قراءة في مجموعة: "نون" للشاعر أديب كمال الدين

“نون”(*) بين جماليّة الكتابة الشعريّة الحُروفيّة والتمثُّل العِرْفانيّ

 

أ. د. مصطفى الكيلاني – تونس

 

 

 1- “النون شيْء عظيم”.

الحروفيّة في “نون” هي تَمَثُّل جماليّ وأُنْطلوجيّ يُؤالف بين علاميّة الحرف والبُعد الرمزيّ الّذي يخرج بالحرف من دائرة ظاهر التشكُّل إلى ما وراء الصورة، المعنى أو امْكان المعنى، كالتصدير بالآية القرآنية: “ن والقلم وما يسطرون” يفتح الكتابة على مجال أوسع من السياق الكاتب والنصّ الشعريّ المكتوب.

كذا تتملّك أديب كمال الدّين شهوة الكتابة الحروفيّة انتقالاً من “جيم” إلى “طاء” ومنه إلى “نون”. فتنفتح الكتابة الشعريّة، هنا، على عِرفانيّة الحرف كما تتصدّر عديد السُوَر، وعلى الرسم الحروفيّ، كنصّ الإهداء : “إلى نُقطتِي وهلالي بِمُناسبَة استمراري حيّا حتّى الآن”.

وإذا الشعر والتمثُّل العِرفانيّ للحرف العربيّ بمُجمل ثقافة الإبطان التُراثيّة العربيّة يتجاذبان ويتعالقان داخل منظومة تعبيريّة جماليّة مُشترَكة حيث مطابقة الشكل وحركة الانطواء تُعانق الدلالة الماثلة في العلامة البلاغيّة، حتّى لكأنّنا بهذا التآلُف نشهد ميلاد فنّ شعريّ عربيّ حديث يُقارب ليُؤالف بين الحروفيّة والشعر، بين الرسم والحال المُبْطنة، إذْ ساعدت البنية التشكيليّة للحرف العربيّ وتوظيفه شعْرًا على التأمُّل الإبداعيّ في المُشترك القائم بين الصفة الحُروفيّة والمحتجب الدلاليّ، بين صفة التشكُّل والمعنى المُحايِث لها.

كذا يدفع الحرف إلى التذكّر بواسطة نهج النسيان المُبدع حيث يتجلّى إمكان إنشاء تخييل بالذاكرة، بما يمْثُل في سياق الاستذكار ليتركَّب بصفة شبه عفويّة ويشتغل تبعا للصدفة الكاتبة وتداعياتها الحينيّة عند بيان أهمّيّة الحرف، والنون على وجه الخصوص:

“لكُلّ  مَن لا يفهم في الحرفِ أقول:

النونُ شيءٌ عظيم

والنونُ شيءٌ صعبُ المنال.

إنّه من بقايا حبيبتي الإمبراطورة

ومن بقايا ذاكرتي الّتي نسيتُها ذات مرّة

في حادثٍ نونيّ عارٍ تمامًا عن الحقيقة”.

2-   “حتّى يكتمل ضياعي ويبدأ موتي السعيد”.

يتحقّق للذات الشاعرة عند انتهاج سبيل الكتابة الحروفيّة بعضٌ من اطمئنان اللحظة الممتلئة بالرغبة والفرح و“فرط الحُبّ” ودهشة الاكتشاف تُعيد للذات بهجتها الطفوليّة البدائيّة، لما أضاء في عميق النفس من نور ساطع:

“لم أعدْ أستطيع أن أُشير إليها

أو إلى نونها من فرطِ البهجة.

وهكذا يصغرُ لديّ العالمُ شيئا فشيئًا

حتّى يكتمل ضياعي ويبدأ مَوْتِي السعيد!”

فَما أثمرتْه التجربة الحروفيّة بَدْءًا هو “اكتمال الضياع” الذي يعني انقضاء الحيرة بين السُبُل بعد أن أدركت الذات الشاعرة الحقيقة الوُجوديّة عن طريق جماليّة الحرف وانطلوجيّة حضوره الدلاليّ وابعاده الأنتروبولوجيّة الّتي مفادها أنّ الموت هوالأصل، إذْ به يُمكن إكساب الحياة معنى يكون الالتزام به تمثُّلا فنّيّا وفعْلا وُجوديّا.

كذا تتملَّك الذاتَ الشاعرة حال شبيهة بالحال الصوفيّة نتيجَةَ هذا الإدراك المُزدَوَج لكُلّ من رمزيّة الحرف وعشق الوُجود حَدّ التفاني داخل زمنيّة شبه مُطلقة وانْ تحدّدت في الظاهر بأيقونة الحرف ورمزيّته الشعريّة وأبعاده الإشاريّة العَقديّة .

ولئن تحوّلت الكتابة الشعريّة من ظاهر الطيف إلى عميق الحرف فإنّ للحرف طيفيّته أيضا الّتي أضحت وَلَهًا يسكن صميم الذات ويحفزها على مزيد التوغُّل في الوُجود-المتاهة. فيتعالق تُراث الحرف العربيّ أو تُراثاته السالفة والحادثة مع عشق الذات الشاعرة الحادث، ولكنْ داخل مشهد كارثيّ يقطع مع تجربة السابق ويفتح الكتابة على وعي التموقُع باللحظة وخُصوصيّة المجال المشروطيْن بسيميائيّة الحرف ومحصّل دلالته السابقة وحادث تمثُّله شِعْرًا بمَفهوم “السكن”:

“الحرفُ هوالزلزال

وأنا أسكنُ الحرفَ يا زلزالي.”

لقد أدركت الذات الشاعرة أنّ “الضياع” في الحرف وبالحرف اندفاع في كتابة التداعيات، لما يُظهره الحرف وما يُخفيه من إمكانات شتّى قصد التدليل على معنى، بل مَعَانٍ، حسب تموْقُع الذات وشاعريّة لحظة العِشق في تواصلها مع اللّحظات السالفة الأخرى وانفصالها عنها.

وكأنّ الكتابة، وهي تختار الحرف سكنا ودليلا في متاهة الوُجود، تنتهج العفويّة سبيلا وما يُشبه “الحال الهذيانيّة” طريقا إلى مُقاربة وهج ذلك السرّيّ الغارق في الاحتجاب بوضْعٍ- حالٍ يصل بين العشق والجنون وانتظار الموت أو استباقه بفعل الكتابة ذاته.

كذا تبدو قصيدة “قاف” في “نون” نصّا شعريّا نهريّا يتدفقّ بحال من “الجنون الهذيانيّ” المسكون بالرغبة في البوح أو مزيد البوح رغم بُهمة ما يسكن الداخل من فوضى الحالات. وكأنّنا بذلك أمام نشيدة حُروفيّة تطول بقصْد الإسهاب الّذي يُراد به توصيف “الزلزال” الذي حَدَث داخل وعي الكتابة وفي بنية النصّ الشعريّ ذاته، ذلك التحوُّل مِن سياق تجربة إلى سياق تجربة مُختلِف عن سابقه.

3- “إشارتكِ ضائعة، والطريقُ إليكِ ملغومةٌ بالألم”.

 أمّا “جنّة الفراغ” من “نون” فهي قصيدة الحبّ يُقارب الهوس، كأن يسكن عشق “النون” الروح ليتعاظم ويستبدَّ بها حَدّ فقدان الوُجهة والاتّجاه:

“إشارتكِ ضائعة

والطريقُ إليكِ ملغومةٌ بالألم..”

وإذا التماهي مع “النون” هو ضرب من الضياع الجميل المُؤلم في مجال  اللاّنهائيّ، كأن يُسفر الحدّ الأيقونيّ لانحناء الحرف، هنا، عن امتداد يُماثل الكون، هذا الواحد المتعدّد المُحدّد بالتسمية في اتّجاه، واللاّمُحَدّد في اتّجاهٍ آخر لغياب البدايات والنهايات مَعًا وتداخُل الاتّجاهات، كُلّ الاتّجاهات.

فتتحرّر الذات الشاعرة بـ”النون” كي تخوض تجربة الحروف بأشكالها ومعانيها المختلفة، وتقارب العدم الفراغ:

“أسقطُ في الفراغ

وأصعد

أصعد

أصعد

فلا أجد إلاّ الفراغ يُقبّل نفْسَه.”

وبهذا التوجُّه الحروفيّ الاستنباطيّ تنزاح الكتابة الشعريّة تدريجًا عن سابق المعنى وجاهزه إلى حادث الدلالة، إلى اللّغة التي تستعيد البعض الكثير من وَهَجها البدائيّ عند مُقاربة طفولة الحرف. وكأنّ الذات الشاعرة تخوض تجربة الحيرة بين أسبقيّة اللّغة وأسبقيّة الشعر في التدليل على علاقة التماهي أو صلة الفرع بالأصل، كالاختلاف الماثل بين القول بشاعريّة اللّغة ولسانيّة الشعر، بأنْ ينزع أديب كمال الدّين إلى الاعتقاد في أبوّة الشعر وطفولة اللّغة بما يُمثّله الحرف من وُجود رمزيّ يكون به التكلّم حقيقةً ومجازًا.

وكأنّ “نون” اختصار مُكثَّف لِمُجمل الحروف، أو هي والدتها بانفتاح الشكل ورمْزيّة النُقطة، كمُسافر يركب قارب الوُجود لِيُطوّف في أقاصيه ويغامر في اختراق كثافته بدافع الرغبة في التفْضية وتحويل الألم إلى أمل والسأم إلى إرادة للتحدّي والاستمرار في البقاء بالمغامرة رغم سنين الأربعين وجحيم الوضعيّة:

“في الأربعين

في الشاطئ الأربعين

غرقتُ

وحملتُ جُثّتي حتّى باب عُرْيك السافر”.

4- تداعيات الحوار بين ذات الشاعر العاشقة و“نون”.

وكما تتّجه الذات الشاعرة إلى “نون” بالخطاب تتحوّل هي أيضا إلى مُخاطَب. أمّا المتكلّم عند تقليب نصّ التخاطُب فهو “النون” بضرْبٍ من التنادي والتصادي (من الصدى) حينما يزول الحدّ الفارق بين الذات الشاعرة وموضوع الشعر أو لغته مُمَثَّلَةً في الحرف تحديدًا.

إنّ اختصار “أديب” أو اختزاله في الألف يُساعد، هنا، على توسيع دائرة التخاطُب بعلامتيْن خطّيتّيْن مختلفتيْن، كأن يستقدم الحَرْفان صُوَرًا ورموزًا لاستخدامات كِتابيّة واسطوريّة وانتروبولوجيّة مختلفة، بما قد يجعلنا نتمثّل ذكورة الألف الرمزيّة في اتّجاهٍ وانوثة النون في اتّجاه آخر:

“ما الّذي تُريده منّي أيّها الألف؟

دعني في حيرتِي أتردّد

وفي سمائي أتيه

وفي عظمتِي أنْهار.”

وإذا حيرة الشاعر من النون تُقابلها حيرة النون من الشاعر كي يتردّد المشهد الحواريّ بين “الوضوح المخادِع” للشاعر المهووس بعشق الحرف أمام “غموض” الحرف.

فتحرص الذات الشاعرة بمُقاربة الحرف على الاستضاءة بعتمته الدالّة إضمارًا لا إظهارًا والاستقواء بصفته الطِلْسميّة لما يحتاج إليه الشاعر ولغة الشعر من قُوى عِرفانيّة لا ينكشف بعضها المؤسّس الفاعل معنى مُختلفا إلاّ بتنصُّت دلالته في الداخل عند مُلامسة الطيف أو الطيّة حيث المعنى السِرّيّ يحتجب ليختصر كثافة دلالة المُنقضِي وحاضر قيامه وممْكنه في الزمن القادم.

فتصل مجموعة “نون” الشعريّة بـ”أُحبّك كما أحبّك” بين ذات الشاعر والحرف بالخِطاب المتداوَل الشبيه بالتواصُل القوْلِيّ بين عاشقين أوْ هُوالشاعر العاشق يُخاطب معشوقته “النون” بالترجيع الإنشاديّ مُمَثّلا في تكرار “أحبّكّ حتّى لكأنّنا بهذا التخاطب العِشقيّ نشهد موقفا شبيها بِمقام البوْح المشترَك بين سليمان الحكيم وشولميّث في “نشيد الأنشاد” من “الكتاب المقدّس”.

ولئن أحالت حِواريّة “نشيد الأنشاد” العِشقيّة على مكان وزمان وشخصيْن آدميّيْن فإنّ نشيدة أديب كمال الدّين، في هذا السياق العِشقِيّ، لا تتقيّد بمكان وزمان مخصوصيْن. أمّا المتخاطبان فيهَا فهُمَا ذاتٌ شاعرة وحرفٌ (نون) كي يتواصل بذلك الموجود والوجود، الناطق والمنطوق، كأن يتكلّم الشاعر باللغة وتتكلّم اللّغة بالشاعر ومن خلاله بِمُختلِف الصور الاستعاريّة الّتي تتوالد في مجرى العمل الوصفيّ ليظلّ هذا الحُبّ دلالةً تقريبيّة تحفز الذات الشاعرة على استئناف الوصف بأفعال ووضعيّات  أُخُرى حادثة مُمْكنة، كأن يتواصل البَوْح بـ”خطاب الألف” حيث التصريح بجُنون العاشق المَهْوُوس بالحرف، باللّغة،  بـ “الكاف” شأن “النون” أو بالكاف تُضمّ إلى النون قصْد الإلماح إلى الكينونة في اللّغة وباللّغة (كُنْ) والاندفاع بأقصى الجهد في طريق تشكيل مُختلف الحروف بالتبديد والتجميع، بالتفكيك واعادة النظم، بالإضمار والإظهار، إذْ تتحوّل كتابة الشعر، هنا إلى ضرْب من اللّعب الخاصّ الّذي يُقارب بين الحُبّ والموت عند الاشتغال على “النقطة” في ارتباطها بالحرف، باعتماد أَوْجُه مختلفة من التوزيع الجدوليّ عند الانتقال من سياق وصفيّ إلى آخرة “للنقطة”. فهي “سيّدة، ضياع، حُبّ، أعجوبة، دم، أنا، موتي، جِنّيّة، هرب، بخور، غموض، آه، خروج، عبث، نجمتِي، مُفاجأة، تمرّد، صومعة، ذهب، سُخف، لهو، طعنة، ملاك، ملك، مُشعوذ، رمز، غيمة، دفقة هائلة، تلطيف، اعتراف، حُلم...”

وإذا النقطة بمُختلف صفاتها وَجْهٌ للتعيين داخل فضاء يصعب، بل يستحيل تعيينه، إذْ هي بمثابة “الوشم” أو “الرشم” للتدليل على علاَمةٍ مّا، أو الأثر الّذي يُراد به تحديد وُجهة أو اتّجاه مّا في زحمة الفراغ المستبِدّ بالوُجود والموجود.

5- من قبيل الخاتمة: شاعريّة اللّحظة تستدعي استمرارًا في ممارسة اللعبة الحُروفيّة...

قد تعني نون، في المحصّل وعند تجسيد الصفة السمعيّة لهذا الحرف على شاكلة كِتابيّة، الازدواج قبل الجمع تذكيرًا أو تأنيثا، المُثنّى داخل الذات الواحدة بتواصُل “الأنا” و”الغير”. ذلك أنّ “الغيْريّة” (altιritι) هي البعد الآخر “للأَنَويّة”، شأن التعالُق الحميم بين الصوت وصداه، إذْ لا يكون الصوت إلاّ بـ”التصويت” (الصدى) ولا معنى للصدى إلاَّ بِسَابِق صَوْتيّته.

كذا يحدث الإسماع والسماع ليتحدّد الموجود والوجود مَعًا بالتواصُل، بـ”الحواريّة” أساس “الموجوديّة” ومرجعها الدائم كلامًا وصمتا. فإذا انقطع الكلام المسموع أو الصامت انتفى التواصُل وتأكّد الانقطاع، الانقضاء، سيادة الفراغ، العدم، انتصار الفساد، الهلاك.

ولعلّ اتّجاه أديب كمال الدّين إلى الحروف عند البدء هو بِدَافع التأثّر بثقافة عِرفانيّة تعتقد جازما في سِرّيّة الحرف وخفاياه الدالّة به وعليه، بالوشم والرقية والتعويذة واستيهامات رسم الحِنّاء، بانفراج الشفتين واشتغال اليد الكاتبة وتمدُّد أشكال الحروف وانحنائها ودورانها واندفاعها، إمّا إلى الأعلى وإمّا إلى الأسفل. إلاّ أنّ هذا التأثّر استحال عبر تراكم تجربة الكتابة والوجود وجحيم الوضعيّة السالفة والحادثة إلى نهج خاصّ في الكتابة الشعريّة بِتناصّ الاعتقاد العِرفانيّ الّذي يذهب إلى خوض مغامرة استقراء الداخل أو الباطن لثراء رموزه وتراكُمها الهائل وتكثُّرها الحادث وتجدُّدها وشاعريّة اللّحظة تستدعي استمرارًا في ممارسة اللعبة الحُروفيّة بِعِشق البدايات وشظف الوجود الراهن  ومختلف عذاباته وقلق الانتظارات عند فِعْل الاستباق الشعريّ.

فهل بإمْكان الذات الشاعرة، هُنا، الخروج من دائرة الاندهاش الحُروفيّ شِعْرًا في قادم الكتابة أم هوالاستمرار في الخضوع لِجاذبيّتها مع توسيع تجربة الكتابة المذكورة بوسائل تجريبيّة أخرى؟

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

 (*) أديب كمال الدّين، “نون“، بغداد: مطبعة الجاحظ، 1993

 ** هذا هو الفصل الرابع من كتاب يصدر قريباً بمشيئة الله للناقد التونسي أ. د. مصطفى الكيلاني بعنوان: "الحرف والطيف: عالم أديب كمال الدّين الشِعريّ (مقاربة تأويليّة)".

   النص الكامل للكتاب : الحرف والطيف

 All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

الصفحة الرئيسية