أقول الحرف وأعني أصابعي. . . مَنْجمٌ للموضوعات الشعرية

 

  لندن / عدنان حسين أحمد

     يشكِّل الديوان الجديد "أقول الحرف وأعني أصابعي" إضافة نوعية لتجربة أديب كمال الدين الشعرية التي أسسّ لها بقوة منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، ومازال يغذّيها بدأبٍ ونشاط واضحين. إنّ منْ يقرأ هذا الديوان أو سواه من الدواوين السابقة سيكتشف من دون عناء أن الشاعر المتألق أديب كمال الدين يتوفّر على منجمٍ من الموضوعات الشعريّة التي ينتقيها بعناية فائقة مُعتمداً على حاسّته الشعريّة المُرهفة التي لا تُخيّب ظنّه أبدا. وهذا الثراء النوعي هو الذي يبرّر غزارته الشعرية التي تتصف بتنوّع المناخات، وتعدّد الآفاق التي يجوب فيها الشاعر، الأمر الذي ينقذه من مغبة السقوط في فخ الرتابة أو الولوج إلى خانق الأجواء السائدة والمكرّرة التي تفضي غالباً إلى الملل.

   لا يختلف اثنان على هيمنة ثنائية "الحرف والنقطة" على معظم دواوين الشاعر أديب كمال الدين، فهما مشروعه الحياتي والشعري في آنٍ معاً، بل أكاد أجزم أن وجوده الإبداعي يتوقّف على هذه الثنائية التي تنطوي على كثير من العجائب التي تمّد شاعرنا بإكسير الشعر والحياة، غير أن أية قصيدة تتخذ من هذه الثنائية موضوعاً لها، لابدّ أن تنطوي على ثيمات فرعية لا تقلّ أهمية عن الموضوع الأساسي الذي تتمحور عليه القصيدة. فهذا الديوان الذي يشتمل على أربعين نصاً شعرياً، إنما يتضمّن، في حقيقة الأمر، ضعف الرقم المُشار إليه سلفاً، وربما أكثر من الثيمات التي يعالجها الشاعر، أو يستغوِّرها، على الأصح، لأن أديب كمال الدين يتفنّنُ في استيلاد الرؤى والأفكار والصور الشعرية من بعضها البعض.

   لابد من الإشارة إلى هيمنة الأنا الشعرية لأديب كمال الدين في هذه النصوص، وهذا ليس عيباً على الإطلاق، فأنا الشاعر المُبدع والخلاق جديرة بهذا التفرّد لأنها تستطيع أن تخلق أي شيء من العدم، أو تعيد إنتاج ما سبق إنتاجه برؤية جديدة ومغايرة لم يسبق لأيٍ من الشعراء أن تعاطى معها أو عالجها على وفق هذا المنظور الجديد واللافت للنظر في آنٍ معا. ولكي نؤكد للقاريء الكريم صحّة ما نذهب إليه نشير بعجالةٍ خاطفة الى قصيدة "ثمة خطأ" التي استهل بها الشاعر ديوانه الجديد. فالنص لا يعالج خطأ واحداً، وإنما مجموعة أخطاء، أو إن شئت مجموعة ثيمات منها مباهج السرير، وصَبَوات الجسد، ونشوة الخمرة، وحمّى الرقص، ونزعة التعرّي، والموت الأحمر الذي يلتهم الأبناء وهم في عمر الزهور، والسنوات التي تتساقط من بين أصابع الشاعر كما تتساقط حبّات الرمل، وهروبه من منفى إلى آخر، وما إلى ذلك من موضوعات لا تخفى على القاريء الحصيف.

 إحالات

******

   تحتاج بعض قصائد أديب كمال الدين من قارئها إلى العودة إلى بعض المصادر والمراجع التاريخية والثقافية التي سبق لهذا الشاعر أن قرأها بإمعان وتمثّلها إلى الدرجة التي أصبحت هذه الإحالة أو تلك جزءاً عضوياً من نسيج النص الشعري الذي يكتبه. ففي قصيدة "الرقصة" التي يمكن أن تكون أنموذجاً للنص السوريالي أو الصوفي العجائبي المبني بناءً رصيناً يُشعِر القاريء باكتماله ودقّة صياغته التي لا تسمح بأية إضافةٍ أو حذفٍ أو تعديل. قبل الإشارة إلى الإحالات التاريخية والثقافية دعونا نتوقف عند البِنية الرصينة لهذا النص الشعري الآسر الذي سيتلاعب به الشاعر بطريقة فنية لافتة للانتباه سوف تزيده سحراً وجمالاً وغموضا. إذ سيزيل الشاعر أربعة أشياء مهمة من هذا النص الموضوع على طاولة الإدهاش بغية "فنتزته". وهذه الأشياء هي الهوامش، وعلامات الترقيم، والمعنى، والنقاط. لقد جرّد الشاعر نصه من هذه العوامل المساعدة كلها وكأنه يريد إعادتها إلى سيرتها الأولى في مرحلة التكوين. والأغرب من ذلك أن الحروف بدأت تتأنسن، ويمكن ملاحظة إرهاصات هذه الأنسنة من خلال تعرّي الحروف وتجرّدها من كل ما يُثقل صيرورتها الأولى، ثم تماسكها الجميل، واتخادها شكل الدائرة التي تحيط بكينونة هذا الشاعر المذهول والمدهوش في آنٍ معا، ثم شروعها في الرقص الذي أخذ يشتّد ويستعر كأنه يذكِّرنا بأن الشاعر المتصوّف قد ولجَ مرحلة الحلول، وتماهي كليّاً مع حروفه المنهمكة في رقص وحشيّ إلى الدرجة التي تشوّش فيها الشاعر ولم يعد يعرف كنهه وماهيته. ومن قلب هذا الموقف اللاأدري تنبثق أسئلة الشاعر المتشابكة، إذ لا يعرف من هو الآن على وجه التحديد: فهل هو المصلوب، يسوع المسيح الذي خانه تلميذه يهوذا الإسخريوطي مقابل ثلاثين قطعة من فضة؟ أم هو زيد الشهيد بن علي بن ابي طالب "ع" الذي صلبه يوسف بن عمر الثقفي وهو عُريان وأمر بحرقه وذرّ رماده في الرياح؟ أم هو طوطمٌ أفريقي خلق ليبتهج بقرع الطبول؟ أم هو مجرّد حرف ضال تمرّد على مملكة الحروف وبدأ يرقص كالممسوس وسط هذه الدائرة العجيبة من الحروف العارية التي جرّدها الشاعر من كل شيء باستثناء الجنون الذي أخذ شكل الرقص الوحشي المتواصل. ولكي تكتمل دلالات هذا النص لابد للقاريء أن يعود إلى هذه الإحالات ويستغور معناها كي يفهم المغزى الذي ذهب إليه الشاعر ويكتشف علاقة الشاعر بالإمام المصلوب زيد الشهيد، أو بسيوع المسيح، أو بالطوطم سواء أكان أفريقياً أم عربياً، فعرب الجاهلية كانوا يؤمنون بالطوطمية، وكان لكل قبيلة طوطماً على هيئة حيوان أو يحمل ملمحاً من ملامح الإنسان. ثمة قصائد أخرى تحتاج إلى مثل هذه الإحالات نذكر منها "العودة من البئر، إنّي أنا الحلاج، زوربا وياصاحب الوعد" وسواها من القصائد المركبّة ذات الجذر التاريخي أو الثقافي أو الفكري.

   وتعزيزاً لأهمية الإحالات في قصائد الشاعر أديب كمال الدين لابد من التنويه إلى أن الشاعر الحقيقي لايتوفر على رؤية نبوئية حسب، وإنما هناك إمكانية لنبوّة الشاعر بشكل من الأشكال. دعونا نتلمّس هذه النبوّة الشعرية. ففي قصيدة "الرقصة" المُشار إليها سلفاً يتقمّص الشاعر كينونة الحرف الممسوس الذي شذّ عن سرب الحروف فـ "أمسك الشمسَ بيده، والقمرَ بشماله" وهذه الإحالة تذكرِّنا بموقف عظيم من مواقف الرسول محمد "ص" التي يعرفها القاريء الكريم جيداً، ونحن لسنا بصددها الآن، لأن ما يهمّنا هنا هو مفهوم "النبوّة الشعرية" التي أفصح عنها شاعرنا المُرهَف في نص جريء حمل عنوان "في شارع الحشّاشين". ولو تأملنا هذا النص الشعري الكبير لوجدناه يتوفر على مجمل ملامح النبوّة الشعرية. لقد إختار الشاعر شرفة غرفته لكي يطلّ من خلالها على جمهوره الغريب الذي يتألف من السكارى والحشّاشين والنساء العاريات لكي يحدّثهم عن الله والمحبّة والسلام. المُلاحظ أن الجمهور يفتقر إلى الناس الأسوياء أو العاديين، لذلك يمكننا أن نتوقع من هؤلاء الحشّاشين مفاجآتٍ كثيرةً، خصوصاً وأن الشاعر يخبرنا بين ثنايا نصّه أنه بلَغَ السبعين عاما، ولابد لهذا الجمهور، حتى وإن كان مخموراً، أن يتململ ويتذمّر على هذا النبي الكذّاب الذي لم يأتِهم بمعجزة واحدة على مرّ سنوات نبوّته الطويلة.

 " صرخَ أحدهم،

وكانَ في قمّةِ السُكرِ والهيجان:

أيّهذا النبيّ الدعيّ

مللنا من إلهك

وكلامكَ المعسول عنه.

اخرجْ لنا معجزةً

أيّهذا النبيّ الكذّاب!"

    الغريب أن الحالات التي كان يعانى منها الشاعر النبيّ هي "الارتباكُ، والارتجاف، وجفاف الحلق، وإغيّام العينين وانعدام البصَر" وهي نفس الحالات التي كان تنتاب النبيّ محمد "ص" في أثناء نزول الوحي. ويبدو أن الشاعر الذي ينغمس في الحالة الإبداعية تنتابه نفس الحالات التي تنتاب النبيّ المُوحى إليه، وإلاّ فما هو السرّ في تشابه الحالات التي أوردناه سلفا؟

تتصاعد دراميّة النص العجائبي لكي يجترح لنا الشاعر النبيّ معجزةً جديدة وغير مألوفة من قبل حيث يقول:

 

"غير أنّ أصابعي

امتدّتْ إلى قلبي

وخلعتُه من مكانه

وأخرجتْ منه طائراً أبيض

ورمتهُ باتجاه الجمهور."

  لم يكتفِ هذا الشاعر النبيّ بخلع قلبهِ من مكانه، وإنما أخرجَ منه طائراً أبيض! وعلى الرغم من الصورة السوريالية المُفزعة للشخص الذي يخلعُ قلبه، إلاَ أن صدمة المفاجأة سوف تكون أكبر حينما تُخرِج أصابع الشاعر من بين تلافيف هذا القلب المخلوع طائراً أبيض يضع الجمهور كله في دائرة الدهشة والذهول. ولكي يستكمل الشاعر النبيّ صورته الشعرية التي تجمع بين المناخين الإعجازي من جهة والسوريالي من جهة أخرى يُطلق هذا الطائر الأبيض فيحلّق فوق الجمهور، ثم يرتفع عالياً عاليا، فيحدث عندها أمران، الأول أن الجمهورَ يصرخ من فرط السعادة والدهشة، أما الأمر الثاني فإن الشخص الذي شتمَه يبكي حينما يرى جثة "النبيّ الكذّاب" وهي ترتطم بالأرض لتكشف عن قلبٍ مخلوع كان عُشاً للطيور البيض.

 لُعبة التناص

*********

    يميل الشاعر أديب كمال الدين إلى لُعبة التناص الفني كثيراً خصوصاً حينما تكون الموضوعات المتناص معها كبيرة وراسخة في الذاكرة الجمعية للناس. كنا قد أشرنا غير مرّة إلى أن أديب كمال الدين هو شاعر صوفي بامتياز، غير أن نصه يتجاوز عتبة الصوفية ليلج فضاءات فنية تُخرِج المتلّقي من النمط الواحد للقصيدة، لأن النص الذي يكتبه ينطوي حقيقة على تعددية الأشكال والمعاني، فقد تكون قصيدته الصوفية ذات مناخ عادي مُغرق في الشأن اليومي، وقد تكون قصيدته اليومية ذات مناخات وتنويعات صوفية أخّاذة. هذا الحراك الزئبقي في نصوص الشاعر الأمهر أديب كمال الدين هو سرّ مهنته الشعرية، وعلامته الفارقة التي توّجته ملكاً على الحروف. فحينما نقول الحروفيّ إنما نقصد هذا المعنى قلباً وقالباً، فهذا التوصيف لايعني أبداً ملامسة قشور الكلمة، وإنما يستهدف لبّ الألباب. كثيرة هي القصائد التي تناصّ بها الشاعر أديب كمال الدين ولكننا سنكتفي بالإشارة إلى قصيدة "العودة من البئر" حيث يصبح الشاعر نفسه معادلاً موضوعياً للنبيّ يوسف المعروفة قصته للجميع تقريباً. تتحدّث هذه القصة عن غدر الأخوة به، وعن معاناته الطويلة في البئر، وعن أبيه الذي ابيّضت عيناه من الحزن وأودعه دمعتهُ الطاهرة. هذا التناص سوف يتكرر في أكثر من قصيدة، وربما تكون قصيدة "إنّي أنا الحلاج" هي أصدق أنموذج لهذا الشاعر الذي حمل رأسه بين يديه!

 الرموز الأدبية

*********

   تحضر الرموز الأدبية والفنية سواء أكانت عراقية أم عربية أم عالمية في نصوص أديب كمال الدين الشعرية بحيث تصبح أسماء الشعراء أو الأدباء أو الفنانين الذين يرد ذكرهم ثيمة رئيسة في نصوصه الشعرية كما هو الحال في قصائد "إنّي أنا الحلاج"، "زوربا"، "صقر فوق رأسه الشمس" التي أهداها إلى الشاعر رعد عبد القادر، "حارس الفنار قتيلا" التي خصّ بها الشاعر محمود البريكان، "تمسّكْ بها واستعنْ" التي أهداها إلى الدكتور حسن ناظم، "مديح إلى مهنّد الأنصاري" الإذاعي العراقي المعروف، و"البيّاتي" وما إلى ذلك من قصائد تمحورت في هذا الاتجاه. لم ترد هذه الأسماء الإبداعية الكبيرة وروداً عابراً، وإنما جاءت بوصفها ثيمةً للقصيدة، وموضوعاً رئيساً لها، بل أن بعض القصائد تحاول أن تختصر أو تكثِّف على الأصّح السيرة الإبداعية لهذا الشاعر أو ذاك الفنّان، أو أن تتوقف عند بعض المحطات الرئيسة في حياته الإبداعية. ولأن المجال لا يتسّع لكثير من التفاصيل الدقيقة لذلك سنتوقف عند بعض الإشارات التي تحوّلت إلى حقائق التقطتها المجسّات الفنية المُرهفة للشاعر أديب كمال الدين. كلنا يعرف حضور الشاعر رعد عبد القادر في المشهد الثقافي العراقي، وكيف هيمنت دواوينه منذ أواخر سبعينات القرن الماضي وحتى رحيله الأبديّ المُفجع الذي صدمنا جميعا. يقول أديب كمال الدين في قصيدة "صقر فوق رأسه الشمس":

 "حسناً

وبمثل ما ينبغي أن يُقال

فقد نُسِيتَ أو دُفِعْتَ إلى بئرِ النسيان.

والأصدقاءُ الذين صُعِقوا لموتكَ الأسطوري

وذرفوا الدموعَ لموتكَ الأسطوري

عادوا فنسوكَ بسرعةِ البرق"

 

    كانت دواوين الشاعر الراحل رعد عبد القادر، على قلّتها، تحضى باهتمام النقاد والقرّاء العضويّين على حدٍ سواء. فمّنْ منا لا يتذكر "مرايا الأسئلة"، و "جوائز السنة الكبيسة"؟ ومَنْ منا لا تخطر بباله الصور الشعرية الخلابة في "دع البلبل يتعجّب" أو "أوبرا الأميرة الضائعة؟ ومَنْ منا لم يتمعّن جيداً في الصياغات اللغوية وتجليات الكلام في "صقر فوق رأسه الشمس" و"عصر التسلية"؟ هكذا إذن، في رمشة عين نسينا رعد عبد القادر، وتركنا دواوينه المضيئة أسيرة الأرفف العالية من مكتباتنا!

ربما تتكشّف الصورة أكثر في قصيدة "البياتي"، فهذا الشاعر الذي سطع نجمه خلال العقود الخمسة الماضيات حقق خلالها حضوراً يحسده الكثير من الشعراء النجوم. وقد خاض سجالات ومعارك كثيرة في نصوصه حيث هاجم الشعراء الدناصير والمهرِّجين والخصيان، وسخرَ من المتشاعرين البهلوانيّين والدونجوانيّين، وارتدى القميص الأحمر، وحملَ راية الشغيلة على مرّ الأعوام، لكنه ما إن مات وابتلعتهُ الأرض حتى تناوشته الألسن السليطة، وأخذت تُطلق عليه، دونما استحياء، أبشع الألفاظ! يصف أديب كمال الدين الحالة المزرية التي وصل إليها بعض الأدباء الكبارالذين لم يتركوا، مع الأسف، فرصة إلاّ وقدحوا في البياتي بعد أن غابت قامته البهيّة من المشهد الشعري العالمي حيث يقول:

 " ثمّ إذ ابتلعتكَ الأرض،

أعني في اللحظةِ التي ابتلعتكَ الأرض،

شتموك

وطالتْ ألسنتهم كثيراً كثيراً

حتى صرتَ "الشاعر الضحل" لا "الشاعر الفحل"!

 وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن هذا الديوان الموسوم بـ "أقول الحرف وأعني أصابعي" يشكِّل تتويجاً لتجربة شعرية متفرّدة انطلقت شرارتها منذ أواسط سبعينات القرن الماضي ولاتزال تتوهّج بفضل القدرة الهائلة للشاعر أديب كمال الدين في رفد موهبته الشعرية، وتعميق أبعادها الفنية والجمالية كلما تقادمت السنوات.

 ********************************************

 * أقول الحرف وأعني أصابعي– شعر: أديب كمال الدين- الدار العربية للعلوم ناشرون – بيروت، لبنان 2011

 * نُشرت المقالة في صحيفة المنارة بعددها المرقم 765 والمؤرخ في 26 آذار 2011 كما نُشرت في صحيفة القدس العربي اللندنية بتاريخ 7 - 4 - 2011

الصفحة الرئيسية