قراءة في مجموعة "ديوان عربيّ" للشاعر أديب كمال الدين

“ديوان عربيّ”: بَدْءُ الانتقال الحاسِم من شاعريّة الطيف إلى شاعريّة الحرف

 

أ. د. مصطفى الكيلاني - تونس

 

 

1- مُواصلة نهْج السؤال لِمُقاربَة زمن البدايات .

الاستذكار نهْج لا يتوقّف عند “تفاصيل” بل يستمرّ بقصائد “ديوان عربيّ”، كأنْ تحرص الذات الشاعرة على مُواصلة نهج السؤال لمقاربة زمن البدايات. كذا تجربة الكتابة الشعريّة عند أديب كمال الدّين آنَ الابتداء هي فعل تذكُّر، محاولة استرجاع لما كان سَعْيًا إلى استقراء البدء، طفولة الاسم، طفولة المعنى، كـ”رؤيا” في “ديوان الأسئلة” من “ديوان عربيّ”:

“ إذْ رَأى خفقةً

تهبطُ الآن في الريحِ تستنفرُ الذاكرهْ

خفقةً ناحلهْ

تسكنُ الصمتَ والتمْتمَهْ،

أسأُلُ الفجرَ هذا الصديق العتيق:

ما الّذي يعرفُ الطفلُ عن أمّه أو أبيه؟ ”

إلاّ أنّ فعل الاستذكار، هنا، يتحوّل من علامة دلاليّة إلى أخرى، من “الخفقة” إلى “القُبلة” ومنها إلى “الكلمة” للتنقيب عن الأثر المُتبقّي من زمن البدايات الّذي يُساعد على استعادة البعض من الوهج القديم الهارب إلى التخوم البعيدة للذاكرة حيث الحدود الفارقة بين إمكان المعنى والبُهمة، بين الذاكرة والنسيان الأبديّ.

وكأنّ فعل الكتابة، هنا، مُغالبة للنسيان بإمكان الصُوَر الطيْفيّة، بخيالات المواقف والحالات، ببقايا طفولة بدائيّة لتتقابل في الأثناء إرادة التذكّر وواقع الاستحالة بما حَدَث من انقضاء، من تلاشٍ، من اندثار، كأن تتغنّى الذات الشاعرة بهذا التقابُل عند تكرار “الجهد”: “كم مِن جَهد يلزمني؟ وبوفرة الأفعال الدالّة عليه : “أمسكُ، أغنّي، أذكر، أنسى، أبكي أو أضحك، أُمْسِك، أُحرق، أخطو...”

ولئن تعدّدت الأفعال والسياقات الدالّة على هذا الجهد المتكرّر فإنّ النتيجةَ واحدة هي تأكيد واقع استحالة إحياء المُنقضي، “كالأيّام الراحلة” تمضي دون رجعة، والفرح البدائي يضمحلّ بعيدا، وطفولة الفرد والجماعة مَعًا يتلاشى وُجودها في غمرة السواد الزاحف حيث لا إمكان لاستعادة المُنقضي والاستمرار في فعل التذكُّر، لما يُمثّله النسيان من ثِقَل يستحيل به تبديد الكثافة واسترجاع البعض القليل من فرح طفوليّ كَان.

2- محاولة اختراق سبيل في كثافة هذا العدم

ولئن تعذّر اختراق السواد الجاثم على الذاكرة وإمكان المعنى في “ديوان الأسئلة” من  “ديوان عربيّ” فإنّ قصائد “ديوان المقابلات” مثّلتْ مجالاً لتحقيق بعض التواصُل، إذْ قاربت الاستعارة الشعريّة لغةً تُساعِد على تجاوز عجز اللّغة المتدَاوَلة:

“لا شيء، إذن، غَير الأشعار تجيء

 كي توقظني مِن نومي الأسود

وبكائي الأسود

ودمي”.

كذا يستحيل العدم إلى إمْكان لوجود، والبُهمة إلى ما يتركّب عبارةً  ولو على شاكلة عارضة في السعي إلى أداء دلالةٍ مّا.

غير أنّ محاولة اختراق سبيل في كثافة هذا العدم المعتم لتحويل النسيان المحض إلى إمكان ذاكرة يستدعي التفكير بَدْءًا في اللّغة ذاتها بِثنائيّة الصوت والصدى، هذه اللحظة شبه المفصليّة في مسارّ الكتابة لدى أديب كمال الدين ستدفع الذات الشاعرة إلى توسيع النظر بعيدًا خارج دائرة اللّغة المتداولة، إلى ما وراء الحرف، لتنشأ بوادر الكتابة الحروفيّة بناءً على مُغامرة التفكيك بين الصوت والصدى، بين الحرف والمعنى، بين الأيقونة والمرجع بإعادة التفكير في الإشارة ضمن البنية العلاميّة الموروثة المُسْتخدَمَة تداوُلا عَبْر الأزمنة ووصولا إلى سياق الاستخدام الحادث.

فكيف للغموض أن يشي ببعض أسراره؟ وكيف “للسواد” أن يُسفر عن بصيص نورٍ به تستدلّ الذات الشاعرة على ليل الوُجود؟

وإذا “الصوت” يعلن إمْكان حصر الإشارة في المعنى:

“ في الليلِ الأسود

يتحدّثُ هذا القلبُ الغامض”.

غير أنّ “الصدى” لا يقبل استعادة صوته القديم، بل يستمرّ صدى مُنفلتًا من أيّ أصل، رافضا لأيّ حَدّ أوْ قَيْد باللّغة استعارةً سالفةً وحادثةً على حدّ سواء.

لذلك نراه يندفع بعيدًا عن بدئه الأوّل، عن الصوت- الرحم  الذي أنشأه:

“من أيّ بِحَارٍ أو وِديان أو أشجار

يأتي هذا الصوتُ البشريّ الغامض،

يأتي هذا الحُلمُ الأسود

كي يوقظنِي مِن صحوي أوْ نَوْمِي؟”

فهذا السؤال هو بعضٌ من حيرة السبيل في بَدْء تجربة الكتابة لأديب كمال الدّين ممثلّةً في التردُّد بين مُقاربة الصوت بالبقاء في دائرة المعنى المتداوَل رغم كُلّ االجهود الساعية إلى توسيع مجال الاستعارة اللّغوية شعرا أو مُغامرة الصدى بحثا عن جديد المعاني أو غامضها بمُغامرة القطع  مع إرث القصيدة العربيّة وليس مع تُراثها/تُراثاتها.

فكيف الانطلاق، إذن، في نهج الكتابة الشعريّة العامّ؟ هل بِفتْح اللّغة المتداوَلَة على الطبيعة عند استقراء ذاكرة الأشجار، الجسد، إغماضة العينيْن، الفرح الأسطوريّ، تداعيات اللّغة شبه الهذيانيّة، كالوارد في “المقابلة الثالثة” من مُجمل الديوان الشعريّ.

وإنْ تعسّر التواصُل مع اللّغة والطبيعة فقد يُحقّق “الصدى” داخل قيعان الذاكرة للذّات بعضا من التواصُل. إلاّ أنّ التفكير بالحدْس الشعريّ في المُنقضي يشي بالقطيعة الزمنيّة بين ما كان ويكون        ويُوقظ في النفس حزنا قديما يشتدّ بواقع التكرار الخاصّ بأشياء الوجود وسرعة الحركة نحوالانقضاء، إنْ تعلّق التفكير بالموجود، تحديدًا :

“ فلأغَنّ بصوتٍ خفيضٍ لأسأل

كُلّ شيء يمرّ:

هل تراني أعود؟ لماذا؟ لمن؟”

3- حيرة الكتابة بين جاهز المعنى ومختلفه

إلاّ أنّ حيرة الكتابة بين جاهز المعنى ومختلفِه وبين اللّغة وما وراء اللّغة يدفع الذات الشاعرة إلى توسيع دائرة الموصوف الشعريّ من طفولة الذات وتاريخ الاسم بالالتفات ومحاولة الاستذكار إلى موصوف الوطن، الأمّة في “ديوان عربيّ”، البعض من “ديوان عربيّ” (العنوان الرئيسيّ). فهذا الموصوف سُرعان ما اصطدم بالفاجعة مُمَثّلَةً في علامات “الأنين والدم والخوف وعذاب الأرض”:

“ الساعة يأتِي

وطنٌ وأنين

وطنٌ مُرْتجفٌ كأنينْ..”

ونتيجةً لهذا الوضع الانحباسيّ يحدث الانتقال إلى “الأشياء”، البعض الآخر من “ديوان عربيّ”  (العنوان الرئيسيّ)، وهي أشياء قديمة دالّة بسياق آخر حادث على طفولة الذات وطفولة المعنى، إذْ يستذكر الشاعر “البيوت القديمة” و"انتظار اللّيالي الّتي لا تجيء” و“المشاهد المحيطة بالجبل ..،” كما تشتمل دائرة الاستذكار على فضاء الغرفة والعزلة والمساء والحرمان والزقاق أو الشارع المُجاوِر لتلك الغرفة:

“غرفةٌ فرشتْ ثوبها

للأغاني الّتي تبتدي بعد أن ينتهي البائعون

من صراخِ النهارِ المُمِلّ ...”

فتستمرّ الذات الشاعرة في خوض تجربة الاستذكار بمعنى طفولة الاسم الّذي سُرعان ما توالدت صُوَرًا تنزاح عن نظامها الأيقونيّ لتصطدم بفقدان مرجعها الأوّل وتغرق في رمزيّة الطيف الحادث نتيجةَ المسافة الدلاليّة الفارقة بين ما كان ويكون في وعي الزمن والعالم والوُجود. لقد أدرك أديب كمال الدّين مدى الحاجة إلى استقراء الماضي فِرَارًا من نُقصان الوضعيّة إلى اكتمال استيهاميّ بُغيةَ التدليل على إمكان إكساب العبث الحادث معنى مّا بهذا الوُجود السالف كي تنشأ في الأثناء كتابة الطيف وتترسّخ عبر مُتراكم نصوص تختلف لحظاتها المُوَلّدة لتتّفق بالهاجس أو الرغبة ذاتها في اعتماد الالتفات الّذي يُرادُ به تأثيث البعض الكثير من مواطن الفراغ الحادثة. لذلك يلتقي عند الاستذكار الوارد في كُلّ من “تفاصيل” و“ديوان عربيّ” ذلك النزوع الجارف إلى استعادة بَعْضٍ من المنقضي، كأن يستمرّ الشاعر في المحافظة على منطق اللّغة المعتاد مع إدخال البعض الكثير من الحادث الدلاليّ المختلف عند إنشاء استعارات جديدة تستضيء بسالف التجارب الشعريّة الحداثيّة العربيّة كالرومنسيّة  والرمزيّة، وبتجريب أداء المعنى الشعريّ المُختلف في كتابة “قصيدة النثر” عبْر متراكمها النصوصيّ ومختلف أطوارها الكِتابيّة. لذلك يبحث له عبر سبيل أداء المعنى الشعريّ عن نصّ مختلف ومنطق مُفرَد يخترق بنيةَ منطق اللّغة الشعريّة الموروث المتدَاول برغبة الاختلاف، الإضافة، التجاوُز.

وإذا “دواوين” و“الرقصات” و“الأغاني” و“المراثي” من مُجْمل “ديوان عربيّ” اندفاع بأقصى الجهد في مسارّ تراكُم تجربة أديب كمال الدّين خلال طوْرها الأوّل بتناصّ كتابيّ مُنفتح يصل بين سالف وحادث، بين طفولة الاسم وطفولة الكتابة أيضا وحادث التجربة، كأن بدأت كتابة الطيف تشهد في الداخل، وفي آخر “ديوان عربيّ” النزوع إلى كتابة الحرف، كأن يظهر في “الرقصات” اتّجاه حادث إلى تجريب اللّغة:

“اهبطي

مثل حرف بليغ يرومُ المثول

بين أيدي السطور

مثل سجن يرومُ الهروب

مثل نهر يُمارسُ ألعابه القاتمة

مثل ميت يُعاد!”

وإذا “الرقص” حركة دورانيّة في الشعر وبالشعر تقطع حبل المعتاد في ممارسة فعل الاستذكار،       وتدفع تجربة الكتابة الشعريّة في مواطن جديدة هي من اللّغة واليها، إذْ أدركت الذات الشاعرة أنّ الإبداع شعرا لا يكون إلاّ بإنشاء لغة شعريّة حادثة، ابتداءً مختلفًا عن سابقه:

“ أشتهي أنْ أكون

إنّني أبتدي بالكلام

عامِرًا بالرؤى والجُموح...!!

كذا يُقارب الشعر الرقص، تكرار الحركة الدورانيّة بالالتفاف حول نواة الروح بعد تمدُّد الالتفات إلى طفولة الاسم الّذي لم يتبقَّ منها إلاّ الصدى واثار باهتة وانطفاء معنى وشيك، إنْ لم تتحرّر اللّغة الشعريّة من منطقها المعتاد وتندفع بأقصى الجهد خارج دائرة التكرار استرجَاعًا كاتبا.

فكيف الانتقال،إذن، من حركة دالّة على تمدُّد الالتفات بالاستذكار إلى حركة جُوانيّة دورانيّة هي أكثر ارتباكا واشدّ تواصلا مع اللّحظة، الآن بمدلول الذات المُتكلِّمة وموضوع الكلام الشعريّ؟

كيف التحرُّرُ من جاهز دلالة الصوت؟ كيف التخلُّص من ثقل ماضي الاسم؟ كيف النزول من علياء الحلم إلى حلم الكتابة ذاته بسياقه المُحايِث؟

4- نحوابتداء مرحلة جديدة في وعي الوجود والكتابة الشعريّة.

وكما يسعى المتصوِّف إلى تحقيق حرّية اللّحظة بالرقص الدورانيّ تحرص “صوفيّة” الكتابة الحروفيّة الناشئة لدى أديب كمال الدّين على انتهاج سبيل الرقص الاستعاريّ سبيلا إلى الانتقال من وضعيّة مستهلَكَة شعرًا إلى أخرى جديدة بمنظور التوليد الّذي ينبثق من نظام التجربة السابق ويسعى إلى تفكيكه والبناء عليه.

وإذا “ديوان الأغاني” استمرارٌ في نهج “ديوان الرقصات”، كالحركة تستدعي لها إيقاعًا جديدًا، إنشادًا مُختلِفا، تشكيلا حادثا للصوت والحركة معا، محاولة قطع مع رؤية الأشياء برُؤيا مختلفة تُقِرّ           “اكتشاف السِرّ” (سِرّ الكتابة بالوجود والوجود بالكتابة):

“في ليلةِ رأسِ السنة

أكتشفُ السِرّ:

إنّي طفلٌ في العام السابع والعشرين

في وحشةِ رأسِ السنة

أكتشفُ السِرّ:

إنّي كهلٌ قد أتعبه أَرَقُ الأحفاد...!!

وكأنّ “ديوان المراثي” من مجمل “ديوان عربيّ” اعلان لِموت وابتداء لحياة جديدة أو تصريح بنهاية مرحلة واستعداد لابتداء مرحلة جديدة في وعي الوجود والكتابة الشعريّة.

 فالرثاء هو بمثابة نعيٍ لذاكرة، لتجربة سالفة اتّسمت بالالتفات، بالحنين إلى زمن تَقَضّى، بوهم استعادة ما تلاشى. إلاّ أنّ هذه الذاكرة لا تنحصر في وجود معنى الفرد، بل في المجموعة كاملةً، بالمشترك الدلاليّ القائم بين المعنى الأُنطلوجيّ والدلالة الأنتروبولوجيّة، إذْ ثمَّةَ وعي وُجوديّ مُتقادِم لم يعد يفي بالحاجة إلى فهم ما هو كائن أو ايل إلى الكينونة، ذلك أنّ الرثاء هو نعي لهذا الزمن الغابر وتبشير في الآن ذاته بزمن كتابيّ حادث بدأت علاماته تظهر تدريجا داخل الديوانيْن الأوّليْن المذكوريْن، كأن يشمل الرثاء “النفس” (الذات) والرمز الفرديّ والجمْعيّ، على حدّ سواء.

وكأنّنا بآخر المراثي نشهد أعلى حالات التوتُّر في لحظة الولادة الشعريّة الجديدة انتقالاً من شاعريّة الطيف إلى شاعريّة الحرف بالعلامات الدالّة على الكارثة حيث الكُلّ يتفكّك أجزاءً سرعان ما تتشظّى أجزاء أخرى، والحزن مسكون بالفرح، شأن الفرح الّذي هو مسكون أيضا بالحزن، وأشياء العالم تدّاخل بفوضى تتفاقم تدريجا داخل نظام الكتابة المُتقادم. وما الرثاء هُنا، إلاّ مُنعطف حاسم بين موت مُحَقّق (صمت الكتابة) والاندفاع بأقصى الجهد نحو معنى جديد للوُجود بالكتابة والكتابة بالوُجود. ولئن استبدّت عاصفة الارتباك بالذات الشاعرة في خاتمة “ديوان عربيّ” وضمن هذا الطور الأوّل من مسار تجربة الكتابة فإنّ علامة الحركة أو دلالتها تشي بأفق قادم عَوْدًا إلى رَمْزيّة الرقص في “رقصة”:

“يا لأساي الّذي

هَدَّ بِي الأبواب.

يَا لأساي الّذي يشكو ولا يغتاب.

يَا لأساي الّذي

يَمْشِي كما أمْشِي!”

****************************************

·        أديب كمال الدّين، “ديوان عربيّ”، بغداد : دار الشؤون الثقافيّة العامّة، 1981.

 

 النص الكامل للكتاب : الحرف والطيف

 

 


الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home