الروح القدس أو اليد العالمة في أشعار أديب كمال الدين

 

أسماء غريب

 

ـ 1 ـ

«يا وعاء الكون, البسْ جوشني هذا, واذهبْ حيث اليد العالمة. اصمتْ وتأدّبْ في حضرتها. ولا تعـُد من هناك إلا بجلباب الحرف والكلمة والمعنى. البسْه ولا تنزعْه إلى أبد الآبدين.»  أ. غ

 

شواغلنا اليومية لاتنتهي, وهي ليست فقط تُـلهينا, بل وفي كثير من الأحيان تُلغينا, تـُلغي كل لحظة خلوة مع فكرنا, ومع قلوبنا وأجسادنا ولا تُحّررُنـَا من قبضة فكّيها إلا بعد أن تـرمي بنا وسط برك آسنة من الكذب والخداع. الكذب الذي أصبح اليوم عملة ينحني لها العالم بأسره وأصبح يجري وراء بريقها كجريه وراء بريق الدولار أو الين واليورو. فما أكثر الكذب من حولنا وما أكــثـر بائعي سلعه المُمَـرّرة دائما على أنها أُمُّ الحــقــيقـة  والـحقائق. والطامة قد تصبح أعظم وأعظم, حينما تخرج عبارات الكذب هذه على لسان كاتب شعر أو نثر أو حينما يجري الحبر ملطخا بالبهتان من قلم عالم أو مخترع أو رجل دين. عندئذ تتزلزل الأرض بدون صوت أو شروخ أو رضوض, أقصد يتزلزل الجسد الذي هو أرض الروح, فتأتي الزلزلة بذلك على اليابس والأخضر وتترك الأجساد محاريب ميتة لا قبس فيها, و هياكل من جلد ثعبان باردة الملمس كالرخام الأبيض.

كم كذب العلماء وكم كذب المخترعون بل كم كذب الشعراء, ولكل درجة من درجات كذب هؤلاء خطورة وفداحة لا تقل عمن قيل فيهم, إن «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً»   1  , نعم, فالكذب قتلٌ للنفس بل قتل للناس جميعا وخاصة إذا كان الكاذب شاعرا ممن اعترفت له المساطر التقييمية بالعظمة أو بالعبقرية. كيف هذا؟ لأن قلب الشاعر الحق هو وعاء للكون لا ينبغي عليه أن يكذب حينما يسأله الدارسون والباحثون أو الصحافيون عن سرّ عبقريته. لا ينبغي عليه أن يجيب دائما بكلمات طنانة لا يكف فيها عن مدح نفسه وقدراته وبراعته . فمَن مِن هؤلاء يا ترى, تحدّث في يـوم من الأيام عن تلك اليد العالمة التي تقود, ليس الشاعر فقط بل كل مبدع في كل مجالات الأدب والفنون والعلوم كي تكتبَ وتخُطَّ لــه حــروف نـصوصه, أو نوتات موسيقاه, إذا كان موسيقيا, أو ألوان ريشته إذا كان رساما أو حيثيات معادلاته الرياضية أو الفيزيائية؟         واللائحة تطول ومَن مِن هؤلاء اليوم, يتحدثُ عن تفاصيل الـتأييد و الـمـسـاندة الـنفسية و الروحية التي تُقدمها هذه اليدُ لكل مــبدعي وفناني وشعراء الأرض ممن شُهد لهم بالتميز؟ لا أحد يتحدث عن هذا النور الـعـَالـِم المُطـوّق بحُب الخالق للإنسان, كل الإنسان بغض النظر عن ديـنه ولـونه وجنسه ومعتقده الفكري.

لا أحد يتحدثُ عنك يا روح القـُدس. لا أحد يقولُ في حقك ولو حتى نصف كلمة شكر يعترفُ فيها بالامتنان لك على كل مـا هــو فيه من نعم. لا أحد أيتها الروح القدس, ســوى الأنـبـياء (الذين لا ينبغي لهم أن يقولوا شعرا, حتى لا تُخلط طبيعة النص المنزل بطبيعة النص الشـعري وما الإشارة إليهم هنا, إلا من باب التنبيه إلى العلاقة الوطيدة بـينهم و بين الروح القدس التي تَسكبُ سكبا كلام الله في قلوبهم عبر ميكانيزمات الوحي المختلفة تماما عن ميكانيزمات الإلهام الشعري أو الفـنـي والإبداعي بشكل عام) والأولياء وآخرون ممن رحمهم ربي من الخلق ونزع عـنـهم شوكة الـكبر والخيلاء وكلهم ثلة من أولين وقلة من آخرين, ثلة سأتحلى بالشجاعة وأدخل في زمرتهم شاعرا كونيا معاصرا أسماه بعض النقاد بالحروفي وآخرون غيرهم بالمواقفي: إنه الشاعر أديب كمال الدين. والذي سنرحل معا و إياه عبر بعض دواوينه لنكتشف وإن بشكل بسيط ومتواضع مناطق كمون اليد العالمة ومساندتها لشاعرها المُؤيـد بمسّ النور وضجيج النار وبكاء الحرف وضحك الدمع.

 

ـ 2 ـ

«غربتي هي غربة الجسر الخشبي/ إذ يجرفه النهر بعيداً بعيداً./ غربتي هي غربة اليد/ وهي ترتجف من الجوع أو الارتباك.»  أ. ك. د

 

بعد مدّ وجزر وكرّ وفرّ وبرد وحرّ قضيتُ لياليه لقرابة السنة أو أكثر (من 2009 إلى 2010) بين صفحات "أربعون قصيدة عن الحرف" 2 أبحث عن ضالتي , ممنية النفس بالتوصل إلى حلّ لغز الحرف و قصته مع أديب كمال الدين, إذا بي اكتشفُ أنني لم أكُ سوى عابرة سبيل, لم تتخط عتبة الحرف فما بالها ببابه! وليس هذا فقط, بل اكتشفت أيضا أنّ كل مسافر لا يتقن آداب السفر وأحواله ولا يــعـرفُ طــرقــه وتضاريسه, لن ينوبه من ليالي الحرف إلا ما ناب ذاك الرجل العطشان الذي ذهب إلى البحر كي يروي ظمأه وكلما شرب منه لم تزده ملوحة ماءه إلا عطشا وظمأ على ظمأ. وظللتُ هكذا على حالي, ألاحقُ الحرف وأقرأ رقميا قصائد ديوان آخر كــنــتُ وربما غيري من الباحثين, أنتظرُ صدوره الورقي ما بين سنتي 2010 و 2011 معتقدة بأن الشاعر سيعطيه ولاشك عنوانا يكون ربيبا أو شقيقا للحرف, و إذا بأديب يُخرج إلى الوجود عــنــوانا غريبا وصادما: «أقـول الــحرف وأعـني أصابعي»  3  هذا العنوان جعلني أهدم معظم ما كنت بنيتُه ســابقا مـن نظريات و تأملات حول تجربة الشاعر وأبدأ من جديد رحلة السؤال بل الأسئلة الحارقة: أي حرف هذا وأي أصابع هذه وإلى أين يريد أن يصل بنا الشاعر؟ ولم يكُ ثمة من حل سوى تفكيك العنوان جزءا جزءا, تفكيكا أوصلني إلى ما يُكنه قلب الشاعر بدواخله من مرارة تجاه قارئه, بل ومن حسرة دفعته إلى أن يُعلن للجميع موقفه الأخير تجاه الحرف مخاطبا القارئ  ومجيبا كل دارس ولسان حاله يقول: لاتتعب نفسك, فأنا سأريحك وأقول لك ما أقصده من الحرف: أنـا لا أعني شيئا سوى أصابعي.

هكذا أخرجني أديب من بين قبضة منظومة الحرف كي يضعني بين فكي منظومة جديدة أسماها بالأصابع, فتزداد المحنة وتطول, وتشرق بعدها بذهني بارقة تخبرني بأن المتحدث ليس هو الشاعر بل لم يكن أبدا الشاعر وأن وراءه كينونة ترغب في الإفصاح عن نفسها للشاعر نفسه قبل القارئ, و بعدهما للكون بأسره. وأجدني بعد هذا أقفل على نفسي في محراب التأمل و أعود إلى كل دواوين أديب السابقة, من ألفها إلى يائها, وأبحث عن مصطلح الأصابع في كل سطر وفي كل مكان و كم كانت دهشتي عظيمة حينما عثرت على ديوان "نون", الديوان الذي أشعرني وكأنني طفلة أهدتها فتيات الحي في صبيحة يوم عيد الفطر مغزلا كبيرا من شعر البنات الوردي. وهديتي هذه لم تكن الديوان نفسه, بل صورة غلافه: اليد المفتوحة حتى الموت      وأصابعها الخمسة المشرعة التي تعلن عن نفسها وكأنها تصرخ في وجه الغفلة واللامبالاة. و أحسستني لحظتها وفي كل مرة كنت أجدد النظر إلى يد الغلاف أن فرحي الطفولي بدأ في التحول إلى حزن تشيب له رؤوس الولدان. فاليد كانت تبكي, والأصابع كانت تئن, والمعصم كان غارقا في بركة من الدماء.

ـ 3 ـ

«كيف سيُسمّون حرفَكَ الإلهي:/ أعني معجزةَ نونكَ وأسطورةّ نقطتك؟/ وكيف سيقترحون تاريخَكَ الأرضي/ وجغرافيتَكَ السماويّة؟/ هل سيقيسونكَ بمساطرهم الغبيّة/ وبمقولاتهم الجاحدة/ لتضيع كما ضعتُ من قبلك؟/ أم سيقيسونكَ بمحبّتهم القاسية/ وبعشقهم المزيّف/ لتضيع ثانيةً كما ضعتُ من قبلك؟»  أ. ك. د

 

ليس ثمة من شك في أن مسألة كون أديب كمال الدين, شاعرا معاصرا, لم تخدمه بأي شكل من الأشكال بل لم تخدم رسالته الكونية بالشكل الصحيح أو بالطريقة المثلى التي كان من المفترض اتباعها من أجل الوصول إلى نوعية خاصة من التنقيب في الخطاب الوجودي الذي أرادت التجربة الشعرية لأديب منذ البداية الوصول إليه, والسبب في ذلك ما نحن عليه اليوم من اضطرابات في شتى المجالات السياسية منها والاقتصادية والدينية على المستوى العالمي لا العربي فقط. إن الأحداث التاريخية التي شهدها العالم في السنين الأخيرة بدءا من حرب الخليج والاحتلال الأمريكي للعراق وتفجيرات أيلول, ووصولا إلى ما تسميه اليوم العديد من المحطات الإخبارية والقراءات التحليلية ب"الثورات العربية", كل هذا كان كفيلا بأن يزرع في كافة المواطنين العرب نوعا من الخوف و لنقل نوعا من الفوبيا الحادة تجاه كل شيء له علاقة بالعرب و بالإسلام وبالدين بشكل عام وبالله بشكل خاص. الشيء الذي أثر على طريقة تقييمنا للأمور وتقييمنا ـ ونحن في إطار الحديث عن البحث والدراسة الأكاديمية ـ لمسارات الإبداع الإنساني في كل مناطق العالم, فأصبحنا كالغراب, لاهو قادر على نسيان سواد لونه  ولا هو قادر على فهم ماهية وكينونة هذا السواد المتفحم لريشه, وصرنا ننعق في كل واد بكل الحماقات والترهات التي باتت تلاقي كل الاستحسان والتصفيق والتشجيع مادامت لا تتحدث عن الله وعن الدين وعن الرسل والأنبياء, حتى نُبعد عن أنفسنا أي تهمة أو شك في سلامة نـوايانا و اعتقاداتنا, فارتكبنا بذلك في حق الخليقة وفي حق تقدمنا البشري أفظع خــطــأ في التاريخ و أقصد به الخلط بين الدين والإيمان و الخــلط بين الــدين والإرهاب.  مبتعدين في ذلك عن دين المحبة التي هي رسالة كل الأديان السماوية ومعتنقين دين الكراهية, التي هي رسالة كل من هدفه التنكيل بآدمية الإنسان وبكرامته في كل مكان. وقد نال إنتاجات أديب كمال الدين وغيره من الشعراء والأدباء الذين ساروا على منواله من الحيف الكثير, فباتت معظم الدراسات تنظر إلى أشعاره و تقيسها بمقاييس العصر المُحرّفة و تحفُر في ترابها بمعاول البحث الذي شوهته وأثرت على نزاهته ظروف العالم الاجتماعية و السياسية والاقتصادية فكان معول "الحداثة" المحتضِرة من أقسى الأدوات التي بدأت و منذ سنين بعيدة في التنقيب وسط إبداعات الأدباء الذين وهبوا أنفسهم إلى الهم البشري و إلى مآسيه الوجودية الكبرى. فبدل البناء والتشييد, شرع النقاد الحداثيون بقصد أو غير قصد  و بوعي أو غير وعي مسار الهدم الكبير.

والسببُ في هذا عدم فهم ميكانيزمات التحول التاريخي و تفاصيل التجديد و التحديث في كل المجتمعات السابقة والحالية, فالحداثة ليست شيئا جديدا تخترعه الأجيال أو نردا نخرجه من جيوبنا و نبدأ في اللعب به متى دعتنا الضرورة إلى ذلك. الحداثة و التحديث مسار كوني لا تاريخ له ولا جنس ولا لون له و لا دين له, لأنه جزء من التركيبة البشرية الكونية التي جبلها الله على التطور والتجدد المستمر والمتكامل, لذا فلايمكن أن ننظر في مجال الإبداع الأدبي إلى إنتاجات أديب كمال الدين على سبيل المثال  ونقول أنه شاعر حداثي تحدث بلغة عصره كي يفهمه جيله, وكأن ما قاله و ما تركه غيره من الشعراء السابقين لم يكن تجديدا و لا تحديثا, فكلّ حديث بحكم دوران السنين يصبح "قديما"  وكونُه يصبح كذلك لا ينفي عنه خاصيته الأساسية: حداثتهُ وجدّتُه في زمنه ووقته. وهذه قاعدة يمكن تطبيقها على كل أنواع الإبداع في كافة مجالات الكلمة والحرف, إلا على نوع واحد وأقصد بذلك الحرف المتعلق بالوحي وأهله, لأنه حرف لا يخضع لميكانيزمات الزمان ولا المكان وبالتالي لا يخضع لميكانيزمات الحداثة أو القدامة, إذ لا قديم ولا حديث في كلام من لا يحدُّه زمان ولا يسعُه مكان, لأنه نابع عن القديم ليس من قدم وعن الأزلي ليس من أزل  وعن الديمومي ليس من ديمومة. أما من يَردُّ ما لحق الفكر البشري من كوارث إلى الخطاب السماوي متهما إياه بعدم مسايرته متطلبات العصر, فهو لعمري قصير النظر وضيق الأفق, لأن العيبَ ليس في كلمة الوحي و لكن في الاستخدام و التأويل الذي يُعطى لهذه الكلمة في كل العصور و كل الديانات و بالتالي فإن كل من يؤوّلُ كلام الله تأويلا كارثيا و ظلاميا, لايمثلُ الله في شيء و لا يمثل رسله المجنحين وغير المجنحين في شــيء وإنما يمثلُ نفسه فقط ومسؤولية هذا الفعل وعواقبه الوخيمة القريبة والبعيدة لن تقع إلا عـليه ولا تزر وازرة وزر أخرى.

هذا ما انتبه إليه الشاعر أديب كمال الدين وهذا ما حاول التعبير عنه في تجربته الشعرية رغبة منه في رد الاعتبار للحرف و الأبجدية العربية أو لنقل للإنسان وأبجديته الكونية  ورغبة منه في استخدام الشعر من أجل إعادة النظر في تاريخ كلمة الوحي, ليس انطلاقا من كتب الفقه والتفسير وغيرها ولكن انطلاقا من قصص القرآن الكريم مباشرة و حروفه العربية و هذا هو جديد و قديم أديب أو "الوعاء" الذي اختارته اليد العالمة كي تعبر عن نفسها و توجه كلماتها من خلاله إلى الناس أجمعين حالّة بروحها في أصابع الشاعر و قلبه و روحه وفي أصابعي و قلبي و روحي و في أصابعك و قلبك وروحك أنت أيها القارئ عارف ونبي نفسك و أنت أيها الباحث و الدارس في كل مكان, فأنصتْ إلى كلمتها و شذّبْ روحك من كل ما علق بها من إيديولوجيات تـُلـبِـسُ, تارة بالغصب والإكراه وتارة بالحيلة و معسول الكلم كل فكر يتحدث عن المحبة الإلهية لباس الشيوعية و اليسارية و العلمانية  4 وكأن المحبة الإلهية العظيمة للبشرلا تستحق أن تُـَتـَنـاول اليوم بالتحليل والدراسة إلا إذا أُطّرت ضمن إطارات ترتضيها إيديولوجيات العالم المهيمن اقتصاديا على الأرض و إلا فإن الحديث عن هذه المحبة سيصبح وفق تحليلاتهم حديثا عن الإسلام وعن المسلمين وسيكون بالتالي حسب تصوراتهم تأييدا لـفكر العنف والإرهاب!  تَخلّصْ من كل هذا و تأدب في حضرة اليد العالمة وانصتْ إليها بظهر أبيك آدم الذي أخذ الله منه ميثاق ربوبيته على العالمين أجمعين, فالخطابُ والرسالة كونية ولا تخص إنسانا أو دينا بعينه وهي تستحق كل هذا العناء, لأن عظمتها تكمن في كونها موجهة لك أيها القارئ أينما كنت وحيثما كنت وكيفما كان لونك واعتقادك ولغتك, هي لك لوحدك فاتحة ذراعيها بكل العناية والمحبة والشوق والأمل.

ـ 4 ـ

«لعنفوانك ينبغي أن أنحني/ لجمالك ينبغي أن اكتب الشعر/ لمحبتك ينبغي أن أخترع أبجدية جديدة/ لعشقك ينبغي أن أعيد اكتشاف الدموع» 5   أ. ك. د

 

أعلمُ يا عزيزي القارئ أنك الآن تسألني, عمن تكونه هذه اليد العالمة؟ إنها الروح القدس المكلفة ليس بالشاعر أديب كمال الدين فقط ولكن بك وبكل الناس. إنها اليدُ المُحبة والعاشقة التي تسعى إلى نشر آيات الخير والسلام بين الناس, وهي هنا في مقام أديب كمال الدين تلبسُ لباس الروح الشاعرة وتضعُ فوق رأسها تاج القاف, متوجة بذلك نفسها خادمة لحرف سنسافر معا كي نكتشف هويته قريبا.

القافُ في المسار الأدبي لأديب, هي حالّة في قلبه العارف و هو الحرفُ الذي أعلن عن نفسه للقراء سنة 1993 عبر ديوان "نون" الصادر آنذاك ببغداد. والقافُ هي أولا وأخيرا عاشقة للنون أو للإمبراطورة التي خُلق الوجود بأسره من أجلها. وللتعبير عن عشقها هذا اختارت كسند ومعين أو وزير لها حرف "الكاف"  6. و هي ذاتها القافُ التي تخاطب النون عبر الشاعر و روحه وأصابعه فتقول لها: « تحبّينني بالسنسكريتية/ وأحبّكِ بالعربية! »     7

وقد شاء أديب للقاف أن تظهر في ديوانه هذا وهي تعبر عن عشقها للنون في موقف قوة, لذا وضعها في البداية كعنوان لقصيدة تفوق الثلاثمائة بيتا و ترك لها الكلمة بشكل مَحا وجوده في حضرتها, فلا يشعرُ به القارئ وكأنه انمحق أو افتقد وكيف لا وهو يملك صفة الانكسار التي هي من صفات أهل القاف, معلنا بذلك لقارئه تواضع من تقلّبَ في دائرة القاف و جرّبَ مواقف القوة و الضعف و الموت في حضرتها, أمّا هي فاستمرتْ في مناجاتها للنون إلى أن صارت عبدة خادمة لها تأتمر بأمرها و تنتهي بنهيها:

«الإمبراطورةُ حبيبتي

لم أعد أستطيع النظر إليها من فرطِ الحبّ

لم أعد أستطيع أن أحدّثها من فرطِ الصدفة

لم أعد أستطيع أن أشير اليها

أو إلى نونها من فرطِ البهجة

وهكذا يصغرُ لديّ العالم شيئاً فشيئاً

حتّى يكتمل ضياعي ويبدأ موتي السعيد.»

إن أهم ما يمكن أن يتبادر إلى ذهن القارئ و يدور بخلده الآن من أفكار و حيرة و قلق هو تساؤله الوجودي عن سبب اختيار القاف للنون و عشقها لها, دونا عن بقية الحروف؟ و عمن تكونه هذه النون الإمبراطورة؟

اعلم أيها القارئ أن النون كما قال ابن عربي هي شأن الحق ، أنزلها الله تعالى من النَفَس إلى النَفْس في الميزان وهي سرّ عظيم ، وباب الجود والرحمة, وهي بالنسبة لعارفين آخرين انتقاش صور المخلوقات بأحوالها وأوصافها كما هي عليه جملة واحدة ، وذلك الانتقاش هو عبارة عن كلمة الله لها كن ، فهي تكون على حسب ما جرى به القدر في اللوح المحفوظ الذي هو مظهر لكلمة الحضرة. و اعلم أيضا أنها بالنسبة لي الصورة المحمدية في أبهى تجلياتها.    و بالنسبة لأديب خرافتُه المستترة فيه ودمُه الذي سُفـِحَ على المسرح وسط أنين المرايا  9.هكذا يظهر جليا لِمَ عـَشِـقـَتْ و لِمَ تَعشقُ القافُ النونَ؟ و لِمَ ينزفُ قلبُ الشاعر أديب كمال الدين حروفا تُمجّدُ كلها نبي الرحمة محمد عليه و على آل بيته الأطهار ألف صلاة و سلام ؟

أما الحرقة الأخرى التي تنفجر الآن بين ثنايا قلبك أيها القارئ فهي تساؤلك عن علاقة الأصابع التي أشار إليها الشاعر في عنوان ديوانه الجديد بالقاف ؟

و أجيبُك راجية أن أروي و لو جزءا يسيرا من عطشك, بأن القافَ في دواوين أديب لها أمر عجيب و غريب جدا. لقد أعلنت عن نفسها بشكل مقنّع و أخبرت القارئ عن النون و عن الأصابع مذ كان الشاعر مازال مقيما في العراق, بل منذ ديوانه الأول «تفاصيل»  10اقرأ معي هذه الأبيات من «قصيدة حب»:

«حبّي!

من أجلك أدركتُ الجسدَ البلّورْ

والثديَ اللامعَ كالنجم القطبي

وتلالَ الماء الغائضة العينين

والخبطَ المعشبَ والصحوَ الرمليّ،

الفجرَ المحمومَ الشفتين كصيفٍ مخبوء.«

ثم عادت القاف لتظهر بشكل مستتر من جديد في قصائد الديوان الثاني «ديوان عربي»   11   وتتحدث بعشق وصبابة زرقاء عن حبيبتها النون وعن أصابعها وقالت:

 

« إذ أرى خفْقةً

تهبطُ الآن في الريحِ تستنفرُ الذاكرةْ،

خفْقةً ناحلة

تسكنُ الصمتَ والتمتمةْ،

أسألُ الفجرَ هذا الصديق العتيق:

ما الذي يعرفُ الطفلُ عن أمهِ أو أبيه؟

 *

إذ أرى قُبْلةً هامدةْ

تسكنُ الليلَ بين الأصابع

مثل صرخات طفل بعيد،

أسألُ الفجرَ هذا الصديق العتيق:

كم ترى تبعدُ الشمسُ عن ظلها؟

كم ترى تبعدُ الشمسُ عن

لغوها المختفي في الزرازير والنحل

والدخانِ، البنادق؟

كم ترى تبعدُ الشمسُ عن جرحها المستفيق؟»

والقاف في بوحها لا تتعبُ ولا تكلّ , لأنها تحبك و تعشقك باستمرار أيها القارئ و رسالتها إليك لا يحدها زمن و لا مكان و لذا فهي لا تملّ من إعادة صياغة حروفها وجملها في كل الأوقات و السنين, لذا فهي تطالعك حتى في« جيم» ديوان أديب الثالث 12 اقرأ أبياته هذه من قصيدته «إشارات التوحيدي»:

« لو أنزلنا هذا الفجرَ الأسودْ

على وطن ٍ للحبّ

لرأيتَ الزهرَ الدافىءَ ينمو..

يلتفُّ على الجسدين وحيداً

ويمشط ُ شَعْرَ القلبْ

بأصابعَ من ندم أخضرْ

ويمشط شَعْرَ القُبُلات

بأصابعَ من بلّورْ

      لدنٍ أزرقْ

لو أنزلنا هذا الفجرَ المسجونَ على أرض ٍ

لا تنمو فيها الخيبةُ والصحراءْ

لرأيتَ الأقمارَ تجيءُ..

الأبوابَ البيضاءَ تقومُ عذارى

لرأيتَ الفجرَ عجيباً..

يحكي برنين الماء

عن خفق الحبِ وفاكهةِ الله.»

و القافُ يا صديقي القارئ, ليست فقط صبورة و رحيمة و لكنها لها أيضا من الذكاء ما يفوق التصور و الخيال, و هي لا تحبُ أن يقرأها الدارس و هو في عجالة من أمره, لأنها لاتريد قرائته لها فقط, بل تريده أن ينظر إليها, أن يعشقها و يحبها, و هي لهذا النوع من الدارسين لديها استعداد أن تنزل من مقام القوة و الجبروت كي تحلّ بمقام المحبة و اللطف و تتحول من أجله إلى فاء الفرح و فاء الفؤاد و فاء الفيء, كي تظله برحمتها و تكشف له عن محبتها. لذا نراها تستمرُ في رحلة التجلي و تفاجئ دارسها وتظهر له من جديد في الديوان الذي صدر سنة 1993 معلنة صورة اليد و الأصابع ليس على غلاف الديوان فقط و لكن حتى بين أسطر قصائده, لنقرأ لها معا هذه الأبيات:

«البارحة مررتُ على الحروف جميعاً

طالبا ً يد المساعدة والعون

فلم يأبه أيّ حرف لي

حتّى ألفي تظاهر بالنوم!

///

آه شبابي..

يا فراتي الميّت بين يدي أبي

يا أبي الميّت بين يدي فراتي

يا رأس أبي المحمول على ناصية الريح

وخيل الأجلاف السفلة.

///

أحبّك كأنني أراكَ يا سيدي

فخذْ بيدي

فالرحلةُ متعبة

والزمنُ حاسر الرأس يبكي.

///

أيتها الطيورالمعلّقة بسماءِ قلبي

أيتها الذكريات المصنوعة من الشمس

والهروبِ والبحثِ عن اللاشيء

في المدنِ ميتة الأجنحة.

يا أقلامي وأوراقي

يا حروفي وملابسي وأصابعي

انقذوني مما أنا فيه

أنا المسافر الذي سُرِقَ حلمه

وهو نائم في قطارِ الجنّةِ الذاهب

إلى جهنم!»

ومنذُ ذاك الحين أي منذ 1993, غيرت القاف أسلوب الظهور وجعلت المعنى  13   في ذلك وسيلتها, و سخرت لها في هذا المنهج الجديد كل الحروف بدءا من الكاف والباء والحاء  وغيرها, هادفة في ذلك إلى امتحان محبة و عشق دارسها, و النتيجةُ كانت أن ضاقت النون ذرعا بسبعة عشر سنوات من الصمت أو من لامعنى المعنى فأجبرت القاف على الخروج من صمتها و الإعلان عن نفسها من جديد و بوضوح في ديوان «أقول الحرف و أعني أصابعي». فمن تراهُ يقول الحرف و يعني أصابعه؟ هل هو الشاعر؟ أم هي القاف؟ أم تراها النون؟ و أينها الكف منبت الأصابع من كل هذا؟ بل أين تختفي وأي رمز تحتجب وراءه؟

 ـ 5 ـ

«في الطفولة/فتحتُ يدَ الحرف/ كي أجدَ قلمَ حبرٍ أخضر/ فوجدتُ وردةَ دفلى ذابلة./ وفتحتُ يدَ النقطة/فوجدتُ دمعةَ عيدٍ قتيل./وفي الحرب/ فتحتُ يدَ الحرف/ كي أجدَ طائرَ سلامٍ/ يرفرفُ فوق روحي التي أربكها/ مشهدُ الدم،/ فوجدتُ حفنةَ رمادٍ/ وقصيدة حبّ مزّقتها الطلقات./ وفتحتُ يدَ النقطة/ فوجدتُ دمعةَ أمٍّ  بكتْ ابنها القتيل.» أ. ك. د

 

سبق وأن قلتُ بأن النون هي تجلّ للصورة المحمدية وأن القاف الحالّة بقلب الشاعر وروحه هي عاشقة وخادمة لها ولأصابعها وبالتالي لكفها, أو لليد التي يتحدثُ عنها الشاعر في الأبيات أعلاه, لكن ما هي علاقة النون بدمعة العيد القتيل و بمشهد الدم و بالأم التي تبكي ابنها القتيل؟

القافُ والشاعر والنون كلهم هنا شهداء على المأساة المحمدية, على ما لحق محمدا (ص) وأهله وذريته بل وأمته من عذاب وحزن وألم. القاف والشاعر والنون شهداء, على الحروب, على الدماء, على القتل وعلى الغدر وعلى الغربة التي لحقت محمدا باعتباره عين الوجود ولحقت من قبله و من أجله كافة الأنبياء باعتباره عين روح النبوة:

 «(1)

يا صاحب الوعد

حملوا رأسكَ فوق الرماح

وطافوا به كوفة الوعد. أيّ وعد؟ 

كنتُ أبصرُ شهوةَ الدينار

تلمعُ في عيونهم الكليلة

وأبصرُ شهوةَ الغدر

في سيوفهم المُغبرّة.

 (2)

يا صاحب الوعد

كنتُ أركضُ خلفهم

- أنا الشاهدُ الأخرس-

وأكادُ أختنقُ من ترابِ الخيول.

لقد انتصروا!

الله أكبر!

وكانت الدنانيرُ تُلقى على الناس

في كوفة الوعد. أيّ وعد؟

وشعراءُ الكديةِ يهللون

لدمكَ المسفوح

ويمتدحون رمحاً حملَ وعدك

وسيفاً حزّ عنقَ مُحبّ الإله » 14 

أبعد هذا القصيد, ثمة حديث؟ لقد سقطت الرموز والأقنعة, وظهرت رؤوس الأنبياء    والشهداء متدحرجة فوق تراب الغفلة و النسيان, فكم هي الأجساد التي قـُطّعت و مُـثل بها   ولا أحد يتحدث عنها, وكم هي الرؤوس التي مازالت تُذبّح و تهشّم و كم هي الأيادي  والأصابع التي مازالت تُـكسّر والقاف تبكي وتصرخ وتحلّ في القلوب الخابتة الباكية علّها توصل كلماتها لذوي النهى من ذرية وأبناء آدم أجمعين.

هذه هي القافُ وتلك هي النون وهذه هي اليدُ المحمدية وتلك هي الأصابع الخارجة مخضبة بالدماء من بطنها. هذه هي القافُ التي لخّصت لأجلك أيها الدارس كل التعاليم الإلهية بأسلوب رشيق وبسيط يحاكي في حلاوته ولذته أسلوب الذكر الحكيم وآياته.

هذه هي القاف التي وهب الشاعر أديب كمال الدين لها قلبه وروحه وأصابعه كي تلون لنا بدون ملل أو ضجر كل أشكال المحبة و العناية الإلهية و حروفها, بشكل جعل منها غذاء يمكن لأي إنسان أن يُحيي به روحه, يكفيك فقط أن تنظر إلى قافك, أن تحبها و تقرأها بعين روحك وأن تقبلها كما هي, روح شاعرة مسربلة برداء اللطف و المحبة و البهجة الدامعة.

«حين يجلس الحرفُ قبالتك

لا تتكلمْ قبل أن يبدأ الكلام.

اصغِ إليه حين ينطق

وابكِ حين يئنّ

وقبّلْه في جبينه المضيء

حين يقبّلك

في جبينكَ الذي أكله التراب.

وحين يغنّي

قمْ فارقصْ

فسيكون الحرفُ نايك

بل سيكون طائركَ الأبيض

محلّقاً في السماءِ الزرقاء.

وحين يشتعلُ الحرف

من الموتِ والحبّ

(وكثيراً ما يشتعلُ الحرف

من الموتِ والحبّ)

ضعْ إصبعكَ على شفتيكَ علامةَ السكوت

وابدأْ كتابةَ القصيدةِ فوق الماء! »    15 

تم بحمد الله وحفظه في يومه    17/06/2011

 

************************************************************************************** 

1   القرآن العظيم, سورة المائدة, آية 32.   

    2   أديب كمال الدين, أربعون قصيدة عن الحرف, دار أزمنة للنشر والتوزيع – عمّان- الأردن 2009.

 3   أديب كمال الدين, أقول الحرف وأعني أصابعي, الدار العربية للعلوم ناشرون, بيروت – لبنان 2011

  لقد ناب الفكر العربي من جراء هذه المغالطات ظهور مصطلحات غريبة في قواميسنا اليومية و لعل أغربها, عبارات من قبيل  الإسلام الشيوعي والاسلام الإشتراكي والاسلام الحداثي والاسلام العلماني و هلم جرا, لا ينقصنا سوى أن يظهر لنا مصطلح إسلام البيروسترويكا, منطلقين في ذلك من عقد نقص غريبة و كأننا أصبحنا نرغب في أن نُظهر للعالم بأن الإسلام ليس دين تخلف أو تحجر وإنما دين يصلح لكل الإيديولوجيات بما فيها تلك التي لاتستسيغها الفطرة البشرية بشكل عام.

 5 أديب كمال الدين, قصيدة قاف, ديوان نون, مطبعة الجاحظ, بغداد 1993.

  6  الكاف تنتمي إلى عالم الجبروت والغيب ولها مخرج القاف إلا انه أسفل منه, يتميز في الخاصة وخاصة الخاصة وهو متنزل من حضرة الأمر الإلهي ومن حضرة «كن» المتجلية في قوله تعالى: «إنما امره إذا أراد شيئا أن يقول له كنْ فيكون».

      7   نفس الديوان

قصيدة قاف من نفس الديوان.     

9 انظر قصيدة "خطاب النون" من ديوان نون.

10أديب كمال الدين, تفاصيل, النجف, مطبعة الغري الحديثة, 1976.  

 11 أديب كمال الدين, ديوان عربي, بغداد, دار الشؤون الثقافية العامة, 1981.

1 12 أديب كمال الدين , جيم, بغداد, دار الشؤون الثقافية العامة, 989

13  انظر ديوان أخبار المعنى الصادر سنة 1996 عن دار الشؤون الثقافية العامة 

14      أديب كمال الدين, أقول الحرف وأعني أصابعي, قصيدة يا صاحب الوعد./ اطلع أيضا لكن رقميا على قصيدة موقف الغربة من ديوان لم يصدر بعد ورقيا على هذا الرابط:

http://www.adeebk.com/plaz/132.htm

15     أديب كمال الدين, أقول الحرف وأعني أصابعي, قصيدة وصية حروفية.

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

أسماء غريب – كاتبة ومترجمة مغربية مقيمة في إيطاليا

الصفحة الرئيسية