أديب كمال الدين:

"لِمَ أنتََ؟" والبحث عن سرّ التمكن

 

 

 

غزلان هاشمي – الجزائر

 

 

   حينما يلتقي همس الماضي مع ارتحالات آنية، وحينما يسيج التاريخ باحتمالية متعددة، وحينما يستلم البوح صيغة سؤال باحثا عن إمكانه الحقيقي وسط لا نهائية، وحينما يعلن النص عن توتره وتبعثره بين أزمان مختلفة تبدأ الذات في الاشتغال على الذاكرة حيث تلامس لحظة مؤسطرة تعبيرا عن اغتراب وتشتت. وهذا ما وجدته في نص الشاعر العراقي المبدع الأستاذ "أديب كمال الدين" من ديوانه: "أقول الحرف وأعني أصابعي" والموسوم بـ"لِمَ أنت؟". فما يقوله النص؟

 العنوان: يتخذ العنوان صيغة سؤال باحث عن إجاباته داخل النص، حيث يحدث تشويشا وتوترا لقارئه الذي يستفز فيزور النص مفتشا عن جوابه، وكأن بالشاعر يقرّ بالإمكانات المتعددة أو القيام على الاحتمالية حيث يغدو الإبداع مساءلة لا تقريرا لحقيقة ما ، فصيغة السؤال"لِمَ" تفترض وجود اختيارية متعمدة من ضمن احتمالات مختلفة، وبالتالي فالشاعر هنا يتساءل عن سبب الوقوع على هذا الاختيار والموضوع في صيغة ضمير مخاطب "أنت" ويقصد به الموجود في حكم المقابل المباشر. وكأن بالشاعر يبحث عن هذا الافتراض وحقيقته وسبب تغييب باقي الافتراضات وإخراج بوحه من حكم المغيب في مواجهة لاستنطاق النص وجعله يقرّ بكل التباس وغموض علّه يصادف صورته الأصلية في لحظة من لحظات الاستجواب:

 

يا شاعرَ الحروفِ المريرة

رأيتُكَ البارحة

تحملُ حقيبتكَ السوداء من جديد

حزيناً كقاربٍ مُحطّمٍ على ساحلٍ مهجور.

خفتُ أنْ أسالك

عن اتجاهِكَ الجديد،

أعني عن منفاكَ الجديد.

خفتُ أنْ أسألك

فقد كنتَ تتعكّز على ضياعِكَ الأبديّ

وعلى صمتِكَ الذي لا يطيقُه الجبل

وعلى وحدتِكَ ذات السياط السبعة.

 

 يبدأ الشاعر لحظته الشعرية بحرف نداء، إذ ينادي لغة في تشكلها مسيّجة بالألم والبعد، ويتأخر الفعل الماضي "رأيتك" في محاولة لموضعة هذا المفتعل للألم في إطار المتأخر أو المؤجل، حيث الذاكرة تطرد ناحية الانتهاء، وإن كانت ـ أي الذاكرة ـ تعاود الظهور في حكم الموجود ، ليستفيق النص على الوقوع الآني "تحمل" ، مما يعبر عن توتر وتبعثر وتشتت بين الماضي والحاضر، أو عن فشل الذات في تغييب هذه الذاكرة الموجوعة والمهزومة، إذ الحقيبة السوداء هي تعبير عن الذكريات المطوقة بالألم. وتأتي المشابهة كمعادل تقريبي لصورة هذه الذات "كقارب مُحَطَّم"، حيث القارب رمز النجاة أو الارتحال ناحية المتغير والجديد محطم بفعل الانهزام أمام هذه الذاكرة الموجوعة، وليس ذلك فقط بل يرسو على ساحل مهجور ، حيث الملاذ الأخير للذات يلفه الخراب أو أن هذه الذات صدمت بلحظة مغايرة خرقت توقعها حينما لم تعثر على حلم التمكن وصفة الوجود العامر. ويستمر هذا التشتت وهذه الذاكرة التي سكنت لحظة المستقبل "خفتُ أن أسألك"، حيث تتحدد الرهبة من صيغة السؤال، وحيث النص يخاف ألا يلتقي بإجاباته المأمولة والحقيقية بسبب هذه الموضعية المتعددة التي اتخذتها اللغة في زمن المستقبل "تتعكز" (على ضياعك الأبدي ـ على صمتك ـ على وحدتك) والتي تدل على الحيرة وهوية الشتات:

خفتُ حتّى أن ألقي عليكَ السلام

فَمَن يضمنُ لي أنكَ ستعرفني

بعد أنْ أفترقنا منذ أيام نوح،

منذ أنْ ضاعَ يوسف

وباعه أخوةُ الذئبِ إلى ظلامِ البئر،

منذ أنْ رُفِعَ رأسُ الحسين على الرماح،

منذ أنْ صُلِبَ زيد الشهيد على بابِ الكوفة،

منذ أنْ صُلِبَ الحلاج ورماه مريدوه بالورد،

منذ أنْ قُتِلَ الملكُ المسكينُ بين خالاته وعمّاته،

منذ أنْ اشتعلتْ بغداد سبعين مرّة

بالحربِ والرعبِ والنهبِ والزلزلة،

منذ أنْ غادرتُ أو غادرتَ

بابل الأسطورة والبَلْبَلة

وعلى بابها الكبير

كان كلكامش وأنكيدو والأفعى

يشيرون إلى صورةِ مأساتهم

التي لا تكفّ عن التكرارِ في كلِّ يوم

وكأنّهم يبوحون بسرٍّ خطيرٍ إليك.

 

 

 

 

 

ويبقى الزمن المتراوح بين المغيب والآني عاكسا حيرة الذات التي تعيش لحظتها المنقضية في الزمن الحاضر "خفتُ ـ ألقي". إذ يتضح خوفها من هذه اللحظة التي تعلن عن ريبة وشك "من يضمن" إزاء هذا اللقاء المشتت بين زمنين، فالتساؤل "من" ليس بحثا عن إجابة ما بقدر ما هو اضطراب سببه العجز في توقع الآنية والافتراض المتخفي والمتعثر في مسافة زمنية تحتفي بالفائت..."افترقنا". إذ الافتراق فعل تضارب مؤسس على الخيانة ، خيانة من قبل السائد الذي جوبه بالنبش عن الحقائق المتخفية ، بحثا عن نص جديد متحول متحرر من صورة الوهم، ومن هنا فزمن الحقائق يصطدم بهذه التضحيات المكثفة والمتتالية "نوح ـ يوسف ـ الحسين ـ زيد ـ الحلاج ـ الملك..."، ليظل النص مسيجا بالغموض لا يسلم حقيقته لقارئه إلا تمويها تعبيرا عن اللانهائية .

إذن يستحضر الشاعر هذه الرموز التاريخية ليس في صيغة مزاوجة وإنما في صيغة اختلاق مستمر ، أملا في تهديم المركزيات الثابتة التي تعبر عن حقائق واهمة إذ الحقيقة هي في تلك المعاني المحايثة أو التي تخرج عن حدود المطابقة والمألوف السائد، إذن تعيش الذات هاجس الافتراق حيث تبوح في لحظة تعثر أنه هو ذاته زمن الحقائق المغيبة والمنسية "غادرتُ أو غادرتَ"، إذ تنفلت منه هويته وتقف على باب الدهشة حينما يعلن التاريخ عجزه عن استرداد صورة المجد المضيع على خيبة العثور "أنكيدو ـ كلكامش ـ الأفعى" أي التمكن من سر التحقق الدائم أو الخلود النصي:

فقلْ لي:

أيّ سرٍّ كانوا يبوحون به؟

ولِمَ أنت،

دون غيرك،

مَن يُباحُ له بالسرِّ العظيم

يا شاعرَ الحروفِ المريرة؟

وتسأل الذات زمن الحقائق أو البوح المحفوف بالخطر أو تلك اللغة التي يلفها الصمت والغموض عن سر التمكن وسر العثور ، ليعلن النص استسلامه لهذه الإمكانات المبهمة حيث يبقى سؤالا ينتظر إجابة غير معلنة أو بعيدة التحقق، ومن هنا يقر بهوية لا ثبات لها إذ تعول على الاختلاق المتعدد وعلى الاسئلة المتولدة دوما .

 

 ...............

هوامش

1. كمال الدين أديب: أقول الحرف وأعني أصابعي، الدار العربية للعلوم ناشرون.بيروت/ لبنان، ط1،2011  ص91.

2. كمال الدين أديب: أقول الحرف وأعني أصابعي. ص91 ـ 92.

3. كمال الدين أديب: أقول الحرف وأعني أصابعي. ص92.

**********************************************

 

 

نص القصيدة : لِمَ أنت؟  - شعر: أديب كمال الدين

يا شاعرَ الحروفِ المريرة

رأيتُكَ البارحة

تحملُ حقيبتكَ السوداء من جديد

حزيناً كقاربٍ مُحطّمٍ على ساحلٍ مهجور.

خفتُ أنْ أسالك

عن اتجاهِكَ الجديد،

أعني عن منفاكَ الجديد.

خفتُ أنْ أسألك

فقد كنتَ تتعكّز على ضياعِكَ الأبديّ

وعلى صمتِكَ الذي لا يطيقُه الجبل

وعلى وحدتِكَ ذات السياط السبعة.

خفتُ حتّى أن ألقي عليكَ السلام

فَمَن يضمنُ لي أنكَ ستعرفني

بعد أنْ أفترقنا منذ أيام نوح،

منذ أنْ ضاعَ يوسف

وباعه أخوةُ الذئبِ إلى ظلامِ البئر،

منذ أنْ رُفِعَ رأسُ الحسين على الرماح،

منذ أنْ صُلِبَ زيد الشهيد على بابِ الكوفة،

منذ أنْ صُلِبَ الحلاج ورماه مريدوه بالورد،

منذ أنْ قُتِلَ الملكُ المسكينُ بين خالاته وعمّاته،

منذ أنْ اشتعلتْ بغداد سبعين مرّة

بالحربِ والرعبِ والنهبِ والزلزلة،

منذ أنْ غادرتُ أو غادرتَ

بابل الأسطورة والبَلْبَلة

وعلى بابها الكبير

كان كلكامش وأنكيدو والأفعى

يشيرون إلى صورةِ مأساتهم

التي لا تكفّ عن التكرارِ في كلِّ يوم

وكأنّهم يبوحون بسرٍّ خطيرٍ إليك.

فقلْ لي:

أيّ سرٍّ كانوا يبوحون به؟

ولِمَ أنت،

دون غيرك،

مَن يُباحُ له بالسرِّ العظيم

يا شاعرَ الحروفِ المريرة؟

 

*****************************************************

 نُشرت في مواقع النور والمثقف وعروس الأهوار وجدارية وديوان العرب

 

 

 

الصفحة الرئيسية