التشكيل الجمالي في أسلوب التقطيع

 

 في مجموعة (في مرآة الحرف) للشاعر أديب كمال الدين

 

 

 

 

 

 

سمير عبد الرحيم أغا

 

 

 

 

     في مجموعته الشعرية الجديدة (في مرآة الحرف) يواصل الشاعر أديب كمال الدين مسيرة  الحروف التي بدأها منذ مجموعته الشعرية الثالثة (جيم) وكأنه اكتشف منجما جديدا وظّف فيه طاقاته الجمالية وأسس فيه نمطا شعريا جديدا ووسيلة من وسائل التجديد الشعري .

يكثف الشاعر لوحاته التعبيرية المدهشة لعالم النص من خلال جماليات عديدة ومن أبرز التجليات الجديدة في القصيدة : قصيدة المقاطع التي تقسم إلى مقاطع ربما تطول أو تقصر حسب رؤية الشاعر، وهناك القصيدة المرقمة أو المعنونة داخليا. وقد جاءت القصائد التي أخذت شكل الديوان بأرقام واستقلت بمعان مختلفة أو مترابطة مع بعضها ودخلت في النسيج العام، وقصيدة المقاطع هي المقسمة إلى أجزاء معنونة أو مرقمة، ولعل أكثر أساليب الفصل في القصيدة الحديثة ذات البنية المقطعية شيوعا هو أسلوب الفصل بالأرقام أي ترقيم القصيدة إلى  مقاطع، ابتداء من الرقم (1) وحتى آخر رقم تنتهي به مقاطع القصيدة .

فبنية التقطيع هي  القصيدة التي تتكون من أكثر من مقطع واحد ويقوم الشاعر باعتماد أسلوب ترابطي معين بين مقطع وآخر حسب التجربة الشعرية التي ينطوي عليها معنى القصيدة .

   إن معظم قصائد أديب كمال الدين في المجموعة  عبارة عن مقاطع  أو قصائد قصيرة، وقد احتلت مساحة المجموعة وأعطت فضاء القصائد : المقاطع المتعددة في النص الواحد كي تمثل جزئيات مكملة للنص الكلي الرئيس.

إن اللجوء إلى كتابة القصيدة المقطع أو القصيدة المرقمة في أجزاء تفرضه حالات عديدة على الشاعر كالحالة النفسية أو الاجتماعية أو السياق العام للنص الشعري ومن ثم الانتقال من مقطع شعري إلى مقطع شعري آخر لنقل فكرة ما أو رأي مكمل دون الخروج عن السياق العام أو الهدف الفكرة الذي يرجوه الشاعر في النص. وهذا الانتقال في النص يؤدي إلى تكثيف الصور الشعرية وتنويع الإيقاع الشعري وهو ما يغني النص ويفيد القارئ من جهة أخرى. وليس كل مَن كتب القصيدة المقطع كتبها عن وعي أو رؤيا فنية إذ ان الكثير من الشعراء يكتبوها تقليدا أو اتباعا للسائد، والقصيدة المقطع قد تُكتب دفعة واحدة وتُقسّم لأنها تمثل العديد من الأفكار وقد تُكتب على فترات زمنية متقطعة لكن الخيط الشعري الرابط بين أجزائها أو مقاطعها متوحد ، ولابد من الكشف عن التشكيل الجمالي والتعبيري لدلالة التقطيع الرقمي عبر معاينة التحولات الأسلوبية والايقاعية والرمزية والتشكيلية التي تقدمها المقاطع المتلاحقة تحت ضغط التلاحق الرقمي الحسابي المنتظم مع مراعاة الفضاء الرياضي الذي يمكن تتركه الأرقام على النص الشعري فضلا إلى أن كل قصيدة مقطعة تقطيعا رقميا لها تجربتها الخاصة، وقد ترتبط بسمات مشتركة متأتية من  الفضاء الحسابي للأرقام المتتابعة تتابعا آليا منتظما .

إن علامات الترقيم والفصل تمثل عنصرا مهما في النظام الطباعي للقصيدة وخاصة الحديثة، إذ "تتحول من مجرد محدد لعلاقات المفردات في الجملة إلى محدد للعلاقات بين أجزاء النص ككل 1

وهناك أسلوب آخر هو أسلوب العنونة الداخلية، إذ تأخذ المقاطع المتلاحقة عنوانات مستقلة داخل النص الشعري أي نسيج عنواني عام  يخضع لسلطة عتبة عنوان مركزي في القصيدة.

وتفيد بنية التقطيع كثيرا في تقنيات ( المونتاج ) في الفن السينمائي الذي هو في المصطلح السينمائي "( فن ترتيب اللقطات السينمائية بعد تصويرها وبمعنى ترتيب المقاطع واللقطات ) 2.

 وقد أفاد الشاعر أديب كمال الدين من إنجازات التقانة السينمائية ووظفها توظيفا أسلوبيا في الكثير من قصائده معتمدا في جعل ترابط كلي بين المقاطع وفي هذا البحث سنأتي إلى أهم أشكال بنية التقطيع في شعر أديب كمال الدين ونماذج  هذه القصائد في مجموعة " في مرآة الحرف"  كثيرة،  مثل قصيدة "قال الذئب: أنا هو البحر" المتكونة من  (30) مقطعا ، وقصيدة "طائر الحرية " المتكونة من (9) مقاطع، وقصيدة "أين أنتَ أيّها الحرف" المتكونة من (8) مقاطع،  وقصيدة قصيدة  " إذا " المتكونة من (27) مقطعا:  

 قصيدة "إذا" من مجموعة ( في مرآة الحرف) ص 53

 1.

إذا كانت النقطةُ هي الرصاصة،

فَمَن يكون الحرف:

أهو القنّاص

أم القلب الذي استقرّتْ فيه الرصاصة

إلى الأبد؟

2.

إذا كانت النقطةُ هي الأسطورة،

فَمَن يكون الحرف:

أهو كلكامش

أم أنكيدو

أم الأفعى التي سرقتْ عُشبةَ الخلود؟

3.

إذا كانت النقطةُ هي الموت،

فَمَن يكون الحرف:

أهو التابوت

أم القبر

أم الميّت الذي أُهيلَ عليه التراب؟

4.

إذا كانت النقطةُ هي الحرب:

فَمَن يكون الحرف:

أهو السيف

أم القُنبلة

أم ذاك المُلثّم القادم مِن بعيد؟

5.

إذا كانت النقطةُ هي القاعة

فَمَن يكون الحرف:

أهو المُعلّم

أم المُهرّج

أم الطبّال؟

6.

إذا كانت النقطةُ هي الحقيقة

فَمَن يكون الحرف:

أهو حامل الحقيقة

أم ناشر الأكاذيب الذليل؟

7.

إذا كانت النقطةُ هي المَحبّة

فَمَن يكون الحرف:

أهو الكره

أم الحقد

أم السمّ في العسل؟

8.

إذا كانت النقطةُ هي حلمي

فَمَن يكون الحرف:

أهو عَبَثي

أم حائط عَبَثي

أعني قصيدتي العارية؟

9.

إذا كانت النقطةُ هي طيبتي

فَمَن يكون الحرف:

أهو تردّدي

أم ارتباكي

أم سَذاجتي؟

10.

إذا كانت النقطةُ هي القلم السرّيّ

فَمَن يكون الحرف:

أهو كتاب الموتى الذين يذهبون

فلا يرجعون

أم كتاب السَحَرة

الملآن بالضحكِ والتُرَّهات؟

11.

إذا كانت النقطةُ هي الفراغ

فَمَن يكون الحرف:

أهو ثقب الفراغ

أم فراغ الثقب؟

12.

إذا كانت النقطةُ هي الجريمة

فَمَن يكون الحرف:

أهو القاتل

أم الذهب

أم الدم؟

13.

إذا كانت النقطةُ هي الوردة

فَمَن يكون الحرف:

أهو العاشق الذي قبّلها بلطفٍ عميق

أم العابر الذي قَطَفها لاهياً؟

14.

إذا كانت النقطةُ هي ليلة العيد

فَمَن يكون الحرف:

أهو حذاء العيد

أم دراهم العيد

أم فجره السعيد؟

15.

إذا كانت النقطةُ هي الملكة

فَمَن يكون الحرف:

أهو المَلِك

أم العرش

أم التاج والصولجان؟

16.

إذا كانت النقطةُ هي الزَّلزَلَة

فَمَن يكون الحرف:

أهو المُخلّص

أم المُشَعْوذ

أم الدجّال؟

17.

إذا كانت النقطةُ هي العُري

فَمَن يكون الحرف:

أهو التعرّي

أم الفضيحة

أم مقصّ الرقيب؟

18.

إذا كانت النقطةُ هي الأرق

فَمَن يكون الحرف:

أهو الهذيان

أم التعب

أم الفجر الذي ضيّعَ العنوان؟

19.

إذا كانت النقطةُ هي المرأة

فَمَن يكون الحرف:

أهو الجسد العاري

أم تفّاحاته الأربع

أم المُشاهد المَذهول؟

20.

إذا كانت النقطةُ هي أنتِ

فَمَن يكون الحرف:

أهو قلبي الغاطس في دمه

أم رأسي المحمول على الرماح؟

21.

إذا كانت النقطةُ هي السؤال

فَمَن يكون الحرف:

أهو الذي قال:

بلى ولكنْ ليطمئنَّ قلبي،

أم الذي قال:

إنْ هيَ إلّا فِتنَتُك؟

22.

إذا كانت النقطةُ هي زليخة

فَمَن يكون الحرف:

أهو يوسف

أم قميص يوسف

أم البرهان الذي رآه يوسف؟

23.

إذا كانت النقطةُ هي النخلة

فَمَن يكون الحرف:

أهو السلام

أم حلم السلام

أم المُتكلّم في المهدِ صبيّاً؟

24.

إذا كانت النقطةُ هي البحر

فَمَن يكون الحرف:

أهو نوح

أم سفينة نوح

أم غراب نوح وحمامته؟

25.

إذا كانت النقطةُ هي التُفّاحة

فَمَن يكون الحرف:

أهو آدم

أم حوّاء

أم الذي وسوسَ لهما

آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار؟

26.

إذا كانت النقطةُ هي اللعنة

فَمَن يكون الحرف:

أهو الوطن الذي يعدُّ عليكَ أنفاسَك

أم المنفى الذي يعدُّها

ويسجّلُها أوّلاً بأوّل؟

27.

إذا كانت النقطةُ هي النقطة

فَمَن يكون الحرف:

أهو الباء

أم الجيم

أم النون

أم الجنون؟

  تتألف  قصيدة (إذا)  من (27) مقطعا كما رأينا. تنطوي عتبة العنوان على دلالات واضحة في  بنية التقطيع "إذا" وهي تأخذ النقطة والحرف من فضاء الدلالة، فكل مقطع يبدأ بجملة "إذا كانت النقطة" التي تتكرر في بداية المقاطع حتى المقطع الأخير "إذا كانت النقطة هي النقطة " . هكذا فالتكرار يتموج في جمالية النقطة والحرف ، فإذا كانت النقطة هي الرصاصة ، الأسطورة ، الموت ، الحرب ، القاعة ، الحقيقة ، المحبة ، الحلم ، الطيبة ، القلم السرّيّ، الوردة ، الجريمة ، ليلة العيد، الملكة ، الزلزلة ، العري ، الأرق ، المرأة ، أنت ، السؤال ، زليخة ، النخلة، البحر، التفاحة ، اللعنة، وأخيرا النقطة هي أسماء وصفات تتجول مع النقطة في نص شعري جميل لتتجلى اللقطات في حركة الحرف في فضاء تخيلي وإيمائي محدقة في الموت / البحر.

   إن مقاطع هذه القصيدة ليست نمطية تقود الشاعر إلى تكرار استخدامه الحروف الذي امتد إلى أغلب نصوصه الشعرية، فتكرار الألفاظ خلق التدوير من الحلم إلى الموت، من المرأة إلى البحر، من الرصاصة إلى النقطة، كأنه ينشأ حوارا جميلا بين النقطة والحرف بتداعيات مكتملة للمقاطع الشعرية من البداية إلى نهاية القصيدة . هنا التكرار اللفظي يكسب النص صفة الإنشاد بالنسق الإيقاعي ويمدد النسق بحركة الحرف دون الخروج عن المعنى، ويسعى إلى إكساب هذا المعنى روحا للحرف والنقطة ، كما استثمر الشاعر هذه المقاطع في ختام صور حروفية بين الحرف والنقطة بعد تفجير طاقتها الجمالية والتعبيرية . وقد تجلى الحضور الفعلي  في سلسلة استفهام "مَن يكون الحرف؟" في كل مقاطع القصيدة وصولا إلى استفهام عن النقطة. وتظل صورة النقطة بصفات عديدة لكل مقطع صفة يمكن أن تعبر تصويريا عن خلفيات المشاهد وزواياه في فرض حالة استفهام سلبية  للتشكيل الدلالي للصورة ، حيث تتقاطع الصور والمشاهد لتكشف هوية النقطة والحرف: (إذا كانت النقطة هي الموت .. فالحرف هو التابوت أو القبر أو الميت ..). وهكذا يستمر الاستفهام في تصارع مستمر مستفسرا عن مصير النقطة والحرف حتى تتوقف القصيدة عن الكلام أو تتوارى حيث يتعطل المشهد ويتعطل الزمن وكذلك الحدث .

وفي قصيدة " قال الذئب : أنا هو البحر! "ص 19  

 1.

كانَ الذئبُ يمشي على شاطئ البحر

حينَ استغاثَ به الغريق.

ضحكَ الذئبُ ممّا يرى.

لكنَّ الغريق صرخ:

أنقذني من البحر!

ضحكَ الذئبُ ثانيةً وقال:

أنا هو البحر!

2.

أنْ تُطلقَ النارَ على رأسِك

أهون مِن أنْ تكتبَ القصيدةَ ذاتها

ألفَ مَرّة

بحرفٍ واحد

ونقطةٍ واحدة.

3.

الحريقُ يتكرّر.

النارُ تبزغُ هذي المرّة

من النافذةِ أو من الجدار.

لكنّها ليست النار التي عرفتُها،

فالنار لبستْ ثياباً تنكّريّة

لا يخرجُ منها اللهبُ أو الدخان

لكنَّ لسعتها، بالطبع،

أشدّ ضراوة ووحشيّة.

4.

ماتَ كاتبُ الشيزوفرينيا

بعد أنْ بلغَ من العمرِ عِتيّا.

كانَ يتحدّثُ عن الحُبِّ ويمارسُ الكراهية،

كانَ يترجمُ للعُشّاقِ ويرقصُ مع الجلّادين،

كانَ يبكي أمامَ الله

ليرفع نخبَه عالياً للطاغية.

5.

في شبابي

حزمتُ حقائبي

لأسافرَ إلى بلدِ غوته وشيلر.

لكنَّ المعريّ ذكّرني بعماه وعماي،

وديك الجنّ قرأَ عليَّ سرّاً

مرثيتَه المُرعبة،

والسيّاب أربكني بجوعه وإفلاسه،

فهجاني الحُطيئة،

بعدَ أنْ نسيتُ أمرَ السفرِ إلى الأبد،

هجاني كما يقتضي الحال.

6.

عن مرآتِكِ الكبيرة

كتبتُ الكثير

لأنّها علّمتني الكثير.

لكنني أحاول أنْ أنساها

وأنسى شظاياها المُتناثرةَ هنا وهناك:

في الفراشِ

وفوقَ الطاولة

وفي جوازِ السفر

وفي كتابِ أعمالي الشعريّةِ الكاملة.

7.

طاردتني كلابُ الدهرِ طويلاً في الصحراء،

لكنَّ مشهد القمرِ بازغاً سَحَرني

فوقعتْ قصيدتي فريسةً للمُطاردةِ الوحشيّة

والتأمّل الفضّيّ.

8.

أنْ تكونَ من دونِ قدمين

ويُطلَبُ منكَ كلّ يوم

أنْ تمشي على حبلِ السيركِ الشاهق

وتحتكَ النار والطبول والجمهور:

تلك هي القصيدة.

9.

لا تضعْ لقصائدكَ أرقاماً ولا عناوين

لأنّ حروف قصائدك

مُتشابهة حدّ اللعنة

مثلما قطرات دمِكَ مُتشابهة هي الأخرى

حدّ اللعنة.

10.

أتذكّرُكِ:

كنتِ هنا تمشين،

وأحياناً تكتبين كلماتِ الأغنية

وأحياناً تتعرّين

وأحياناً تحاولين الإصغاءَ إليّ

وأحياناً تنامين بجانبي كقطّةٍ مُتعَبة.

أتذكّرُكِ جيّداً

بأسمائكِ التي لا تنتهي

وبوجوهكِ التي لا حصر لها،

أتذكّركِ حدّ النسيان.

11.

يحاولُ الشِّعْرُ أنْ ينقذني ممّا أنا فيه.

أشكرُهُ كثيراً

وأحاولُ أنْ أصافحه فأمدّ يدي

فأنتبه إلى أنَّ أصابعه

أصابع مُتشرّدٍ

ينامُ في الشارعِ عارياً،

عارياً تماماً.

12.

الموتُ لا يشبهُ الذئبَ ولا الأفعى،

الموتُ يشبهُ نَفْسه فقط.

ذلك هو بيتُ القصيد.

13.

صور الموتِ التي يعرضُها التلفزيونُ كثيرة:

الموتى في كلِّ مكان،

في الشوارعِ والمقابرِ والشققِ السكنيّة،

في وفي وفي...

حتّى بدأتُ أشكُّ بأنَّ هذه الصور

هي إعلان تجاريّ لشركةِ عزرائيل الكبرى.

14.

لم يبقَ منكِ شيء

سوى شظايا حلم.

أجمعُها فوقَ سريري كلّ صباح

بلطفٍ شديدٍ

لأنّها عبارة عن رمادٍ خالص.

15.

طوالَ حياتي لم أفعلْ شيئاً

سوى أنني تركتُ جسدي الجريح

ينزفُ وهو يغرقُ في الفرات،

يغرقُ أمامَ عيني

كطائرٍ ميّت.

16.

في زمننا المُعَولَم

توقّف الشاعرُ عن الحلم،

فتوقّفت القصيدة

عند إشارة المرور الحمراء طويلاً

حتّى قيلَ إنّها أخذتْ تتسوّلُ من العابرين.

17.

حينَ استلمتُ مجموعتي الجديدة

اكتشفتُ أنَّ الناشرَ قد وضعَ اسمي

كعنوان للقصيدة،

ووضعَ القصيدةَ كعنوان للحرف،

ووضعَ الحرفَ كعنوان للنقطة،

ووضعَ النقطةَ كعنوان لي.

18.

كيفَ لي أنْ أكفكفَ دموعَكِ

وأنا الأخرسُ الذي خُلِقَ من دونِ يدين

ولا قدمين؟

19.

كلُّ حرفٍ هو أبجديّةٌ من الألم.

20.

كلُّ حرفٍ هو أبجديّةٌ من الشمس.

21.

كلُّ حرفٍ

لا يتبسملُ بمحبّةِ الذي يقول

للشيء كنْ فيكون،

ليسَ بحرف.

هذا ما قاله الشاعرُ الذي أقاموا له

تمثالاً كبيراً من الحسدِ والكراهية.

22.

حينَ امتلأَ قلبي بالجمر

فاحتْ رائحةُ القصيدةِ بالشوق.

23.

حينَ أُلقِيتُ على بابكِ مَجنوناً

ضربني العابرون بالحجارة

حتّى سال منّي الدم

ثُمَّ نصبوا لي صليباً مِن الهذيان.

24.

أرادَ صديقي الناقدُ أنْ يكتبَ عن قصائدي

فاكتشفَ أنَّ الكتابةَ عنها

تشبهُ السيرَ على حبلِ السيركِ الشاهق

فوقَ النارِ والطبولِ والجمهور.

فارتبكَ

وهو لم يزلْ على بابِ السيرك

وبيده بطاقة الدخول.

25.

كيف تستطيعُ أنْ تصفَ الغابة

دونَ أنْ تذكرَ فيها أسماءَ الشجرِ والزهور

ودونَ أنْ ترسمَ ريشَ الغرابِ والحمامة؟

كيف؟

26.

في الغربة

انتهتْ أحلامي كلّها،

فاضطررتُ إلى أنْ أرتّقَ أحلامي العتيقة

واحداً واحداً.

وكلّما رتّقتُ حلماً قبّلتُه

كما يقبّلُ العاشقُ معشوقتَه

ثُمَّ ألقيتُه بهدوءٍ في البحر. 

27.

حينَ قرّرَ مُعدُّ الأنطولوجيا

أنْ يختارَ لي قصيدةً،

اختارَ لي قصيدةً قديمة،

قديمةً جدّاً.

لا أعرفُ لماذا اختارها:

ألِأنّها كانتْ موشومة بدمِ أنكيدو

ودموعِ كلكامش؟

28.

بعدَ خراب البصرة

وخراب بغداد

وخراب روما

وخراب سدني،

جلستُ بهدوءٍ أرتّبُ حياتي.

29.

قالتْ لي القارئةُ العاشقة:

قصائدُكَ ذات صورٍ لا تُنسى

وبحرُها غامضٌ ومُخيف،

لكنّها لا تصلح للحُبّ.

لأنّ قصائدَ الحُبّ

ينبغي أنْ تكونَ بسيطةً حدّ السذاجة

وعاريةً حدّ الهذيان.

30.

لكثرةِ ما أرى الغربانَ في أحلامي

قرّرتُ أنْ أصبغَ ليلي

باللونِ الأبيض!

 اعتمد الشاعر بنية التقطيع الرقمي في القصيدة  المتكونة من ( 30) مقطعا  أو لقطة. والمقطع الواحد ينفصل عن الذي يليه في تأويله ، ولا يعبر عن النص مفردا بل يعبّر مجتمعا مع غيره من المقاطع ، لتنتج فضاءات شعرية قائمة على التسلسل  في النمو الدلالي للمشاهد وهو ما يناسب توسيع الحدود الشعرية للمعنى .

إن معاينة هذا المشاهد - الحكاية - تكشف عن احتوائها على لقطات سريعة تؤلف مراحل تطور الصور الشعرية لدى  أديب كمال الدين   أو كأنها تؤلف مراحل تطور مسيرة حياة الشاعر وما يدور حوله ( طوال حياتي لم أفعل شيئا ) فاللقطة الأولى المتفتحة على الفضاء المكاني " كان الذئب يمشي على شاطئ البحر " تضع الشاعر على عتبة عنوان دلالي وانفتاح حكائي " ضحك الذئب مما يرى" ثم ما يلبث أن ينعطف على صورة اخرى لاحقة تنحرف الحكاية إلى بؤرة تمركز دلالي " لكن الغريق صرخ : انقذني من البحر!". ثم ما تلبث هذه اللقطة أو الصورة أن تتفتح على لقطة أخرى تشترك بها الحكاية في مشهد تصويري مشدود :

"ضحكَ الذئبُ ثانيةً وقال :

أنا هو البحر !"

حيث تختتم الحكاية في سياقها الحدثي ، لتكشف على لقطة استفهامية مفتوحة يسأل فيها الذئب : أنا هو البحر.

 تعدد المقاطع يؤدي إلى تعدد المعاني والدلالات وهو ما يسعى اليه الشاعر أديب كمال الدين "الذي يؤكد على ثبات النص الشعري وتفسير المعنى الذي يكمل بعضه البعض حيث شكل المقطع الشعري رقم واحد". كان الذئب يمشي على شاطئ البحر "

 خلاصة النص

لقد كُتب النص الأول بأسلوب سردي حواري بين الغريق والذئب وهي "قصة ومضة" وهي نوع من أنواع القصة القصيرة ، كانت النهاية فيها واضحة البحر هو الذئب، والغريق لم يجد سوى البحر يستنجد به  رمز لصورة شعرية جميلة، ولهذا كان هذه المقطع عنوانا للقصيدة .. الشخصيات تتناسخ لتحل الواحدة في الأخرى . إن ثالوث الشعر والحب والموت يتكرر ليصف قيمة كتابة القصيدة وكتابة الأغنية  وصولا إلى أعماله الشعرية الكاملة  في المقطع رقم 13. معاينة دقيقة لهذا المقطع نكتشف مجموعة لقطات تؤلف مراحل تطور الحكاية ونموها فالبداية (صور الموت التي يعرضها التلفزيون كثيرة) تضع الموت في تحرك كبير لمسيرة الإنسان الحالي حيث "الموتى في كل مكان". عناصر الصورة تتكاثر كالموت يشترك فيها "عزرائيل"، كدلالة الموت. المكان والزمان يسيران بالحدث إلى مجموعة لقطات وكل لقطة تأخذ عنوانا مستقلا داخل عتبة العنوان الكلي  .

وفي المقطع السابع عشر،  يقول :

حينَ استلمتُ مجموعتي الجديدة

اكتشفتُ أنَّ الناشرَ قد وضعَ اسمي

كعنوان للقصيدة،

ووضعَ القصيدةَ كعنوان للحرف،

ووضعَ الحرفَ كعنوان للنقطة،

ووضعَ النقطةَ كعنوان لي.

مقطع  كُتب بلغة سردية : "حين استلمتُ مجموعتي الجديدة .... وضع النقطة عنوان لي". في كل مقطع رؤية مختلفة عن الأخرى وبعضها يتحدث عن أسلوب كتابة القصيدة "لا تضعْ لقصائدك أرقاما وعناوين"، وفي مقطع آخر يقول: "حين امتلأ قلبي بالجمر فاحتْ رائحةُ القصيدة"، قصائدك ذات صور لا تُنسى أيها الشاعر، ولحظات انهمار الحروف توحدها لتكون كائنا واحدا، وهي باختصار تهيّئ الولوج إلى عالم أديب كمال الدين الشعري المتفرّد الذي حين تقرأ شعره تجده طفلا يتوق إلى الحديث عن الحب والمرأة والدهشة، وفي كل الأحوال يعود للحرف والنقطة  التي دأب على استثمارها في قصائده. وفي المقطع الأخير يتجلى السرد الشعري القصصي أو ما تسمى القصيدة الومضة :

المقطع رقم 22

"حينَ امتلأ قلبي بالجمر

فاحتْ رائحةُ القصيدةِ بالشوق ".

وحتى في أحلامه تتردد الغربان في حياته وهي نذير غير مرغوب فيه لأنها تدل على السواد والخسران، وهي صورة قصة قصيرة جدا كُتبت بأسلوب السرد القصصي:

المقطع رقم 30

"لكثرةِ ما أرى الغربانَ في أحلامي

قرّرتُ أنْ أصبغَ ليلي

باللونِ الأبيض!"

     أخيرا يمكنني القول: إن ديوان " في مرآة الحرف " يترك في المتلقي أثرا فاعلا من خلال تقنية بنية التقطيع والإيقاع والسمع والجمالية العالية، رغم أن الشاعر قد قال في المقطع التاسع من قصيدة (قال الذئب: أنا هو البحر)  ص 22

"لا تضعْ لقصائدكَ أرقاماً ولا عناوين

لأنّ حروف قصائدك

مُتشابهة حدّ اللعنة

مثلما قطرات دمِكَ مُتشابهة هي الأخرى

حدّ اللعنة".

لكن في ظل هيمنة التقطيع في الديوان فإنه ينجح في توظيف هذه التقانات لخدمة الصور الشعرية في القصيدة ويذهب لوضع أرقام  لقصائده ليوظف الطاقة الجمالية لشعره . نحن ازاء عمل جديد بدلالة النسيج اللغوي التأملي  بُني على تقطيع القصائد، وعلى تنوع الشكل، وتعدد العناصر، وتعدد الصور والمشاهد ، والنزوع إلى توسيع آفاق المتلقي، وترك بصمات واضحة ستبقى نجمة مضيئة في تجربة أديب كمال الدين المتفرّدة وستمنحه أعظم أدوات الشعر.

...................................................................................

في مرآة الحرف ، أديب كمال الدين ، منشورات ضفاف ، بيروت 2016

 في البحث عن لؤلؤة المستقبل ، د سيد البحراوي ، دار شرقيات ، القاهرة ، 1996 ص 47

 الأداء الفني والقصيدة الجديدة، د. رجاء عيد ، مجلة فصول، المجلد 7، العدد 1 - 2 ، 1987 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home