السينما والتشكيل الشعري:

دراسة فنية في قصيدة "الموتى يرقصون عند الباب" للشاعر أديب كمال الدين

سمير عبد الرحيم أغا

 

 

 

 


استطاع فن السينما بما يملكه من طاقات وإمكانات هائلة أن " يفرض نفسه ليصبح واحداً من أخطر الفنون وأكثرها شعبية عند الجماهير وكان ذلك مدعاة إلى أن يؤسس لنفسه قوانين فنية صارمة جلبت الكثير من معالم الثقافة المعاصرة "كما تمتلك السينما مدى تعبيريا يعمل على إثراء القصيدة الغنائية عند الشاعر الحديث، فهي مثلا قادرة على وضع صور متعددة إلى جنب بعضها، والانتقال من مشهد إلى آخر ثمّ ربط هذه المشاهد ( المونتاج ) أو الاسترجاع (فلاش باك) 1


مونتاج النص الشعري

 *************
"إن استخدام المونتاج داخل مضمون النص المعاصر وسيلة في نبذ الحشو السردي المتعمد وحب للزمن الدرامي الثمين "2"... ويتم من خلاله نقل القصة والرواية في معناها القرائي إلى المعنى الإخراجي التصويري .. إن هذا الاستخدام اتخذ مساراً جديداً فالحدث المتباين أهم وسيلة تختزل اللقطة الشعرية لأن الأحداث تترابط داخل كل لقطة حدث ما. "ومما لاشك فيه أن الوسيلة البصرية الطباعية ، تعد أهم الوسائل المونتاجية التي يمارسها النص المعاصر ، لأن "اللغة لا تبلغ لبّ الأشياء الا في عالم الشكل،  والمونتاج من الأساليب التي استعارها الشاعر الحديث ووظفها في القصيدة  لربط شريحة فلمية (لقطة واحدة) مع أخرى . اللقطات ترتبط مع بعضها لتكون مشاهد . والمشاهد ترتبط معا لتكون مقاطع متسلسلة 3"
ويتم إيصال تك اللقطات عن طريق المزج او المسح وطبع اللقطات فوق بعضها وذلك للتعبير عند مرور فترات من الزمن أو أي تغيير آخر وهي الفكرة ذاتها التي يعد الشاعر الى تركيزها وتكثيفها في قصيدته  ليقدم لنا قصيدة محتشدة بمجموعة من الصور المتباعدة التي لا يمكن الربط بينها إلا بعد متابعة سير الأحداث فيها.


من القصائد التي استعان بها الشاعر  أديب كمال الدين في تركيب بنيتها بتقانات الفن السينمائي قصيدة "الموتى يرقصون عند الباب" وهي من ديوان "رقصة الحرف الأخيرة" الصادر عن دار ضفاف في بيروت 2015. وهي آخر مجاميعه في سلسلة إصداراته الشعرية .
يستحضر الشاعر أديب كمال الدين مشهد الموتى " أو الموت كما يتصوره مستقبلا سواء كان حقيقة أو تخيلا متعمدا بذلك أسلوب السرد الدرامي المتلاحق حيث العرض شبه التفصيلي لأحداث المتتابعة نحو الذروة والتكامل :


قصيدة " الموتى يرقصون عند الباب "

***********************
1
طرقَ الموتى بابي
عندَ الفجرِ عُراةً،
وبدوا كما لو كانوا أحياء.
يمثل الشاعر أديب كمال الدين في هذه القصيدة "التي تتكون من تسعة عشر مشهدا عين السارد". وعين السارد هو نفسه عين الكاميرا التي تصور الأحداث وفق ترتيب زماني متلاحق بهيئة مشاهد متلاحقة.
في القصيدة التي تصدّر الموت بدايتها ، تبدأ مأساة الشاعر وتراجيدية حياته بدم الموتى وطرق باب الشاعر وصراع مع الرقص بطريقة درامية ليؤشر الشاعر حاضره الدامي وشعوره بالضياع والعذاب والموت.
2.
رفعَ أحدُهم يدَه اليمنى إلى الأعلى،
إلى الأعلى.
(ولا أعرفُ لماذا).
ثُمَّ رفعَ يدَه اليسرى إلى الأعلى،
إلى الأعلى.
(ولا أعرفُ لماذا).
كانَ عارياً تماماً
بوجهٍ غَطّاه التُراب.
تعتمد الكاميرا هذه اللقطات القريبة المصورة والتي تشتد الإحداث فيها وكأنّ الشاعر عين مسلطة على الحدث وهذا ما يجعل القصيدة رؤيا مستقبلية ولذلك ابتدأها الشاعر بالفعل "طرق" للدلالة على الزمن الماضي.
.3
أخذَ يصالبُ ذراعيه مَرّةً،
مَرّتين،
ثلاثاً.
ويرفعُ قدميه الواحدة تلو الأخرى
بتناسقٍ وانسجام.
ثُمَّ مدَّ ذراعيه إلى الجانبين
كأنّه يريد الطيران.
والقصيدة رصد لما يجول في خيال الراوي من أحداث (متخيلة) عن أحياء الموتى أو الموت والكاميرا مثبتة في شخصية الراوي.
يتم استعراض المشاهد واللقطات في المقاطع التسعة عشر "من خلال تقنية الاستدعاء المتخيل وهي على عكس تقنية " فلاش باك" التي تستعرض أحداثاً ماضية .

 

 

 


4.
كتمتُ ضحكةً مُرعبةً في أعماقي.
أي أن حركة الكاميرا تتحرك عبر مخيلة الراوي لتجسد لنا مراسيم رقص الموتى الافتراضي عند باب الشاعر بدأ من لحظة طرق الباب ، لتبدأ حركات الرقص ووصف هذه الحركات وهم رجال ولم يكن معهم امرأة لأنه يخاف من رقص النساء.
.5
أصبحَ الراقصون ثلاثة.
لكنّ الأوّل رسمَ دائرةً فوقَ الأرض
ومنعَ الراقِصَين مِن الدخول
فصارا يقلّدان حركاته عَن بُعد.
6.
صارَ الراقصون خمسة.
كانوا رجالاً
ولم تكنْ معهم امرأةٌ أبداً،
فتنفّستُ الصُعداء.
7.
تنفّستُ الصُعداء.
فأنا أخافُ مِن رقصةِ النساءِ عندَ الفجر،
النساء القادمات مِن القبرِ عندَ الفجر.
تتنقل حركة الكاميرا من خلال عين السارد الى موكب ملك الموتى لتصور الراقص والراقصين معه وملك الموتى.
8.
سأسمّي الراقصَ الأولَ بمَلِكِ الموتى.
حضور عبر لقطة قريبة ومكبرة آثار الرقص المرتسمة على وجه الشاعر.
9.
لم يزلْ مَلِكُ الموتى
يرقصُ رقصتَه الكبرى.
يداه العاريتان تتحرّكان إلى الأعلى والأسفل،
وقدماه ترتفعان وتنخفضان.
لكنّه أخذَ يستبدلُ كلّ دقيقة قناعاً:
مَرّةً يرتدي قناعَ هاملت
ومَرّةً قناعَ ماكبث
ومَرّةً قناعَ المَلِكِ الضِلّيل
ومَرّةً قناعَ ديكِ الجِنّ.
وفي حركة تراجيدية لا تخلو من المفارقة تتواصل سلسلة الأحداث عبر رقص ملك الموتى وهو الراقص الأول وفي رقصه الكثير من الحركات حين يستبدل كل دقيقة قناعا، مرّة قناع هاملت ومرّة قناع ماكبث على نحو مفاجئ قبل الوصول إلى المشهد العاشر حيث يسأل الشاعر نفسه :
.10
سألتُ نفْسي:
أهم بشرٌ أم جِنّ؟
أهم بشر ام جن؟ ونقطة التحول تكمن في أقامة الشاعر من تلك المشاعر حين يظهر احد الموتى "يحمل طبلا" .
11.
فجأةً
ظهرَ أحدُ الموتى يحملُ طبلاً
وأخذَ يقرعُ عليه بقوّة.
كانَ الطبلُ كبيراً جدّاً
فصارَ الرقصُ أكثر رعباً.
وكأنه حلم مأساوي طافح بالموت ......
لا شك أن اعتماد الشاعر لأسلوب السرد الدرامي من خلال التراكيب الفعلية داخل المشاهد أسهم في رفد الحركة لدرامية للصور فضلا عن تفعيل حركة الإخراج والتصوير "لأن البناء الفعلي من أنسب البنى للتنامي الدرامي والسرد المكاني .. أو تتناسل وتتنامى الدراما بشكل متواتر (4).
12.
صارَ الرقصُ أكثر رعباً وَدَويّاً.
مشهديه الرقص هي التي تهيّئ مناخ القصيدة وتعيد ترتيب عالم الشاعر من خلال العنوان
13.
احمرّتْ دائرةُ المَلِكِ الراقص
وتدفّقتْ مِنها قطراتُ الدم
لتشكّلَ ساقيةً حمراء.
المشهد الثالث عشر مشهد درامي يبدأ من الفعل الدامي "احمرّت" حلبة الرقص وتدفق الدم بشكل ساقية. هذا المشهد يتناهى قي صورة لونية سوداوية.
14.
بكى الراقصون العُراة.
فتنهّدَ مَلِكُ الموتى بقوّة
وبكى معهم.
بكى الموتى في مشهد درامي الفعل هنا "بكى" حيث ترتكز عملية المونتاج على الوحدات الموضوعية وهو يعمل على تصعيد درامية الأحداث وتناميها والبكاء أساس هذا المشهد.
15.
فجأةً،
توقّفَ الكلُّ عن البكاء
وصفّقوا للمَلِكِ الراقص.
تستمر الكاميرا في حركتها متنقلة من مشهد إلى آخر في القصيدة وصولا إلى المشهد الختامي ليُعاد تسليط الضوء على شخصية الراوي المتكلّم كما في المشهد الافتتاحي أو اللقطة الأولى حيث الشاعر عند الباب ومشهد الدم في فضاء القصيدة.
16.
هل كانوا مُعجبين برقصته؟
أم بشبابه؟
أم بجماله؟
17.
انحنى المَلِكُ الراقصُ لهم بوقار
وصفّقَ لحظات معهم.
إن إيقاع الرقص يكسر الحلبة والتصفيق يموج في أرجاء المكان ليسري مشهد الرقص إلى ملكهم والتصفيق معهم.
18.
وصلَ الدمُ إلى بابي
فأغلقتُ البابَ بقوّة.
19.
لكنَّ الدم مرَّ إليَّ مِن تحتِ الباب.
ودوّي الطبلِ بَقي يتردّدُ في أذني
ليلَ نهار.
تتابع حركة الكاميرا في سرعة ورشاقة حركة الأفعال المتلاحقة من البداية "انحنى، وصل، مرّ ، الخ" لاختزال الزمن والوصول بالحبكة الدرامية نحو النهاية المتوقعة.
هذه هي الوسائل التي وظفها الشاعر للوصول إلى صور مرئية متحركة تجذب المتلقي وتجعله على تواصل نفسي وعاطفي مع النص الشعري من خلال الانتقال بالصور الشعرية من الخبر السمعي إلى حيز البصر والارتقاء بها في الثبات التام كما في اللوحة والثبات المتصور .
أخيراً هناك أكثر من قصيدة في هذا الديوان تتبع نفس التشكيل وترتبط وتتداخل مع آليات السينما ويعدُّ هذا التداخل أو التبادل بين الفنون "جدلية باطنية بين أكثر من جنس أدبي". ويجد المتتبع لتجربة أديب كمال الدين اشتغالا واسعاً على الحرف، وكذا النقطة التي ترتبط بالحرف ارتباطاً شديداً باعتبارها جزءاً منه، اذ النقطة بداية الخط والحرف يعد تعبيراً آخر عن تكرار النقطة وبتشكيلات عدة يقتضيها التنوع والتفاوت في المعنى والوجود، وقد أشار أديب كمال الدين إلى هذا داخل نصوصه .
..................................................................................
* قصيدة "الموتى يرقصون عند الباب" من ديوان " رقصة الحرف الأخيرة "، شعر:أديب كمال الدين، دار ضفاف، بيروت ، 2015
1- (الرواية والسينما ، التأثير المتبادل ، سامي محمد مج الأقلام " )
2- "( الزمن والرواية / ص 16 ت بكر عباس بيروت ، 1997 دار صادر " )
3- جماليات الفنون ، كمال عيد 1985
4- ( الشعرية العربية الحديثة ، شربل داغر)

*******************************************************************************

نص القصيدة

 

الموتى يرقصون عند الباب

شعر: أديب كمال الدين

 

 

1.

طرقَ الموتى بابي

عندَ الفجرِ عُراةً،

وبدوا كما لو كانوا أحياء.

2.

رفعَ أحدُهم يدَه اليمنى إلى الأعلى،

إلى الأعلى.

(ولا أعرفُ لماذا).

ثُمَّ رفعَ يدَه اليسرى إلى الأعلى،

إلى الأعلى.

(ولا أعرفُ لماذا).

كانَ عارياً تماماً

بوجهٍ غَطّاه التُراب.

3.

أخذَ يصالبُ ذراعيه مَرّةً،

مَرّتين،

ثلاثاً.

ويرفعُ قدميه الواحدة تلو الأخرى

بتناسقٍ وانسجام.

ثُمَّ مدَّ ذراعيه إلى الجانبين

كأنّه يريد الطيران.

4.

كتمتُ ضحكةً مُرعبةً في أعماقي.

5.

أصبحَ الراقصون ثلاثة.

لكنّ الأوّل رسمَ دائرةً فوقَ الأرض

ومنعَ الراقِصَين مِن الدخول

فصارا يقلّدان حركاته عَن بُعد.

6.

صارَ الراقصون خمسة.

كانوا رجالاً

ولم تكنْ معهم امرأةٌ أبداً،

فتنفّستُ الصُعداء.

7.

تنفّستُ الصُعداء.

فأنا أخافُ مِن رقصةِ النساءِ عندَ الفجر،

النساء القادمات مِن القبرِ عندَ الفجر.

8.

سأسمّي الراقصَ الأولَ بمَلِكِ الموتى.

9.

لم يزلْ مَلِكُ الموتى

يرقصُ رقصتَه الكبرى.

يداه العاريتان تتحرّكان إلى الأعلى والأسفل،

وقدماه ترتفعان وتنخفضان.

لكنّه أخذَ يستبدلُ كلّ دقيقة قناعاً:

مَرّةً يرتدي قناعَ هاملت

ومَرّةً قناعَ ماكبث

ومَرّةً قناعَ المَلِكِ الضِلّيل

ومَرّةً قناعَ ديكِ الجِنّ.

10.

سألتُ نفْسي:

أهم بشرٌ أم جِنّ؟

11.

فجأةً

ظهرَ أحدُ الموتى يحملُ طبلاً

وأخذَ يقرعُ عليه بقوّة.

كانَ الطبلُ كبيراً جدّاً

فصارَ الرقصُ أكثر رعباً.

12.

صارَ الرقصُ أكثر رعباً وَدَويّاً.

13.

احمرّتْ دائرةُ المَلِكِ الراقص

وتدفّقتْ مِنها قطراتُ الدم

لتشكّلَ ساقيةً حمراء.

14.

بكى الراقصون العُراة.

فتنهّدَ مَلِكُ الموتى بقوّة

وبكى معهم.

15.

فجأةً،

توقّفَ الكلُّ عن البكاء

وصفّقوا للمَلِكِ الراقص.

16.

هل كانوا مُعجبين برقصته؟

أم بشبابه؟

أم بجماله؟

17.

انحنى المَلِكُ الراقصُ لهم بوقار

وصفّقَ لحظات معهم.

18.

وصلَ الدمُ إلى بابي

فأغلقتُ البابَ بقوّة.

19.

لكنَّ الدم مرَّ إليَّ مِن تحتِ الباب.

ودوّي الطبلِ بَقي يتردّدُ في أذني

ليلَ نهار.

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home