صور المنفى في شعر أديب كمال الدين

د. صالح الرزوق

    إذا كان للحياة أثر على الفن فإن خروج الشاعر محمود درويش من فلسطين قد ترك علامة حاسمة في عموم قصائده، وحول تجربته من أنشودة مخصصة لتفكيك أسباب القهر المادي إلى سياق هوية عاطفية مركبة . وكان هذا مسؤولا عن التبدل في شكل الحادثة الفنية . ففي قصائد الأرض المحتلة رسم صورة الأنماط التي تتكل على العاطفة والمعنى . ولكن في قصائد الشتات والمنفى اعتمد على مبدأ الوجود الطارئ والمثقل باللوعة والندم وبأعباء الخطيئة.

   وهذا يصدق أيضا على مجال النثر. فالروائي الأمريكي ستيفن كينغ ، المصنف في عداد كتاب الترفيه و التسلية ، دخل في حقبة تصوفية أرسى بعدها حجر الأساس لقصة لها أبعاد الفن الفلسفي. وجرى ذلك بعد حادث سير مروع كاد أن يودي بحياته.
**

   وإن هجرة الشاعر أديب كمال من وطنه العراق تندرج تحت هذا البند. ويعني ذلك أن تجربته تنقسم إلى طورين: العراق و ما بعده. و لذلك أخذ المنفى لديه عدة أشكال و صور. وأهمها:

 -1 – شكل الغربة التي تفرض الإحساس الطبيعي بالحنين والانفصال، و يرافق ذلك العاطفة الخاصة التي غالبا ما تنظر إلى الأشياء وإلى الواقع بعدسة مكبرة، حتى أن أدق الأمور تظهر بصورة المشاكل الجسيمة أو الخطوب.

وليس هذا من الظواهر الغريبة على الثقافة العربية، وعلى وجه الخصوص ثقافة عصور الانحطاط التي تتشابه في جميع النواحي مع الظروف الراهنة. فقد كان البطل الشعبي يتحدى أوليغارشية أنتلجنسيا المركز بالمبالغة و بركوب المستحيل (وهذا يرادف في جو الذهن النهضوي المعجزات وكرامات المتصوفة). وأقصد هنا الأسلوب الفانتازي و الخرافات و الخوارق التي تحقق شروط الذهن المحبط ، و هو غالبا ذهن لضمير منفصل عن البنية المنتجة . و هذه أبسط أساليب الرفض و الاستنكار.

 -2 – أو شكل الامتناع و الاغتراب الروحي ، فيفرض على نبرة الشاعر أسلوب التأسي و الرثاء لواقع الحال و لطبيعة العلاقة الأخلاقية بين الوجدان الخاص والوجدان العام. بلغة أخرى يفرض عليها التعارض العلني بين الواقع الجائر والمعنى الضروري للحرية. و في مثل هذه الحالات يضطر الشاعر وجدانيا للوقوف تحت مظلة المثاليات. وهي ما نقول عنه بلغة علم الاجتماع الأخلاق والمواقف والسلوك . و غالبا ما يتطور ذلك إلى نشاط عرفاني و إلى إنكار لما يصعب تعريفه أو يصعب إعادة إنتاجه في شروط الفضاء العام للواقع. بهذا المعنى يقول في إحدى قصائده:

ثمّة خطأ في الحرفِ وآخر في النقطة

وفي ساعةِ الرملِ أو ساعةِ الصخر

وفي المفتاحِ وبابِ البيتِ والمطر

وفي القُبْلةِ وكلمةِ الأسف (1 )

وبهذه الطريقة أصبح من الممكن للذات أن تمتلك موضوعاتها و بالأحرى موضوعها الواحدي و المطلق و هو الصورة العامة لما يستحيل إنجازه بواسطة المشابهة . و هنا يفتح أديب كمال الدين نوافذه على عالم التنسك ، حتى يندمج أفق المعرفة الشخصية مع جوهر المعرفة الشاملة ، و تصبح القصيدة و بنيتها عبارة عن إعادة تفسير لمعارف هي بمرتبة لغز مجهول. و هذا يعني أنه باشر ببناء بيته الخاص ، و لماذا لا نقول عالمه الصغير ، و ذلك بإعادة تأهيل نفس المفردات في السياق المعاكس ، و ربما بإعادة تدوير نفس المفاهيم في نطاق (ما يقول عنه فوكو) إنه سمة . و هو ما يشير إليه الشاعر باسم (مجد الكلمة و مجد الحرف) ( 2 ) أو ) باب العرفان ) (3 )

وهذا أيضا منعطف معروف و حاسم في الذهن العربي ، و من خلاله اتصل مع هموم التنوير و بوقت مبكر ، و لكن احتفظ بالاتصال مع عالم المثاليات بواسطة أداتين هما : التجديد و الاشتقاق. و عنهما يقول في قصيدة ( قاف ) من مجموعته (نون ) :
لمحبّتكِ يجب أن أخترع أبجديةً جديدة.

لعشقكِ ينبغي أن أعيد اكتشاف الدموع ( 3)

ثم يضيف قائلا أيضا في نفس القصيدة:

ما أن تراكِ الأبجدية

حتّى تنفض عن ثيابِها

النومَ والنسيان واللامبالاة. (4)

لقد كانت رموز أديب كمال الدين دائما في حالة استنفار. وهي جزء من المعركة الشرسة التي قادتها الحداثة منذ الستينات وحتى منتصف الثمانينات باعتبار أنها إشارة لخطاب هزيمة له مشروعه و تتساوى فيه الأدوات مع المعاني (و يعبر عن ذلك بقوله: الجسد ... هو لغة الإنسان). (5)  و كأنه يؤكد المبدأ الذي عبر عنه الجواهري قبل أكثر من نصف قرن قائلا : أنا خرافتك المستترة فيك. (6).

   و توجب على القصائد في هذا الطور أن تعبر عن مصادر الدهشة التي لا يستطيع العالم إحباطها. و لذلك كان قوام القصيدة يتألف بالمرتبة الأولى من : الشكل المصدوع و الصور المبتورة الغامضة و الموضوع المباشر و البسيط و المدعوم بوسائل (الأبجدية الجديدة). وبهذا الخصوص يقول في قصيدة قاف بنبرة عتاب وشكوى :
لمذا صعدتِ إلى سطحِ أيامي

بعد أن كان الغموضُ يأكلك. (7)

**
وإجمالا إن اتكال هذه القصائد على نمط أدب الهزيمة ( و بالخصوص الهزيمة الحضارية لدولة العصر الذهبي ) واضحة. و تدعم هذه الفرضية أية مقارنة مبسطة بين الشخصيات ، فهي نفسها و مظلومة أو مخدوعة . و هي أيضا من مرتبة المغامرين و الرحالة و الفرسان الشجعان. و لكن بوسعنا أن نحذف من هذا البند الصور الخاصة بالقيان و مجالس المجون. و أعتقد أنه يتوفر وراء هذه النقطة مغزى. فالقصائد تعيد إنتاج ظروف الهزيمة و التخلف و السقوط ، و فوق ذلك ظروف المحنة ( و في مقدمتها محنة سيد الشهداء ) ، ولكن بهدف الإدانة. و هذه وظيفة أخلاقية يتمسك بها الشاعر طوال رحلته مع الحرف  (المضيء  (كما يود أن يقول . و يسقط من حسابه الطرق السلبية لتجاوز الأزمة و التي كان يعكسها الضمير الشعبي المخدّر و العاجز.

إن ألم المنفى و الاغتراب في شعر أديب كمال الدين يضع الذات و الموضوع في دائرة الضوء ( و بنفس المعيار الفني الذي تراه في عمل مبكر لعلامة بارزة في النثر العربي هو الأعرج واسيني مؤلف ألم الكتابة عن أحزان المنفى ). و هذا يفرض عليه ضرورة اشتقاق الصور المناسبة للإعراب عن الطبيعة التدميرية لانتقال المكان و لإعادة ترسيم حدود المعارف الروحية.

وبتعبير ألان تورين : هذا يقوده لتصوير الخراب الناجم من إطلاق العنان للحرية الفردية المزعومة التي يجب أن يحاصرها هلاك المجتمع (8).

هوامش :
 
-1  قصيدة ثمة خطأ. ص 9 . مجموعة أقول الحرف و أعني أصابعي. العربية للعلوم ناشرون. بيروت. 2011

 -2  قصيدة قاف. مجموعة نون . بغداد. مطبعة الجاحظ 1993 - ط1. و مجموعة أربعون قصيدة عن الحرف ص 16. دار أزمنة. 2009 على التوالي.

 -3  موقف الباب. منشورة في صحيفة المثقف. 5 – 7 – 2011 .
 - 4 
مجموعة نون . مصدر سابق. قصيدة قاف.

5   - موقف الجسد . منشورة في صحيفة المثقف – الأحد 26 – 6 – 2011 .
 -6
ديوان الجواهري – ص 5 – مطبعة الغري – النجف .1935

7 - مجموعة نون. مرجع سابق.

 -8 ألان تورين. نقد الحداثة. ترجمة أنور مغيث. 1997


صالح الرزوق - صيف 2011

*****************************

نُشرت في موقع حريات 24 – 8 - 2011

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home