قراءة في مجموعة: "أقول الحرف وأعني أصابعي" للشاعر أديب كمال الدين

الحرف لقول ما عجز عن قوله الشعراء جميعاً!

                                                        

فيصل عبد الحسن*

      عندما تكون القصائد الشعرية كالريح المزمجرة التي تداهمنا في فراغ حياتنا، ونجد فيها صدى لخيباتنا ونجاحاتنا، فرحنا وحزننا، ونسمع صوتها المدوّي يصل إلى أعماق قلوبنا، التي لا تزال تردد حكايات أوشكنا أن ننساها عن حبنا الأول، ضعفنا الأول، ركضنا ولهاثنا من أجل مستقبل هلامي، كلما اقتربنا منه تبخر مرة واحدة، وظهر لنا بشكل مخادع في مكان أخر، حين تكون القصائد كذلك، فمعنى هذا أن النجاح كان حليف شاعرها، فقد أوصل صوته الشعري إلى قارئه، وأستطاع أن يجد له مكانا في حياته، وفي قلبه المكلوم. وستبقى ذكرى تلك القصائد طويلا، لأنها ستكون نوعاً من السلوى للتخفيف عما أصابه من انكسارات القلب والروح.

   أربعون قصيدة تتالت في الديوان الجديد الذي صدر بداية العام الجديد 2011 للشاعر أديب كمال الدين، لتروي لنا بلغة الشعر النائحة ما عاشه كلُّ عراقي خلال أربعة عقود ماضية، وكأنّي بالشاعر في ديوانه الجديد قد عمد إلى ربابة ذلك البدوي، الذي كان يجوس في مدننا  الواقعة على حواف الصحارى بآلته الغريبة، حين كان يقف في باب كل بيت لينوح عنده دقائق قليلة من عمر الزمن، وبوتر ربابته الوحيد، يحكي لنا عن حبيبة هجرته، أو ذكرى أفتقدها، وحياة هانئة ضاعت منه، وأهل تركوه للمنفى والحزن والفقر البغيض، لم يكن ذلك البدوي يستجدي الطعام ولا اللباس، ولم يذكر ذلك مرّة واحدة في كل جولاته الحزينة تلك، التي كان يفرق فيها علينا ألحانه، كما يفرق بائع الحلوى قطع الحلوى الملفوفة ببضع آهات روحه. أسمعه من خلال إحدى قصائد الشاعر ينوح:

"لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟

لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟

لماذا تركتهم يكذبون،

وأنتَ تعرفُ أنّهم يكذبون؟

أعرفُ أنكَ كنتَ شيخاً جليلاً

وأنهم – واخجلتاه- استغلّوا

ضعفكَ البشريّ

وبياضَ لحيتِك

ودقّةَ عظمِك.

أعرفُ هذا

وأعرفُ أنهم تركوني إلى الموت

قابَ قوسين أو أدنى

وأنّ الذئبَ كان أرحم من أراجيفهم".

 

   وتدور الصور الشعرية في هذه القصيدة دورة كاملة لتعود بنا مجدداً إلى عذاب المنفى، وظلم الأقربين. ونجد بين الكلمات المنحوتة، والمرددة على وتر الربابة الوحيد، ما يتراءى لنا من خلالها، قصة سيدنا يوسف، بكل حمولتها الدرامية، وفجيعة ما حدث لطفل خذله أبوه، فتركه لأخوته القساة، بالرغم من عدم تصريح الشاعر باسم من تدورعليه الدوائر في هذه الحكاية، والشاعر كما في قصائد أخرى كثيرة في الديوان لا يميل إلى تسمية ضحايا هذا العالم سوى أسماء قليلة استثناها من الإخفاء، لضرورات فنية، تندرج ضمن تقنيته الشعرية التي يتفرد بها من بين شعراء جيله، أو حتى الأجيال التي سبقته، لأغناء قصائده بحوادث حقيقية، عرفها القراء قبل ذلك من خلال إهدائه ما كتب لأرواحهم: فنجد إهداءه للشاعر العراقي المعروف محمود البريكان من خلال نسجه لقصيدة على غرار "حارس الفنار" قصيدة الشاعر الشهيرة، التي شبهت في الأدب الشعري العراقي والعربي الحديث بقصيدة - الأرض الخراب- للشاعر الانجليزي الشهير ت. س. إليوت " توماس ستيرنز إليوت " الذي فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1948، وقد جاء عنوان قصيدة أديب كمال الدين " حارس الفنار قتيلا" ونجتزئ منها قوله:

"اقلب المائدة

وحطّم الكؤوس

فلقد قُتِلَ حارسُكَ أيّهذا الفنار!

حارسُكَ الذي أنفقَ سبعين عاماً

جالساً تحتَ عرشكَ الوهميّ

وفوقَ ساحلكَ الوهميّ

يرقبُ السفنَ وهي تغرق

أو تتيه في الأزرقِ اللانهائيّ

ويرقبُ الموتى وهم يراجعون

لوائحَ أسمائهم

في جهنم باسمين يرتعدون

أو في الجنّةِ واجمين لا ينطقون."

 

 ويتبادل الشاعران الأمكنة فبينما ينتظر البريكان في قصيدته مجيء الزائر المجهول، بقوله: (أعددتُ مائدتي / وهيّأتُ الكؤوس/ متى يجيء الزائر المجهول؟) يفجعنا أديب كمال الدين منذ بداية القصيدة بقلبِ المائدة، لأن هذا هو الذي حدث في الواقع، إذ سيكون الزائر المجهول هو أبن أخت الشاعر، الذي سيذبح خاله، ليفوز بغنيمة هزيلة هي (دنانير قليلة) أدخرها الشاعر من خلال عمله في التدريس لأيام تقاعده، ولكن القاتل المنتظر لم يرحم شيخوخته، كذلك المُلقى في جُبّ البئر في قصيدة أديب كمال الدين السابقة.

   العالم الشعري الكبير الذي نهل منه أديب كمال الدين، ويصعب علينا في هذا الحيز الضيق الإلمام به، وإظهار مميزاته من كل جوانبه، لإعطاء الشاعر والديوان حقهما من الدراسة، ووضع القارئ على جميع مكامن الجمال والإبداع في الديوان،  فعالم الشاعر معقد وعسير على الفهم  من خلال حياة صعبة عاشها هذا الشاعر في طفولته، من خلال يتمه بفقدانه للأب، ومواجهته لصعوبات الحياة وفقرها في فترة الشباب، التي أضطر خلالها للعمل الصحفي، وبحثه الدؤوب عن حقائق يقينية في الحياة، والإدمان على التسكع، وحياة الفنادق الرخيصة، والبعد عن الأهل والعائلة، ليبني عصاميته الخاصة، التي ستورق فيما بعد قصائد حب وقصائد يتأمل فيها كل ماعاناه في حياته، وعاشه من مفارقات، واسمعه الآن يقول عن تلك الأيام في إحدى قصائد ديوانه الذي بين أيدينا:

"من شرفةِ غرفتي المُطلّة

على شارعِ السكارى

والحشّاشين والنساءِ العاريات،

كنتُ أطلّ كلّ ليلة

على جمهوري المخمور

لأحدّثه عن الله،

والمحبّة،

والسلام.

كان جمهوري صبوراً

لكنه كان يسخرُ منّي حين أغادر الشرفة".

 

    واسمعه يردد تحياته ل" شارلي شابلن" فنان عصر السينما الأول ومضحكها الأبدي:

"صباح الخير أيّها الكائن الصغير:

بالقبّعةِ المتحرّكةِ والعصا اللطيفة،

بالشواربِ الهتلريّةِ والمشيةِ المُسلّية.

صباح الخير يا أفلامي الجميلة التي غزتْ

دورَ السينما في كلّ مكانٍ وزمان.

صباح الخير أيّها النجاح العظيم،

أيّها الضحك والضحك والضحك حدّ الموت!"

 

      والشاعر وهو لم يفرغ من دراسته الجامعية بعد كان قد جرّب كل أنواع الخيبة، وتكلل بحثه دائماً بالفشل الذريع. وفي السبعينات حين جرّب الحصول عن حقائق الوجود وأسئلتها الوجودية، تلك التي بحث عنها من هم أكبر سنا وأكثر تجربة منه فلم يقعوا على أيّ طائل من وراء أسئلتهم الوجودية تلك، وبقيت حياتهم جافة تلوذ بظلال الآخرين، وهذا بالطبع يضاف إلى معاناته كمواطن عراقي عاش حياة العراقيين في السبعينات، الذين ابتلوا فيها بضرورات العيش في معسكر دائم للتجنيد!! حيث ترتهن الحياة ويصير ثمنها لا يتجاوز ثمن عيار مسدس أو بندقية، أو تقرير وشاية من أحد الحاقدين، والموسوسين.

   لقد شاءت المصادفات الغريبة أن أعيش صديقاً مقرّباً لهذا الشاعر سنوات كثيرة قبل أن تفرقنا المنافي، فشاءت الظروف أن أستقر إنا في بلاد عربية ويذهب هو بعيداً جداً في حزنه كما في قصائده دائما، وإلى أبعد بقعة ممكنة عن الفرات (الذي يرد اسمه كثيرا في قصائد هذا الديوان !!) ليحل منذ سنوات في بلاد الكنغر (أستراليا).

     هذا الشاعر الذي يذوب محبّةً في الشعراء الصوفيين: الحلاج (الذي يتماهي معه بقصيدة جميلة من قصائد الديوان) والتوحيدي والبسطامي والبوصيري وابن الفارض وجلال الدين الرومي، وغيرهم من الشعراء والكتاب والفنانين المعاصرين الذين أهداهم قصائده "كعبد الوهاب البياتي، رعد عبد القادر، مبدع الإخراج الدرامي الإذاعي العراقي مهند الأنصاري، نيكوس كانتزاكي (المعلم الأول لكتابة الرواية اليونانية الحديثة، من خلال الإهداء لبطله الأثير زوربا في رواية شهيرة له)، ولشارلي شابلن، مبتكر الصور الشعرية السينمائية.

      أديب كمال الدين الذي يتطلع دوما إلى رفد جديد الشعر العراقي، والذي أحير طويلا عما أراد في بعض قصائده، التي يبنيها على الطباق مرّة والرموز الشعرية مرّة أخرى، معتمداً على موسيقى شعرية متفردة لكل قصيدة من قصائده بعدما استعاض عن كتابة قصيدة التفعيلة بكتابة قصيدة النثر، وبعد أن كتب عدة دواوين شعرية  نالت نجاحاً كبيراً بين شعراء التفعيلة في السبعينات والثمانينات. فالشاعر كما عرفته محبّاً للحياة وكارهاً لها في الوقت ذاته، وقد كان محبّاً لكل ما يغنيه عن هذه الحياة ويبعده عن مباهجها، وكان دوماً يتوسّل بقصائده عوالم الجمال والحب، والمثال في كلّ ما يكتبه. لكنه كان حريصاً على أن يضع الحياة في كفّيه وأن لا يضعها في قلبه!! حتى لا يقع في حبائل المباشرة كما وقع غيره من الشعراء، فوجدوا أنفسهم في ضحالة الحياة، وضحية لما يردده الغير عن سخف حيواتهم، لقد أعتمد شاعرنا الحرفَ لقولِ ما عجز عن قوله الشعراء جميعاً.

***************************

* أقول الحرف وأعني أصابعي- الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت/ لبنان 2011

124 صفحة من القطع المتوسط. 

   فيصل عبد الحسن كاتب وصحفي عراقي مقيم في المغرب

 

الصفحة الرئيسية