الأسطورة والرمز الديني في شعر أديب كمال الدين

د. صالح الرزوق

 

توطئة: يخيّم على قصائد الشاعر أديب كمال الدين جو أسطوري مع بعض الرموز التي لها نفحة دينية. ولكن هذا لا يعني أنه يوظف الأسطورة ورموز النص المقدس بالتفاصيل والمرفقات – الحيثيات المعروفة. فهو يقدمها بشكل إشارات وأفكار بهدف الاقتراب من لغز اللحظة ومن مشكلة الأخلاق التي تستنفر لحراسة ما تبقى من معنى للسلوك الفردي المعتزل.

وتأتي في مقدمة هذه الرموز ملحمة جلجامش، والتي يتعامل معها من خارج السياق الأساسي.

لقد صوّر أديب كمال الدين جلجامش في عدة قصائد، وعلى امتداد عدة مجموعات وكأنه نبي متقاعد. لم يكن جلجامش في هذه القصائد يبحث عن سر الحياة ولا عن الأبدية، ولكنه كان أشبه ببطل في قصة قصيرة لزكريا تامر، مجرد إنسان صغير يحترق بأتون المعاناة من العصاب الاجتماعي على مستوى الواقع، أما في اللاشعور (الضمير النائم) فهو أشبه بسوبرمان أسود يرقى إلى مستوى الفاجع الأخلاقي والتراجيدي الميت والمندثر، ويعكس الصورة المتبدلة لقيمة العمل ولمضمون الحياة.

 ويمكن توضيح ذلك بمقارنة بسيطة بين قصيدة (دراهم جلجامش) حيث يتحول هذا البطل الأسطوري إلى تمثال في باحة المتحف الوطني (1)، وقصة (الشنفرى) من مجموعة (دمشق الحرائق) والتي يعود فيها الفارس، المحروم من شرف الانتساب للقبيلة، إلى العالم ليقايض ما لديه من ترسانة فكرية وعسكرية (الشعر والسيف) بالرغيف والسجائر (2).

 لقد شاطر أديب كمال الدين غيره من أدباء الجيل الضائع (الذي برز إلى الوجود في فترة ما بين الحربين: النكبة والنكسة) بمنطق النظارة السوداء المتخصص بالهجاء وبتضخيم السلبيات.

وإنه في هذا الجو المشحون بالثورات والانقلابات كان من الضروري له أن ينسى الإلحاح على زهرة الحياة، وأن يستبدل هذه المهمة الطليعية والمشرفة، بما يأتي تحت بند (أضعف الإيمان) وهو التفكير بمعنى الموت، وكيف يمكن له أن يكون احتضارا وديعا، أو موتا سعيدا (بتعبير كامو)، ومتى يكف عن الانتقال إلى مرحلة العدم (وهو ما يقول عنه إنه موت المعنى، وبمفرداته وصياغته: إنه النقد المشغول بالدراهم والشعر الذي تنتجه ماكينة المطابع السخيفة والجوفاء)(3).

ومن هذه الزاوية يكون أديب كمال الدين قد أعاد صياغة نصف هذه الشخصية الخالدة، وبعبارة أخرى: يكون قد اكتفى من الأسطورة بضدها، وبالجو الذي شنت عليه منطق الرفض بهدف الإنكار.

 وبالنسبة للرموز الدينية.

نحن نسجل رمزين فقط، وهما طوفان نوح وقصة النبي يوسف عليه السلام، مع باقة من مفردات وردت في القرآن الذكر الحكيم. وكما هو شأن الملحمة السابقة، كانت التفاصيل مبتورة، ولم يتبق منها غير الإطار، وهو يشكل المنحى العام للعقدة وللخاتمة كما يلي:

- قصة النبي يوسف: تتكون من رحلة (بلا جهة محددة) ثم يأتي دور مؤامرة الدفن في البئر ويتبع ذلك مناجاة الوالد بصيغة التأنيب والذم (4).

- قصة طوفان نوح: تتكون من صناعة الفلك ثم انتقاء من كل زوج اثنين وأخيرا الغمر بالماء (حيث يطلق نوح نداء استغاثة) (5).

وهنا نحن نسجل بعض الإضافات التي لم ترد لا في النص التوراتي، ولا حتى في تفسير القرآن الكريم، وهي خاصة بمسألة تأملات الشاعر المحايث، الشخص الرديف والمكون الثقافي العام، ولمزيد من التحديد: لما يدعى فنيا باسم التناص.

 وهكذا يقدم أديب كمال الدين خلاصة العصارة الفلسفية لموقفه الصامت ولروحه الشعرية اللطيفة، والتي تفترق عن جروح الواقع، والتي أيضا تثير التساؤلات أكثر مما تقدم من أجوبة.

وهذا بقناعتي عبارة عن أزمة مركبة، مشكلة أخلاقية ناجمة من الضمير المكبوت، وهوما يقول عنه هنري لوفيفر: إنه مشكلة عدم تطابق الإنسان مع المبدأ الفعلي للمؤسسة، ثم تحوله إلى نقيض ما يعرب عنه (6).

وفي هذه الحالة لم يكن هناك من ضرورة للتمسك بمبدأ (أحسن القصص)، أوبـ (قصص القرآن والتوراة). وكان من المبرر له أن يضيف إلى اللوحة رموزا من الحياة العامة ومن الواقع المعاصر، وهي لشخصيات اعتبارية مرت بنفس محنة الأنبياء، ومنها على سبيل المثال البياتي الذي يشترك مع النبي يوسف في محنة المؤامرة العائلية أوما يعادلها. وحول هذا الموضوع يقول أديب كمال الدين: إنه في اللحظة التي ابتلعت الأرض جثمان البياتي، انهالت عليه الشتائم وتناولته الألسنة بالقدح والنميمة. (7).

 ولكن فيما يتعلق بالرموز التي لها حضور قوي في المخيلة الاجتماعية، وفي الفولكلور الشعبي، وعلى رأسها أزمة سيد الشهداء الإمام الحسين، يوجد تطابق بين التفاصيل والإطار، وبين المضمون الفني والمغزى والعبرة.

وهذا يؤكد أن الأستاذ الشاعر أديب كمال الدين كان واقعيا في مواضيعه، ولم يكن محملا بسلاسل ولا بقيود الغيبيات التي انحدرت من أصول دخيلة على بنية العقل الإسلامي، ثم إنها تضاعفت بأثر الجهل والخرافة والضعف الذهني، والذي كان يعكس بدوره تدهور الحقائق الخالدة لرسالة خرجت من أرض هي مهد للأنبياء.

 ..............................................................................

هوامش:

1 قصيدة دراهم جلجامش – مجموعة أربعون قصيدة عن الحرف – ص 10.

2 قصة الشنفرى – مجموعة دمشق الحرائق – ط 1 – ص 173.

3 قصيدة موت المعنى – مجموعة أخبار المعنى.

4 قصيدة العودة من البئر – مجموعة أقول الحرف وأعني أصابعي – ص 13. وقصيدة وصف – مجموعة شجرة الحروف – ص 7.

5 قصيدة قصيدتي الأزلية – مجموعة شجرة الحروف – ص 19. وقصيدة جاء نوح ومضى – مجموعة أربعون قصيدة عن الحرف – ص 7.

6 كتاب ما الحداثة – ص 16.

7 قصيدة البياتي – مجموعة أقول الحرف وأعني أصابعي – ص 114.

شباط 2011

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home


 

w