قراءة في (مواقف الألف) للشاعر أديب كمال الدين

 

 

عندما يتبرأ النصُّ من شاعره!

 

 

 فيصل عبد الحسن

فيصل عبد الحسن

 

 

تضمن الديوان الشعري الجديد الذي صدر قبل أيام قليلة بعنوان "مواقف الألف" للشاعر أديب كمال الدين مواقف نصيّة كثيرة وضعت تجربة الشاعر على المحك. وهي أيضا تجربة تنذر بتحولات ذوقية وفنية ونصية لدى هذا الشاعر، فقد أضاف أغراضا جديدة للنص الشعري، ولم يعد النص الشعري لديه محاولة لمحاكاة الحياة، ومقابلة لغنائية المحيط به من مفردات الطبيعة، ومن يعيش في هذه الطبيعة من بشر ومخلوقات أخرى. فقد تسامى نصه في هذا الديوان، لينقل لنا هواجس صوفية تكررت لدى الكثير من شعراء المتصوفة كأمثال الحسين بن منصورالحلاج، ابن عربي، النفري، ابن الفارض، جلال الدين الرومي، عبد القادر الجيلاني، أحمد البدوي، محمد إقبال، البوصيري، رابعة العدوية، ابن عطاء السكندري، وغيرهم.

فالغرض الشعري في نصوص أديب كمال الدين اختفى، وحلّت مكانه مناجاةٌ متصلة بالخالق، وما خلق من جمال. وهي مناجاة خالية من أي هدف دنيوي، مما تعارف عليه البشر من خلال اتصالهم عبر الدعاء بخالق الكون، طالبين منه حاجة أو قضاء منفعة، وسؤالهم لنيل جاه أو رفعة في الدنيا والآخرة. لقد تجردت مناجاة الشاعر لخالقه وخالق الكون لتصير خالصة في محبة الله، وهذا النوع من الشعر، كما أزعم أرقى أنواع الشعر الصوفي، إذ ينزع الإنسان خرقته، وما يربطه بالأرض ويتحول إلى ملاك يسبح بنور الخالق الأعظم، وهنا اجتزىء ما جاء في مفتتح الديوان لأشرك القارىء بالاطلاع على هذا الجمال والثراء الروحي، الذي ندر مثيله في هذا الزمن المادي، زمن الوحشية المكدرة للنفوس، التي نراها في يومنا في حياة البشر إلا فيما ندر من نفحات الحب، والتسامح التي نجدها هنا وهناك لدى من يعيش من حولنا:

"اقتَبسَتُ مِن النِّفَّريّ جُملةَ البَدء

ومِن دمي جُملةَ المُنتهى.

وما بين الجُملتين

بعينين دامعتين

وقلبٍ يشبهُ شجرةَ الأمل

كتبتُ كتاباً في مدحِ ملكِ الملوك،

ذاك الذي يقولُ للشيء كُنْ فيكون،

سَمّيتُه: لوعة عابرِ سبيل.

ثُمَّ عُدتُ فَسمّيتُه:

نقطة شوقٍ وحرف أنين.

ثُمَّ تأمّلتُ سبعين مَرّة

في سنّارةِ السنين،

تأمّلتُ مثل صيّاد

اصطادَ سمكةً في بطنِها ليرة ذهب،

لأُسمّيه: مواقف الألف

في اقتفاءِ أثرِ التائبين والتائهين والعاشقين."

يدهشنا أديب كمال الدين بتطويعه السياق الشعري، والمفردة اللغوية لتناسب التصوير العياني المستمر والوصف الأطنابي المتجدد. فالشاعر اختار شكلا جديدا أسماه المواقف، ومواقفه غير بعيدة عن الشعرية العربية، وإن لم تكن مطابقة لها مطابقة الغطاء للقدر. فهو يروي ألمه، وحباطه بما نعيشه من خلال دعاء وتوسل بالخالق يذكرنا ببنيات الملحون المغربي، والموشحات الأندلسية. أسمعه هنا، وهو يردد في موقف الألف فيقول عن نفسه مناجيا خالقه:

"وأنتَ لستَ ممَّن يقرأ الشمس

أو طالعَ الشمس

ولا بالذي يقتفي أثرَ القافلة

بحثاً عن الذهب،

ولا بالذي يقودُ الشراعَ في البحر

بحثاً عن الجزيرةِ المفقودة؟

فكيف ستختار نجمَك؟

أعرفُ أنّكَ ستقول: "الغريب".

لكنّ هذا لا يُجيب.

وستقول: "المَنفيّ" أو "المَحروم" أو "الضائع"

لقد اتسمت المواقف في هذا الديوان، والتي زادت على خمسين موقفا، برؤية شمولية لنبل الهدف وضخامة مطالب العبد المتوسل بخالقه، فهي مطالب غير محددة بشخص الشاعر، الذي يناجي ربه لقضائها بل جاءت، شاملة لتضع ما في الوجود الأرضي من حاجات مختلفة للبشر، والحيوان والحجر والجبال والمحيطات والسهول والصحارى وحاجتهم العميقة لمحبة الله، في نص الدعاء الشعري كما جاء في أحد مواقف الديوان إذ يقول:

"فاجعلْني من العابرين إلى شمسِك،

شمسك التي تبدأُ بالياء وتنتهي بالسين.

إذْ ما كنتُ يا مَن يقولُ للشيء كنْ فيكون

ما كنتُ إلا حرفاً،

ما كنتُ إلا ألفاً

مَصيري إلى التُراب

إذ خلقتني من طين."

 

ويستمر هذا الحوار الباكي مع النفس، المتوسل بالقدرة العليا، موضحا أن الأغواءات التي مورست ضده قد تجاوزها، وأستطاع أن يضعها تحت أبطيه، فهو لن يخاف بعد كل تلك الأغواءات، لأنه سلم نفسه لما في نفسه من طهر ومحبة لله، فهو يحدث نفسه في هذا الحوار العميق في "موقف الخطأ" وهو أحد مواقف الديوان:

"كيفَ يحدثُ هذا ودمعتُكَ لا تفارقُ عينَك؟

كيفَ يحدثُ هذا وشمسي تُحيطُ بقلبِك؟

كيفَ وقد عبرتَ سبعاً من لُغاتِ الجَمر،

وسبعاً من معارك الكَفَرةِ الفَجَرة،

وسبعاً من بوّاباتِ مدنِ السُفهاء،

وسبعاً من تُفّاحاتِ حَوّاء،

وسبعاً من سكاكين صويحباتِ يوسف؟"

وفي موقف الرحيل يبدو تسليم الشاعر بما أريد له في جملة حياته واضحا:

 

"أوقَفَني في موقفِ الرحيل

وقال: من رحلةٍ إلى رحلة

ستقضي العمرَ يا عبدي.

فإنْ ودّعتَ ضياءً

فسترى ضياءً آخر.

وإنْ انقلبتْ بكَ السفينة

فستنقذكَ سفينةٌ أخرى.

وإنْ غرقَ البحرُ فيك،

وكثيراً ما سيغرقُ البحرُ فيك،

فسينجيكَ شاطئٌ من الجمر

أو شاطئٌ من الفجرِ أو المجهول.

وإنْ أكلكَ الذئب

فقميصُكَ حَيّ،

بدمِه الحَيّ،

إلى يوم يُبعَثون."

 

 

 

 

وعبر مواقف مختلفة في الديوان تجد دراما الحياة مبثوثة في كل موقف، وتتصاعد دراما النص حتى تتحول إلى بكاء، وسؤال متكرر، وحيرة مطلقة عن جدوى مقابلة ما جرى بالحزن والنحيب. ففي موقف المهد نجد هذه الحيرة المطلقة، ونجد القصص القرآني حاضرا كخلفية حية لبنية النص الشعري، مما زاد في ثراء النص، وجعله موحيا بالكثير مما عاناه الأنبياء والصديقون في رحلتهم الدنيوية لتـأشير الحق والصدق، والجمال في حياة الناس، أسمعه في موقف "المهد" يقول:

 

"أوقَفَني في موقفِ المَهد

وقال: وضعتُكَ, إذ خلقتُكَ، في المَهد.

وكانَ مَهدُكَ على الماء

يتنقّلُ من نهرٍ إلى نهر

ومن بحرٍ إلى بحر،

والشمسُ تحيطُ به

ثُمَّ تغربُ إلى سوادٍ عظيم

والنجمُ يحيط ُبه

ثُمَّ يغرقُ فيه شيئاً فشيئاً،

وأنتَ في المَهد

تنظرُ وتبكي: إلى أين؟

وقلبُكَ فارغٌ كفؤادِ أمّ موسى.

ثُمَّ تكبرُ وتشيخُ وتهرم

وأنتَ في المَهد تنظرُ وتتأمّل

لتتساءلَ أو لتصرخَ: إلى أين؟

وقلبُكَ فارغٌ كقلبِ يعقوب

حين لم يعدْ إليه من يوسف

غير القميص الملطّخ بالدمِ والأكاذيب.

ثُمَّ تصمتُ دهراً فدهراً،

فإذا كلمةُ أين

قد تكسّرتْ وتبعثرتْ فوق الماء

ولم تبقَ منها سوى نقطة النون."

 

في ديوان (مواقف الألف) نجد أنفسنا مصاحبين للشاعر في نسكه وتوحده، وطهره. نراه يتألم لما عاشه في عالمنا وما أضطرته الحياة لخوضه من تجارب، وما لحق به خلال ذلك من ذنوب، وما أفترش قلبه من ندوب، وما خلفت الأيام في نفسه من أحزان، وذكريات عما عاشه في سنوات ضلاله، وحبه للدنيا ومشاغلها. ونتعرف من خلال مواقف نصه الشعري على الكثير مما عشناه نحن، ولا نزال نعيشه، ونأمل في يوم ما إلى بلوغ ما بلغه كاتب الديوان من فهم لخفّة وزن الحياة، وتفاهة مشاغلها، أمام مطامح كبرى للإنسان تهدف لبلوغ الصفاء الروحي والسمو النفسي، والتسليم بما قسم القدر، وما أرادته الإرادة الإلهية لكل واحد منا، كأنما يتبرأ النص من شاعره، لتخليه عن جميع رغبات الشاعر وبشريته، وتركه خطابا ساميا للتسبيح بمحبة الخالق والمخلوقات

 

 

***********************************************

 

·       ديوان "مواقف الألف" صدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون/ بيروت – لبنان.

·       نُشرت المقالة في صحيفة أخبار الخليج البحرينية  26 - 11- 2011

-       فيصل عبد الحسن

faissalhassan@hotmail.com

 

 

 

الصفحة الرئيسية