تقنية فن التحريك في النص الشعري

 مقاربة سينمائية لتأويل قصيدة "تحت شجرة الكلمة" لأديب كمال الدين

 

عدنان حسين أحمد - لندن

 ذكرتُ في مقالةٍ سابقة أن ديوان الشاعر أديب كمال الدين "أقولُ الحَرف وأعني أصابعي" هو منْجمٌ للموضوعات الشعريّة. فالقصيدة الواحدة يمكن أن تنطوي على ثيمةٍ رئيسة أو تتشظّى إلى موضوعات متعددة من دون أن تفقد وحدتها أو تصبح ضحيّة للتشتّت والضياع. كما أشرت إلى التقنيات التي استعملها الشاعر الأمْهر في صياغة نصوصه الشعرية المُحْكَمَة التي تتجاور فيها أصداء لأجناس إبداعية عديدة كالقصة القصيرة والدراما والفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي وما إلى ذلك. وعلى رغم أهمية التلاقح بين الشعر وبقية الأجناس الأدبية والفنية التي توقفنا عند بعضها في دراسات نقدية متواضعة، إلاّ أنني سأكرّس هذه المقالة لتقنية التحرّيك التي استعملها الشاعر أديب كمال الدين في كتابة نص شعري متفرّد أسماه "تحت شجرة الكلمة" ونعني بالتحريك هنا فن الأنِيمَيْشِن "Animation"، إذ لم يكتفِ الشاعر كمال الدين بهذه التقنية حسب، وإنما ذهب أبعدَ من ذلك حينما عزّزها بلمساتٍ سوريالية كي يُضاعف من زخم الإدهاش لدى المتلّقي.

أقول ببساطة شديدة أن هذه القصيدة يمكن أن تتحوّل إلى فيلم تحريك ناجح إذا ما قُيِّض لها كاتب سيناريو ناجح يخلِّص النص من خطابه الأدبي ويضفي عليه أبعاداً بصرية جديدة تخدم الصورة السينمائية ولا تُثقِل كاهلها بالثرثرة اللغوية التي لا يحتاجها الخطاب السينمائي. ولكي يتحقق هذا الفيلم السينمائي المُرتَقب لابد من توفّر مُخرج حصيف يستطيع أن يجسّد هذا النَفَس التشخيصي الذي أغدقهُ الشاعر على الشخصيتين الرئيستين في النص، وهما الحرفُ "الأخرق" الذي لا يُجيد فنَّ التقبّيل، والنقطة المُتعلّمة التي تعرف أسرار الحُب، وتتفنّنُ في استدارج العاشق إلى هذا الفخ الجميل.

لقد أنسنَ الشاعر هاتين الشخصيتين ومنحهما كل الصفات الإنسانية التي يجب توفرها لدى الكائن البشري المُرهَف. وربما تجدر الإشارة هنا إلى أن فعل الحُب هو من أرقى الأفعال الإنسانية، ولايمكن لهذا الكائن البشري أن يتجلّى من دون هذا الحُب الروحي الذي يضفي على الحياة بُعداً غامضاً يتجاوز حدود الملذات العابرة. فثمة غواية أبديّة تغري الطرفين للسقوط في هذا الفخ الأزلي المنصوب لكلٍ من العاشق والمعشوق في أنٍ معا.

لنتمعّن في المقطع الأول من القصيدة التي أثثّها الشاعر بمشهدٍ سينوغرافي مُعبِّر جداً يقتصر على شجرة الكلمة، وربما أراد الشاعر هنا "شجرة الكلام" التي تضّمُ حشداً كبيراً من الحروف وعلامات الترقيم، والكائنين المُؤنسنين الحرف والنقطة اللذين يمارسان فعلاً إنسانياً راقياً سيُفاجيء الحرف أولاً، ثم يقودهُ إلى التيه والهَيَمان، وأخيراً يفضي به إلى دائرة الجنون. كل الذي قام به الحرف والنقطة أو العاشق والمعشوق أنهما "قبّلا بعضهما بعضاً" بدافع الفضول أو الغريزة البشرية التي نعرف كُنهها جيداً لأن لذّة القُبلة من دون شك تكمن خارج إطار اللذّة الجسديّة الناجمة عن تماسّ الشفتين، وتمازج الرضابين، ودورة اللسانِ على اللسان. ثمة لذّة أكثر حلاوة في المسافة المُتخيّلة بين شفتي العاشق المتلهفتين لرضاب المعشوقة.

لاشك في أن المرأة هي أكثر خبرة من الرجل في موضوع الحُب وشؤون الجسد وشجونه، وربما هي أكثر جرأة في مضمار الحُبِّ من الرجل، ولا أُريد أن أُعمّم هذا الرأي، لذلك حينما نسمع أن الحرفَ أخرقٌ، بوصفه ذكراً، ولا يجيدُ سوى فنّ الكلام، لا نستغرب لأنه جاهل في هذا الجانب، ولا تؤهله خبرته العاطفية لأن يتقنَ عملية التقبيل أو يتفنّنَ بها. فلا غرابة أن تعلّمه سرَّ القُبلة تحت شجرة الكلمة.

يطوِّر الشاعر أديب كمال الدين بِنية نصه الشعريّ الذي يجمع في هذه المزاوجة العجيبة بين ماهو سوريالي "مُشخّص" وبين ما هو واقعي مألوف. فحينما تُعلِّم النقطةُ الحرفَ فنَّ التقبّيل سوف يُصبح هذا الحرفُ عاشقاً، ثم شاعراً، ثم مجنوناً في آخر المطاف كما جرت العادة. فالخيطُ الذي يفصل بين العِشقِ والشِعر من جهة وبين الجنون من جهة أخرى هو خيطٌ واهٍ ولا يمكن رؤيته إلاّ بشق الأنفس. يا تُرى، ما الذي ستفعلهُ الأنثى حينما تجد نفسها أمام عاشِقٍ شاعرٍ مجنون سوى أنها تعرِض مفاتنها الأنثوية علّه يضيع بين تضاريس جغرافية هذا الجسد العاري تحت شجرة الحروف المُستفّزة؟

ما مِن كائنٍ حيّ، سواء أكان بشراً أم حيواناً أم نباتاً، يستطيع أن يتفادى نهايته المحتومة. فكلنا محكوم بهذه النهاية المُفجِعة التي تفضي بنا إلى العدم أو المجهول الذي لا سبيل لسبر أغواره العميقة. ولكي يمهِّد الشاعر لمرور السنوات وتواليها فإنه يذكِّرنا بدورات الفصول التي تتكرّر وما ينجمُ عنها من سأم وملل حتى وإن كان بعض هذه الفصول مهووساً بالجنس ومنغمساً به كانغماس الصيف بالحرِّ اللاهب، وانغماس الشتاء بالثلج القارس. حينما تتكرّر القُبلة، وتصبح طقساً مُعتادا بين الاثنين سواء في القصيدة أم في الفراش، فإنها سوف تفقد عذريّتها من دون شكّ وتسقط في خانق الرتابة. وبسبب هذا التكرار المُمِّل ينتقي الشاعر نهاية صادمة، لكنها تبدو منطقية، حينما يخبرنا بأن الحرفَ قد أُصيبَ بالعمى، فيما أصبحت النقطةُ قبيحة كجهنّم بعد أن انهارت عليهما شجرة الكلمة دون سابق موعد أو إنذار!

تتوفر هذه القصيدة على معظم اشتراطات النص الأدبي الناجح من زمان ومكان وحدث وشخصيات تنمو على وفق آلية مدروسة للتصعيد الدرامي الذي يمكننا أن نتلمّسهُ عبر ثنايا القصيدة المكوّنة من أربعة مقاطع شعرية مكثّفة تتوتّر رويداً رويدا حتى تبلغ ذروتها المأسوية بسقوط شجرة الكلمة على الحرف الذي أُصيب بالعمى والأنثى التي أصبحت قبيحة كجهنّم.

إنَّ توفّر المعطيات الفنية "التجريدية" ذات الأبعاد السوريالية للشخصيتين الرئيسيّتين في حدث هذه القصيدة التي تنتهي نهاية مأسوية مُفجعة يتيح للمخرج الذي يريد أن يتصدّى لهذه الفكرة السينمائية الجاهزة ويكيّفها لكي تصبح فيلماً تحريكيّاً ناجحاً إذا ما توفّر كاتب سيناريو قادر على تحويل الصور الأدبية إلى صور بصَرية تتعزّز ببعض المؤثرات الصوتية التي تنسجم مع الحدث المفجع لهذا النص التراجيدي الذي لا يخلو من أبعاد فلسفية تشي بعمق فكرته، وتكشف عن جمال بنيته الداخلية الرصينة.

 

نص القصيدة

**************

تحت شجرة الكلمة

شعر: أديب كمال الدين

 

 (1)

تحت شجرة الكلمة

جلسَ الحرفُ والنقطة

وقبّلا بعضهما بعضاً.

(2)

كان الحرفُ أخرقَ

لا يجيدُ سوى فنّ الكلام

ولا يجيدُ، بالطبع، فنَّ التقبيل.

فقامت النقطة

بتعليمه سرَّ القُبلة

تحت شجرة الكلمة.

(3)

حين تعلّم الحرفُ سرَّ القُبلة

صار عاشقاً

ثم شاعراً

ثم مجنوناً

كما ينبغي في مثل هذا الحال.

أما هي،

أي النقطة،

فاكتفتْ بأنْ عرضتْ مفاتنها

كاملةً

تحت شجرة الكلمة.

(4)

مرّ صيفٌ لاهبٌ

وشتاءٌ ثلجيّ

وربيعٌ مهووسٌ بالجنس.

وتكرر الزمن

وتكررت القُبلةُ بين الأثنين

في الفراش أو في القصيدة

حتّى أصابَ الحرفَ العمى

وأصبحت النقطة

قبيحةً كجهنم

بعد أن انهارتْ عليهما،

دون سابق موعدٍ أو إنذار،

شجرةُ الكلمة!

****************************************

نُشرت قصيدة (تحت شجرة الكلمة) للشاعر أديب كمال الدين في مجموعة (أقول الحرف وأعني أصابعي)- الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان 2011 ص 106 - 108

  

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home