قراءة في المجموعة الشعرية: (أقول الحرف وأعني أصابعي)

 للشاعر أديب كمال الدين

استبطان المعنى والنفاذ إلى الأشياء

 

رياض عبد الواحد

  

يضعنا نصيص المجموعة بمواجهة إشكالية قديمة تكمن في الفارق بين الفعلين: أقول وأعني. إذ إن الترادف في اللغة موضوعة خلافية كثر الحديث في تشعباتها. يدل فعل\ القول\ على الكلام، والكلام لا يعني في مجموع أبعاده الأصوات والإشارات التي تنطلق من الفم واللسان، إذ لا بد أن تتشكل في ضوء ذلك حروف لها معنى. أما الفعل\ أعني\ فيعكس ما في الدواخل النفسية، بمعنى انه كلام يتأسس في حاضنة غير ظاهرة تتمظهر لاحقا في القول أو الكتابة ، لهذا قرن الشاعر الفعل\ أعني\ بالأصابع التي تقوم بوظيفة الكتابة،  أو قد تترجم ما في النفس من كلام ، وقرن الفعل\  أقول\ باللسان. ويتأسس على ذلك إن فعل القول له صلة بما هو اشاري \ أعني \، وان كان الأخير لا يلبي كل حاجات الإنسان، إذ إن منتج \ الأصابع \ - الكتابة –أقل شأنا من منتج القول – الكلام -، وفي كل هذا الذي قلناه ثمة اختلافات وتباين في الآراء.

تشتغل المجموعة على أكثر من ثيمة لكن الهمّ العام الذي يوحدها هو إرادة الإنسان واختياراته الحياتية في ضوء مدركاته الروحية ومجموعة الأفعال المتحصلة، ثم تطويع تلك الوسائل للوصول إلى المبتغى . إن ما يتسم به شعر أديب كمال الدين هو ذلك التركيز الشديد على الإشارة كونها البديل الموضوعي عن العبارة في ضوء رؤيته ورؤاه وهذا هو منهج معظم السائرين في الخط الصوفي \ العرفاني ، فهو يشير إلى العام لكنه يرمي إلى الخاص وقد يشير إلى الخاص بيد انه يرمي إلى العام، لهذا يذهب \ كمال الدين \ إلى استعمال معان محسوسة للتعبير عن أشياء غير محسوسة :

 

ثمّة خطأ في الكأسِ والخمرة

وفي الرقصةِ والراقصة

وفي العُري والتعرّي

وفي وثائقِ التابوت

وفي النشيدِ، والنشيجِ، والضجيج،

والحروب التي أكلتْ أبناءها

أو التي ستأكلهم عمّا قريب.

 

إن الاشتقاقات آنفا وان كانت ركيزة خارجية إلا أنها جاء ت بمقصدية واعية، فهو يعبر عن المكنونات والمعاناة الداخلية لكن هذا كله لم يقيد الفكرة الرئيسة، فسر الخطأ مختبئ في ذاته وهذا ما يجعله في خانة ما هو رؤيوي وإن كان ضمن دائرة ما هو حسي ، ويضفي عليه إزاحة اكبر ومن  ثم تأويلا أبعد مما يستتبع كشفا متأنيا لها لأنها تستبطن أكثر مما تعلن ، وتغوص أكثر مما تطفو. وقد يجتمع النقيضان في الوقت نفسه فتحدث عملية إقصاء قصديه للدلالة من أجل توسيع مساحة التأويل التي تتبؤر في ذلك البعد الوجداني الذي يبعدنا عن التصورات المجردة وإن كنا في وسطها، لذلك نرى الشاعر يغير بين الحين والآخر المواقع السردية من أجل نقل ما هو تجريدي إلى ما هو حسي أو العكس وهو إذ يفعل ذلك يرمي إلى أن يجعل كل ما هو حسي غير تام:

 

قالَ أخوتي: إنكَ متّ.

لكنّهم–  كما تعرف- يجيدون فنَّ الكذب

ولم يسلمْ حتّى الذئب من أكاذيبهم.

لكنّهم صدقوا هذه المرّة

فأنتَ متّ بين يديّ

وكنّا وحيدين

في غرفةِ صباي وشيخوختك،

أعني صباي المُلوّن بالحرمان

وشيخوختك المعطّرة بالألم.

كنّا وحيدين.

 

إن هذه الوضعية النفسية التي تفوح بما يعتلج في النفس من أسى وإرهاصات تحيلنا إلى إثبات ذلك التمزق الذي تعيشه والذي ترنو من خلاله إلى الخلاص على الرغم من إنها مغروسة في أرض الواقع ، فما يعتلي الذات هو جزء مما ينعكس فيها وعليها من لوعات الواقع وظواهره الحسية، لذا تدفع هذه النفس الإمارة بالسمو الروحي الآخر إلى عدم الاقتراب منها  ومن معطياتها المتحصلة بسبب انها لا تضمن سمو الآخر ولا قدرته على السير في دروبها:

 

لا تقتربْ من ناري!

من نارِ قلبي وسرّي،

فإنّي أخافُ عليكَ من النار:

من دمِها ولوعتِها وضوضائها،

فكنْ على حذرٍ

أيّهذا المعذّب بالشوقِ والليلِ والأهلّة،

أيّهذا الغريب الذي يجددُ غربته

بدمعتين اثنتين

في كلِّ فجرٍ

وفي كلِّ ليلة.

 

 

إن هذا الاستباق الروحي الديالكتيكي لمعطيات الوجدان يعبر عن نزوع معقلن للذات باتجاه الالتصاق بالكمال الروحي الذي لا يمكن تحقيقه أرضيا إلا عن طريق الخضوع الكليل لإرادة عليا:

 

أخافُ عليك مما ترى

ولا أخاف عليك مما لا ترى 

 

إن العلاقة بين السارد والأخر الذي قد يكون \ روح السارد \ علاقة اشتقاقية ، بمعنى إنها وإن بدت حسية إلا أنها روحية المنبع ، عميقة الغور ، لا يمكن أن تحسب بالطرق الاعتيادية:

 

هل سيقيسونكَ بمساطرهم الغبيّة

وبمقولاتهم الجاحدة

لتضيع كما ضعتُ من قبلك؟

 

إن علامات الاستفهام التي تغلّف معظم النصوص والتي تدل على الحيرة هي من صلب معطيات ما يرمي إليه الشاعر لأن الحيرة جزء من اللعبة الشعرية والفكرية . إنه لا يركن إلى اليقين لأن اليقين جزء من جهل الحقيقة الكبيرة ، الحقيقة التي يبحث عنها فيما هو غير أرضي ، وغير مرئي \ عياني ، إنه يشتغل على منتجات فائض الرؤية ، والتوحد الروحي بكل ما يستبطن من رؤى هائمة لا يقر لها قرار . هذا الحشد المشهدي يستدعي فنيا أن يكون البناء السطري مزدحما ولا تأخذ البيضات مساحة واسعة وقد أفلح الشعر في ذلك ، مما دفعنا أن نقول بأن روحيته مزدحمة وهواجسه منتشرة في كل خلية من خلاياه ، فلا مجال للفسحة وإن كانت روحية لأن همه وولهه أكبر من أن يترك فراغا يشغل بما هو غير داخل في دائرة الوله الروحي . كما ويلاحظ ان بداية النصوص ونهايتها ذات صلة ، ويمتد بينهما خيط رفيع :

 

البداية :

 

التقطنا معاً

يا صديقي الحرف

 

النهاية :

 

أما أنا فسأموتُ دون أنْ أكتب

قصيدتي التي أقولُ فيها الحقيقةَ عاريةً

دون صور،

دون صورٍ من أيِّ نوعٍ كان!

  

لاحظ العلاقة بين \ الالتقاط \  في البداية و\ الصور \ في النهاية وما بينهما تمتد عشرات الرؤى التي تخدم الهم العام. أما فرضية النصوص فترمي إلى قضية فكرية هي مشروع الشاعر الشعري الذي يحاول أن يحفر مجراه بتأن وتميز وتفرد نوعي. ولقد آثر كمال الدين أن يكون معجمه الشعري معجما صوفيا يعتمد على الرموز غير المباشرة، أما حقوله الدلالية التي يمكن أن تصنف بواسطتها الكلمات فهي مزيج مما هو وجداني وديني وأخلاقي يطغي عليها الميسم الروحي المعتمد على بلاغة الصور ومخالفة النمط السائد على الرغم من ارتباطاته الفكرية بنموذج معياري قبلي. إن الحقل المهيمن على القصائد قد حقق تجانسا وتوازنا بين ما يرمي إليه الشاعر وبين ما متحقق فعليا  في المتن الشعري:

 

حين لم أجدْ أحداً أنتصرُ عليه

انتصرتُ على نفسي.

 

إن هذا التوحد مع الذات ما هو إلا عملية إعادة هيكلة كينونة وجودها ثم الاندماج بها من أجل الوصول إلى الأفق الأسمى . إنه فناء الذات في الحرية ، حرية الاكتشاف ، اكتشاف المعنى المؤدي إلى المطلق عبر بوابة التشكلات الحروفية التي تزيد من سعة مساحة الأزل الإنساني:

 

ألستَ الذي يُدعى بالحُروفيّ

أو ملك الحُروف

أو النُقطويّ أو الطلسميّ؟

قلتُ: لا أدري.

قال: إذنْ خذْها منّي،

يا شبيهي المُعذّب بالموتِ والارتباك،

أنا الحاء

حلمكَ الباذخ بالحُبّ

أيّها المحروم حدّ اللعنة،

حلمكَ المُتشظّي بالحرّية

أيّها المنفيّ إلى الأبد

 

لقد نجحت نصوص المجموعة في صياغة ما يعتلج في الذات الإنسانية من أسئلة الوجود وأجابت عنها في ضوء ما يؤمن به الشاعر داخل كون رؤيوي مفتوح قائم على مبدأ البوح المتستر. إن الفضيلة الكبيرة التي تسجل لأديب كمال الدين انه يسير ولا يتعب، يفتح قدره على مصراعيه من أجل أن يمسك الحقيقة التي هي مملكته الواسعة التي يسافر إليها وهو يحمل زاد المعاناة والورع والوعد. إنه الشوق الذي يضيق به الصدر ولا تسعه إلا الحروف التي بغوص فيها وبها ليوسع  تجربته، إذ إن منتجاته العقلية مسخرة لخدمة قضيته التي هي بمنزلة اليقين لا بسحر الدهشة.

******************************

* أقول الحرف وأعني أصابعي – شعر: أديب كمال الدين – الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت لبنان 2011

* نُشرت المقالة في مواقع كتابات والنور والمثقف 16 – 2 – 2011

 

الصفحة الرئيسية