حلم الخسارات الجميلة واليأس النبيل
د . عبدالعزيز المقالح
الحياة - 10/08/05
- 1 –
القصيدة الجيدة هي تلك التي تجعلنا نقرأ روح صاحبها من السطور الأولى ونرى العالم الذي استحضره في ذهنه أثناء
الكتابة، حتى ولو كانت – أي القصيدة – خارج السياق المألوف من حيث الشكل والعنوان، وهذا ما تفعله قصيدة الشاعر أديب كمال الدين، في مجموعته الشعرية «حاء» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت
2000) والتي يذكرنا عنوانها الفريد ببعض عناوين مجاميعه الشعرية السابقة: «جيم 1989» و «نون 1993» و «النقطة 1999» و «النقطة 2001».
ان الأعمال الشعرية الجيدة تذكرّنا بأن لدى بعض الشعراء مشاريع حالمة لا تخص الشعر وحده بل العالم، ومن هؤلاء
الشاعر أديب كمال الدين هذا الذي يبدو – عبر قصائده – أبعد ما يكون عن صورة هذا الزمن العربي المتقلب، فهو بقدر ما يثق بقدرة الشعر على تجاوز المأساة الراهنة التي يعانيها الانسان في كل مكان على وجه الأرض، يثق
بالإنسان هذا الذي لا يزال يمسك بزمام الحياة على رغم المعوقات المتكررة والمتاهات التي لا يصنعها الآخرون
وحدهم في طريقه بل يشارك هو نفسه في صناعتها ويعمل من حيث يدري أو لا يدري على التمكين لها أو على
الأقل الاستجابة لردود أفعالها.
في النص الأول من المجموعة وعنوانه «خسارات» يرصد الشاعر خساراته المتلاحقة بروح رياضية اذا جاز التعبير
وباستعداد لمواجهة كل ما يطرأ على حياته من خسارات بما في ذلك الموت الذي يرى فيه حياة أخرى لا بالمعنى
المادي وحسب، وانما بالمعنى الروحي أيضاً لأن الإنسان في المقطع الأول يمتلك القدرة على أن يقوم من موته وأن
يجدد حياته حتى لو كان التجدد سيسلمه الى مفاجآت غير سارة:
خساراتي لم تعد تُحتَمَل
فأنا أخرجُ من خسارةٍ لأقع في أخرى
فأنا – على سبيل المثال – متُّ
متُّ منذ زمن طويل، وشبعتُ موتاً
وحين قررتُ أن أقوم من موتي
لابساً الأخضر بدل الأسود
وراكباً الغيمة بدل الدراجة الهوائية
صدمتُ بفسادِ الغيمة
وتمزقِ ثيابها الداخلية (ص 5).
انه الحلم بالتجدد والقيام ثانيةً وثالثةً لا يزال ممكناً على رغم الخسائر المتلاحقة، وهنا موطن ذلك الأمل الغامض
الشفاف الذي تتخلل نسيجه لحظات اعتراضية قاسية سرعان ما تتبدد وتكتسب بالايحاء قدرة على امكان الخروج من
الموت ومن النار أيضاً:
خساراتي لم تعد تُحتَمَل
دخلتُ في النار واحترقتُ كما ينبغي
وحين قمتُ من رمادي
وجمعتُ رمادي
وذرّيته في دمي كي لا أموت من جديد
صدمتُ حين عرفت
أن من ألقاني في النار،
أصدقائي الذين أعطيهم نورَ الأخضر
وأحبَّتي الذين منحتهم شمسَ الغيمة
فارتبكتُ لأنني لم أهيئ نفسي لدور الفادي
ولم أكن أتصور أن دور يهوذا
سَيُعاد عرضه في كلّ مكان بنجاح ساحق.
انه الانسان الفينيق الذي ينهض من رماد معاناته كما يفعل ذلك الطائر الأسطوري الذي لا يعرف الموت ولا يستسلم
للاندثار بل يحوِّل انكساراته الى خسارات جميلة.
- 2 –
عرفنا من النص السابق كيف يثق الشاعر بالإنسان وبقدرته على التجدد وتحدي المعاناة، وفي نص لاحق سيتبين لنا
كيف يثق الشاعر بالشعر أو بالأصح يثق بالكلمة ودورها في الحفاظ على توازنه الروحي والنفسي. وفي هذا الصدد يمكن القول ان في جوهر قصيدة أديب كمال الدين هامشاً واسعاً من التفاؤل يكاد القارئ العادي لا يشعر به. فهو، أي
الشاعر، لا يسرف مثل الآخرين في سرد مواجع الواقع ومخاوفه وإن اقترب من ذلك الواقع الذي يصعب الفرار من
انعكاساته، فإن روح الأمل تظل نابضة حيّة ويظل الحلم حاضراً بما يكفي، ليس بالتمسك بالحياة وحسب، وانما
للوعي بأهمية تجاور ردود فعل المرحلة الصعبة ودائماً تكون الكلمة الضوء والدليل:
النقطة فضّة
والحرف ليرة ذهبية
فما أسعدني أنا ملك الحروف.
النقطة بسمة
والحرف ضحكة
فما أسعدني أنا ملك القهقهة.
النقطة بخور
والحرف رقصة السَحَرة
فما أسعدني أنا ملك الجن
صاحب الجناح الأخضر الكبير. (ملك الحروف ص 16).
هكذا تصير الكلمة بجزئياتها الصغيرة عالماً من القوة والمقاومة، ربما شاب التعبير شيء لا يكاد يدرك من السخرية، الا ان ذلك لا يقلل من أهمية الكلمة ولا من دورها الاسنادي للشاعر الذي يعتقد أنه بها يمتلك العالم ويتحكم في مقدراته، ولولا هذا المستوى من زهو المبدع بما ينتجه من عوالم لغوية لامعة لما كان في الشعر ما يريح الشاعر ويغمره بآلاف من نقط الضوء وحروف التأملات وما يبعث في نفسه القدرة على الاستمرار في الركض وراء اللغة الطائشة الفاتنة وسياقاتها التعبيرية المدهشة:
النقطة ندى
والحرف دمعة
فما أسعدني أنا العاشق الأعظم.
النقطة شعر
والحرف أغنية
فما أسعدني أنا صاحب الأنامل الذهبية (ص17).
في العمل الابداعي الكبير أكثر من مجرى سري يحفره المبدع في وجدان قارئه، وكلما كان هذا العمل موجزاً أو مكثفاً زاد القارئ به اغراء ودهشة، وهذا شأننا مع تجربة الشاعر أديب كمال الدين، الذي يشارك بفاعلية في تأسيس المنجز الشعري الأحدث والأجد بلغة لا تستعجم، وفي اطار أبعد ما يكون عن الشكلانية المحكومة بالإبهار الخاوي. ودخوله المتفرد الى عوالم الأبجدية ابتداءً من عنوان المجموعة (حاء) مروراً بالجيم والسين والدال والشين والنونيات، ووقوفاً عند «ارتباك الزاي» ذلك الحرف الذي رفعته النقطة الى الأعلى وبفضلها استحق التميز عن زميله الراء.
نصوص المجموعة – في أغلبها – شديدة الكثافة، لكنها على رغم هذا التكثيف وربما بفضله تصل سريعاً الى أغوار النفس وتحقق أثرها المطلوب مجاوزة بذلك كل محاولات التشويش بشكله المتوهم الساخر، ويعبر النص الخاص بالزاي في تجلياته الفاتنة عن تشابك الراهن بالتاريخي والحلم بالواقع المعاش:
كانت الزاي واضحةً
وبسيطةً حد الارتباك،
ساذجة كخربشات طفل
لكن نقطتها تشيرُ الى فوق
فوق ماذا؟
وجوه دون ملامح
ورؤوس أينعت
وحان قطافها اللذيذ (ارتباك الزاي ص 184).
يتحدثون كثيراً عن العفوية في الكتابة الابداعية ويتساءلون عن لحظة انبجاسها ثم لا يتحدثون أو يتساءلون عن وجودها المحقق في هذا النوع من النصوص النابعة من لحظات عفوية غنية بالشعر وبالمعنى.
**************************
جريدة الحياة الندنية - 10 آب 2005