُعد خاص بالمتصوّفين.

كذلك ورورد ألفاظ أخرى مثل: الله ـ الشمس ـ الظلمة، فالله هو المُتَعبَّد ـ  الكامل، والشمس هي اليقين والوضوح أما الظلمة فهي الوقت الذي تختلي النفس فيه بنفسها وربّها.

المعجم الطبيعي (الأنت): معجم مستعار من حقل الطبيعة مثل:

الوردة: الجمال ـ النظارة ـ الحبّ ـ العاطفة ـ الأمل ـ الحياة ـ الشباب ـ الرغبات.

الرماد: الحزن ـ الاغتراب ـ الاضمحلال ـ الفناء ـ البعث.

الشمس: الأمل ـ النور ـ الدفء ـ الحبّ ـ الضياء ـ الوضوح.

الفرات: العذوبة ـ الصفاء ـ الخير ـ الخصب ـ النماء ـ الحياة.

النخيل: العطاء ـ الشموخ ـ الصمود.

إذن فالمعجم الطبيعي ينطبق على بدر شاكر السيّاب (الآخر).

والمعجم الديني ينطبق على أديب كمال الدين (الأنا).

سيميائية الخطاب:

نجد أن الضمير الطاغي في القصيدة وخاصة في بدايتها ضمير المخاطب مثل: نَمْ ـ عينك، يأويك ـ يا عيني ـ كفّك. وهي دالة على الأنت، أما الأنا فقد جاءت في صيغة الجمع دلالة على الوطنية والشعور القومي مثل: يأوينا ـ أتعبنا ـ أضافرنا ، وهذا ما يحدث توازنا في القصيدة، إذ يدلّ على الاندماج والتفاعل بين الأنا والأنت، بين المبدع والقارئ بين المتصوّف والمتحرر، إذ تردان في التحام وانسجام، وهنا الشاعر يدعو القارئ إلى إلغاء المسافات بأن يغوص بعمق في النصّ لاكتشاف المعنى المفقود من أجل تقليص الهوّة بين المبدع والمتلقّي، والدليل على ذلك صفة الإيثار حيث بدأ الشاعر قصيدته بذلك الإهداء البسيط ليجعل النصف الأول منها تتحدث عن الآخر/الأنت ليخصص النصف الثاني للأنا/الذات.

سيميائية الصور البلاغية:

نجد في القصيدة توظيفا مكثّفا للصور البيانية والمحسنات خدمة للمعاني المضمرة في النص.

1ـ الكناية: الجري وراءَ السنوات: كناية عن الضياع واتساع الهوة بين الشاعر والقارئ، فهو جري وراء معنى هامشي أو مفقود داخل النصّ الحداثي أو المعاصر، معنى ليس من السهل الإمساك به.

2ـ أضحتْ عينُكَ مئذنةً ورماد: الرماد لون الحياد والمئذنة رمز للعبادة والنسك، أما العين رمز للذاتية والرؤية والتبصر والوضوح. إنّ الحياد يطلبه الكاتب من القارئ عند قراءته للنصوص الإبداعية، بغية إنتاج نصّ آخر عن طريق التأويل حتّى يكتسب النصّ معاني متجددة مع تجدّد قراءته.

المستوى الدلالي:

نتساءل هنا: هل خدمت المستويات السابقة هدفَ الكاتب؟

إنّ النصّ بأصواته وتركيبه اللغوي والبلاغي يتوافق إلى حدّ كبير مع بؤرة المقصدية المتمثلة في ثنائية الأنا/الآخر أو الكاتب/القارئ، وعليه فالخطاب لم يكن موجها إلى بدر شاكر السيّاب فحسب بل إلى كل قارئ تبنى مذهبه حتّى يكون قارئا معاصرا حياديا يتطلع إلى جميع الأذواق والمذاهب الأدبية فلا يخضع نفسه لسلطة المذهب أو العقيدة أو الفكر المحدود. إنها دعوة للانفتاح على مختلف العوالم مع الاحتفاظ بمثالية الذات للذات فحسب.

ومن هنا يتضح أن البنية السطحية للنصّ هي ثنائية الكاتب/المتلقّي والناتجة عن بنية عميقة تتمثّل في ثنائية السلطة/المثقف، فالشاعران عراقيان يتقاسمان نفس الهوية الوطنية ونفس الهموم، يعيشان نفس الظروف السياسية بالرغم من الاختلاف بينهما، يعيشان قمع سلطة همشتهما وأجبرت الجميع على الخضوع إليها، فأديب كمال الدين دعا جميع طوائف البلد إلى التكاتف ووضع حدّ للخلاف الواقع من أجل ضمان حرية الذات والوطن وهذا ما دعا إليه السيّاب من قبله.

إن السيّاب وأديب كمال الدين رغم اختلافهما الفكري إلا أنهما خضعا إلى سلطة اللغة الثورية المناقضة للسلطة السياسية، فاللغة جمعت بينهما كما الوطن الواحد، وإذا دققنا النظر نجد بينهما خصائص مشتركة في الكتابة الشعرية تتمثّل فيما يلي:

-       إن كليهما يستخدمان اللغة المكثفة باعتبارها عنصرا إبداعيا بدل التعبير السطحي المبتذل، لذلك نجد لكل كلمة دلالات مختلفة .

-       التكرار: بالعودة إلى أنشودة المطر للسيّاب نجد أن التكرار عنصر طاغ في القصيدة، وكذا الحال مع قصائد كمال الدين في قصيدة أرق وإشارة طريق كنموذج على كتابة كل منهما، يقول السياب: مطر ـ مطر ـ مطر... ويقول كمال الدين: نمْ ـ نمْ ـ نمْ.....

والتكرار في القصيدة المعاصرة لانفعال الذات وتفاعلها مع الآخر أو مع ما يحيط بها من ظروف واحتمالات.

-       كلاهما يستخدم التناص والسرد واستعمال الأقنعة وتوظيف الرمز والتراث.

-       كل هذه الأساليب طرق يختفي وراءهما الشاعر للتعبير عن مواقف معينة فتسمح للقارئ المتذوق بأن يتعرّف على اهتمامات الطبقة المثقفة ومشاركة همومها.

   - بالعودة إلى عنوان القصيدة المؤلف من ثلاثة حروف نجده دال على ثلاثية الرؤيا:

الكاتب : المثقف.

النصّ : الرسالة أو الإبداع (السلطة الأدبية).

القارئ: المبدع الثاني أو الناقد.

لتختزل في ثنائية النص/القارئ أو المثقف/السلطة.

******************************************

 أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلّد الأول، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، 2015، ص 234

عطية راضية: ناقدة جزائرية

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home