قراءة تشكيلية في (أربعون قصيدة عن الحرف) للشاعر أديب كمال الدين

تشكيل الحرف: تشكيل اللون

سمير عبد الرحيم أغا
    كلّنا يعرف أنّ قراءة الشعر نوع من الإبداع، فحين نقرأ شعراً نتمثّل ما فيه من مشاعر وتجارب وأخيلة, وتتفتح لعيون بصيرتنا مجموعة من الصور والمناظر والمواقف التي (رسمها) الشاعر ودفعنا على رسمها من جديد لنعايشها بحالة شاعرية وشعورية تكاد تكون قريبة من ذات الحالة التي صادفته عندما كتب قصيدته. وربما يكون الحال كذلك مع الصور واللوحات وأعمال النحت، التي نتأملها ونحاول أن ندخل عالمها  فهي تجسّم أو تظهر بالخط واللون والضوء والظل. وفي كلتا الحالتين نجد أنفسنا مدعوين للمشاركة في تكوين أو تشكيل بناء خاص انصهرت فيه الالفاظ والصور والأوزان والايقاعات من ناحية والخطوط والألوان والمساحات والظلال من ناحية أخرى. فالشاعر يستخدم اللغة في تشكيل الصور، والرسام يصنع من اللون والشكل لوحة. (وتعد الصورة العتبة المشتركة الاساسية للتداخل والتنافذ بين الشعر والرسم)2.

   في ظننا أن هذا الكلام ينطبق على قصيدة الصورة, في مجموعة (أربعون قصيدة عن الحرف) للشاعر أديب كمال الدين الصادرة عن دار أزمنة, عمان 2009. ففي المجموعة إنجاز تداخلي تقوم فيه القصيدة بدور آخر يتمثل في اكتشاف شعرية بصرية تنبني على إيقاع الصورة. وقد استعان الشاعر أديب بطاقات الفنون كاللون، الفراغ، الظلال، فهناك قصائد اتخذت من اللون عبارةً وعنواناً لها, مثل أغنية سوداء، أحمر ناري، قمر أسود وكلب رمادي. هذه الألوان: الأسود, رمادي, أحمر هي تردد لوني يعبر عن الحزن والتمرد والصخب (فاللون يعد احدى الوسائل والادوات التي يستطيع الإنسان بها التعبير عن عواطفه ونوازعه من خلال اللون ويمكن معرفة شخصية الفرد)3.

 وقد عمد أديب كمال الدين إلى الايحاء باللون من خلال دال معين، كالايحاء باللون الأسود على الحزن والعتمة وباللون الأحمر على الدم والثورة. كما عمد إلى استدعاء ألوان أخرى في صوره الشعرية مستثمراً الطاقة الدلالية والايحائية لتلك الألوان. ويُعد اللون من أبرز أدوات الفنان التشكيلي لما له من دور في تجسيد اللوحة الفنية لإثارة بصر المتلقي وشحن ذاكرته. يقول في قصيدة (دراهم كلكامش) ص10

 تلك التي اسمها الحياة

متلفّعة بعباءةِ السوادِ والحلم

بعباءةِ الفقرِ والتعاسة

هي مَن أعطاني الدراهم التي ضاعتْ سريعاً.

كان لقاءً عابراً

يشبه حياةً عابرة.

ويقول في مقطع آخر:

 كلّ درهمٍ كانَ اسمه السعادة.

وكلّ درهمٍ كانَ اسمه العيد

أو الغيمة

أو الشمس

أو البحر

أو قُبْلَة الأمِ متلفّعة بالسواد.

خلفية هذه القصيدة.. اللون الأسود الذي يوحي بالحزن والقساوة والتعاسة, وقد وصلت تعاسة حياة الطفل الذي ضيع دراهمه التي يبحث عنها حتى الموت. هنا يستدعي شخصيات الملحمة الشهيرة: كلكامش وأنكيدو مناجياً بطله كلكامش. وكلمة ضياع تكررت ست مرات في القصيدة مما أغرق النص في سواد أكثر مما ينبغي.

في قصيدة (المبحر منفرداً) يقول ص 15

أيّها الحرف

سيحاربك القرصانُ الأحمر،

القرصانُ الذي قوّض العرشَ وسلّمه للرعاع،

لأنّ في قلبكَ موجة لأقمار الطفولة.

وسيحاربك القرصانُ الأزرق،

القرصانُ الذي أدخلَ كلَّ شيء في دوّامةِ الموت

بعد أن قتل اخوته

..............
وسيحاربك القرصانُ الأصفر:

قرصانُ المجانين والمخنّثين وآكلي جثث الموتى.

وسيحاربك القرصانُ الأسود:

قرصانُ الكَفَرة الفَجَرة.

وسيحاربكَ قرصانُ الريح

ذاك الذي يغيّر وجهته

كلّما غيّرت الريحُ عنوانها.

في هذا النص تداخلَ أكثرُ من لون فكأنه لوحة متعددة الألوان.... الأحمر، الأزرق، الأصفر ، الأسود ، تحارب الحرف الذي هو هاجس الشاعر الأول ويشكل حضوراً مثالياً في ذهنيته ، هي ثورة ... الحرف .. الإنسان ، الزمن ، الذي يحاربه كل المتربصين به من القتلة, الكفرة , المجانين، المنافقين، وأصحاب الاهواء.  وهو يبحر لوحده مستندا إلى قواه الذاتية ... يحاربونه ليس لشيء وانما لأنه أقترح بلدا للحب والجمال. هنا أعطى للألوان صفات مستفيداً من امكانيات التشكيل المعاصرة دون الحاجة إلى ظهور التشكيل ذاته فالأصفر هو صفة للمجانين وآكلي جثث الموتى، والأحمر الذي قوّض العرش وسلمه للرعاع والأسود صفة للكفرة.

 في قصيدة (أغنية سوداء القلب) يقول ص27:

توقّف الحرفُ عن النظر إلى المرآة

كي لا يرى المستقبلَ بلا يدين

والماضي بلا أقنعة.

توقّفَ الحرفُ عن إرسال رسائل التهديد إليّ

إلى نهاية القصيدة:

وكان الحرف

يجلس أمامي مثل نهر    

يدمدمُ بأغنيةٍ خفيفةٍ جداً،

             عذبةٍ

             وسوداء القلب.


من عنوان القصيدة كانت لنا خلفية سوداء ... ضمنت محتوى النص الذي غلب عليه الحزن والعتامة. والشاعر أديب هنا صبغ الحرف برسائل الوعيد ورسائل الحب والتذكير بالطفولة صورة سوداء. وقد حقق التوازن في ذلك انطلاقا من فهم جديد للشعر بوصفه أثرا مفتوحا تتداخل فيه الكلمات مع الرسم.

   في قصيدة (أحمر ناري) يستخدم الشاعر اللون الأحمر عنوانا لها , وهو لون يشير إلى النشوة والتمرد والثورة، والحياة الصاخبة كما في القرصان الأحمر الذي قوّض العرش.


إلا حين يلهج

بأسطورتكِ المعلّقةِ في الأعالي،

ونقطةً لا تجيد

سوى أناشيد الحبِّ بالأحمر الناري،

أعني بالأحمر الممسوس

باللوعةِ والهذيان. ص 30

 وفي مقطع آخر يقول:

 إلى جفافِ الينابيع

بل ليدفعكِ حيث البئر السوداء

وشيئاً فشيئاً يلبس في نهاية القصيدة قناع الغراب وحيث البئر السوداء وجفاف الينابيع. ولازالت صورة القتامة تتكرر كخلفية لهذه القصيدة ويدل هذا على التحسر لوطن فارقه الشاعر مفارقة الطير لعشه، وهكذا أصبحت الألوان مرآة للشاعر وتجواله من الفرح إلى الحزن، من الوطن إلى المنفى. ونرى في قصيدة (قطارات سدني) يكرر ألوانه:

 قطاراتُ سدني

تركضُ من الفجرِ إلى الفجر.

تركضُ مرّةً إلى البحر

ومرّةً إلى الملاهي

ومرّاتٍ إلى الموت.

وفي المقطع الثاني يقول:

قطاراتُ سدني

تضجُّ بهذيان الدولارات:

دولارات سوداء

أو سود كما يفضّلُ علماءُ اللغةِ القول.

ولو حضرَ علماءُ اللغةِ إلى هنا

لأسودتْ وجوههم من الحلم

بالدولارات.ص33
في مدينة سدني منفى الشاعر ومستقره، تسير القطارات من الفجر إلى الفجر بدولارات سوداء هي صورة سوداء ايضا بل اشد عتمة حيث يصف القطارات والناس والدولارات وهي تتطاير من مكان إلى آخر لتصعد في زوبعة من الاوراق الصفراء او الخضراء. ولم يتحرك قطار الشاعر إلى لون الحياة الصاخبة وهو اللون الأحمر بل إلى وهم (الموت في قطارات سدني) من خلال لوحات فنية تتجلى فيها الكلمات كرسوم وتشكيلات بصرية  وايقاع لوني متناسق وصياغة شعرية محكمة الاواصر.  هذا ما جعل خلفية هذه القصيدة مسودّة مصفرّة, لتوحي بهذه الدلالة التي ارادها الشاعر.

في قصيدة (اعتذار) يقول الشاعر:

حين ذابَ ثلجُ شتاءِ القصيدة

فاضت الورقةُ البيضاء

بالحروفِ والنقاط. ص 39

ثم يقول:

وهكذا قبل أن أموت

كنتُ ذكياً بما يكفي لأعتذر للغراب

وأعتذر للشتاءِ وللورقةِ البيضاء

هنا وفي هذا المقطع بالذات برز اللون (الأبيض) حيث الثلج والورقة البيضاء وقد وظف الشاعر اللون هذا اللون لخدمة المعنى (شتاء القصيدة) او الفكرة التي يحاول ايصالها .
في قصيدة (تناص مع الحرف) يتحرك مع اللون الأسود ولا يكف عن التشبث به من بعيد او قريب، فنجده يختم القصيدة بالمقطع:

 وجئتُ أنا

فأمسكتُ بالحرفِ المتفحّم

وكتبتُ قصائدي السود التي لا تكفّ أبداً

عن الرقصِ والهذيان... ص 44

وهي خلفية سوداء من الحرف المتفحم إلى (قصائده السود). لقد أكثر الشاعر أديب في قصائد (أربعون قصيدة عن الحرف) من توظيف اللون الأسود. وقد انعكس هذا على غلاف المجموعة بالكامل، وقد تستهوي الشاعر فكرة التلوين للتعبير عن حالة التغيير المستمر او لارتباطه في مخيلة الشاعر بخبرات سلبية متراكمة.
في قصيدة (أعماق) :

في أعماقي

طائرٌ أبيض

يسقطُ مذبوحاً في أعماقِ المسرح.

وفي أعماقِ المسرح

صراخٌ وأنين وثيابٌ ممزَّقة


يبدأ قصيدته باللون الأبيض وهو لون الحب والسلام والنقاء وهو نقيض اللون الأسود وقد حقق ذلك في طائره الأبيض ولكن هذا الطائر سرعان ما يسقط مذبوحاً. ويتحول إلى اللون الأحمر/ ينظر إلى طائري المذبوح بعينين دامعتين/ حيث تنقلب الصورة إلى العتامة والموت. وقد تجلى ذلك بدقة في القصيدة ، هنا مفارقة مأساوية تتشكل عبر هذا التضاد اللوني (طائر أبيض/ طائر أحمر). وقد يهيمن لون بعينه على الصورة الشعرية بأسرها ممتداً إلى العنوان كما في قصيدة (قمر أسود وكلب رمادي) ص56
ربّما أنتِ قصيدة بلا عنوان

أو قصيدة بلا معنى

أو ربّما أنتِ حرف لا يخصّ أحداً سواي

في آخر المطاف

مشينا معاً في مدينةِ الجوعِ والمزابل الليلية.

كنّا ثلاثة

والقمرُ الأسودُ يحرسنا بعبثه الأسود.

ثم يواصل تكملة هذا المقطع بالصور والألوان ذاتها:

 ياليتني بقيتُ مخدوعاً من دونِ قمرٍ أسود

وياليتني بقيتُ قمراً أسود

من دونِ كلبٍ رماديّ.


هنا اعطى الشاعر القمر لوناً أسود وهي صفة متشائمة إلى حد ما وكان من الممكن أن يعكس العنوان ليصبح القمر رمادياً والكلب أسود ، لتصبح خلفية القصيدة سوداء ايضا بقمرها وكلبها الرمادي . والرمادي هو لون العنصر الناتج عن الاحتراق ويوحي بمعنى العدمية والانتهاء فضلا عن سمته الضبابية، من العنوان إلى داخل الجوع والموت من هول المفاجأة .... الخ .استطاع الشاعر أن يوظف اللون الأسود بتدرج وأن يغير حاله من حال إلى حال. ويمتاز أديب كمال الدين بانه يقيم علاقة بين لونين فيصرّح بأحدهما ولا يصرّح بالآخر بل يتحسسه عبر عنصر ملازم له. يقول في قصيدة (طفلة):

مثل ورقةٍ سقطتْ من الشجرةِ اللعوب،

مثل ريشةٍ أُقتُلِعَتْ من جناحِ طائرٍ ما

وجدت الطفلةُ نفسها:

اسمها لا ينطبقُ على ذاكرتها.


وفي مقطع آخر يقول:

       أيّ طائرٍ هو؟

صرخت الشجرةُ باسم الطائر

لكنّ الاسمَ ضاع

في الهواء الأسود القاسي.

فالسماءُ كانت ممطرةً جدّاً.... ص74

هنا اللون الأسود يضجّ بالدمار الذي كثيرا ما يتكرر عند الشاعر في قصائده ، فالهواء أسود وأضاف له تعاسة اخرى وهي القساوة وربما أراد بها المطر الأسود الذي سقط على العراق أثناء حرب الخليج الاولى ، عندما تشبّعت السماء بالدخان الأسود في ذلك اليوم الممطر . (والصواعق تملأ الارض / والرعد كان هو الآخر / مبتهجاً حد الجنون).


وفي قصيدة (قرد الصحراء) يقول:

 وحين يصيب القردَ الملل  

يُؤخَذُ إلى الغابةِ البعيدة

ليلتقي بأصدقائه القِرَدة،

فيعرض القردُ عليهم

مزهواً هدايا الملك:

موز ذهبيّ،

تفّاح ذهبيّ،

عرموط ذهبيّ.

تفرحُ القِرَدة

لمنظرِ الفاكهةِ العجيبة ص 82


خلفية هذا القصيدة الطفولية.. اللون الذهبي، وهذا اللون كما نعرف يشير إلى المعدن المعروف بلمعانه وهو ليس من ألوان الطيف ويرمز إلى التفاخر والجمال والجاه , هنا ملك وقرد وصحراء ، ولهذا كانت هي هدايا القرد من الملك عندما يفشل القرد الذي اتى به الملك من الصحراء (حيث يعيش الملك) في إقناع بني جنسه في مضغ الفاكهة وهي الموز الذهبي والتفاح والعرموط : حيث ترمي القردة الفاكهة الذهبية على الارض وتتسلق الاشجار لتطلق اصواتا منكرة . وتعود إلى الغابة. لقد كان اللون الذهبي رمز التفاخر للملك وتأكيداً على طبيعة معدن الفاكهة . حيث يرفض إنسان ان يغير واقعة ويأكل غير ما تربى عليه وهي حكاية وصورة شعرية أنيقة هادئة جاء بها الشاعر ليحقق الترابط الدلالي بين التفاخر واللون الذهبي.

يقول في قصيدة (العلقم) ص87 .. المقطع الثاني:

 المشهدُ قاسٍ حتماً.

فكراجُ السياراتِ موحشٌ ومظلم

وأنتَ تهربُ من شمسٍ سوداء إلى شمسٍ خضراء.

ينبغي عليكَ وأنتَ في صميمِ طفولتكَ اليومية

أن تخفي أسماءَ أمطاركَ الموسمية

ويختتم القصيدة ..

وأنتبهُ للدالِ: دال الطفولة،

دال الأمطارِ الموسمية،

دال الحبرِ الأخضرِ والشمسِ الخضراء

ولباس الحبيبةِ الأخضر

خلفية هذه القصيدة او المشهد ايضا الأسود ابتدأ من العنوان وكراج السيارات الموحش المظلم والشمس السوداء / والبطيخ مرّ كالعلقم / البطيخ صار أكثر مرارة من الموت / والموت اختفى في ماضٍ / يجيدُ لبسَ القناعِ والسير وسط الظلام /. هنا التقاط دقيق للجزئيات والعناصر المألوفة المكونة للمشهد العام للوحة الفنية.

في قصيدة (بلا عنوان) يقول في المقطع الثاني:

 كان المشهدُ رماديّاً.

والقصيدة،

أعني الجملة،

أعني الكلمة،

بحروفها التسعة

عصيّة على الولادة

مادامت عصيّة على الوصول إلى نفسها

في آخر المطاف!

خلفية هذه القصيدة اللون الرمادي، وهذا اللون لون البؤس والانتهاء .والقصيدة تبنى هنا على وفق شكل اللوحة التشكيلية العين تنقل المشاهد ثم تعيد خلقها . وقد تكرر هذا اللون في قصيدة (قمر أسود وكلب رمادي). أما في بقية قصائد المجموعة فتمثل الألوان بشكل آخر غير لفظي كما في قصائد: ذات ربيع، حاء باء، جمجمة، عابر سبيل، طاغية. يقول في قصيدة (طاغية):

الحرفُ الذي لا معنى له

سيشعلُُ للنقطةِ حرباً لا معنى لها،

حرباً تأكلُ الزرعَ والضرع.

وحين يتمّ له ذلك

سيجبرُ الحروفَ كلّها

على المشاركةِ في حربه الغبيّة هذه


خلفية هذه القصيدة..النار والرماد، في سباق مع حروفه مبالغ في عشقه لها ، والرماد ناتج النار وهو معنى الحرب التي تشعل كل شيء وفي معنى الحرب التي تأكل الزرع والضرع. حيث الطاغية سقط وسقطت معه رموزه . الشاعر هنا لا يسرد وإنما يؤشر وتأشيراته تعد حاله لواقع منحرف، اما في قصيدة (ذات ربيع) ص 93

 ذات ربيع

أقامت الحروفُ معرضاً في الهواء الطلق.

رسمت الباءُ امرأةً عارية

تبيع البيضَ في السوق.

ورسمت الحاءُ دماً يتدفّق

وجلاّدين يتقاتلون كالوحوش.


وفي مقطع آخر يقول:

 ولوّنت النقطةُ مشهدَ الارتباك

حيث يعزّي الأنبياءُ والأولياءُ والشعراء

بعضهم بعضاً

بمناسبةِ حضورِ مشهدِ الجنازة

هنا تسربت مفردة الفنون التشكيلية (الرسم) إلى الشعر وتداخلت مع بنيته ويتجلى ذلك في استثمار فعل الرسم والمعرض / ذات ربيع / رسمت الباءُ امرأة عارية / ومن خلال هذه القصيدة يتبين التأثير على هذه التبعية بتكرار فعل الرسم أكثر من مرّة وكذلك معرض الرسم في الهواء الطلق. رسمت الحروف الباء امرأة عارية ، الحاء دماً يتدفق. كأنّ الشاعر يرسم ما يراه (وبشكل إنطباعي) . وبتكرار فعل الرسم يتأكد لنا أن الشاعر رسم لوحة تشكيلية من خلال المفردات حتى العنوان يتأكد فيه معنى واسم لوحة (ذات ربيع) توحي أن القصيدة لوحة فنية يرسم بداخلها منظر الربيع ، فالشاعر يجعل القارئ يرسم في خياله الصورة التي رسمتها القصيدة. خلفية هذه القصيدة هو لون الربيع وهو لون التجدد والانبعاث (الأخضر).

   نأتي إلى (الفراغ) الذي يشكل حيزاً مهماً في اللوحة التشكيلية وكيف وظفه الشاعر أديب في قصائد المجموعة. والفراغ من العناصر الفاعلة في تشكيل اللوحة التشكيلية فضلا عن اللون والضوء والظل والنقطة. ويأتي توظيف الشاعر لعنصري اللون والفراغ في تشكيل لوحته الشعرية باستثمار المعنى الدلالي لهما. يقول في قصيدة (جاء نوح ومضى):

النجدة!

نعم، يا صديقي الحرف،

دعنا نصرخ الآن:

ال........ن............ج.............دة!



وفي المقطع الأخير يختتم القصيدة :

أرجوك

أنا لم أفقد الأملَ بعد!

أرجوك

ال........ن............ج.............دة!

ال........ن............ج.............دة!

ال........ن............ج.............دة!

هنا يستند الشاعر أديب تشكيل الفراغ محاولا اثراء القصيدة بتنويعات دلالية وايقاعية فالفراغ داخل الجمل الشعرية يتيح للشاعر التصرف في عناصر بناء القصيدة . وقد ساعدت التقنيات الطباعية الحديثة في هذا ويبدو أن نزوع الشعراء إلى هذا النوع من الكتابة هو نزوع للحداثة. والفراغ في النص الشعري ليس تكوينا او تأليفا خارجيا (وانما هو تجسيد لوعي وحركة ولمسار شعري) 4 .

 وتقطيع كلمة نجدة إلى حروف وفراغات وترتيبها بشكل يوحي بالتبعثر والانشطار وترتيب الحروف بهذه الطريقة الافقية (وهناك الطريقة العمودية) في تأكيد دلالية النص اذ يوحي بتناثر الكلمة وتشظيتها... الموت الذي ينتظر الحرف مما يجعله يلفظ كل حرف طالباً الاستغاثة بصرخة مدوية تتردد في كل سهلٍ ووادٍ . يستنجد ولكن ما مِن مغيث, وقد توافق هذا الترتيب مع حركة المعنى  اذ يوحي تقطع الكلمة بتقطع أنفاس الغريق طالباً النجدة من سفينة نوح.

  إن مجموعة (أربعون قصيدة عن الحرف) قصائد كُتبت بجمال الألوان وقدرتها التعبيرية قصائد جسدت الاشياء والحياة بالألوان عن وعي قصدي من خلال توظيف شعري في اللوحة التشكيلية سواء من خلال وظيفتها الدلالية المباشرة او غير المباشرة. وقد سبقني الشاعر عبد الرزاق الربيعي في قراءته اللونية للمجموعة السابقة للشاعر أديب كمال الدين عبر مقالته: (دلالات الألوان في مجموعة:"ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة").

إن عدد القصائد التي اتخذت اللون عنوانا لها أربع قصائد. أما القصائد التي اتخذت اللون كدلالة ومعنى فهي عشرون قصيدة . وقد طغى اللون الأسود على أغلب القصائد اشارة صريحة ومعنى, وهذا يؤكد عتمة الاتجاه النفسي للشاعر وحتى (اذا مزجت الألوان الاخرى بالأسود فأنها تقتم وتفقد نورانيتها) 6

 وحين نضيف غلاف المجموعة المطبوع باللون الأسود كاملا لأضفنا عتمة أكثر وأكثر للوحة. وما يؤكد العلاقة أكثر أن كلمة الموت ذُكِرت في سبع عشرة قصيدة وهذا يعني نصف القصائد تقريباً. ففي قصيدة (تناص مع الموت) ذُكِرت كلمة الموت سبع عشرة مرّة, وفي قصيدة (اعتذار) تسع مرّات وفي( كنتَ سعيداً بموتك) خمس مرّات  وفي(عن المطر والحب) خمس مرّات، وفي (معاً على السرير) ثلاث مرّات ... إلخ.. ومن أمثلة ذلك :

حينما متّ

لم يشأ أحدٌ أن يخبر الحروف

بالنبأ الأليم..... (قصيدة: حاء باء).

كنتَ سعيداً بموتك

حين رأيتُ مشهدَ موتي.............(قصيدة: كنتَ سعيداً بموتك).

وسيتنفّس معك:

نَفَسَهُ ثقيلٌ أثقلُ من دخانِ الموت............(قصيدة: الشبيه).

لا شك أن (أربعون قصيدة عن الحرف) (ديوان فريد عن الموت والقصيدة التي تُكتب على أكفان الميتين) 7 .   فخلفية اللوحة (القصائد..) التي هيمن عليها اللون الأسود  بدءاً من الغلاف، حيث في منتصف اللوحة صورة أديب رُسِمت بضبابية معتمة ومن حوله تتطاير الحروف والنقاط وهي تؤدي طقوس الحياة. وهنالك حرف مبحر يلتصق بجانبه يسعى للفرار من اللوحة-الموت تناثر إلى بقايا رماد وأنفاس مثقلة بهموم الغربة.

   لقد وظف شاعرنا اللونَ في تحديد جوانب مهمة من عناصر قصيدته ورسمها بخطوط وألوان وفراغات ومعارض وعبّر بها كما قال هوراس (كما يكون الرسم يكون الشعر) كما عبّر عنها عِبر صور ذهنية تثير من خلال التشكيل باللون مزيداً من الكشف عن عوالم الشاعر والنص معاً.

(أربعون قصيدة عن الحرف) أحاسيس مثقلة بالغربة مثيرة للمشاعر , تملك قدرة فائقة في استنطاق الطبيعة بهمساتها اللونية البالغة السحر وتجسّد براعة الشاعر في توظيفه لهذه المفردات لرسم الصورة الشعرية بطرائق متعددة.

........................................................................................

1- مجموعة (أربعون قصيدة عن الحرف) للشاعر أديب كمال الدين الصادرة عن دار أزمنة - عمان 2009

2- أثر الرسم في الشعر العراقي الحر - أحمد جارالله ، اطروحة دكتوراه غير منشورة
3- تداخل الفنون في شعر سعدي يوسف/ رسالة ماجستير غير منشورة / كلية التربية جامعة بغداد 2008

4- زمن الشعر . ادونيس . 298

5- نظرية اللون: د. يحيى حمودة . 1981 ص 116

6- اللون بين الفن والشعر- د. حافظ مغربي مقال منشور في شبكة النت.
7- أربعون قصيدة عن الحرف- ديوان فريد عن الموت والقصيدة التي تُكتب على أكفان الميتين) فيصل عبد الحسن–
  صحيفة أخبار الخليج البحرينية 29 – 8 - 2009

****************************************************************

  نُشرت في مواقع كتابات والحوار المتمدن وأدب فن والنور بتاريخ 8 - 2 - 2011  كما نُشرت في صحيفة الشبيبة العمانية بتأريخ 9 -2 -2011 وفي صحيفة المؤتمر البغدادية بتاريخ  10 - 2 - 2011 وفي صحيفة الدستور البغدادية بتأريخ 14 - 2- 2011 وفي  صحيفة  14  أكتوبر اليمنية بتأريخ 18 - 2 -2011

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home