قراءة في مجموعة (أربعون قصيدة عن الحرف) للشاعر أديب كمال الدين

أطياف النص الشعري المخلّق

 

 

 

 

 

 

 

أمجد نجم الزيدي

  

   إنّ البحث في ماهية الشعر لهو بحث عسير، لأنّ الاحاطة بموضوع كهذا يحتاج إلى الاحاطة بالمسيرة التاريخية التي مرّ بها ذلك الجنس وأهم التغيرات التي طرأت عليه والمسارب التي اشتقّها الشعراء في تحميل كلماتهم شظايا الشعر ومضانه. وربّما يرتبك البحث إن حاولنا غضّ النظر عن أيّ ظاهرة اقترنتْ به أو كان لها تأثير على مساراته. وكذلك فإنّ فضاء الاشتغال في منطقة قصيدة النثر، ربما يراه البعض مفارقةً بعيدةً عن الارتباط بتاريخية الشعر، لأن قصيدة النثر جنس شعري مستحدث، ولم يلاقِ كاملَ التقبّل إلى حد هذه اللحظة، وخاصة في الأوساط الاكاديمية. وان تمّ ذلك في بعض الأحيان، بحدود ضيّقة، وبمحاولات كانت أغلبها محاولات خجولة، إلا من قبل بعض النقاد من الوسط الاكاديمي والذين كانوا يتبّنون الأفكار الحداثوية في النقد.

   وما نروم الوصول اليه هو البحث في جوهر الشعر، ومحاولة سبر غوره، من خلال محاولة رصد المؤثرات والتوظيفات الايحائية- بعيداً عن تلك التاريخانية- المتوزّعة بين فضائين هما فضاء النص الكتابي كوجود خارجي مستقل ومتشكّل، وفضاء القراءة كوجود نصّي غير متشكّل، فضاء حر تطوف فيه الدلالات تبحث عن التشكّل في صورة علامية من خلال المجسّات المعرفية والذاكراتية والتاريخية للقارئ. فكل كلمة وإشارة ودلالة ومعنى ربما تقترحه القراءة، هو نص افتراضي مركب من تمثّلات النص، كنصّ مخلّق يحمل هويةً أجناسية وتاريخية، وكذلك من قارئ هو عبارة عن مجموعة من الذوات المعرفية والتاريخية، كذاكرة وهوية.

   وتنتظم أطياف النص الشعري المخلّق، علاقات التوازي والتداخل والتعرض، مبنية على طيف الكلمة والإشارة والدلالة المقترح، ليكون ساحةً لتأويلات وقراءة متعددة، وربما متعارضة أيضاً، لخلق النص الشعري الاشكالي الذي يقترب إلى خلق هوية كونية للشعر.

وبالنظر داخل المجموعة الشعرية (أربعون قصيدة عن الحرف) للشاعر العراقي أديب كمال الدين، وبالتحديد داخل نصّين منها، هما نص (جاء نوح ومضى) ونص (عن المطر والحب)، نرى تلك الأطياف وتلاوينها التي تتوزع مابين الكلمة وأثرها الكتابي من جهة والقارئ/ المتلقي من جهة أخرى، حيث تتشظى دلالات النصوص في أربعين نصاً، مبنية على ايحاء عنوان المجموعة، والتي تعد كموجّه قرائي، على اعتبار انه مهيمنة علامية، أو ثريا تنير النص، وما يولد هذه العملية هي القصدية التي بني عليها العنوان، من خلال حرف الجر (عن)، والذي يقيد البناء الدلالي ويوجهه في المستوى الكتابي الأولي، معتمداً على البنية النحوية والخطابية لجملة العنوان، حيث ترينا القراءة الأولية البسيطة للعنوان، بأن المجموعة متكونة من أربعين نصاً، وهذه النصوص تدور حول الحرف، وذلك ما يظهره حرف الجر(عن). مما يولّد ايحاءً بأنّ الثيمة الرئيسية لهذه النصوص مبنية حول الحرف، لذلك يكون للحرف وجود مجرد أيقوني، تغطي النصوصُ الأربعون جميع زواياه، حيث تتلوّن هذه النصوص تبعاً للون الذي تعكسه زاوية النظر. ولكن القراءة الدقيقة لنصوص المجموعة، ترينا خطاً بنائياً آخر أخذته النصوص، بأن أخرجت الحرف من أيقونته الرمزية المحدودة، والتي أخذت عدة تداعيات اجرائية. إذ ضخّ الشاعر في حرفه طاقةً حركيةً، أخرجته من تلك الايقونية الحروفية، التي ربما كان يوحي بها العنوان وجعلته مشاركاً فعلياً في بناء النص، وتوليد المعنى وتحريك الدلالات، فلو نظرنا مثلاً في نص (جاء نوح ومضى) وهو أول نصوص المجموعة:

ستموت الآن.

أعرفُ، يا صديقي الحرف، أنكَ ستموت الآن.

لم تعد نقطتكَ الأنقى من ندى الوردة

تتحمّل كلّ هذا العذاب السحريّ

والكمائن وسط الظلام

والوحدة ذات السياط السبعة.

وفي هذا المقطع نرى بأنه قد أنبنى على شخصنة الحرف (يا صديقي الحرف). ثم تتوإلى الدلالات المبنية على الفعل (أعرف) الذي افتتح النص، وهي تعداد لصفات الحرف المشخصن. بيد أنّ يد القراءة أعادت ترتيب المقطع، حيث أنّ شخصنة الحرف أخرجته من تداوليته المبنية على الطاقة الرمزية والايحائية للحرف كوجود مجرد ليتداعى إلى صورة جديدة كسرت تلك المقولة، وليلبس في هذا النص انطلاقاً من هذا المقطع لبوساً جديداً. أي أنه نزل إلى ساحة الفعل الدرامي، وذلك من خلال تلك التوظيفات الايحائية التي وزعها، جاعلاً منها بوابةً لخروج الحرف من سلطة الكلمة التي فرضت هيمنتها عليه منذ أزمان سحيقة (في البدء كانت الكلمة)، وتلك التوظيفات الايحائية هي (الحرف– الموت)، (النقطة– الندى)، (النقطة– السياط السبعة) ويستمر هذا الاشتغال على طول النص:

جاء نوح ومضى!

لوحّنا له طويلاً

بأيدينا

وقمصاننا

وملابسنا

ودموعنا الحرّى

لوحّنا له بيتمنا الأبدي

وبضياعنا الأزلي.

   لقد جاء هذا المقطع تعزيزاً للدلالات التي أسس عليها المقطع السابق، حيث نلاحظ بأن (أنا النص) التي ظهرت في المقطع السابق وأبتدأت بياء المخاطب (يا صديقي)، لتمر بتكرار كلمة (مثلي) و(نا) المتكلمين (لم يخبرنا أحد)، (انتظرنا)، ثم الانفصال (أنا – أنت)، ليتعزز بهذا المقطع  أنا (أنا النص) و انت (الحرف)، اقترانا مع وتضمينا لقصة نوح (عليه السلام) والتي تضعنا في مواجهة مباشرة مع النص. على اعتبار أن الذي سبق هو كله توظيفات ايحائية، حاول النص بها أن يرصّع وجوده الدلالي بإحالات مرجعية وعلامية تحرك النص، وتستفز أطياف القراءة، التي ستتشكل من خلال عملية المزاوجة مابين الأنا والأنت، وانعكاسها من موشور الدلالة المضمنة، وهي قصة نوح (عليه السلام). كيف ذلك؟ هذا ما يظهر لنا لو نحن عدنا إلى الإشارات السابقة، أي أن الحرف قد تشخصن (يا صديقي)، ونزل إلى ساحة الفعل الدرامي، على اعتبار أنه علامة فردية، لا يمكن أن تتطابق بصورة تامة مع علامة أخرى أو دلالة، ممكن للنص من توظيفها، وهذا مايظهر لنا بالمقابلة مابين أنا والأنت (الحرف):

أنت (الحرف) بسيط مثلي (أنا).

أنت (الحرف) ضائع مثلي (أنا).

أنت (الحرف) ساذج مثلي (أنا).

وكذلك في (أيدينا، قمصاننا، دموعنا، يتمنا، ضياعنا)، والتي ترينا بأن كلا الطرفين يقفان بصورة متقابلة (زوجين)، أي أن لكل واحدة منهما وجود مستقل، وبهذا يتطابق مع الاحالة المرجعية للقصة القرآنية وإن جنح بعيداً عنها بأن (نوح) لم يركبهما في سفينته رغم تلويحهما له ومحاولة لفت انتباهه لهما. بسم الله الرحمن الرحيم "حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا أحمل فيها من كل زوجين أثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومَن آمن وما آمن إلا قليل" (هود: 40). وإذا أدركنا أيضاً أن عملية الكتابة- وبخاصة الشعر والفنون الابداعية الاخرى-  هي عملية مزاوجة بين أنا الكاتب والحرف، ليولد الشعر..

أما نص (عن المطر والحب):

    سأكتبُ عنكِ قصيدةَ المطر.

    سأكتبُ عنكِ قصيدةَ الحُبّ.

    سأكتبُ عنكِ قصيدةَ الموت.

    وسأسألكِ ببراءةِ الطفل:

    أيكونُ المطرُ أقوى من الحُبّ؟

    أيكون الحُبّ أقوى من الموت؟

    أم هو الموت أقوى من المطر؟

    يقوم عنوان النص على العلاقة التقابلية مابين المطر والحب، والذي يظهر من خلال حرف الجر (عن)، ولكن النص سيورد لنا في متنه أن مفردتين هما (البحر والموت)، قد أخذتا بالتماهي مع مفردتي العنوان، ولكن هذا التماهي قائم على تناص مضمر في مجمل النص. وهو تناص مع قصيدة السياب (أنشودة المطر)، والذي يظهر من خلال تفاعل هذه المفردات وتفاعلها، وخاصة مابين (المطر – الموت – الحب) إذ يقول السياب (كالحب، كالأطفال، كالموتى – هو المطر!).

   قصيدة السياب تنتصر للمطر واهب الحياة، وهو الثورة وهو الحب الذي يأخذ كل تفاصيل الحياة، الولادة، الموت. بينما نص أديب كمال الدين يقلب المعادلة السيابية وينتصر للموت. وتنتظم هذه المفردات الثلاثة (المطر– الحب– الموت) علاقة البحث عن الذات، وقد بدت هذه المفردات في بعض الاحيان منفصلة تحمل خصيصتها الوجودية المعزولة، وإن مارس الحب سلطة المولّد للدلالة وتحكّم في درجة تمركزها من خلال الاضمار الذي بُنيت عليه العلاقات التي بنتها المفردات الأخرى:

أعرفُ أنكِ لن تستجيبي

ولذا أعتدتُ على شمسكِ الحامضة.

فحين أقبّلكِ يختفي مطرُ قلبك

بل يختفي أرنبك الصغير.

وحين تقررين أن تمطري

يكون مطرُكِ، واأسفاه،

مصحوباً بالزلازل

لأنه يكون وقت انحسار البحر

وسيطرة الموت على سمائه العارية.

   إن ما يربك القارئ في النص بأن هذه الدلالات (الحب– المطر– الموت– البحر) هي دلالات زئبقية صعبة التكون، فتراها مرّةً متداخلة مع بعضها حتى يصعب عليك فصلها، ومرّات أخرى منفصلة تحمل همّها وحدها وتحاول أن تفرض وجودها الدلالي. أي أن هناك تسابق داخل النص لصعود إحدى الدلالات وتميزها لتأخذ مقاليد النص. ولكن مفردة الحب هي التي اخذت بمقاليد النص، وإن كانت المفردات الاخرى تزاحمها في الوجود. ربما المطر يزاحمها قليلا، والموت في بعض الأحيان، لكن مفردة البحر حافظت على وجودها المستقل..

*****************************************

أربعون قصيدة عن الحرف – شعر: أديب كمال الدين – أزمنة للنشر والتوزيع– عمّان – الأردن 2009.

نُشرت المقالة في صحيفة طريق الشعب البغدادية العدد 172 في 28 - 4 - 2011 كما نُشرت في مواقع كتابات والنرد ودروب في 21 - 5 - 2011

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home